أحدث المقالات

دراسة قرآنية حديثية تاريخية

د. منصور بهلوان

المقدّمة ـــــــ

عرّف الله الكعبة في القرآن بالقول: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} (آل عمران: 97)، وجعلها مكاناً آمناً لهم، {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} (البقرة: 125)، وصارت محلاً لقيام عباده {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ} (المائدة: 97)، وموضعاً لتعبد إبراهيم {وَإِذْ بَوَّأْنا لإِِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} (الحج: 26)، فأقام إبراهيم وإسماعيل أُسسَها {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ} (البقرة: 127)، وأمر سبحانه بأن تقام الصلاة خلف مقام إبراهيم {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّىِ} (البقرة: 125)، وقال سبحانه: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُوقد سمّى من أعرض عن دين خليله سفيهاً وقال: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نفسه} (الحج: 78)، فهذه الآيات وعشرات غيرها، تدلّ على عظمة شأن الكعبة والمسجد الحرام عند الرسول’ والمسلمين.

وتؤكّد الأحاديث أيضاً مكانة الكعبة الرفيعة، وتشير إلى أنّها كانت قبلةً لإبراهيم الخليل والأنبياء العظام، كما أخرج أبو داود وابن جرير عن أبي العالية في قوله: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ}، يقول: يكتمون صفة محمّد وأمر القبلة([1]). وجاء أيضاً في تفسير آية: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ} (البقرة: 144): كان موسى يصلّي إلى الصخرة نحو الكعبة وهي قبلة الأنبياء كلّهم([2]).

ونستطيع أن نستنتج ـ على سبيل الإجمال ـ مما ذكرناه من الآيات والروايات أنّ النبي الأكرم كبقيّة الأنبياء كان يقيم صلاته باتجاه الكعبة، لا إلى سواها.

اختلاف المفسّرين في القبلة الأولى ـــــــ

لم يتفق المفسّرون على أن بيت المقدس كان قبلة المسلمين الأولى، فقد اختلفت آراؤهم؛ فمنهم من قال: كانت الكعبة قبلةً للرسول’ والمسلمين في مكّة منذ بداية الدعوة، وقد نقلت في المدينة إلى بيت المقدس لفترة من الزمن ثم أعيدت إلى سابق عهدها، ومنهم من يعتقد أنّ بيت المقدس كان قبلة المسلمين في مكّة ولكنه’ كان يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس. ومنهم من قال: إن بيت المقدس كان القبلة في مكّة والمدينة إلى أن أمر الله بتغيير القبلة([3]). وهذه الآراء الثلاثة حصيلة ما قاله الطبرسي في تفسيره([4]).

وقال القرطبي: «واختلفوا حين فرضت عليه الصلاة أولاً بمكّة، هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى مكّة، على قولين؛ فقالت طائفة: إلى بيت المقدس وبالمدينة سبعة عشر شهراً، ثمّ صرفه الله تعالى إلى الكعبة، قاله ابن عباس. وقال آخرون: أوّل ما افترضت الصلاة عليه إلى الكعبة، ولم يزل يصلّي إليها طول مقامه بمكّة على ما كانت عليه صلاة إبراهيم وإسماعيل؛ فلمّا قدم المدينة صلّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، على الخلاف، ثم صرفه الله إلى الكعبة. قال أبو عمر: وهذا أصحّ القولين عندي([5]). والاختلاف في صلاة النبي إلى الكعبة أو إلى المقدس في مكّة منقول أيضاً في تفاسيرنا الأُخرى([6]).

نظرية الكعبة هي القبلة الأولى ـــــــ

من وجهة نظرنا، هناك شواهد قرآنية وروائية وتاريخية تدلّ على أن الكعبة كانت القبلة الأولى للمسلمين، وهذه الشواهد هي:

1 ـ الأدلّة القرآنية ـــــــ

أ ـ {وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ}([7]) فهذه الآية نزلت بعد تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ثانياً، وقال بعض اليهود لماذا وقع التحويل؟ ويتضح من خلال (التي كنت عليها) أنه’ كان يصلي إلى الكعبة منذ البداية وبعد هذه الفترة القصيرة (ستة عشر شهراً) جعلها الله قبلة كما كانت.

لكنا نرى بعض المفسّرين، فسّر الآية بطريقة خاصة لتكون مؤيدةً لمدّعاهم؛ فمنهم من قال: المراد بالقبلة، تحويل القبلة وحذف المضاف إيجازاً، وتقدير الآية: وما جعلنا تحويل القبلة التي كنت عليها، فبهذا يكون بيت المقدس، القبلة التي كان عليها الرسول’ لا الكعبة. وقد ادعى بعضهم أن «كان» في الآية زائدة ومغزى الآية هو: وما جعلنا القبلة التي أنت عليها، واحتجوا بآية {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران: 110)؛ فهي تعني: أنتم خير أمّة أخرجت للناس([8])؛ وبهذا لا تشير الآية إلى القبلة الأولى. وقال أبو الفتوح الرازي: إنّ تفسير الآية بدون اللجوء إلى القول بحذف المضاف وزيادة كان ممكن وهو أقرب للصواب؛ إذ إن بعض الأحاديث المتضافرة التي تذكر أنّ الرسول’ كان يقيم صلاته في مكة باتجاه بيت الله الحرام تساند مدّعانا، والمراد من القبلة التي كان الرسول عليها هي الكعبة في مكة([9]). ويقول الفخر الرازي: هذا الكلام بيان للحكمة في جعل القبلة؛ وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى بيت المقدس بعد الهجرة تأليفاً لليهود، ثم حوّل إلى الكعبة([10]). كما يقول الكاشاني: «التي» ليست بصفة القبلة، بل هي المفعول الثاني لـ «جعل» يعني وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها، وهي الكعبة؛ لأنه كان يصلي إليها بمكة، ثم لمّا هاجر أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس تأليفاً لليهود([11]).

ب ـ {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ}؛ حيث يقول الطبرسي: أي فليوجّهوا عبادتهم إلى ربّ هذه الكعبة([12]). وذلك أنها مما نزل بمكة، ووصفت المعبود بأنه ربّ البيت، هو قريب من المسلمين ومشاهد لهم، فإن الإشارة وقعت بلفظة هذه الدالة على قرب المشار إليه، والبلاغة حينئذ تستدعي أن تكون القبلة هذا البيت؛ للمنافرة البيّنة بين أن يكون الوصف بهذا البيت والاستقبال ببيت المقدس أو الصخرة!

2 ـ الأدلّة الروائية ـــــــ

أ ـ تشير بعض الروايات إلى أنّ الكعبة كانت أولى القبلتين، كما جاء عن ابن جريج أنه قال: «صلّى رسول الله أول ما صلى إلى الكعبة،، ثم صرف إلى بيت المقدس فصلّت الأنصار نحو بيت المقدس قبل قدومه ثلاث حجج، وصلّى بعد قومه ستة عشر شهراً، ثم ولاّه الله جل ثناؤه إلى الكعبة»([13]) . فالرواية تصرّح بوضوح أن الكعبة هي القبلة الأولى للمسلمين، وأن النبي والمسلمين صلّوا إلى الكعبة عدّة سنين.

ب ـ إنّ عدد الروايات التي تبيّن اتجاه قبلة المسلمين في مكّة لا يسعفنا، لكن توجد روايات تحدّد زمن بداية ونهاية الصلاة نحو بيت المقدس، فإن كان بيت المقدس القبلة الأولى، فلماذا وقع التأكيد على بداية الشروع بالتوجّه إليه في المدينة؟!

ومن هذه الروايات خبر سعيد بن عبدالعزيز: «أن النبي’ صلّى نحو بيت المقدس من شهر ربيع الأول إلى جمادى الآخرة»([14]). وقالوا في التفاسير الأثرية: لمّا هاجر رسول الله إلى المدينة، أمره الله أن تكون القبلة بيت المقدس وأن يستقبل هو والمسلمون بيت المقدس في صلاتهم، واستمروا على ذلك ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً([15]).

ج ـ جاء في بعض الروايات، أنّ الحكمة من تعيين بيت المقدس قبلةً للمسلمين هي استمالة قلوب اليهود للإسلام، وكما نعلم فإن المدينة كانت محلاً لإقامتهم، وبالتالي فإن تغيير القبلة نحو بيت المقدس كان في المدينة لا في مكّة، وهذا ما نستشفّه من خبر أبي العالية: أن نبي الله’ خيّر أن يوجه وجهه حيث شاء، فاختار بيت المقدس، لكي يتألف أهل الكتاب، فكانت قبلته ستة عشر شهراً، وهو في ذلك يقلّب وجهه في السماء، ثم وجّهه الله إلى البيت الحرام([16]). ونقل عن عكرمة والحسن البصري أنّهما قالا: أوّل ما نسخ من القرآن القبلة؛ وذلك أن النبي’ كان يستقبل صخرة بيت المقدس ـ وهي قبلة اليهود ـ فاستقبلها النبي سبعة عشر شهراً ليؤمنوا به و يتبعوه ويدعو بذلك الأميّين من العرب، فقال الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ}([17]). وأيضاً نقل عن ابن عباس: «أن رسول الله’ لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود، أمره الله عَزَّ وجَلَّ أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله’ ستة عشر شهراً، فكان رسول الله يحبّ قبلة إبراهيم فكان يدعو، وينظر إلى السماء، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ: {قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ}»([18]). وأيضاً نقل عنه: أن النبي’ لما قدم المدينة أراد أن يستألف اليهود فتوجّه إلى قبلتهم ليكون ذلك أدعى لهم، فلمّا تبيّن عنادهم وأيس منهم أحبّ أن يحوّل إلى الكعبة، فأخذ ينظر إلى السماء وكانت محبته إلى الكعبة لأنّها قبلة إبراهيم([19]).

وبغضّ النظر عن غرض تعيين بيت المقدس قبلة ـ لتأليف القلوب كان أم لغيره ـ وبغضّ النظر عن أنّ آيات تغيير القبلة لبيت الله الحرام لم تنسخ أيّ آية، فإن الروايات تشير إلى أن البارئ سبحانه أمر بتغيير القبلة نحو بيت المقدس في المدينة، ولم يكن بيت المقدس قبلةً في مكة لعدم وجود اليهود فيها.

3 ـ الأدلّة التاريخية ـــــــ

ذكرت الكتب التاريخية أن الرسول’ كان يأتي إلى الكعبة وأطرافها مع أصحابه ليصلّي هناك تجاهها؛ مما يدلّ على أنها هي القبلة الأولى. وسنذكر هنا باقةً من هذه النصوص:

أ ـ خبر عفيف الكندي أنه قال: كنت امرءاً تاجراً فقدمت أيام الحج، فأتيت العباس فبينا نحن عنده إذ خرج رجل يصلي، فقام تجاه الكعبة، ثم خرجت امرأة فقامت معه تصلّي، وخرج غلام فقام يصلي معه. فقلت: يا عباس! ما هذا الدين؟ إن هذا الدين ما أدري ما هو؟ قال: هذا محمّد بن عبدالله يزعم أن الله أرسله به، وأنّ كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذه امرأته خديجة بنت خويلد، وهذا الغلام ابن عمّه علي بن أبي طالب آمن به. قال العفيف: فليتني كنت آمنت يومئذ فكنت أكون رابعاً([20]).

ب ـ ونقل ابن سعد عن عفيف الكندي الرواية التي يذكر فيها أن النبي’ صلّى نحو الكعبة حيث قال فيها: ثم استقبل الكعبة قائماً([21]).

ج ـ والنسائي أيضاً أورد هذه الرواية عن عفيف الكندي بألفاظ أُخرى إذ قال: فرمى ببصره إلى السماء ثم قام مستقبل الكعبة([22]).

د ـ أما ابن أبي الحديد، فذكر صلاة النبي نحو الكعبة كالتالي: ثم أقبل حتّى دنا من الكعبة فصفّ قدميه يصلّي فخرج على أثره، حتى كان وجهه صفيحة يمانية فقام عن يمينه، فجاءت امرأة متلفقة في ثيابها فقامت خلفه([23]).

هـ ـ وقد ذكر ذلك أيضاً ابن كثير الدمشقي فقال: إذ خرج رجل من خباء فقام يصلّي تجاه الكعبة([24]).

و ـ ويذكر أبو عثمان الجاحظ ذلك أيضاً، لكن عن عبد الله بن مسعود لا عن عفيف الكندي؛ ويقول: ثم استقبل الحجر فقام ورفع يديه وكبّر([25]).

فهذه الروايات التاريخية تدلّ بوضوح على أن القبلة الأولى كانت الكعبة.

غار حراء، وتأكيد الكعبة قبلةً أولى ـــــــ

إنّ طبيعة غار حراء وحجمه واتجاهه من الأمور التي تؤيد ما نريد إثباته في هذا الصدد، فمن ذهب إلى الغار الواقع شرق الكعبة ([26]) وشاهد عن كثب ولاحظ كم هو صغير، يدرك تماماً أن الواقف فيه لا يستطيع أن يصلي إلاّ باتجاه الكعبة، أما أن يستدير نحو اليمين ليصير باتجاه بيت المقدس فعندها يستحيل عليه الركوع والسجود، وهذا يدلّ على أن النبي عندما كان يصلّي ويتهجد في الغار كان يتوجّه نحو الكعبة.

مقولة صلاة النبي تجاه الكعبة وبيت المقدس معاً، قراءة نقدية ـــــــ

قال بعض المفسّرين: إن النبي’ في مدّة إقامته بمكّة كان يصلّي في المسجد الحرام بحيث إنّ بيت المقدس كان يكون محاذياً للكعبة؛ وبعبارة أُخرى يصلي بمكّة إلى بيت المقدس إلاّ أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينها ولا يصلي في غير المكان الذي يمكن فيه هذا([27]).

لكنّ هذا القول ليس صحيحاً؛ إذ من المسلّم أن النبي الأكرم مدّة استقراره في مكة كان يقيم في أمكنة مختلفة من غار حراء وشعب أبي طالب والطائف، وليس ممكناً أن يصلّي هناك تجاه الكعبة وبيت المقدس معاً. وعدم إمكان ذلك جارٍ في مواضع من المسجد الحرام نفسه، لأنّه لو صلّى أحدٌ في حجر إسماعيل أو الركن الشّامي مثلاً، لكان في صلاته مستدبراً لبيت المقدس، وليس هناك شاهد تاريخي يشهد أن النبي كان يصلي في نقطة واحدة من المسجد الحرام.

من جهة أُخرى، توجد روايات تدلّ على أن للكعبة قداسة عند أنبياء بني إسرائيل؛ حيث نقرأ في الرواية: وكان موسى× يصلي إلى الصخرة نحو الكعبة، وهي قبلة الأنبياء كلهم([28])؛ فلو أن موسى كان يراعي في صلاته اتجاه الكعبة، فكيف كان نبينا’ لا يستقبلها في مكّة وقبلته بيت المقدس؟!

وتدلّ بعض الروايات أيضاً على أنّه لم يكن لصخرة بيت المقدس قدر عند المسلمين في الصدر الأوّل؛ حتّى أنّهم يأبون إقامة الصلاة في المسجد الأقصى إلى الكعبة والصخرة أمامهم، كما روي لما أراد عمر بن الخطاب أن يبني المسجد الأقصى استشار الناس: هل يجعله أمام الصخرة أم خلفها؟ فقال له كعب: يا أمير المؤمنين! ابنه خلف الصخرة. فقال: يا ابن اليهودية! خالطتك يهودية. بل أبنيه أمام الصخرة حتّى لا يستقبلها المصلون، فبناه حيثُ هو اليوم([29]).

لماذا اعتُبر بيت المقدس القبلة الأولى للمسلمين؟ ـــــــ

وهنا، قد يتساءل بعضٌ: لماذا شاع بين المسلمين خلاف ذلك؟ ونحن بدورنا سنجيب على هذا التساؤل عبر ذكر بعض الأسباب:

أ ـ اجتهد غير واحد من الملوك قبل الإسلام وبعده في تحويل المسلمين عن وجهتهم للكعبة إلى شيء غيرها([30]). من ذلك مجيء أبرهة مع جيشه الجرار إلى مكّة لهدم الكعبة من أجل صرف وجوه العرب عنها. وقد قال سيد العرب عبدالمطلب في ذلك أبياتاً:

لأُهمَّ أنّ المرء يمنع رَحله فامنع حِلا لك
لا يغلبنّ صليبُهُم ومحالُهُم عدواً مِحالك
إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمرٌ ما بدا لك ([31])

وفي هذا دليل على أن العرب قبل الإسلام كانت تستقبل الكعبة في طقوسها، وأنّها قبلة لهم كما هي قبلة لنا، والأعداء بصليبهم أرادوا هدمها، والله خذلهم وجعل كيدهم في تضليل.

ومن ذلك بعد الإسلام وفي زمان معاوية، عندما كان حاكماً للشام وكانت سلطته تضعف أحياناً على مكة، حيث من الطبيعي أن يميل إلى رفع شأن مدينة الشام في مقابل أرض الحجاز ومقدساتها، فنرى بعض الأحاديث الموضوعة التي تمدح بلاد الشام مثل: الشام كنانتي فإذا غضبت على قوم رميتهم منها بسهم!([32]) وعن كعب الأحبار أنه قال: أهل الشام سيف من سيوف الله ينتقم الله بهم من العصاة([33]). ولعلّ العصاة هنا هم الذين لا ينضوون تحت لواء معاوية. وقد نقل عنه أيضاً: الشام صفوة الله من بلاده، إليها يجتبي صفوته من عباده، فمن خرج من الشام إلى غيرها فبسخطه، ومن دخلها فبرحمته! طوبى للشام([34]).

ومن ذلك في زمن عبدالملك الذي بنى القبة على الصخرة وعظم شأن الصخرة بما بناه عليها وجعل عليها من الكسوة في الشتاء والصيف، ليكثر قصد الناس للبيت المقدس، فيشتغلوا بذلك عن قصد ابن الزبير، وظهر من ذلك الوقت من تعظيم الصخرة ما لم يكن المسلمون يعرفونه([35]). وقد يكون منها إعطاء مسحة من القداسة لبيت المقدس.

ب ـ حاول اليهود ـ وحتى الذين أسلموا منهم ـ وبحكم العاطفة التي تربطهم ببيت المقدس، أن يجعلوا له مكانة خاصّة بين المسلمين، وذلك من خلال دسّ بعض الروايات الإسرائيلية في طيّات كتب الحديث والتفسير. منها ما روي عن كعب الأحبار أنه قال: لا تقوم الساعة حتّى تزف البيت الحرام إلى بيت المقدس فينقادان إلى الجنّة وفيها أهلها والعرض أو الحساب ببيت المقدس([36]). وعن خالد بن معدان أنه قال: لا تقوم الساعة حتّى تزف الكعبة إلى الصخرة زف العروس([37]). وعن الزهري أنه قال: إذا كان يوم القيامة رفع الله الكعبة البيت الحرام إلى بيت المقدس فمرّ بقبر النبي بالمدينة فيقول: السلام عليك يا رسول الله([38]). وقد تعرّض بعض الباحثين لهذا النوع من الروايات في بحوثهم([39]). فقال مؤلف الموضوعات الكبرى: وقد أكثر الكذّابون من الوضع في فضائل الصخرة وفضائل بيت المقدس وقال: كلّ حديث في الصخرة فهو كذب مفترى، والقدم الذي فيها كذب موضوع مما عملته أيدي المزوّرين([40]).

وأئمتنا المعصومون^ خالفوهم في إسرائيلياتهم وتفضيل بيت المقدس على الكعبة، فقد جاء رجل إلى أبي جعفر× ـ وهو في المسجد الحرام ـ وقال: إنّ كعب الأحبار كان يقول: إن الكعبة تسجد لبيت المقدس في كل غداة، فقال أبو جعفر: فما تقول فيما قال كعب؟ فقال: صدق، القول ما قال كعب، فقال أبو جعفر: كذبت وكذب كعب الأحبار([41]) معك وغضب، قال زرارة: ما رأيته استقبل أحداً بقول كذبت غيره، ثم قال: ما خلق الله عزَّ وجَلَّ بقعة في الأرض أحبّ إليه منها ـ ثم أومأ بيده نحو الكعبة ـ ولا أكرم على الله عز وجلَّ منها، لها حرّم الله الأشهر الحرم في كتابه يوم خلق السماوات والأرض، ثلاثة متوالية للحج: شوال وذو القعدة وذو الحجة وشهر مفرد للعمرة وهو رجب([42]). وسئل أبو عبد الله الصادق× عن المساجد التي لها الفضل، فقال: المسجد الحرام ومسجد الرسول. قال الرجل: والمسجد الأقصى جعلت فداك؟ قال: ذاك في السماء إليه أسري رسول الله’ فقال: إن الناس يقولون: إنه بيت المقدس! فقال: مسجد الكوفة أفضل منه([43]).

ج ـ كان عدد المسلمين في مكّة قليلاً جداً، ولم يكن هناك مسجد أصلاً، وإن فرض الصلوات ركعتين وقع هناك قبل الهجرة بسنة أو سنتين في ليلة الإسراء إلى السماء([44])، أما في المدينة فقد تشكّلت النواة الأولى للمسلمين قوة وعدداً، وتمَّ بناء أوّل مسجد للصلاة، وتمّ طرح مسألة القبلة والصلاة على ما هي عليه اليوم، فكانت وقتها القبلة هي بيت المقدس. ففي روايتنا ما يدلّ على أن فرض الصلاة بهذه الهيئة إنما وقع في المدينة، كما روى الصدوق بإسناده عن سعيد بن المسيب أنه سأل علي بن الحسين× فقال: متى فرضت الصلاة على المسلمين على ما هي اليوم عليه؟ فقال: «بالمدينة»([45]).

فذلك كلّه يسوغ إطلاق لفظ القبلة الأولى على بيت المقدس، رغم أن الكعبة كانت قبلها هي القبلة في مكة.

نتيجة البحث ـــــــ

يظهر لنا مما تقدّم اختلاف المسلمين في القبلة الأولى، فمنهم من قال بأنها الكعبة ومنهم من قال بأنها بيت المقدس، ولكن الشواهد القرآنية والروائية والتاريخية تدلّ على أن الكعبة كانت قبلة المسلمين منذ البداية، والقول الشائع بكونها بيت المقدس، لا يخلو من تسامح. ولا شكّ أن النبي’ والمسلمين صلوا قبل بيت المقدس إلى الكعبة بسنين.

الهوامش

(*) أستاذ مساعد بجامعة طهران.

([1]) راجع: السيوطي، الدر المنثور 1: 304 ـ 331.

([2]) المصدر نفسه: 255.

([3]) أنظر: نور الثقلين 1: 137.

([4]) الطبرسي، مجمع البيان 1: 228.

([5]) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 2: 150.

([6]) أنظر: كنـز الدقائق وبحر الغرائب 2: 187؛ والكشّاف 1: 220.

([7]) راجع: الطبري، جامع البيان 2: 12، 13، 16.

([8]) مجمع البيان 1: 225.

([9]) روح الجنان 1: 353.

([10]) مفاتيح الغيب 16: 103.

([11]) زبدة التفاسير 1: 256.

([12]) مجمع البيان 5: 546.

([13]) جامع البيان 2: 5.

([14]) الدر المنثور 1: 345.

([15]) جامع البيان 1: 467.

([16]) المصدر نفسه 2: 4.

([17]) المصدر نفسه.

([18]) المصدر نفسه: 20.

([19]) وقد أسند القرطبي هذا القول إلى الطبري وقال: هو الذي قال: إنّ الرسول استمال اليهود طمعاً في إيمانهم (الجامع لأحكام القرآن 2: 150) وأما التطرّق لصحّة هذا الادعاء المتطابق مع الإسرائيليات التي شاعت في تفاسيرنا فنتركه لمجال آخر. قال أبو شهبة: ولم يسلم تفسير ابن جرير ـ على جلالة مؤلّفه ـ من الروايات الواهية والمنكرة والضعيفة والإسرائيليات (الإسرائيليات والموضوعات: 123).

([20]) الطبري، تاريخ الأمم والملوك 1: 538.

([21]) ابن سعد، الطبقات الكبرى 8: 17.

([22]) النسائي، الخصائص: 2.

([23]) شرح نهج البلاغة 3: 261.

([24]) البداية والنهاية 3: 25.

([25]) راجع: العثمانية: 287؛ والروايات التي تشير إلى أن الكعبة هي القبلة الأولى كثيرة جداً، لكنّا آثرنا ذكر خصوص الروايات التي تشير إلى ذلك، وتتضمن مسألة كون علي× وخديجة هما أوّل من آمن بالرسول وصليا معه. (راجع: ملحقات الإحقاق 7: 556 ـ 569).

([26]) راجع: أطلس تاريخ الإسلام، خريطة: 38.

([27]) مجمع البيان 1: 228.

([28]) الجامع لأحكام القرآن 2: 151.

([29]) الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة: 436؛ وروى أيضاً عن مسند أحمد 1: 38 أثراً مقارباً، فيه أن عمر قال لكعب: ضاهيت اليهودية. وقصة الصخرة بين عمر وكعب أيضاً مسطورة في أضواء على السنّة المحمدية: 166.

([30]) راجع: الرحلة الحجازية: 183.

([31]) راجع: الطبقات الكبرى 1: 92.

([32]) راجع: الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة: 309.

([33]) أضواء على السنّة المحمدية: 171.

([34]) المصدر نفسه؛ وقال صاحب الأضواء أيضاً: إنّ الصهيوني الأوّل هو كعب الأحبار، ص147.

([35]) المصدر نفسه: 166.

([36]) الدر المنثور 1: 329.

([37]) المصدر نفسه.

([38]) المصدر نفسه.

([39]) للاطلاع أكثر يرجى مراجعة: إسرائيليات القرآن لمحمد جواد مغنية؛ والتفسير والمفسرون لمحمد هادي معرفت، والاسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير لمحمد بن محمد أبو شهبة؛ والأخبار الموضوعة للملا علي القاري؛ وأضواء على السنة المحمدية أو دفاع عن الحديث لمحمود أبو ريّة.

([40]) الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة: 435، 436.

([41]) انظر حول كعب ووهب بن منبه: أضواء على السنّة المحمدية: 174.

([42]) الكليني، الكافي 4: 237، كتاب الحج، باب فضل النظر إلى الكعبة.

([43]) البرهان 2: 401.

([44]) الطبقات الكبرى 1: 213.

([45]) راجع: الطباطبائي، الميزان 13: 28.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً