محمد عباس دهيني
أسئلةُ القلق المشروع
ما هو المراد والمقصود من الحداثة الدينيّة؟
وما هي أهداف الحداثيّين الدينيّين؟
وكيف تتحقَّق الحداثة في الدِّين، فكراً وثقافةً ومعارف؟
وهل سيكون للحداثة الدينيّة ارتداداتٌ وآثارٌ سلبيّة على المجتمع المتديِّن؟
أسئلةٌ قلقةٌ ومقلقة يطرحها بشكلٍ وآخر كثيرٌ من المهتمّين بالشأن الدينيّ المعاصر، والمتأمِّلين في سيرورة الفكر الدينيّ عبر الأجيال المتعاقبة والزمكان المختلف.
وتجدر الإشارة هاهنا إلى أنّه ليس مرادي من الحداثة الدينيّة الانقطاع عن الوحي السماويّ، ومرجعيّة العقل المطلقة، وإنّما أعني بها التحديث والتجديد والتطوير والإصلاح، مع بقاء العُلْقة بالله عزَّ وجلَّ ورسوله وأوليائه^.
إذن هي خشيةٌ مشروعةٌ على الدِّين والفكر والثقافة والمعارف، التي تأسَّسَتْ في قرونٍ متطاولة، وبُذِلَتْ في سبيل الحفاظ عليها الأموالُ والدماءُ الكثيرة…
تتأتّى مشروعيَّتُها من عقيدتنا في خلوص نيّة السائل، وحرصه على الدِّين وأحكامه.
ولكنّ هذه الخشية إذا ما تضخَّمَتْ أكثر ممّا تستحقّ، وشكَّلَتْ سدّاً منيعاً ومانعاً من حركة التطوُّر والتقدُّم والتهذيب والتشذيب للعلائق بهذا الدِّين، فإنّها تفقد مشروعيَّتها، وتنقلب إلى ضدّها، من حيث يعلم أصحابها أو لا يعلمون، يريدون أو لا يريدون، تنقلب إلى خنجرٍ مسموم في خاصرة المجتمع المتديِّن، الذي لا ينفصل ولا يختلف عن غيره من المجتمعات، يعيش بينها، ويتفاعل معها، وتتبدَّل أغلب مظاهره المادّية لعشرات المرّات طيلة قرونٍ، في حين تبقى بعض سلوكيّاته الدينيّة المتوارَثة هي هي، لا تطالها يدُ تبديلٍ أو تغيير ٍ.
الحداثة الدينيّة بين فَهْمَيْن
الحداثة الدينيّة لدى كثيرٍ من الدُّعاة إليها، كالأفغاني وعَبْدُه ورضا والكواكبي، وشريعتي ومطهَّري والخميني والصدر وفضل الله وشمس الدين، وغيرهم كثيرون ممّا لا يَسَعُنا إحصاؤهم، لا تعني أن يتخلّى المتديِّن عن ثوابته العقائديّة والتشريعيّة؛ إرضاءً لمَنْ حوله، أو تماشياً مع متطلّبات الحياة الحديثة المعاصرة. وأعني بالثوابت هنا ما ثبت بالدليل القطعيّ الذي لا يقبل التأويل والاجتهاد، فهو صريحٌ واضحٌ جليّ، لا يختلف فيه اثنان، كوجوب الصلاة والصّوم والحجّ و…، وحرمة الزِّنا واللواط والسّحاق و…، ممّا لا خلاف فيه بين الفقهاء والمجتهدين، وليس قابلاً للنقاش وإبداء رأيٍ جديد.
الحداثة الدينيّة لا تعني أن يكون المرء «إمّعة»، أي مع الناس وكواحدٍ من الناس، يميل حيث مالوا، ويبدِّل ويغيِّر وفق شَهْوته ورغبته.
الحداثة الدينيّة لا تعني الرَّفْض لأحكام الدِّين الثابتة بالنصّ وشبهه، ولا العداوة والخصومة لمَنْ يتمسَّك بها، حتّى ولو كان الحداثيُّ يرى خلافها.
وعليه فالحداثة الدينيّة لا تعني التخلّي عن المقدَّسات والثوابت بالنصّ، والتي لا سبيل للمؤمن الحقّ سوى أن يسلِّم بها، ولمَنْ نادى بها، أعني النبيَّ| أو الإمام×؛ امتثالاً لقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً﴾ (الأحزاب: 36).
وإنما تعني الحداثةُ أن يتأمَّل أصحابُ الفكر والرأي والنَّظَر، أصحابُ المَلَكات الاجتهاديّة في مصادر المعرفة الدينيّة، على تعدُّدها واختلافها، أن يتأمَّلوا فيها جيِّداً، فلعلّه ينكشف لهم ما لم ينكشف لغيرهم، ولو بسبب تطوُّر المعرفة عموماً، وتعدُّد آليّات الوصول إلى المعرفة، وظهور مناهج غير متَّبعةٍ قديماً؛ ولو من خلال انكشاف عيوب وسلبيّات تلك الأحكام التي كان يُظَنّ بها خيراً، وهي كذلك خيرٌ في أصلها، ولكنّها تحتاج إلى تهذيبٍ وتشذيب؛ لتصير خيراً مَحْضاً، وتمثِّل الإسلام خيرَ تمثيلٍ؛ ولو بسبب انتهاء أَمَد بعض الأحكام المؤقَّتة، وإنْ لم يكُنْ هذا التوقيت صريحاً، وإنّما يُعلَمُ بقرينة الحال والشاهد والمثال…
هذا بالضبط ما يريده الأعمُّ الأغلب من دُعاة الحداثة الدينيّة، ويسعَوْن إليه.
ومن هنا ينكشف لنا أن كثيراً من التراشق الكلاميّ والاتّهاميّ الذي يقع بين دُعاة الحداثة ورافضيها إنّما يكون جرّاء الفَهْم الخاطئ لما يدعو إليه الحداثيّون، فيُظَنّ بهم أنّهم يسعَوْن لتخريب الدِّين، ونقض عُرَى أحكامه، وتقويض بنيانه، إلى غير ذلك من الاتّهامات الثقيلة، التي تُطْلَق ضدَّهم؛ لتأليب الناس عليهم.
إذن هو سوء الفَهْم المتبادَل، عن قصدٍ أو غير قصدٍ؛ فالحداثيّون يتّهمون التقليديّين بأنّهم أعداءُ التطوُّر والتقدُّم ومواكبة العصر والأخذ بأسباب الحضارة الحديثة، ولا يقبلون منهم ولا يرَوْن لهم عُذْراً في خوفهم على الدِّين من التآكل شيئاً فشيئاً، ومن ثَمَّ الضياع والاندثار؛ وفي المقابل يتَّهم التقليديّون الحداثيّين بأنّهم قد انبهروا وتأثَّروا بحضارة الغرب الزائفة، وطروحات المفكِّرين ـ إنْ صحَّتْ تسميتُهم بالمفكِّرين ـ الغربيّين والشرقيّين ذوي النظرة السلبيّة إلى الديانات كافّةً، ويريدون إقحام ذلك كلِّه في دين الله، الذي بُذِلَ كلُّ غالٍ ونفيس لحمايته وصَوْنه من كيد العِدى، فإذا به اليوم، وتحت شعار الحداثة الدينيّة، يتعرَّض لأبشع هجمةٍ وأعظم خطرٍ وجوديّ، من خلال تغيير أحكامه الخالدة، وتعاليمه الثابتة.
وقد تبيَّن خطأُ كلا الفَهْمَيْن؛ فالحداثيّ، كما التقليديّ، يهدف إلى حفظ الدِّين وصيانته، ولكنْ لكلٍّ منهما طريقتُه، المستندة إلى إدراكه لتعقيدات المجتمعات العصريّة، ومتطّلبات الحياة الحديثة.
تعدُّد الأسلوب ووحدة الهَدَف
حين يشهد المسلم الغَيُور هذه الهَجْمة الشرسة على أحكام الدِّين الحنيف، كوجوب الحجاب وحرمة الرِّبا والزِّنا و…، وعلى رموزه، بَدْءاً من النبيّ الأكرم|، مروراً بأصحابه الكرام المنتجبين وآله الأطياب المطهَّرين، وصولاً إلى الفقهاء والعلماء الصالحين، فمن الطبيعيّ أن يستبدّ به القلق، وتتملَّكه المخاوف من أهداف هذه الهَجْمة؛ فينكفئ بعضُ المسلمين إلى التراث الدينيّ، يدافع عنه، ويمنع أيَّ نقدٍ له، متذرِّعاً بشتّى الأعذار، من عدم حلول الوقت المناسب، أو عدم السماح للأيدي العابثة بالتلاعب في هذا التراث؛ إذ ما إنْ ينفتح البابُ لذلك فلن يُغلَق…؛ ويبادر بعضٌ آخر للدعوة إلى إعادة القراءة لهذا التراث، بل يبدأ بذلك فعلاً، تحقيقاً وبحثاً مضنياً، لإزالة كلّ ما من شأنه أن يكون دليلاً ـ ولو مَوْهُوماً ـ بِيَدِ أولئك المغرضين المتربِّصين بالإسلام وأهله.
فعلى سبيل المثال: لو أنكَرْنا عليهم هَجْمَتهم على الحجاب، وما يدّعونه من أن الحجاب يمنع المرأة من التقدُّم، ويعيق حركتها في مجال الدراسة والعمل و…، فإن ذلك كلَّه سيبقى في مستوى التراشق الإعلاميّ ما لم يتمّ علاج مسألة النِّقاب (تغطية الوجه)، التي لا يزال الفقه التقليديّ يفتي بوجوبها أو استحبابها، رغم تخلّي كثيرٍ من المجتمعات الإسلاميّة عنها، وهي مجتمعاتٌ ملتزمةٌ بالفقه وأحكامه… وما تخلِّيها عنها إلاّ لكونها بالفعل تعيق المرأة عن كثيرٍ من النشاطات والأعمال التي أصبحَتْ من ضروريّات الحياة المعاصرة اليوم، بل رُبَما كانت (تغطية الوجه) في لحظاتٍ ما خطراً على المجتمع، حيث لا تُعْرَف هويّة مَنْ تحت النِّقاب، هل هي امرأةٌ بالفعل أو هو رجلٌ تنكَّر بزيّ النساء؟!
ولو أنكَرْنا عليهم تجديفهم بحكم تحريم الرِّبا؛ لأنه ظلمٌ للفرد والمجتمع على السواء؛ إذ لا تقتصر أضرارُه على المُقْتَرِض، بل يتأثَّر النظامُ الاقتصاديّ العامّ لأيّ مجتمعٍ بمثل هذا الفعل الجائر، فلن يكون لهذا الإنكار من صدىً إذا ما بقي الفقهاء يُفْتُون بجواز الرِّبا بين الأب وابنه، وبين الزوج وزوجته، وبين المسلم والكافر.
إذن الهَدَف للحداثيّ والتقليديّ واحدٌ، وهو حماية الدِّين وصيانته وتنزيهه عن التُّهمة الباطلة، ولكنّ الآليّة والطريقة تختلف.
كيف تتحقَّق الحداثة؟
ولكنّ المسألة الأعقد في هذا الخلاف بين التقليديّين والحداثيّين هي في كيفيّة تحقُّق الحداثة، دون أن يكون لها آثارٌ سلبيّةٌ على المجتمع المتديِّن، أو فلنقُلْ: كيف تتحقَّق الحداثة بأقلّ الخسائر الممكنة، التي تجبرها مكتسباتُ الحداثة، من جعل الإسلام ديناً عالميّاً بحقٍّ، مقبولاً ومفهوماً من جميع الشرائح الاجتماعيّة المختلفة، العامل والعالم، والمرأة والرجل والطفل، و…؟
هذه المسألة ـ وللأسف الشديد ـ قد أُهْمِلَتْ في حمأة الجَدَل حول جدوى الحداثة الدينيّة وأهمّيتها وضرورتها، فلا يزال الخلاف بين الفريقين في جدوائيّة ذلك ولزومه، وما لم يُحْسَم ذلك الجَدَل فلن يصلوا إلى الحديث عن الكيفيّة المناسبة.
قد تُطْرَح بعضُ الأفكار هنا وهناك، ولكنّها لم تصِلْ إلى مستوى النظريّة المتماسكة في إطار بيانٍ شاملٍ للآليّة الصحيحة والمُجْدِية لتحديث الفكر الدينيّ، بحيث نحافظ على تمام الصحيح والثابت من أحكامه، مضافاً إلى تغيير وتعديل ما لم يكن صواباً، أو لم يعُدْ صواباً في يومنا هذا…
ما يطرحه بعضُ الحداثيّين اليوم من لزوم حذف وإسقاط بعض التراث ليس هو الآليّة الصحيحة التي لا تحتمل الخطأ؛ كما أنّ ما يطرحه التقليديّون من ضرورة الإبقاء على كلّ ذاك التراث المُثْقَل بعلائق مراحل متلاحقةٍ من الظلم والقهر والانكفاء تارةً، ومن التسلُّط والاستبداد والغَلَبة تارةً أخرى، ومن الصراعات السياسيّة والاقتصاديّة و… ثالثةً، وكلُّ ذلك تحت وطأة الخلاف الطائفيّ والمذهبيّ الحادّ، هو أيضاً يحتمل الخطأ. ولذلك لا بُدَّ من لقاءٍ موسَّع بين الطوائف والمذاهب؛ لتحديد آليّةٍ توافقيّة لعملٍ جماعيٍّ مُحْكَمٍ ومُتْقَنٍ، به وَحْدَه يمكن أن نشهد النتائج الطيّبة والآثار الإيجابيّة.
هل للحداثة الدينيّة آثارٌ سلبيّة؟
ما لم يُتَّبَع ـ وبعنايةٍ قصوى ـ منهجٌ حكيمٌ في تحديث الفكر الدينيّ ومعارف الدِّين فإنّ احتمال ترتُّب آثارٍ سلبيّة على التحديث يبقى أمراً ممكناً، بل هو احتمالٌ قويّ لا يجوز إغفاله وإهماله.
ومن هنا نتوجَّه بالدَّعْوة لكافّة المهتمّين بهذا الشأن إلى أن ينفتحوا على بعضهم، ويتلاقَوْا على كلمةٍ سواء لا بُدَّ منها، ولم يَعُدْ مقبولاً الاختلاف والجَدَل حولها، وهي «لزوم وضرورة هذا التعديل والتغيير»، فما عاد يُجْدينا الإنكار والمكابرة، والناس ـ حتّى المتشرِّعة منهم ـ قد انساقوا في هذا الخطّ، فعلامَ نختلف؟ وإلامَ تبقى المؤسّسات الدينيّة المُخْلِصة في مؤخِّرة الرَّكْب…؟ ما لم نفعله اليوم سنفعله غداً، تحت تأثير الطلب الحثيث للناس، وحِرْصاً على بقاء تعلُّقهم بالمرجعيّات الدينيّة، ولكنْ بعد أن يكون الجميع قد سَبَقَنا إليه. ليس مكانُ الحوزة في مؤخِّرة الرَّكْب، وإنّما ينبغي ان تكون إماماً وقائداً للرَّكْب المؤمن نحو الدِّين الحقّ، وأحكامه النافعة والمفيدة، التي لا تعيق حركة المجتمع في الحياة، ولا تمنع ازدهاره وتطوُّره.
ما لم تأخذ المؤسّسةُ الدينيّة دَوْرَها الأساس في التوجيه والإرشاد، وفي قيادة الجمهور، فإنّه سيتفلَّت من عقالٍ. ومتى اعتاد ذلك فلن يعود مرّةً أخرى إلى ساحة الالتزام، هذا الالتزام الذي يعتقد بعضهم أنّه أَسْرٌ وقَيْدٌ من قِبَل الفقهاء أنفسهم؛ ليتحكَّموا بمصير البلاد والعباد، ولكنّه في الواقع التزامٌ مبدئيّ طَوْعيّ اختياريّ للمسلمين بتعاليم ربّ العباد جميعاً.
نعم، هي العبوديّة لله، وكفى بها فَخْراً وعِزّاً للمؤمن، الذي لا يخضع سوى لخالقه ومدبِّر شؤونه، ولا يخشى إلاّ منه…. تلك هي العبوديّة في خطّ العبادة والالتزام التامّ بأمر الله ونَهْيه.
عِرْفانٌ وشكرٌ وتقدير
وفي ختام هذه الكلمة أغتنم الفرصة لأتوجَّه إلى الأخ الحبيب، والصديق الوفيّ، والأستاذ والمربّي الكريم: «الشيخ حيدر حبّ الله»، مؤسِّس هذه المجلّة، ورئيس تحريرها لأربع عشرة سنةً، أتوجَّه إليه بالعِرْفان الكبير لحقِّه، والشكرِ الجزيل لصبره وحكمته وتفانيه، واهتمامه ورعايته وتوجيهه دفّةَ هذا العمل في مسارٍ طويلٍ وحافل.
لقد وفّى هذه المجلّة حقَّها، وبوّأها منزلتها، فجعلها في مصافّ الدوريّات الأشهر ذِكْراً، والأغزر نتاجاً، والأعمق فكراً وتحقيقاً، والأوسع حُرِّيةً مسؤولةً، تستعرض كلّ طَرْحٍ علميٍّ جديد، بجرأةٍ غير مسبوقةٍ في عالم المجلاّت التي تُعنى بالفكر الدينيّ المعاصر والبحوث الاجتهاديّة التجديديّة، فله من أسرة المجلّة كلَّ الحُبّ والتقدير والاحترام، سائلين الله عزَّ وجلَّ أن يوفِّقنا لإكمال ما بدأه، ويأخذ بأيدينا جميعاً إلى ما يُرْضيه، وأن يجعل لنا قَدَم صدقٍ وإخلاصٍ عنده في خدمة دينه الحنيف.