ويقدم ابن خلدون مثلا حيا وقع في زمانه فيقول ” كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم و الكثير من عوائدهم و أحوالهم حتى رسم التماثيل في الجدران و المصانع والبيوت، حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء”
ومن الواضح أنّ النص الخلدوني السالف لا يشير إلى مظاهر الاستيلاء العسكري، فهي واضحة جلية للعيان، بل إلى بعض الإفرازات النفسية والانعكاسات الثقافية التي تطرأ على الطرف المغلوب والمهزوم، ولهذا خصص استشعار الحالة المستبطنة للناظر بعين الحكمة و ليس لجميع الناس.
وأحسب أنّ هذا المفهوم يلتق في عمق مضمونه و بعض دلالاته وتجلياته مع عدد من المفاهيم المعاصرة التي يستخدمها بعض الكتاب والباحثين في العادة في سياقات مشابهة من قبيل “الغزو الثقافي “و” الاختراق الثقافي ” ومآلاتها مع بعض الفوارق.
وثمّة جدل مستمر يدور بين الباحثين حول استعمال مثل هذه التعبيرات التي تحمل مدلولات أمنية وعسكرية على المجال الفكري والثقافي وهناك من يتضجر من هذه الاستعمالات. ولكنها لا تعدوا أن تكون استعارات لغوية وقد غدت سائدة في الخطابات المعاصرة في مختلف المجالات الفكرية والعلمية. فحين نتأمل في بعض التعبيرات التي يكثر استعمالها في بعض البحوث من قبيل الإنفجار السكاني والإنفجار المعرفي والبنية التحتية والفوقية والحرب الباردة والقوة الناعمة والعصف الذهني وغيرها من التعبيرات نجد أنّه بات أمرًا سائغًا ومقبولا استعمالها في الكتابات العلمية فضلا عن الأدبية. وطالما كانت هذه الاستعمالات متقبلة في الأنظمة اللغوية و دارجة في المحاورات العرفية وسائدة في الخطابات العلمية. وطالما كانت أبواب البلاغة العربية شارعة وقواعد المجاز المرسل تستوعب كل هذه الاستعمالات، فلا معنى لإثارة الجدل حيالها.
إنّ من نافل القول الإشارة إلى أن إسقاط مفاهيم الغزو والاختراق على الحقل الفكري والثقافي ليس مختصًا ببعض اتجاهات الفكر العربي الإسلامي أو التراثي التقليدي الماضوي، كما يحلو لبعض أن ينعتها. بل إنّ بعض الأدبيات الغربية التي قد ينظر إليها البعض كنماذج متقدمة تزخر بمثل هذه التعبيرات. و قد يقال إنه من قبيل المفارقة أن يتم استدعاء نماذج غربية لتبرير مثل هذه الاستعمالات في الخطاب الثقافي العربي في مقال يعنى بالاختراق الثقافي! ولكن يمكن حسبانه من زاوية أخرى على أنه من مقتضيات التفاهم طبق مرجعيات متعددة قد تكون أكثر مقنعة لبعض النخب الثقافية العربية.
فالفرنسيون دأبوا على استعمالها منذ عقود، ففي نهاية السبعينيات صدر كتاب لهنري غوبار بعنوان “الحرب الثقافية “واستخدم فيه تعبير “المطرقة الثقافية الأمريكية ” وفي سنة 1988 أصدر كالو ريبا مينا وزير الثقافة في السوق الأوروبية بيانا نبه فيه بشدة إلى خطر التهميش الذي تتعرض له الثقافات الأوروبية في عالم تسوده الصور و الرسائل الأمريكية. وفي عام 1990 صدر للكاتب التقدمي الفرنسي جان مارس دوميناش كتاب ” أوروبا والتحدي الثقافي” ذكر فيه أنّ جعل اللغة الإنجليزية كلغة أوروبا الموحدة سيؤدي إلى عملية أمركة أوروبا.
كما استخدمت الباحثة الإنجليزية فرانسيس ستونو سوندرز في كتابها الذي صدر عام 1999 عنوان ” الحرب الثقافية الباردة ” واستعملت فيه تعبير أسلحة ثقافية.
إنّ بعض المنظمات الدولية هي الأخرى شغلها هاجس القضاء على التنوع الثقافي في العالم، ومنها منظمة اليونسكو التي اسشعرت مبكرًا مخاطر العولمة على الهوية الثقافية للشعوب. فقد ندد المؤتمر الدولي للسياسات الثقافية المنعقد في المكسيك سنة 1982 بمواقف الولايات المتحدة التي تبذل جهودا كبيرة لنشر الثقافة الأمريكية واستعمال جميع الوسائل المتاحة لتحقيق هذا الهدف.
بل إنّ بعض الدول الغربية مثل فرنسا وألمانيا وكندا اشتكت من جراء الاتجاهات الساعية نحو فرض أنماط ثقافية معينة عليها واعتبرتها بمثابة غزو لثقافاتها وهويّاتها. كما أن عددًا من الساسة الفرنسيين كالرئيس ديستان وميتران اشتكوا من طغيان الإنتاج الأمريكي في التلفزيون الفرنسي وأبدوا خشيتهم على الهوية الفرنسية والأوروبية.
حتى أنّ وزير الخارجية الكندي الأسبق فولكنر تحدث عن تدفق البرامج الثقافية الأمريكية على كندا حتى جعل الأطفال فيها لا يدركون أنهم كنديون وقال: إن كان الاحتكار أمرا سيئا في صناعة استهلاكية فإنه أسوأ أقصى درجة في صناعة الثقافة حيث لا يقتصر الأمر على تثبيت الأسعار وإنما يتعداه إلى تثبيت الأفكار.
و في فرنسا رفع المنتجون في الميدان السمعي و البصري و مديرو الصحف شعار ” الاستثناء الثقافي ” وفرض على القنوات الفرنسية أن تكون 60% من برامجها أوروبية و تغريم من لا يلتزم بذلك. وثمة اتجاه هناك يدعو إلى إيقاف أمركة أوروبا.
كما حددت كل من الصين واليابان موقفيهما من موقع القوة والاقتدار تجاه الغربنة والأمركة و ميزتا بينهما وبين العولمة. و مؤخرًا قررت الصين تقليص البرامج الترفيهية في قنوات البث الفضائي إلى الثلثين من جراء الغزو الثقافي الغربي وللحد من الأنماط الاستهلاكية الغربية بين سكانها.
وكيف ما كان، فإنّ بعض الدول والشعوب تنظر إلى كثافة الحملات والبرامج الإعلامية والثقافية التي توجه إليها وبشكل غير متكافئ وغير طبيعي على أنّها أشبه بغزو من الخارج يستهدف التأثير على ثقافاتها ولغاتها وأنماط العيش المستقرة فيها. و تنظر إلى ما بات يعرف ببرامج نشر الديمقراطية والحريات الفردية وثقافة العولمة ودعم مؤسسات المجتمع المدني وما شابه على أنّها بعض أشكال الاختراق الثقافي.
وإذا كانت دول غربية مثل فرنسا وكندا التي تربطهما مع شعوب الولايات المتحدة الأمريكية أواصر و وشائج وأصول عرقية وثقافية وفكرية ودينية تخشى من هيمنتها على ثقافاتها وهوياتها و لغاتها، فإنه يغدو مفهوما ومبررا لأن يخشى العرب والمسلمون وبعض الشعوب الشرقية من عموم الهيمنة الغربية وسطوتها على قيمها وأصولها الثقافية والحضارية.
إنّ وقائع التاريخ تشير إلى أن مختلف الشعوب وبصرف النظر عن انتماءاتها الدينية والثقافية وفي ظل العلاقات غير المتكافئة بينها وبين غيرها من القوى المهيمنة، أو العلاقة الملتبسة بين المراكز والأطراف، تنتابها مثل هذه الهواجس والمحاذير على أصولها وخصوصياتها حين تمر بأوضاع مشابهة.
لكن السؤال الحيوي الذي يهمنا حين تناول هذا القضية هو: هل ثمة مشروع ثقافي توعوي ووقائي عربي يقوم على تعميق الفهم للعصر واستيعاب تحدياته والتعامل معها في ضوء قيمنا وأصولنا الفكرية؟