د. السيد محسن الموسوي(*)
د. جواد فرامرزي(**)
أ. حجّت علي نجاد(***)
مقدّمةٌ
يرى علماء الإسلام أن القرآن الكريم من أهمّ تجلّيات الكلام الإلهي، وأن الله سبحانه وتعالى قد تحدَّث مع عبده المختار بواسطة هذا الكتاب. وهو يعتبر من أكثر المستندات أصالةً في ارتباط الله مع الإنسان. وحيث يُعَدّ مضمون القرآن الكريم بمثابة الكلام الإلهي تكون معرفة حقيقته ونسبته إلى الله هي المسألة الأهمّ في فهم وتحليل الكلام الإلهي. وقد تمّ منذ صدر الإسلام بيان مجموعة من الآراء والنظريات المختلفة من قِبَل المتكلِّمين المسلمين بشأن الكلام الإلهي أيضاً. وقد ذهبت جماعةٌ من المتكلِّمين المسلمين إلى ذكر مسألة «الكلام الإسلامي» ضمن الأبحاث المرتبطة بالصفات الإلهية؛ لأنهم يرَوْن أن «التكلُّم» إحدى صفات الله.
في القرن الثاني للهجرة بدأ البحث حول ذات الله وصفاته بين المسلمين بشكلٍ جادّ، وتم بحث كلام الله باعتباره صفةً للذات أو فعلاً من أفعال الله. وتبعاً لذلك ظهرت أبحاثٌ معقّدة حول مفهوم وخصائص كلام الله وحقيقة القرآن الكريم.
لم يكن هناك أيّ اختلافٍ بينهم في تكلُّم الله، ولكنْ هناك اختلافاتٌ كثيرة حول كيفية انتساب التكلُّم إلى الله، وكيفيّته؛ فهناك مَنْ قال: إن الكلام جزءٌ من صفات الله، وقال: إنه قديم، وهو مبنى عموم أصحاب الحديث، ومن بينهم: أحمد بن حنبل([1])؛ وذهبت جماعةٌ أخرى إلى القول بأن الكلام جزءٌ من فعل الله، وإنه حادثٌ، وهو مبنى الشيعة والمعتزلة([2]).
ذهب أنصار القول بقِدَم كلام الله إلى الاعتقاد بأن كلام الله ليس من جنس الأصوات والحروف، بل هو من صفات الذات، وهو مفهومٌ وحقيقة كانت موجودةً منذ الأزل والقِدَم مع الله. وعلى هذا الأساس يكون كلام الله كلاماً نفسيّاً. وعندما يتكلَّم الله مع الإنسان فإنه يعرض تلك الحقيقة وذلك المفهوم والمعنى الأزليّ بواسطة خلق الألفاظ.
وتزعم الأشاعرة أن القرآنَ وجميعَ الصحف السماوية التي نزلت وحياً على الأنبياء وجودٌ لفظي لتلك الصفة القديمة للذات؛ أي إنها ظهورٌ وتجلٍّ ونزولٌ لتلك الحقيقة الأزلية والواحدة. إن كلام الله طبقاً لقول الأشاعرة ليس حادثاً أو مخلوقاً، بل إن الأصوات والحروف هي التي يتمّ خلقها في مسار نزول الوحي. وحيث إن القرآن الكريم حكايةٌ وتعبيرٌ لفظي لذلك المعنى القديم والحقيقة الأزلية فإن فهم هذه الألفاظ يكون بدَوْره فهماً لتلك الحقيقة([3]).
وفي هذا السياق قام ابن كُلاّب ـ وهو من مشاهير المتكلِّمين في القرن الثالث الهجري ـ بتقديم مسألةٍ جديدة في هذا الباب. وقد عمد الكثير من المتكلِّمين ـ من مختلف الاتجاهات الفكرية ـ إلى مخالفته بشدّةٍ.
إن «كلام الله النفسي» ـ من وجهة نظر ابن كُلاّب ـ عبارةٌ عن مفهومٍ أزلي وصفةٍ قديمةٍ وقائمةٍ بذاته، وإن هذه الصفة كسائر الصفات الأخرى ـ من قبيل: العلم والقدرة الإلهية ـ واحدةٌ في حقيقتها، ولا تقبل الكثرة والتقسيم. إن اتحاد حقيقة كلام الله وعدم قبوله للتكثُّر يعني أن الكلام الإلهي، على الرغم من اشتماله على مختلف أنواع البيان ـ مثل: الأمر والنهي والإخبار والاستفهام ـ، لا يقبل التقسيم والتبويب الزمني في حدّ ذاته([4]).
والذي نسعى إليه في هذه المقالة هو بيان رأي ابن كُلاّب بشأن الوحي القرآني، وما هي الجذور التاريخية لنقد رأي ابن كُلاّب؟ وهل ينسجم رأي ابن كُلاّب حول الوحي القرآني مع مضامين الآيات القرآنية والروايات وعقائد المسلمين؟ وما هي الأدلة على نقد وردّ نظريّة ابن كُلاّب من خلال القرآن الكريم؟
خلاصة رأي ابن كُلاّب في الوحي
يقوم رأي ابن كُلاّب في باب الوحي على هذه النظرية القائلة بأن الارتباط الوحياني يتمّ عبر مرحلتين: المرحلة الأولى: النزول العمودي؛ حيث يتمّ عرض الوحي من قِبَل الله عزَّ وجلَّ على جبرائيل×. والمرحلة الثانية: النزول الأفقي؛ حيث يتلقّى النبي الوحي من جبرائيل.
إن الوحي في مرحلته الأولى ـ بزعم ابن كُلاّب ـ ليس نصّاً لغوياً، ولا يشتمل على حروف وألفاظ؛ وأما في المرحلة الثانية فإن الوحي يتحوَّل إلى كلامٍ، وينزل في إطار اللغة العربية؛ سواء أكان هذا التحوُّل اللغوي حاصلاً من قِبَل جبرائيل أو من قِبَل النبيّ الأكرم|([5]).
قال الزركشي: هناك مَنْ قال: إنه إنما نزل جبرائيل على النبيّ الأكرم| بالمعاني خاصّة. وأنه| عَلِم تلك المعاني وعبَّر عنها بلغة العرب. وقد تمسَّك هؤلاء لإثبات رأيهم بقوله تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ﴾ (الشعراء: 193 ـ 194). ويذهب هؤلاء إلى الاعتقاد بأن النزول الدفعي للقرآن الكريم على قلب النبي الأكرم| لم يكن بلغةٍ خاصّة، وأن المعاني قد نزلت على قلب رسول الله من دون ألفاظٍ وحروف([6]).
ويبدو أن ما ذهب إليه بعض المعتزلة الجُدُد في المرحلة المعاصرة ـ ومن بينهم: نصر حامد أبو زيد ـ قريبٌ من هذا الرأي الذي صدع به ابن كُلاّب. ومن هذه الناحية يمكن اعتبار رأي ابن كُلاّب مصدراً فكرياً لبعض المعتزلة الجُدُد، وهو ما يُضاعف من أهمِّية البحث.
وفي ما يلي سوف نعرِّف بابن كُلاّب ومنهجه الفكريّ، ونقد نظريّته في ضوء الاستفادة من النصوص الصريحة لآيات القرآن الكريم.
التعريف بابن كُلاّب
ابن كُلاّب المعروف بأبي محمد بن عبد الله بن سعيد بن كُلاّب القطّان البصري([7])، من متكلِّمي القرن الثالث الهجريّ؛ فقد كان من متكلِّمي أهل السنّة في عصر المأمون العباسي، ولم يكن في عقائده تابعاً بشكلٍ كامل لأحمد بن حنبل. وقد عدَّه أبو الحسن الأشعري من أصحاب الإثبات([8])؛ بمعنى أنه كان ـ على سبيل المثال ـ يثبت صفة «العالم» و«القادر» لله بواسطة العلم والقدرة. لقد كان ابن كلاّب موافقاً لأهل السنّة في الكثير من العقائد، ومن هنا يمكن اعتباره من أسلاف الأشاعرة. وعلى حدّ تعبير البغدادي: «من متكلِّمي أهل السنّة في أيام المأمون عبد الله بن سعيد التميمي [ابن كُلاّب]، الذي دمَّر على المعتزلة في مجلس المأمون، وفضحهم ببيانه»([9]). وقال السبكي: «كان لقوّته في المناظرة يجتذب مَنْ يناظره كما يجتذب الكُلاّب الشيء»([10]). كان ابن كُلاّب من المؤلِّفين في العقائد الكلامية للسلف؛ حيث سار أبو الحسن الأشعري على نهجه وآرائه في تأسيس «المذهب الكلامي الأشعري». لقد كان ابن كُلاّب من الذين سبقوا أبا الحسن الأشعري في إرساء مباني ومقدّمات مذهب الأشاعرة. وكان واحداً من أشهر المعارضين للمعتزلة، وألَّف بعض الكتب في الردّ على آرائهم([11]). لم يتمّ تحديد تاريخ وفاته بشكل دقيق، وقيل: إن وفاته كانت بعد عام 240هـ([12]). قال ابن حجر: «عبد الله بن سعيد بن محمد بن كُلاّب القطان البصري أحد المتكلِّمين في أيام المأمون… قال المصنِّف في تاريخ [وفاته]: كان بعد الأربعين ومئتين»([13]). وقال ابن النديم في حديثه عن عقيدة ابن كُلاّب: «[أبو محمد بن] عبد الله بن [سعيد]([14]) بن كُلاّب القطان… [متكلِّم من القرن الهجري الثالث]… [كان له جهودٌ قيّمة في إطار تدوين العقائد الكلامية، وله من الكتب: كتاب الصفات، وكتاب خلق الأفعال، وكتاب الردّ على المعتزلة والحَشْوية]([15])»([16]).
نبذةٌ عن الفرقة الكُلاّبية
لا يخفى أن علم الكلام ـ مثل سائر العلوم ـ قد تكامل واتّسعت رقعته بالتدريج. وإن من بين أبحاث علم الكلام بحث حدوث وقِدَم كلام الله. وكان بحث الحدوث والقِدَم من جملة الأبحاث الكلامية الهامّة؛ وبذلك فقد ذهب أصحاب الحديث، وتلاهم الأشاعرة، إلى القول بقِدَم الكلام الإلهي، وتشبَّثوا بهذا القول بشدّةٍ؛ بينما ذهب المعتزلة إلى القول بحدوث الكلام الإلهي([17]).
لقد سعى المعتزلة إلى جعل المفاهيم الدينية ـ ولا سيَّما الكلام الوحياني لله ـ معقولةً بالكامل؛ فهم يرَوْن أن حقيقة كلام الله عبارةٌ عن الحروف والأصوات المنظّمة، والتي تدلّ على المعاني والمفاهيم([18])؛ بينما يذهب الأشاعرة إلى الاعتقاد بأن كلام الله عبارةٌ عن صفة للذات، وأنها كانت مع الله منذ القِدَم، وأن الكتب اللفظية التي نزلت على الأنبياء إنما هي وجودٌ لفظي لتلك الصفة([19]).
وكان ابن كُلاّب من بين الذين شكَّلت عقائدهم نسيجاً ولُحْمة لسَدى المباني الفكرية للأشاعرة. لقد اختار ابن كُلاّب في النزاع المحتدم بين الحنابلة والمعتزلة طريقاً وَسَطاً، فعمد إلى التلفيق ما بين آراء الاتجاهين الحنبلي والمعتزلي، وقال بأن جوهر وحقيقة كلام الله (المعاني) قديمةٌ وأزليةٌ وصفةٌ للذات الإلهية، وأما حروفه وألفاظه فهي حادثةٌ ومخلوقةٌ. إنه كان يقول بأن كلام الله حقيقةٌ قديمة، لا هي عين ذات الباري تعالى، ولا هي منفصلةٌ عن الذات. إن القرآن الكريم والتوراة والإنجيل ـ من وجهة نظر ابن كُلاّب ـ تعابير وألفاظ عربية وعبريّة متنوِّعة عن تلك الحقيقة، وليست عين تلك الحقيقة. ويذهب في ماهية الكلام إلى الاعتقاد بأن الكلام إنما يطلق على المعنى فقط، وأن تطبيقه في مورد اللفظ يأتي من باب المجاز؛ لأن اللفظ يدلّ على المعنى([20]).
تذهب فرقة الكُلاّبية إلى القول بأن كتاب الله غير القرآن، ويعتقدون أن كتاب الله أمرٌ بسيط وقديم، وغير قابل للتلاوة، في حين أن القرآن مركَّبٌ من السُّوَر والآيات والكلمات والحروف القابلة للتلاوة؛ ولذلك لا يمكن القول: إن القرآن كلام الله، بل هو تعبيرٌ يحكي عنه([21]).
لقد كان للآراء الكلامية لابن كُلاّب تأثيرٌ هامّ في تبلور الكلام الإسلامي. وقد عمد المتكلِّمون بعده إلى بحث آرائه الموافقة والمخالفة على نحوٍ جادّ.
ويُسمّى أتباع آراء ابن كُلاّب بـ «الكُلاّبية».
إن فرقة الكُلاّبية من تلك الجماعة من أصحاب الحديث التي مالَتْ إلى الاستدلال.
وقد ظهرت الفرقة الكُلاّبية قبل ظهور الأشعري والأشاعرة.
وقد عمد أبو الحسن الأشعري ـ من خلال تجزئته وتحليله لنظرية ابن كُلاّب ـ إلى تقسيم كلام الله إلى: «كلام نفسي»؛ و«كلام لفظي»، وقال بأن الكلام النفسي قديمٌ، وأن الكلام اللفظي حادثٌ([22]).
وقد عدّ الشيخ المفيد الأشعري من بين المتكلِّمين الذين ساروا على نهج ابن كُلاّب([23]).
وقال أحمد بن علي المقريزي بدَوْره: إن الأشعري تخلّى عن مذهب الاعتزال، وسلك في مسائل الصفات والقدر والحُسْن والقُبْح العقلي مسلك ابن كُلاّب([24]).
وعلى الرغم من أن ابن كُلاّب كان على مذهب أصحاب الحديث، إلاّ أن كبار العلماء في هذه الفرقة كانوا يخالفونه. فقد كان ابن خزيمة الرازي يعيب على الكُلاّبية، وكان أحمد بن حنبل يُبدي شدّةً وغلظةً في مخالفة هذه الفرقة ومؤسِّسها([25]). وقال المقدسي: ومن بين الفِرَق التي بادَتْ وتغلَّبت عليها فرقة من شكلها: الكُلاّبيّة؛ حيث تغلّبت الأشعريّة عليها([26]). ولهذا السبب عمد صاحب كتاب (تبصرة العوام) إلى ذكر عقائد فرقة الكُلاّبية والأشاعرة ضمن عنوانٍ واحد، وضبط ذلك العنوان بعبارة: «في مقالات ابن كُلاّب وأبو الحسن الأشعري»([27]).
حقيقة الوحي القرآني عند ابن كُلاّب
إن أهمّ نظرية لابن كُلاّب آراؤه بشأن حقيقة كلام الله والقرآن والتوراة والإنجيل.
وقد عمد أبو الحسن الأشعري ـ وهو تلميذ ابن كُلاّب، وأوّل مقرِّرٍ لآرائه ـ إلى بيان نظريّته الخاصة على النحو التالي: «إن الله ـ سبحانه ـ لم يزَلْ متكلِّماً، وإن كلام الله ـ سبحانه ـ صفةٌ له، قائمةٌ به، وإنه قديمٌ بكلامه. وإن كلامه قائمٌ به كما أن العلم قائمٌ به والقدرة قائمةٌ به. وهو قديمٌ بعلمه وقدرته، وإن الكلام ليس بحروف، ولا صوت، ولا ينقسم، ولا يتجزّأ، ولا يتبعّض، ولا يتغاير، وإنه معنى واحد بالله ـ عزَّ وجلَّ ـ، وإن الرسم [رسم القرآن] هو الحروف المتغايرة، وهو قراءة القرآن، وإنه خطأٌ أن يُقال: كلام الله هو هو، أو بعضه، أو غيره. وإن العبارات عن كلام الله ـ سبحانه ـ تختلف وتتغاير، وكلام الله ـ سبحانه ـ ليس بمختلفٍ ولا متغاير، كما أن ذكرنا لله ـ عزَّ وجلَّ ـ يختلف ويتغاير، والمذكور لا يختلف ولا يتغاير. وإنما سُمّي كلام الله ـ سبحانه ـ عربياً؛ لأن الرسم الذي هو العبارة عنه ـ وهو قراءته ـ عربيّ؛ فسُمّي عربياً لعلّةٍ، وكذلك سُمّي عبرانياً لعلّةٍ، وهي أن الرسم الذي هو عبارةٌ عنه عبراني، وكذلك سُمّي أمراً لعلّةٍ، وسُمّي نهياً لعلّةٍ، وخبراً لعلّةٍ. ولم يزَلْ الله متكلِّماً قبل أن يُسمّى كلامه أمراً، وقبل وجود العلّة التي لها سُمّي كلامه أمراً. وكذلك القول في تسمية كلامه نهياً وخبراً، وأنكر أن يكون البارئ لم يزَلْ مخبراً أو لم يزَلْ ناهياً. وقال: إن الله لا يخلق شيئاً إلاّ قال له: «كُنْ»، ويستحيل أن يكون قوله: «كُنْ» مخلوقاً»([28]).
يذهب ابن كُلاّب إلى الاعتقاد بأن مسار نزول الوحي على النبي الأكرم| قد تعرّض إلى ظاهرة «التعبير»؛ بمعنى أن الله سبحانه وتعالى أطلع مَلَك الوحي [جبرائيل] على المعاني، فصاغها المَلَك في ضوء فهمه لها على شكل عباراتٍ أنزلها على النبيّ([29]).
كان ابن كُلاّب يرى أن الوحي هو كلام الله النفسيّ، وهو قديمٌ، وأما اللغة العربية أو العبرية في الكتب المقدَّسة فهي غير عين الوحي وكلام الله؛ وأن القرآن الكريم هو الرسم والتعبير العربيّ للوحي. وكان يعتقد بأن اللغة العربية، مثل سائر اللغات، مؤلَّفةٌ من الأصوات والحروف، وهي، مثل أيّ لغةٍ أخرى، تعاني من القيود والمحدوديات.
إن الوحي الإلهي في مسار النزول يقع ضمن قيود اللغة البشرية، ويصبح مختلفاً عن حقيقة الوحي الأصيلة واللامحدودة؛ ولذلك لا يمكن القول بأن القرآن الكريم أو الإنجيل الموجود بين أيدينا هو عين وحي الله وكلامه. إن الوحي وكلام الله هو بمثابة ذاته. وإن تجسيم وتمثيل ذات الله سبحانه وتعالى محالٌ؛ ولذلك لا يمكن القول: إن وحي الله موجودٌ بعينه على شكل قرآنٍ في أيدي البشر([30]). وهو يرى أن النبيّ الأكرم| عندما يصبّ ذلك الكلام النفسي والقديم لله في قالب الألفاظ تظهر على صِيَغ الأمر والنهي والخبر والاستفهام وما إلى ذلك. وعليه فإذا تمّ بيان تلك المعاني باللغة العربية سوف تصبح قرآناً، وإذا صيغت باللغة العبرية سُمِّيت توراة([31])؛ وإلاّ فإن حقيقة كلام الله ليست من جنس الألفاظ، وهي أمرٌ بسيط وقائمٌ بذات الله سبحانه وتعالى([32]).
يبدو أن ابن كُلاّب يرى أن اللغة العربية ـ بوصفها ظاهرةً مخلوقة ـ تعاني من بعض القيود والحدود، ومن هنا فإن كلام الله في مسار نزوله وصبّه في قالب اللغة العربية قد تأنسن وصار محدوداً، ومن هنا لا يمكن القول: إن كلام الله قد تحوَّل إلى شكل مصحفٍ من خلال نزوله على النبي الأكرم|؛ ولا يمكن القول بأن الموجود بين أيدينا على شكل قرآن هو عين كلام الله سبحانه وتعالى([33]).
إن ابن كُلاّب؛ حيث كان يعمل على تأييد عقائد أهل السنّة بالأدلة العقلية، كان في الوقت نفسه ـ وعلى حدّ تعبير الأشعري ـ يضيف إلى تلك العقائد بعض الأشياء أيضاً. وفي ما يتعلَّق بصفات الله كان يرى أنها ليست ذات الباري تعالى، ولا منفصلة عن الذات، وإنما هي قائمةٌ بالذات([34]).
والسُّبْكي بدَوْره، على الرغم من اعتباره ابن كُلاّب من أهل السنّة، يقول: لقد أضاف أشياء إلى الكلام، ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنه قسّم كلام الله إلى قسمين، وهما: الكلام النفسي، وهو قديمٌ؛ والكلام الذي يتّصف بالأمر والنهي والخبر، وهو حادثٌ([35]).
وبسبب هذه الإضافات ذهب المتعصِّبون من أهل السنّة إلى طرد ابن كُلاّب من بينهم. وقال ابن بطّة في هذا الشأن: «ومن خبثائهم ومَنْ يُظهر في كلامه الذبّ عن السنّة والنصرة ـ وقوله أخبث القول ـ ابن كُلاّب»([36]).
الجذور التاريخيّة لنقد نظريّة «الكلام النفسيّ» لابن كُلاّب
إن الجذور التاريخية لهذه المسألة؛ أي الكلام النفسي ـ كما يلوح من كتاب الإتقان، للسيوطي، والبرهان، للزركشي ـ تعود إلى ما قبل قرون([37]).
وقد خضعت آراء ابن كُلاّب للتدقيق والنقاش من قِبَل مَنْ جاء بعده من المفكِّرين والمتكلِّمين. فقد قام الأشعري والقاضي عبد الجبّار المعتزلي بنقد آرائه بشكلٍ جادّ، وبعد ذلك انتقده أشخاص آخرون، من أمثال: ابن تيمية.
فقد عمد القاضي عبد الجبّار إلى نقد آراء ابن كُلاّب والكُلاّبية حول حقيقة كلام الله بشكلٍ تفصيلي ومسهب. وقد شنّ المعتزلة هجمات عنيفة على آراء ابن كُلاّب. ويبدو أن المتكلِّمين من المعتزلة لم يكونوا يرَوْن نظرية ابن كُلاّب في مورد كلام الله منسجمةً مع منهج عقلنة الدين، أو استعمال نوعٍ من المنطق والاستدلال في فهم وإدراك أصول الدين، على ما هو معروف من منهج المعتزلة.
وأما ابن تيمية، فإنه على الرغم من إكباره وثنائه على ابن كُلاّب في كتابَيْه: (منهاج السنة النبوية) و(موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول)، إلاّ أنه لم يستحسن رأيه الخاصّ حول كلام الله. وقال في ذلك: «قول السلف قاطبةً من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمّة المسلمين: إن القرآن كلام الله ليس بمخلوقٍ، ولكنهم لم يقولوا ما قاله ابن كُلاّب [ومَنْ اتبعه من] أنه قديمٌ لازم لذات الله»([38]).
وحالياً هناك مقالتان في المتناول، وهما بعنوان: «ابن كُلاّب وموقفه من مسألة الصفات الإلهية»، و«القرآن ونظرية العبارة الكلامية»([39])؛ حيث تتعرّض الأولى في الغالب إلى بحث صفات الله من وجهة نظر ابن كُلاّب؛ وتتعرّض الثانية في الغالب إلى بيان ونقد نظريّة الأشاعرة بالأدلة العقلية حول الكلام النفسي. ولكنهما لم تتعرَّضا إلى نقد نظرية ابن كُلاّب في ضوء الآيات الإلهية.
إن لابن النديم كلاماً بشأن ابن كُلاّب وعقائده، وقد أثار به حفيظة المؤرِّخين من أهل السنّة والأشاعرة؛ إذ يقول: «ابن كُلاّب: من بابيّة الحشويّة… وله مع عبّاد بن سليمان مناظرات. وكان يقول: إن كلام الله هو الله. وكان عبّاد يقول: إنه نصراني بهذا القول»([40]).
وقد ردّ السُّبْكي على هذا الكلام من ابن النديم، مدَّعياً أنه معتزليّ، يسعى إلى تشويه سمعة ابن كُلاّب، ثم قال: «ابن كُلاّب ـ على كلّ حال ـ من أهل السنّة، ولا يقول هو ولا غيره ـ ممَّنْ له أدنى تمييز ـ: إن كلام الله هو الله»([41]).
وبطبيعة الحال فإن عبارة ابن النديم في نقل كلام ابن كُلاّب قد لا تخلو من التعصُّب؛ بَيْدَ أن ابن كُلاّب يرى ـ على كلّ حال ـ أن كلام الله قديم، وكان المعتزلة على الدوام يقولون: إن لازم هذا الكلام هو الاعتقاد بتعدُّد القدماء.
وقال ابن تيمية بشأن صلة ابن كُلاّب بالنصرانية: «ممّا افترَتْه الجهمية على المثبتة أن ابن كُلاّب؛ لمّا كان من المثبتين للصفات، وصنَّف الكتب في الردّ على النفاة، وضعوا على أخته حكاية أنها كانت نصرانيةً، وأنه لما أسلم هجَرَتْه، فقال لها: يا أختي، إني أريد أن أفسد دين المسلمين، فرضيَتْ عنه لذلك»([42]). واستطرد ابن تيمية بعد ذلك يقول: «ومقصود المفتري بهذه الحكاية أن يجعل قوله بإثبات الصفات هو قول النصارى»([43]).
وقال ابن حجر العسقلاني: «نقل الحاكم [النيسابوري] في تاريخه عن ابن خزيمة قوله بأن قول ابن النديم أنه من الحَشْوية يريد [به] مَنْ يكون على طريق السلف في ترك التأويل للآيات والأحاديث المتعلِّقة بالصفات»([44]). وأضاف قائلاً، في حديثه عن ابن خزيمة: «إنه كان يعيب مذهب الكُلاّبية، ويذكر عن أحمد بن حنبل أنه كان أشدّ الناس على عبد الله بن سعيد [ابن كُلاّب] وأصحابه»([45]).
نظريّة الكلام النفسيّ لابن كُلاّب، نقدٌ وردّ
كما سبق أن ذكَرْنا فإن ابن كُلاّب كان يذهب إلى الاعتقاد بأن حقيقة القرآن شيءٌ غير هذه الحروف والكلمات، وأن الموجود بين أيدينا على شكل قرآنٍ ليس عين كلام الله، بل هو تعبيرٌ ورسمٌ عربي للوحي. وحيث إن الوحي وكلام الله قديمٌ مثل ذاته، ويستحيل التجسُّم والتمثُّل على ذات الله؛ لذلك لا يمكن القول: إن وحي الله صار بعينه في متناول أيدي الناس على شكل قرآنٍ. إن هذا الرأي من ابن كُلاّب لا ينسجم مع صريح القرآن الكريم؛ إذ إن الكلام اللفظي ـ بناءً على تفسيره ـ إنما يدلّ على الكلام النفسي، وليس على حقيقة الكلام.
وفي ما يلي نقدٌ لنظرية ابن كُلاّب في ضوء صريح آيات القرآن الكريم.
1ـ «النزول» ومشتقّاته في الاستعمال القرآني
إن من بين الانتقادات الواردة على نظرية ابن كُلاّب استعمال كلمة «النزول» ومشتقّاتها في القرآن الكريم، الأمر الذي يُثبت لفظية الكلام الإلهي.
ورد تفسير «النزول» في (لسان العرب) بمعنى الحلول في مكان والإقامة فيه([46])؛ كأن يُقال: «نزل الأمير في المدينة» أي أقام بها. والفعل المتعدّي منه «أنزله» بمعنى: إدخال شيء في مكانٍ وإدراجه فيه. وبهذا المعنى ورد قوله تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾ (المؤمنون: 29)([47]). كما تستعمل مفردة «النزول» في اللغة العربية بمعنىً آخر أيضاً، وهو النزول من الأعلى إلى الأسفل([48])، يقال: «نزل عن دابّته».
لا شَكَّ في أنه لا شيء من هذين المعنيين هو المراد من «إنزال» و«نزول» القرآن من عند الله سبحانه وتعالى؛ إذ لازم هذين المعنيين المذكورين هو الحلول والتجسيم، والحال أن القرآن الكريم ـ سواء أكان بمعنى الصفة القديمة المتعلِّقة بالكلمات الغيبية الأزلية، أو بمعنى الكلمات الغيبية ذاتها، أو بمعنى اللفظ المعجز ـ ليس جسماً كي يحلّ في مكانٍ، أو ينزل من الأعلى إلى الأسفل؛ لأن الصفة القديمة منزَّهةٌ عن الحدوث، وهكذا الألفاظ فهي عَرَض سيّال، وتجري بمجرّد التكلُّم بها([49]). وعلى هذا الأساس نحتاج في معنى «النزول» إلى المجاز؛ إذ إن لازم المعنى اللغوي لكلمة «الإنزال» ـ كما ذكرنا سابقاً ـ هو المكانية والجسمية. وفي الحقيقة فإن المعنى المجازي لإنزال القرآن في جميع الاستعمالات هو «الإعلام». وعلى هذا الأساس فإن تفسير الإنزال بمعنى «الإعلام» ينسجم مع جميع الاستعمالات والتطبيقات القرآنية لهذه الكلمة، وجميع أشكال النزول([50]).
نقل السيوطي عن القطب الرازي أنه ذكر في هوامش الكشّاف: «الإنزال» لغةً يعني الإيواء (أي الوضع في مكانٍ)، وبمعنى تحريك شيء من الأعلى إلى الأسفل. ولا شيء من هذين المعنيين يتحقَّق في الكلام. وعليه تكون هذه الكلمة قد استعملت في المعنى المجازي، والذين يقولون بأن القرآن مفهومٌ قائمٌ بالذات الإلهية يفسِّرون إنزال القرآن على النحو التالي: إنه أوجد الكلمات والحروف الدالّة على ذلك المعنى، وأدرجها في اللوح المحفوظ. والذين يقولون: إن القرآن هو ذات الألفاظ يرَوْن أن الإنزال هو ذات تثبيتها في اللوح المحفوظ. وهذا القول من المعاني اللغوية لهذه الكلمة هو الأنسب([51]).
وكذلك في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (يوسف: 2) ورد إسناد القرآن باللغة العربية إلى الله سبحانه وتعالى؛ لا أن الله قاله على شكل كلام نفسي، وأن جبرائيل× أو النبي الأكرم| قد فهمه بصيغةٍ عربية. وعليه فإن الوحي الإلهي كانت له صورة لغة خاصّة صُبَّتْ في قالب الألفاظ العربية.
بَيْدَ أن ابن كُلاّب يرى ـ كما تقدَّم ـ أن الكلام اللفظي لله (آيات القرآن) إنما يدلّ على الكلام النفسي، لا على حقيقة الكلام.
ويرى العلاّمة الطباطبائي أن إنزال الكتاب على شكل قرآن وباللغة العربية يعني أن الله قد ألبسه في مرحلة الإنزال ثوب القراءة العربية، وجعله على شكل ألفاظ مقروءة طبقاً للألفاظ المعهودة عند العرب. وعلى هذا الأساس فإن الكتاب المشتمل على الآيات قد تمّ إلباسه في مرحلة النزول ثوباً ولفظاً عربياً؛ ليصبح مناسباً للتعقُّل، ولو لم يدخل في مرحلة الوحي في قالب ألفاظ مقروءة، أو إذا دخل فيها ولم يتلبَّس بثياب الألفاظ العربية، لما أمكن للناس أن يدركوا أسرار آياته، واقتصر فهمه على النبي الأكرم| فقط([52]).
2ـ نهي النبيّ(ص) عن العَجَلة في قراءة القرآن
ورد في بعض آيات القرآن نهي النبيّ الأكرم| عن التعجيل في تلقي الوحي قبل الفراغ من قراءة الوحي. إن هذا الأمر يدلّ بوضوحٍ على لفظية الوحي. إن الآية التي لا تنسجم قبل أيّ آيةٍ أخرى مع نظرية ابن كُلاّب هي الآية التي تنهى النبيّ عن التعجيل في تكرار ألفاظ القرآن قبل انتهاء وحيه، وهي قوله تعالى: ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ (القيامة: 16 ـ 18).
إن هذا الحرص في حفظ الوحي أثناء النزول وبعده يُثبت بوضوحٍ أن ألفاظ وعبارات القرآن قد نزلت ـ مثل مضمونه ومحتواه ـ من قِبَل الله سبحانه وتعالى، وأن النبي قد تلقّاها من موقعه ومقامه بوصفه المخاطب الأمين.
إن هذا البيان الصريح من القرآن الكريم يدلّ بوضوحٍ على أن القرآن هو الوحي، لا أنه ثمرة الوحي، وأن النبي الأكرم| لم يكن له أيّ دَوْرٍ في صياغته وتركيب ألفاظه، وأن النبي كان مأموراً باتباع الوحي اللفظي، واستيعابه لفظاً بلفظٍ، إلى حين اكتمال وإتمام الكلمات النازلة والمقروءة([53]).
3ـ الإعجاز اللفظيّ في القرآن
إن الإعجاز والخلود القرآني إلى الأبد هو أحد الأدلة على وحيانية ألفاظ القرآن الكريم.
إن القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الوحيد الذي تحدّى بضرسٍ قاطع جميع المحاولات الرامية إلى الإتيان بمثله، حتّى لو اجتمع جميع الإنس والجنّ على القيام بذلك، وكان بعضهم لبعض ظهيراً: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾ (الإسراء: 88)، بل إنهم لا يعجزون عن الإتيان بكتاب مثل القرآن فحَسْب، وإنما يعجزون حتّى عن الإتيان بعشر سورٍ من مثله، بل بسورةٍ واحدة من سطرٍ واحد، قال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (هود: 13). وقال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (يونس: 38). وبهذا البيان فإن دائرة التحدّي لا تقتصر على الكافرين والمنكرين للكتاب الإلهي فقط، وإنما تشمل جميع الناس بمَنْ فيهم الأنبياء أيضاً، وإن دائرة التعجيز تشمل حتّى النبي الأكرم| نفسه أيضاً. وعليه فإن ذات النبيّ ـ بوصفه واحداً من البشر ـ لايستطيع الإتيان بمثل هذا الكتاب دون الاستعانة بالوحي الإلهي([54]).
إن من بين الموارد الدالة على إعجاز القرآن اللفظي استعمال أقوى القواعد الأدبية في الألفاظ القرآنية. يقول العلاّمة الطباطبائي: إن القرآن الكريم في بيان مقاصده لم يتشبَّثْ بأيّ قاعدةٍ أدبية ضعيفة، بل أقام بإعجازه البياني وتوظيف أقوى القواعد الأدبية صرحاً شامخاً يدفع كلّ عارفٍ بفنون البيان إلى الانبهار والإقرار بإعجازه. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ: ما قاله العلاّمة الطباطبائي في تفسير قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 230): «في الآية من عجيب الإيجاز ما يبهت العقل؛ فإن الكلام على قصره مشتملٌ على أربعة عشر ضميراً مع اختلاف مراجعها واختلاطها، من غير أن يوجب تعقيداً في الكلام، ولا إغلاقاً في الفهم»([55]).
وقال تعالى في موضعٍ آخر من القرآن الكريم في مخاطبة المشركين، تحذيراً لهم من نسبة القرآن إلى النبي الأكرم|: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ (الحاقّة: 44 ـ 47).
ومن هنا يُجمع علماء الإسلام من جميع الفِرَق الإسلامية على أن انتقاء وتركيب الألفاظ وعبارات القرآن وحيٌ إلهي، وأن النبي الأكرم| لم يكن له أيّ دَوْرٍ في ذلك. وبعبارةٍ أخرى: إن قرآنية القرآن وإعجاز نصّ القرآن يكمن في أن الخطابات الإلهية في إطار الألفاظ الخاصّة وبنيتها وتركيب عباراتها الخاصة قد أبدعت هذه العظمة الفذّة، والتي لا يمكن لأحد أن يأتي بمثلها([56]).
وعلى هذا الأساس فإنه في الوحي القرآني، بالإضافة إلى المعنى، يُعَدّ انتقاء الألفاظ والعبارات لإيصال المعاني المنشودة من فعل الله سبحانه وتعالى أيضاً، وإن النبي الأكرم| قد أبلغ إلى الناس ما نزل عليه بعينه.
4ـ انتظار النبيّ(ص) لنزول الوحي
الدليل الآخر على رفض نظرية ابن كُلاّب أن علاقة النبي الأكرم| بالوحي ـ طبقاً لما ورد في آيات القرآن ـ علاقةٌ أحادية ومن طرفٍ واحد؛ بمعنى أن النبيّ لم يكن له أيّ خيارٍ في نزول الوحي، بل كان مكلَّفاً ومأموراً باتّباع ما ينزل عليه من الوحي؛ كما في قوله تعالى: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ (يونس: 15).
وإن بعض آيات القرآن تعكس انتظار النبيّ الأكرم| لنزول الوحي؛ لكي يُبيِّن له الأحكام والموقف بالنسبة إلى المسائل الشرعية أو الاجتماعية. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ: ما ورد في آيات تحوُّل اتجاه القبلة، فقد صوّر الله انتظار وترقُّب رسوله لأمر تغيير القبلة كما يلي: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ (البقرة: 144).
وفي بداية سورة «المجادلة» تمَّت الإشارة إلى حوارٍ دار بين امرأة من الصحابيات مع رسول الله| حول إبطال مسألة «الظهار»، حتّى أنه جاء في بيان سبب نزول هذه السورة قولهم: إن تلك المرأة كانت تطالب النبي بإبطال الظهار، حتّى بلغ الأمر إلى البحث والجدال؛ إلا أن رسول الله| كان يقول: إنه لا يمتلك مثل هذه الصلاحية، وإن الأمر موكولٌ إلى الوحي، حتّى نزلت الآيات الأولى من سورة المجادلة في إبطال الظهار([57]).
إن بعض آيات القرآن يبيِّن بوضوحٍ أن ما يتلوه النبي على الناس ليس من عنده، بل هو كلام الله، وأن فعل «التلاوة» إنما يصدر عن النبي الأكرم| بإذن الله. قال تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ…﴾ (يونس: 15). إن سلب الاختيار هذا يدلّ بوضوح على أن ألفاظ القرآن ليست من النبيّ، وإلاّ فإن كل شخص يستطيع أن يعيد ما قاله بتعبيرٍ وبيانٍ آخر.
يرى العلاّمة الطباطبائي أن معنى هذه الآيات ـ على ما يساعد عليه السياق ـ «أن الأمر فيه [في نزول القرآن] إلى مشيئة الله، لا إلى مشيئتي؛ فإنما أنا رسولٌ. ولو شاء الله أن ينزل قرآناً غير هذا، ولم يشأ هذا القرآن، ما تَلَوْتُه عليكم، ولا أدراكم به؛ فإني مكثْتُ فيكم عُمُراً من قبل نزول القرآن، وعشْتُ بينكم، وعاشَرْتُكم وعاشرتموني، وخالطتكم وخالطتموني، فوجدتموني لا خبر عندي من وحي القرآن، ولو كان ذلك إليَّ وبيدي لبادَرْتُ إليه قبل ذلك، وبدَتْ من ذلك آثار، ولاحت لوائحه، فليس إليَّ من الأمر شيءٌ، وإنما الأمر في ذلك إلى مشيئة الله، وقد تعلّقت مشيئته بهذا القرآن لا غيره، أفلا تعقلون»([58]).
وقال الشيخ مكارم الشيرازي بدَوْره في تفسير هذه الآية: «ونحن نرى كيف أن القرآن الكريم أجابهم بلهجةٍ قاطعة بأنّ النبيّ| ليس له أيّ اختيارٍ وتصرّف في التبديل، ولا التغيير، ولا تسريع نزول الوحي أو تأخيره»([59]).
وعلى هذا الأساس، فإن النبي الأكرم| هو مجرَّد متلقٍّ للوحي، ومبلِّغٍ له، ولا يحقّ له ولا يستطيع أن يضيف كلمةً واحدة إلى القرآن، أو يُنقص منه كلمة. كما يُثبت أن ما يقرأه النبيّ من القرآن هو غير تعبيره الشخصي عن آرائه وأفكاره. وعليه فإن النبي الأكرم| ـ خلافاً لما قاله ابن كُلاّب ـ قد تلقّى مضمون الوحي بألفاظه القرآنية.
5ـ اشتمال القرآن على ألفاظ «التلاوة»، و«القراءة»، و«الترتيل»
يصرِّح القرآن الكريم بأن ألفاظه وعباراته وتراكيبه من الله، وقد نزلت بواسطة الوحي. وقد صرّّح الشيخ محمد هادي معرفت بأن ألفاظ «القراءة» و«التلاوة» و«الترتيل» المستعملة في القرآن الكريم إنما هي في ضوء الوضع اللغوي تعكس ما يقوله الآخر الذي صاغ تلك الألفاظ والمعاني، وأن الذي ينقلها إنما يقوم بمجرّد تلاوتها.
إن «القراءة» من الناحية اللغوية تعني حكاية العبارات والألفاظ التي صاغها شخصٌ آخر، وإذا كانت العبارات من الشخص نفسه لا يُستعمل لها لفظ القراءة([60]). وعليه فإن «القراءة» حكايةٌ نثرية سبق أن تمّ تنظيم ألفاظها وعباراتها. وإن «التكلُّم» إنشاء المعنى بألفاظ وعبارات قام المتكلِّم بتنظيمها. وفي ضوء هذا التوضيح ندرك أن القرآن لا يمكن أن تكون عباراته من النبيّ الأكرم|؛ إذ إن النبي إنما كان يقرأه أو يتلوه فقط، ولم يَرِدْ في موضعٍ أبداً أن النبي الأكرم كان يتكلَّم بالقرآن([61]).
يرى العلاّمة الطباطبائي أن القرآن الكريم كلامٌ مركَّب من ألفاظ، وأن لتلك الألفاظ معاني حقّةً؛ لأن ألفاظ القرآن قد نزلت من عند الله تعالى، كما أن معاني القرآن قد نزلت من عند الله أيضاً؛ وذلك بشهادة ظاهر الآيات، كما في قوله تعالى:
ـ ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ﴾ (القيامة: 18).
ـ ﴿تِلْكَ آَيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ (البقرة: 252)([62]).
وعلى هذا الأساس، إذا كان المراد من «الآيات» في هذه الآية هو آيات القرآن، وكان المراد من القراءة بدَوْرها هو المعنى المتعارف، كانت دلالة الآية على النحو التالي: «إنا» (الله سبحانه وتعالى) نتلو «الآيات الإلهية» عليك (يا محمد)، وليس لهذه الدلالة من معنى سوى تلاوة وقراءة الألفاظ؛ وإلاّ فإن «تلاوة المعنى» ليس لها مفهوم صحيح، ولا تُعَدّ في الأساس إلقاءً لمعنى الآية والكلام. وفي الحقيقة والواقع ليس للمعنى والمحتوى من وجود في الخارج أصلاً كي يقعا مورداً للإشارة([63]).
وعليه لا شَكَّ في أن الألفاظ هي ممّا يُقرأ ويُتلى، وليس المعاني. ومن هنا لا اعتبار في ما قيل من أن ما جاء به الروح الأمين هو معاني القرآن الكريم فقط، وأن رسول الله| قد عبَّر عن تلك المعاني بألفاظ تطابقها.
إن دَوْر جبرائيل وسائر الملائكة في أمر الوحي إنما يتلخَّص في تلقي الكلام من الله، وإيصاله إلى النبيّ. وإن الذي يسمعه النبيّ من مَلَك الوحي هو كلام الله. إن جبرائيل لا يضيف شيئاً إلى الوحي، ولا ينقص منه شيئاً، وإنما ينزل بإذن من الله، قال تعالى: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً﴾ (مريم: 64). الحقيقة هي أن جبرائيل لم يكن له دَوْرٌ في تبلور القرآن سوى نقل الوحي إلى النبيّ الأكرم|، كما لم يكن لرسول الله| من دَوْرٍ سوى الإدراك والحفظ، ثم الإعادة والإبلاغ، ثمّ البيان والتفسير لاحقاً، وصولاً إلى مرحلة التطبيق والتنفيذ على أرض الواقع. هناك في القرآن الكريم آياتٌ تصرِّح بأن القرآن ليس كلاماً لجبرائيل أو النبيّ الأكرم|، ومنها: قوله تعالى:
ـ ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ (النمل: 6).
ـ ﴿وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي…﴾ (الأعراف: 203).
ـ ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ (يونس: 15).
ـ ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ (الحاقّة: 44 ـ 47).
6ـ الانتقاء الإلهيّ الخاصّ لألفاظ القرآن
إن إلهية النصّ القرآني ودقّة الله سبحانه وتعالى في اختيار الكلمات ـ كما صرَّح العلامة الطباطبائي بذلك أيضاً ـ بحيث أصبح لكلّ واحدةٍ من ألفاظ القرآن مكانة لا يمكن معها استبدالها بأيّ كلمةٍ أخرى. والنقطة الأدقّ أنه حتّى لو تمّ استعمال مفردة واحدة في موضعين مختلفين متقاربين من حيث الموضع لا يُراد منهما معنى واحدٌ تماماً، بل إن الكلمة أو العبارة الواردة في الموضع الثاني تفيد معنى جديداً غير المعنى الذي تفيده في الموضع الأوّل([64]).
يذهب العلاّمة الطباطبائي إلى الاعتقاد بأن ألفاظ القرآن الكريم؛ حيث كانت وحياً عربياً، تمكَّنت من ضبط وحفظ أسرار الآيات وحقائق المعارف الإلهية. وبعبارةٍ أخرى: لو أن معاني الألفاظ هي التي كانت توحى، والألفاظ التي كانت تحكي عن تلك المعاني من صنع رسول الله| ـ كما هو الحال بالنسبة إلى الأحاديث القُدْسيّة ـ، لما تمّ حفظ تلك الأسرار. ولو أن الوحي لم ينزل باللغة العربية، أو نزلت بالعربية ثم ترجمها رسول الله إلى لغةٍ أخرى، لبقي جانبٌ من تلك الأسرار خافياً على عقول الناس، ولما أمكن للناس أن يصلوا إليها بعقولهم وأفهامهم([65]). ولذلك فإن وحي الله [في القرآن] كانت له صورةٌ خاصة؛ حيث نزل في قالبٍ من اللغة العربية، خلافاً لسائر الكتب السماوية الأخرى التي تعرَّضَتْ للتغيير والتحريف.
إن الانتقاء الصحيح لعبارات وألفاظ القرآن من الناحية المفهومية ـ حتّى في آيةٍ واحدة ـ يُشكِّل دليلاً على سماوية الألفاظ القرآنية. وبطبيعة الحال رُبَما بدا بعض الألفاظ في بعض الآيات والسُّوَر مكرَّراً بحَسَب الظاهر، ولكنْ يجب القول: إن كلّ واحد من هذه العبارات والألفاظ تفيد في موضعها معنى لا يُخطئه القلب. فعلى الرغم من تكرار تلك الكلمات لفظاً، ولكنْ في الحقيقة والواقع لا يوجد تكرارٌ في المعنى، بل إن تلك الألفاظ المكرّرة تنقل لنا معنى جديداً، وإن الغاية من هذا التكرار في الغالب هو تأكيد المعنى، وتقرير الكلام، والإشارة إلى عظمة وأهمّية الموضوع، ولفت انتباه المخاطب إلى المضامين الواردة في تلك السورة([66]). ومن هنا يجب القول: إن هذا التكرار لا يتنافى مع الفصاحة والبلاغة، بل هو واحدٌ من فنون الفصاحة.
لقد تحدّى القرآن الكريم بلغاء العرب وخطبائهم، وقال لهم: إذا كنتم تشكّون في نزول هذا القرآن من عند الله فأتوا بكلامٍ مثله. وإن عجزهم عن الإتيان بمثل القرآن كان ولا يزال دليلاً على سماوية القرآن الكريم بألفاظه وعباراته ومعانيه. وعلى هذا الأساس لا يمكن لأيّ إنسانٍ آخر ـ بمَنْ فيهم رسول الله| نفسه ـ أن يكون هو خالق محتوى القرآن وألفاظه. وإذا لم يكن اللفظ والمعنى في القرآن كلاهما من عند الله لما أمكن نسبة هذا الكلام إلى الله. إن هذا الكتاب هو الكتاب الوحيد الذي ثبتت عصمته وصيانه من الزيغ والتحريف وعلوّ مكانته ورفعة مقامه عن متناول أيدي البشر وغيرهم بجميع الأدلّة التاريخية والعلمية، وإن الأدلة المُحْكَمة التي أقيمت في مواجهة المعاندين والكافرين شاهدةٌ على صدق وعصمة وقداسة الوحي الإلهي.
7ـ اختلاف القرآن عن الحديث النبويّ
إن النقطة الأخرى التي تؤيِّد وحيانية ألفاظ القرآن الكريم وعباراته تكمن في الاختلاف بين القرآن والحديث من حيث أسلوب البيان وتركيب الكلمات والعبارات. إن هذا الاختلاف خيرُ شاهدٍ على عدم تدخُّل النبي الأكرم| في مسار الوحي وتبلور البنية والتركيبة اللفظية والبيانية للقرآن الكريم. إن امتياز القرآن الكريم بحيث إنه يختلف حتّى عن سائر الكلمات والإلهامات الإلهية الأخرى التي نزلت على شكل أحاديث قُدْسيّة، وهذا هو الذي تمّ التعبير عنه بالمعجزة الخالدة، وحتّى النبي الأكرم| كان عاشقاً لترتيله وتلاوته، وكان يطمئن قلبه بنزول الآيات من عند الله سبحانه وتعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾ (الفرقان: 32).
قال السيد الخوئي: «لو كان القرآن من كلام الرسول وإنشائه لوجدنا في بعض خطبه وكلماته ما يشبه القرآن في أسلوبه، ويضارعه في بلاغته. وكلمات الرسول| وخطبه محفوظةٌ مدوَّنة تختصّ بأسلوبٍ آخر. ولو كان في كلماته ما يشبه القرآن لشاع نقله وتدوينه، وخصوصاً من أعدائه الذين يريدون كيد الإسلام بكلّ وسيلةٍ وذريعة»([67]).
8ـ اهتمام المسلمين بألفاظ القرآن
كما بذل المسلمون جهوداً كبيرة من أجل فهم المعارف والتعاليم السماوية للقرآن الكريم، ووقفوا أمام حدوث أيّ نوعٍ من أنواع الانحراف في هذا المجال، فإنهم قد بذلوا ذات الحجم من الجهود من أجل معرفة ألفاظ القرآن وعباراته وأساليبه والبنية الظاهرة لنصّه، وبيان أساليب البديع وأبعاد البلاغة والنَّغَم الموزون فيه. إن الجهود الواسعة التي بذلها العلماء والمفكِّرون المسلمون حول التركيب الظاهري والأسلوب الكلامي والبياني للقرآن الكريم تستند ـ قبل أيّ عنصرٍ آخر ـ إلى إيمانهم واعتقادهم بسماوية ألفاظه وعباراته. إن الاعتقاد بسماوية الألفاظ والتركيبة الظاهرية للقرآن من العمق والتجذّر في وجدان المؤمنين والمسلمين بحيث كان القرآن الكريم يحظى عندهم بمكانةٍ ومنزلةٍ خاصّة من التقديس والتكريم، وتمّ وضعه من قِبَلهم في مكانةٍ فريدة وفذّة تجعله فوق جميع النصوص البشرية.
وعلى أيّ حالٍ فإن النتيجة التي تترتَّب على الأبحاث السابقة هي أن النبيّ الأكرم| كان مجرّد متلقٍّ للوحي وإبلاغه إلى الناس، ولا يحقّ له ولا يستطيع أن يُضيف إليه جملةً أو كلمةً واحدة، أو أن يُنقص منه شيئاً ألبتّة.
وعلى هذا الأساس يمكن القول ـ استناداً إلى آيات القرآن الكريم، وما يقتضيه المناخ الفكري والكلامي والتفسيري للقرآن المكتوب والوثائق الواصلة إلينا من تلك الحقبة الزمنية من السيرة والتاريخ ـ: إن شخص النبيّ الأكرم| كان يرى القرآن هو عين الوحي والكلام الإلهي، وإنه لم يكن له من دَوْرٍ سوى الإبلاغ التامّ والكامل للوحي إلى المخاطبين، كلمةً بكلمة. وكان المسلمون في ذلك العصر بدَوْرهم يحملون ذات الرؤية والاعتقاد بالنسبة إلى القرآن أيضاً. وفي الحدّ الأدنى كان المسلمون يجمعون على هذه العقيدة بعد رحيل النبيّ الأكرم|. وعلى الرغم من أن هذا الإجماع لا يضمن صحّته المطلقة، إلاّ أن هذا الإجماع في الحدّ الأدنى هو الأكثر تناسباً مع النصّ والعقل والمنطق الديني والإيماني للوحي، كما أنه الأكثر انسجاماً مع العقل الباحث والاستدلالي الحُرّ والحيادي أيضاً.
النتيجة
إن الكلام اللفظي ـ طبقاً لتفسير ابن كُلاّب للوحي ـ إنما يدلّ على الكلام النفسي، لا حقيقة الكلام.
هذا في حين أن الكثير من آيات القرآن الكريم تدلّ دلالةً صريحة على أن النبي الأكرم| كان يتلقّى محتوى القرآن بألفاظه من الوحي.
والنتائج التي تمّ التوصّل إليها في هذه الدراسة هي أن رأي ابن كُلاّب ـ بالنظر إلى استعمال كلمة «نزل» ومشتقّاتها في القرآن الكريم، والمعنى اللغوي، وكذلك نزول القرآن باللغة العربية، والذي يثبت أن الوحي الإلهي كان له صورةٌ لغوية خاصّة في إطار الألفاظ العربية ـ يتعارض مع الحقيقة والواقع.
وكذلك فإن النظر إلى الآيات التي تنهى النبيّ الأكرم| عن التعجيل في تكرار القرآن قبل إتمام وحيه ونزوله، والعلاقة الأحادية للوحي مع النبي، وعدم تكرار ألفاظ القرآن من الناحية المفهومية والمعنوية حتّى في آيةٍ واحدة، كل ذلك يدلّ بوضوحٍ على لفظية الوحي، ويؤكِّد على عدم تدخُّل النبي الأكرم| في ألفاظ الوحي.
يُضاف إلى ذلك أن وجود مفرداتٍ من قبيل: «التلاوة» و«القراءة» و«الترتيل» في القرآن الكريم ـ بالنظر إلى معانيها اللغوية ـ يثبت أن الألفاظ والمعاني كلاهما صادرٌ من شخصٍ آخر، وأن الناقل لها مجرّد عاملٍ على تلاوتها؛ ولو كانت الألفاظ والعبارات منه لما استعمل في حقِّه لفظ «القراءة».
وكذلك فإن اختلاف القرآن الكريم عن الأحاديث النبويّة، من حيث الأسلوب البياني، وطريقة تركيب الكلمات والعبارات، يمثِّل بدَوْره خير شاهدٍ على عدم تدخُّل النبي الأكرم| في مسار الوحي وتبلور التركيبة اللفظية والبيانية للقرآن، ويثبت أن ما كان النبيّ الأكرم يتلوه من القرآن مغايرٌ لتعبيره الشخصي عن أفكاره.
وبالإضافة إلى جميع هذه الأدلة، تقوم الجهود الواسعة للعلماء والمفكِّرين المسلمين حول البنية الظاهرية والأسلوب الكلامي للقرآن ـ قبل أيّ عنصرٍ آخر ـ على إيمانهم واعتقادهم بسماوية ألفاظ القرآن. إن الاعتقاد بسماوية الألفاظ والبنية الظاهرية لنصّ القرآن من العمق والرسوخ في وجود المؤمنين بحيث إنهم ينظرون على الدوام إلى القرآن الكريم بوصفه كتاباً مقدّساً، ويضعونه في منزلةٍ خاصة تفوق أيّ نصٍّ بشري، الأمر الذي يُثبت سماوية الألفاظ القرآنية.
ومجموع هذه الأدلة يكفي للردّ على نظرية ابن كُلاّب.
الهوامش
(*) أستاذٌ مساعِدٌ في جامعة مازندران.
(**) أستاذٌ مساعِدٌ في جامعة علوم ومعارف القرآن الكريم في آمُل ـ إيران.
(***) طالبٌ في مرحلة الدكتوراه في علوم القرآن والحديث، من جامعة مازندران.
([1]) انظر: عبد الباقي المواهبي، العين والأثر في عقائد أهل الأثر 1: 80، دار المأمون للتراث، لبنان، 1407هـ.
([2]) انظر: أبو القاسم الخوئي، البيان في تفسير القرآن: 406، دار الزهراء، بيروت، 1975م.
([3]) انظر: أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين 1: 584 ـ 585، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1400هـ.
([4]) انظر: عضد الدين الإيجي، المواقف 3: 128 ـ 142، دار الجبل، بيروت، 1997م.
([5]) انظر: محمد مجتهد شبستري، «معناي كلامي وحياني در نظر متكلِّمان مسلمان» (المفهوم الكلامي الوحياني من وجهة نظر المتكلِّمين المسلمين)، المجلة الفصلية (مقالات وبررسي ها)، العدد 53 ـ 54: 60، 1371هـ.ش. (مصدر فارسي).
([6]) انظر: بدر الدين الزركشي، البرهان في علوم القرآن 1: 230، دار المعرفة، بيروت، 1977م.
([7]) انظر: مرتضى بن قاسم الرازي، تبصرة العوام في معرفة مقالات الأنام: 108، نشر أساطير، طهران، 1364هـ.ش؛ محمد بن أحمد الخوارزمي، مفاتيح العلوم: 47، دار المناهل، بيروت.
([8]) انظر: أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين 1: 249.
([9]) أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي، أصول الدين: 309، دار الكتب العلمية، بيروت، 1401هـ.
([10]) تاج الدين السبكي، طبقات الشافعية الكبرى 2: 51، مكتبة دار الفتح، دمشق، 1419هـ.
([11]) انظر: محمد الذهبي، سير أعلام النبلاء 11: 174، دار الفكر، بيروت، 1406هـ؛ ابن حجر العسقلاني، لسان الميزان 3: 290 ـ 291، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1971م.
([12]) انظر: عبد الرحيم الأسنوي، طبقات الشافعية 2: 345، دار المعرفة، بيروت، 1391هـ.
([13]) ابن حجر العسقلاني، لسان الميزان 4: 25، 1971م.
([14]) في أصل الإحالة (محمد) بدلاً من (سعيد). (المعرِّب).
([15]) ما بين المعقوفات لم نجِدْه في المصدر المحال إليه. والموجود هناك ما نصّه: (ابن كُلاّب: من بابيّة الحشويّة، وهو عبد الله بن محمد بن كُلاّب القطان. وله مع عباد بن سليمان مناظرات. وكان يقول: إن كلام الله هو الله. وكان عباد يقول: إنه نصراني بهذا القول. قال أبو العباس البغوي: دخلنا على فثيون النصراني ـ وكان في دار الروم بالجانب الغربي ـ فجرى الحديث، إلى أن سألته عن ابن كُلاّب؟ فقال: رحم الله عبد الله، كان بجنبي فيجلس إلى تلك الزاوية ـ وأشار إلى ناحية من البيعة ـ وعنّي أخذ هذا القول، ولو عاش لنصّرْنا المسلمين. قال البغوي: وسأله محمد بن إسحاق الطالقاني، فقال: ما تقول في المسيح؟ قال: ما يقوله أهل السنّة من المسلمين في القرآن. ولعبد الله من الكتب: كتاب «الصفات»، كتاب «خلق الأفعال»، كتاب «الردّ على المعتزلة»). (المعرِّب).
([16]) محمد بن إسحاق (ابن النديم)، الفهرست: 255، دار المعرفة، بيروت، 1389هـ.
([17]) انظر: مرتضى مطهَّري 1: 69، 1374هـ.ش؛ السيد أبو القاسم الخوئي، البيان في تفسير القرآن: 406.
([18]) انظر: القاضي عبد الجبّار، المغني 1: 6، القاهرة، 1380هـ.
([19]) انظر: مجتهد شبستري، «معناي كلامي وحياني در نظر متكلمان مسلمان» (المفهوم الكلامي الوحياني من وجهة نظر المتكلمين المسلمين)، المجلة الفصلية (مقالات وبررسي ها)، العدد 53 ـ 54: 59، 1371هـ.ش. (مصدر فارسي).
([20]) انظر: صدر الدين محمد بن أبي العز الحتفي، شرح العقيدة الطحاوية: 142، مؤسسة الرسالة، 1417هـ.
([21]) انظر: عبد الله المقدسي، المناظرة في القرآن: 22، مكتبة الرشد، الرياض، 1409هـ.
([22]) انظر: أحمد عبد الحليم (ابن تيمية)، مجموع الفتاوي 5: 105، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة المنوّرة، 1416هـ.
([23]) انظر: محمد بن محمد (الشيخ المفيد)، أوائل المقالات: 154، نشر حقيقت، تبريز، 1330هـ.ش.
([24]) انظر: أحمد بن علي المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار 2: 358، دار الكتب العلمية، بيروت، 1418هـ.
([25]) انظر: ابن حجر العسقلاني، لسان الميزان 4: 25.
([26]) محمد بن أحمد المقدسي، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم 1: 44، شركت مؤلّفان ومترجمان إيران، طهران، 1361هـ.ش. وإليك نصّ عبارته في هذا الشأن: «أما التي غلب عليها أربعة من شكلها: الأشعريّة على الكُلاّبيّة، والباطنيّة على القرمطيّة، والمعتزلة على القدريّة، والشيعة على الزيديّة، والجهميّة على النجّاريّة».
([27]) انظر: مرتضى بن قاسم الرازي، تبصرة العوام في معرفة مقالات الأنام: 108.
([28]) أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين 1: 585.
([29]) انظر: ابن تيمية، مجموع الفتاوي 12: 247.
([30]) انظر: أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين 1: 585.
([31]) انظر: علي بن علي بن أبي العزّ الحنفي، شرح العقيدة الطحاوية: 180، المكتبة الإسلامية، بيروت، 1319هـ.
([32]) انظر: الزركشي، البرهان في علوم القرآن 1: 125؛ جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن 1: 125، دار الكتاب العربي، بيروت، 1421هـ.
([33]) انظر: هاري استرين ولفسن، فلسفه علم كلام (فلسفة علم الكلام): 279 ـ 289، نشر الهدى، طهران، 1368هـ.ش.
([34]) انظر: أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين 2: 325.
([35]) تاج الدين السبكي، طبقات الشافعية الكبرى 2: 51.
([36]) عبيد الله (ابن بطة العكبري)، الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة، المعروف بـ (الإبانة الصغرى): 233، دار الآثار للنشر والتوزيع، ط1، القاهرة، 2013م.
([37]) انظر: الزركشي، البرهان في علوم القرآن 1: 230؛ السيوطي، الإتقان في علوم القرآن 1: 125.
([38]) أحمد عبد الحليم (ابن تيمية)، منهاج السنة النبوية 1: 208، مؤسسة قرطبة، 1406هـ.
([39]) عنوانها في الأصل الفارسي: (قرآن ونظريه كلامي عبارت).
([40]) محمد بن إسحاق (ابن النديم)، الفهرست: 270.
([41]) تاج الدين السبكي، طبقات الشافعية الكبرى 2: 51.
([42]) ابن تيمية، منهاج السنة النبوية 1: 237.
([44]) ابن حجر العسقلاني، لسان الميزان 4: 25.
([46]) انظر: محمد بن مكرم (ابن منظور الأفريقي)، لسان العرب 11: 656، 1414هـ.
([47]) انظر: الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، مادة «نزل»، المكتبة المرتضوية لإحياء آثار الجعفرية، طهران، 1383هـ.ش.
([48]) انظر: السيد علي أكبر القرشي، قاموس القرآن 7: 44، دار المكتبة الإسلامية، طهران، 1371هـ.ش؛ فخر الدين الطريحي، مجمع البحرين 5: 480، كتاب فروشي مرتضوي، طهران، 1375هـ.ش؛ الخليل بن أحمد الفراهيدي، كتاب العين 7: 367، دار الهجرة، قم، 1410هـ.
([49]) انظر: محمد بن عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن: 48، پژوهشگاه علوم إنساني ومطالعات فرهنگي، طهران، 1385هـ.ش.
([51]) انظر: السيوطي، الإتقان في علوم القرآن 1: 166.
([52]) انظر: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 5: 102، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1417هـ.
([53]) انظر: حسن يوسفي أشكوري، «قرآن كلام خداوند» (القرآن كلام الله)، مجلة آيين، العدد 11: 69، 1386هـ.ش. (مصدر فارسي).
([54]) انظر: ولي الله عباسي، «وحي وخاتميت تبيين وبررسي ديدگاه أستاد مطهري وإقبال لاهوري» (الوحي والخاتمية، بيان ومناقشة رأي الأستاذ مطهَّري وإقبال اللاهوري)، المجلة الفصلية (طلوع)، العدد 22: 155، 1386هـ.ش. (مصدر فارسي).
([55]) محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 2: 235.
([56]) انظر: محمد باقر سعيدي روشن، علوم قرآن (علوم القرآن): 183، مؤسسه آموزشي وپژوهشي إمام خميني، قم، 1377هـ.ش. (مصدر فارسي).
([57]) انظر: ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنـزل 18: 67 ـ 68، دار الأميرة، ط2، بيروت، 2009م.
([58]) محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 10: 23، دار إحياء التراث العربي، ط1، بيروت، 1427هـ.
([59]) مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنـزل 6: 197.
([60]) انظر: الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن 1: 167.
([61]) انظر: محمد هادي معرفت، علوم قرآني (علوم القرآن): 43، مؤسّسة التمهيد، قم، 1386هـ.ش.
([62]) وراجِعْ: آل عمران: 108؛ الجاثية: 6.
([63]) انظر: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 15: 316.
([64]) انظر: المصدر السابق 19: 217 ـ 218.
([65]) انظر: المصدر السابق 5: 102.
([66]) انظر: يعقوب جعفري، سيري در علوم قرآن (جولةٌ في علوم القرآن): 272، دار الأسوة، طهران، 1382هـ.ش. (مصدر فارسي).
([67]) أبو القاسم الخوئي، البيان في تفسير القرآن: 42، منشورات أنوار الهدى، ط8، 1401هـ ـ 1981م.