الهوية سؤال الكيف الذي له صولات وجولات على ساحات الفكر والثقافة بين المفكرين والمثقفين,من مناهض لعولمة الهوية الإنسانية إلى مبرر للواقع وانعكاساته على الهوية,إلى مؤيد بشكل تام لتحويل الهوية إلى هوية عولمية وليست عالمية والفرق شاسع والبون واسع.ونادرا ما وجدنا من يتبنى إنشاء وبلورة نظريات بذاتها ومن الذات منطلقة لتحصين الهوية والارتقاء بها إلى مستوى مقاومة جامحة وقادرة على منع التمييع وكسر حواجز المنع من التلاقح المفيد المثري مع الآخر.
واليوم في عالم يعيش كل التناقضات على المستوى الفكري والثقافي بل والتعارضات التي عسكرت وخندقة الإنسان بل شيأته ليصبح وسيلة لتحقيق غايات وأهداف مادية بدل أن يكون الغاية التي يجب أن يسخر لها الكون للحفاظ على كرامتها وكينونتها الانسانية,تتربع سلطة المال على عرش كل السياسات لتعولم منهاج رأسمالي يكرس تشييء الانسان وتمييعه وجعله في خدمة الانتاج.
الإنسان محور علاقات كونية أهمها ومنظمها خارج الحدود الكونية بل هو جاعل لها ومكونها ومؤسسها وفق سنن تحكم هذه العلاقات وتنظمها.
أما المنظم لها والخارج عن حدودها الكونية فهو الله تعالى لتتشكل لنا علاقة محورية في توجيه العلاقتين السابقتين على أسس قيمية وفكرية سليمة وهي:
فإن كانت العلاقة تتناغم بين الانسان وأخيه الانسان وهو والطبيعة مع محورية الدوران الكوني حول التوحيد أصل الأصول فإن العلاقة ستتسم بالتناغم والتلاقح والتناهض نحو الكمال,لأن الأساس والمنطلق القاعدي لها نحو كل هذه العلاقات يرسخ بعدين رئيسين في بناء شخصية الفرد والمجتمع المتوازنة وهما البعد المادي والمعنوي دون أن يغفل عن أحدهما أو يرجح كفة أحدهما على الآخر,بل ينظم كل الحاجات في أبعادها المادية والمعنوية وفق أسسه القرآنية التي تشكل أهم مصدر معرفي.
وأما إن كانت العلاقة بين الإنسان وأخيه الانسان وهو والطبيعة خارجة عن محورية التوحيد الكونية السنن,فإن العلاقة ستتسم بالجدلية والإلغائية المتعاظمة الذات والمتضخمة الأنا,لأن الأساس والمنطلق القاعدي لها نحو كل هذه العلاقات لا يرسخ إلا بعد واحد في بناء شخصية الفرد والمجتمع وهو البعد المادي هاملا البعد المعنوي مما يخلق شخصية مفرطة بتشديد الراء,بالبعد المعنوي لحساب البعد المادي فيختل التوازن وبالتالي يختل النظام المؤسس للفكر.
1.جدلية العلاقة في الذات في الحالتين أي في حال وجود التوحيد كمحور كوني منظم أو عدم وجوده.
2.جدلية العلاقة بين الحالتين الأولى والثانية.
3.تناغم العلاقة في الذات وبين الحالتين.
ووفق الحالات الثلاث سننطلق نحو تشكيل رؤية عن المال والسياسة وأثرهما على الهوية.
اليوم تشكل الرأسمالية الفكرية قاعدة تنطلق منها كل الأفكار والفلسفات والنظريات الاقتصادية ليصبح المال محور السياسات والقائم عليه والموجه لها في العالم .
فالرأسمالية نظام اقتصادي ذو فلسفة اجتماعية وسياسية تقوم على أساس تنمية الملكية الفردية والمحافظة عليها، متوسعاً في مفهوم الحرية.
وبما أن الرأسمالية تنطلق من قاعدة حرية الفرد المطلقة في تجميع الثروة وبكافة السبل التي بدورها تنطلق من قاعدة الحريات العامة في الليبرالية التي تؤمن بأصالة الفرد وتستبعد محور التوحيد الكوني الذي ينظم الله فيه كمرجعية قانونية سننية كونية كل العلاقات فبالتالي سيكون المنطلق يركز على البعد المادي في الانسان ويحوله إلى وسيلة وآله لتحقيق الغايات الكبرى للرأسمالية في الهيمنة والسيطرة,وستوجه كل السياسات باتجاه تحقيق أهداف الرأسمالية المادية وستسخر كل الطاقات لذلك تسخيرا آليا.
وأبرز الأفكار التي ترسم إيديولوجيا الرأسمالية هي :
– البحث عن الربح بشتى الطرق والأساليب المشروعة، فلا يكون فيما تمنعه الدولة لضرر عام كالمخدرات مثلاً.أي هي تضع ضوابط عامة لحماية أمن واستقرار المجتمع بما لا يؤثر على كيان الدولة واستقرارها.
– تقديس الملكية الفردية وذلك بفتح الطريق لأن يستغل كل إنسان قدراته في زيادة ثروته وحمايتها وعدم الاعتداء عليها وتوفير القوانين اللازمة لنموها واطرادها وعدم تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية إلا بالقدر الذي يتطلبه النظام العام وتوطيد الأمن.
– المنافسة والمزاحمة في الأسواق. وفي ظل غياب منظومة قيم وفتح الحرية الفردية المطلقة لتنامي الثورة إلا في حدود الضوابط التي تحمي استقرار وأمن المجتمع فإن الباب سيفتح أمام الجشع والطمع والاستغلال تحت شعار قدسية الحرية والملكية الفردية.
– نظام حرية الأسعار وإطلاق هذه الحرية وفق متطلبات العرض والطلب، واعتماد قانون السعر المنخفض في سبيل ترويج البضاعة وبيعها.
وفي ظل انفتاح عالمي لحرية بناء الثروة وزيادة الانتاج وزيادة الحاجة للمواد الخام وعدم تغطية تلك المناطق الجغرافية في الغرب لهذه الحاجات ومع غنى منطقة الشرق الأوسط أو آسيا إن صح التعبير بالأسواق من جهة وبالمواد الخام من جهة أخرى فإن اجتماع هذه العوامل دفع تلك الدول في فترة زمنية لاستعمار منطقنا لتهيمن بشكل مباشر على منابع الثروة وتديرها بما يعود بالنفع على اقتصادها ورفاهية شعوبها .فلترويج منتجاتها تحتاج إلى أسواق ومواد خام لإعادة الانتاج التي تحتاج لها هذه الأسواق وهو ما يدفعها للبحث الدائم عن أسواق ثرية ومستهلكة و يتطلب الدفع نحو سياسات امبريالية تهيمن وهذه السياسات لم تنفع معها الحلول العسكرية لأنها تخلق لها توترا دائما داخليا وخارجيا,ولذلك كان البديل هو الغزو الفكري والثقافي القائم على الاحلال الهادئ الممنهج المعتمد على مصطلحات داخلية ولكن بمدلولات خارجية قادرة على تغيير الوجهة الثقافية والفكرية.ولعلنا نعيش هذه الأيام مظاهر حرب ناعمة نواتها رسم خارطة عقول النخب وصناعة وعي الشعوب وفق مفاهيم ظاهرها متفق عليه تماما لكنها وعاء يحمل ثقافة وبنيات فلسفية وفكرية تنطلق من بنية الغرب الفكرية بكل أبعادها المادية ومفهومها للأخلاق والقيم والطبيعة والكون والإنسان .
"إن للحضارة الغربية بأفكارها ومفاهيمها وكيانها الثقافي عامة قاعدة فكرية تستند إليها .. وهي الحريات الرئيسية في المجالات الفكرية والدينية والسياسية والاقتصادية . فإن هذه الحريات بمفهومها الحضاري الغربي هي حجر الزاوية في ثقافة الغرب والإطار الفكري الذي تدور في نطاقه الأفكار والمفاهيم الغربية عن الإنسان والحياة والكون والمجتمع وحتى أنه لعب دورا رئيسيا في تحديد الاتجاه العام لمفكري الغرب فيما يسمونه بالعلوم الانسانية والاجتماعية . فلم تستطع البحوث الإنسانية لهؤلاء المفكرين أن تتجرد عن تأثير الرساله التي يعتنقها الباحثون كقاعدة عامة" الشهيد محمد باقر الصدر – رسالتنا
ويقول في مورد أخر " الافكار التي تتكون منها كل حضارة ذات رسالة تخضع لمقاييس تلك الرسالة وتتجنب مناقضتها سواء أكانت مستنبطة منها أم لا"
وهو ما يوضح مسألة مهمة جدا ان منشأ المعرفة الغربية مادي فلسفيا فبالتالي كل ما يترشح عنه يكون مبنيا على هذا الأساس لأنه يعتبر الحس والتجربة فقط مصدره للوصول للحقيقة وهما بطبيعة الحال مصدران محدودان لا يمكن احاطتهما باللامحدود.
ومن هنا يأتي دور هذه السياسات في تمييع الهوية من الداخل الهوياني,والاختراق الهاديء العملي لها وخاصة بين صفوف الجيل الشاب الذين يعتبرهم القرآن عماد ومستقبل الأمة,فتخلق جيلا ذا هوية مميعة من الناحية القيمية والفكرية والمنهجية ليصبح الشخص مسخا ظاهريا عن النموذج الذي طرح نفسه كبديل ليقود العالم وهو النموذج الأمريكي , أما داخليا وعقليا يكون خاويا حتى لا يفكر بل فقط يستهلك ما ينتجه لنا الآخرون. خاصة في مناطقنا المعروفة بوفرة النفط والمال والمعادن وخير مثال على ذلك اكتشاف مناجم معدنية مؤخرا في أفغانستان من قبل فرق استكشافية غربية سيحول الاقتصاد الأفغاني إلى اقتصاد ناهض وسوقا مغرية لما ينتجه الغرب بل مصدرا مهما للمواد الخام خاصة أن من ضمن المعادن المكتشفة النحاس وأن السياسات المهيمنة في فكر السلطة هناك هي سياسات متأثرة بالفكر الرأسمالي الليبرالي المادي.
ولكي نواجه لابد أن لا ننفعل حتى لا تكون مواجهتنا كرد فعل على أفعال مبنية على أساس منهجي استراتيجي,بل نحتاج إلى نقد للذات الهويانية وإعادة بلورة البناء الهوياني على أسس تحفظ لنا أصالتنا وتطرح الثوابت بلغة عصرية قابلة للانفتاح على الآخر والتلاقح مع أفكاره المفيدة والمتلاقية مع ثوابته والغير منغلقة دون ان نجد حرجا في أنفسنا من نقد الأفكار الدينية وليس الدين,ونؤسس عقل الشباب تأسيسا منهاجيا فكريا قائما على أسس العلاقات الآنفة الذكر التي يشكل التوحيد محورها الكوني لتنتظم العلاقة بين الانسان ونفسه وهو أخيه الأنسان وهو الطبيعة وتتحول جدلية الذات إلى تناغمها مع نفسها والكون.
ومن ثم طرح البديل الهوياني الذي يفترض به أن يبنى على أسس ذات أصالة وثوابت يناغم بها بين الأصالة والعصرنة ويمتلك المنهج في الفكر والرؤية الكونية لكي يكون بناءا متراصا أو كما ذكر في الذكر الحكيم:"صفا كأنهم بنيان مرصوص",وبالتالي وكنتيجة طبيعية سنجد جيلا متماسكا وعصيا على رياح التغيير والعولمة الثقافية والفكرية الهادفة لتمييعه وتحويله لأدوات استهلاكية خاوية المحتوى.لا جيلا انفعاليا يميل مع كل ريح لا حصانة ولا قدرة له على الثبات.
حيث تستهدف الرأسمالية العالمية إعادة صياغة منظومة الأولويات لدى الإنسان في العالمين العربي والاسلامي وفق السوق الانتاجية بما يتناسب ومنظومة قيمها ، فيتحول من إنسان منتج ومبدع ومفكر ويستهلك وفق حاجته وبطريقة هدفية تتناسب مع قيم السماء إلى إنسان شيئي مستهلك دون سقف يسعى وراء كل جديد دون هدف فقط لمجرد إما الوفرة المالية كما في دول الخليج أو لانتشار ثقافة الاستهلاك اجتماعيا مما يشكل وسيلة ضغط اجتماعي على الأفراد والأسرة تجبرها قصرا على الانجرار في السلوك الاجتماعي العام الاستهلاكي دون غاية وهدف ومنهاج وسقف.
إن إيمان الرأسمالية بالحرية الواسعة أدى إلى فوضى في الاعتقاد وفي السلوك مما تولدت عنه هذه الصراعات الغربية التي تجتاح العالم معبرة عن الضياع الفكري والخواء الروحي. وإن انخفاض الأجور وشدة الطلب على الأيدي العاملة دفع الأسرة لأن يعمل كل أفرادها مما أدى إلى تفكك عرى الأسرة وانحلال الروابط الاجتماعية فيما بينها.
و كخطوة استقلالية يمكن أن تحدث حالة توازن مهمة هي محاولة وضع نظام اقتصادي اسلامي من خلال نظرية اقتصادية كاملة وهي مسألة تتطلب جهدا كبيرا وعملا كثيرا لأن النظام العالمي اليوم مرتبط بقطب الرحى أي النظام الرأسمالي والتفكيك يتطلب عمل مرحلي ومنهجي واستراتيجي ليتم التفكيك أولا ثم خرق ثغرة في هذا الجدار الرأسمالي ثانيا ، وأخيرا النفوذ بالنظام الاقتصادي الجديد بعد إثبات جديته وناجعيته العملية داخليا ليثبت وجوده عالميا ويحدث بذلك توازن قوى في الاقتصاد والسياسة .
أما الصراع مع الآخر المعولم لثقافته وأفكاره عولمة سلبية إلغائية للغير فنحتاج أن نطرح له النموذج في عالمية الأفكار بدل عولمتها,وذلك من خلال التلاقي معه على أسس قيمية وإنسانية فطرية تتلاقح وتتناضح فيها الأفكار المناسبة لثوابتنا وتبقي مساحة للاختلاف الإيجابي في الرأي القابل للنقاش العلمي الموضوعي الهادئ بين أهل التخصص,بحيث لا يكون نموذجنا المطروح نموذجا طاردا للآراء المختلفة بل نموذجا جاذبا لها نحو ساحات النقاش الفكري البناء الذي يحاور ويطرح الحقيقة بثبات على المستوى النظري وفق براهين وحجج معتد بها عقليا ,ويكون متسامحا وخلوقا على مستوى السلوك.
فالعولمة في غالبها فكرة إقصائية إحلالية والعالمية فكرة التقاء وتبادل واحترام واعتراف بالآخر المختلف على أساس نِدّي و توازن القوى .
وجاءت العولمة أساسا لخدمة النظام الرأسمالي من خلال إنشاء شركات عابرة للقارات تهمين على الأسواق وتخرق سيادة دول بأسلوب ناعم يمكنها من رسم سياسات استهلاكية جديدة في وعي شعوب تلك المناطق ، من خلال الاعلام الذي أصلا هيمنت عليه وعولمته .
فأهم أشكال الرأسمالية اليوم هي :
– نظام الكارتل: الذي يعني اتفاق الشركات الكبيرة على اقتسام السوق العالمية فيما بينها مما يعطيها فرصة احتكار هذه الأسواق وابتزاز الأهالي بحرية تامة. وقد انتشر هذا المذهب في ألمانيا واليابان.
– نظام الترست: والذي يعني تكوين شركة من الشركات المتنافسة لتكون أقدر في الإِنتاج وأقوى في التحكم والسيطرة على السوق.
بالإضافة إلى الرأسمالية المالية التي ظهرت بعد تطور وظيفة البنوك، حيث انتقلت هذه الأخيرة من دور إيداع وحفظ الأموال إلى المساهمة بشكل فعال في الاقتصاد، إن لم نقل العمود الفقري الرئيسي لكل الاقتصاد العالمي.
وختاما نخلص إلى أن اليوم المال والاقتصاد هو محور كل الصراعات على كافة المستويات وهو الموجه للسياسات العالمية التي تحقق له أهدافه وتزيد من سلطته وهيمنته,وأحد أهم الاهداف التي تستهدفها تلك السياسات هو تمييع الهوية في منطقة ثرية بالاسواق الاستهلاكية وبمواد الخام حتى تصل إلى مرحلة تخدر بها العقول بشعارات براقة خاوية المحتوى وبعيدة عن التطبيق كالحرية والديموقراطية وغيرها, مع الابقاء على سلطات مستبدة باسم الديموقراطية تحقق لها ما تريد.
وهو ما يتطلب منا رسم ديموقراطيات وفق ثقافتنا وإرثنا والانتباه إلى منظومة المعايير والقيم في هذه الجغرافيا المفاهيمية ، فالانزلاق في العولمة الفكرية التي تهدف لإعادة الوعي وصياغته وفق هذه الأفكار هو انزلاق نحو استعمار أخطر من الاستعمار العسكري لأنه يستهدف الهوية التي ترسم معالم ثقافة وتاريخ وانتماء الإنسان وتعيد صياغة هذه الهوية بأفكار تجعل انتماءه لمشروع استعماري واستحماري في نفس الوقت .