أحدث المقالات

التعاريف المنطقيّة وتعريف أصول الفقه وموضوعه

 

الشيخ ضياء الدين المحمودي(*)

 

مقدّمة

انحلّت الشبهات التي كانت تطرح في علم أصول الفقه بواسطة المحاولات الحثيثة للعلماء، ونقّحت أبحاثها لدى الجمهور منذ أواخر القرن الخامس، ووصلت إلى نهاية الخطّ، ولم يبقَ فيها بحثٌ مبهمٌ وغريبٌ غير منحلّ، محتاج إلى البحث الكثير والكلام الطويل والنقاش الساخن لدى الباحثين. ووصل هذا العلم إلى حالة استقرار وركود، وأصبح التأليف فيه تكراراً، وعملاً لغواً، ومهملاً لا يعتنى به في أوساط العلماء، وصارت أبحاثه من الواضحات التي يكون توضيحها عبثاً ولغواً، وانتهى زمان المناقشات الساخنة فيها، وما كان فيها جديد وبديع يستجلب الأنظار. وكان الوضع على هذا المنوال حتّى ألّف ابن الحاجب كتابه في أصول الفقه، فلم يعتنِ به المجتمع، وكان ذلك سبباً لأن يقوم بتلخيصه واختصاره. وإضافة إلى ذلك سلك في مختصر كتابه منهجاً جديداً، باستعماله بعض الشيء من المصطلحات المنطقيّة، التي لم يكن استعمالها مستأنَساً في تلك الأعصار، وكانت معانيها غامضة، ومحلّ مناقشة وترديد، وبحث وتأمُّل. وهذه العوامل سبَّبت اشتهار كتابه فيما بعد شيئاً فشيئاً في أوساط العلماء ومجالس الدرس. فالكتب الدرسيّة إذا كانت واضحة وسهلة فلن يشعر المراجع لها بضرورة الحاجة إلى الأستاذ، ولن يكترث بها، ولن يذعن بعظمتها ومناسبتها للتدريس، ولكنّها إذا صارت غامضة وصعبة ومقرونة بالغرائب فعند ذلك يشعر المراجع بالحاجة والنقص والضعف والجهل وضرورة التواضع والرجوع إلى مَنْ يُعِينه، من الأستاذ والشروح والحواشي والتعليقات. وهذه هي حالة الكتب الدرسيّة في مجامعنا في القرون المتأخِّرة، حيث حاول أصحابها أن يأتوا بأبحاث وإشكالات جديدة فيها كثيرٌ من الإبهام والغموض، وغير ظاهرة المعالم، بالإضافة إلى أن يعقِّدوا بيانها من حيث المعنى، ومن حيث اللفظ، من خلال حذف القيود التوضيحيّة وأجزاءٍ من الكلام التي هي بمثابة القرائن اللفظيّة والمعنويّة، وحصول حالة من اللغز والطلسمة فيه، واللعب بفكر المراجع الذي يريد فهم المعنى منه، وإيقاعه في جملة من الإبهامات والمجهولات، والحطّ من شخصيّته وذكائه وقدراته الفكريّة، حيث يجب عليه بذل جهود كثيرة حتّى يتمكَّن من فهم المقصود من عبارة الكتاب، مع أنّ المقصود يكون أمراً سهلاً وبسيطاً، بل ورديئاً، وليس فيه حاجة إلى هذه الكثرة من التكلُّفات والتعقيدات في البيان. وبأسلوبهم هذا حبسوا طبقاتٍ وأجيالاً من الطلاّب عن بلوغ مراتب الفضل والكمال، وأوقعوهم في مشكلات وورطات، حيث تأخَّر من جرّائها المجتمع فكريّاً وعقائديّاً؛ بتأخُّر أصحاب الفضل والنبلاء فيهم، وانسدَّت مشارع تقدُّمهم العلميّ جرّاء هذه العبارات.

وفي العصر الحاضر اقتبس أحد أساتذتي النبلاء& أسلوب التعقيد في البيان، وكتب كتاباً أكثر إبهاماً وإجمالاً وخفاء من الكتب الدرسيّة المتداولة. وبما أنّه لم يكن يتفرَّد بالزعامة في الحوزة، ولم يكن فيه بعض الشروط الأخرى، لم يعتنِ بعمله أحدٌ، وذهبت جهوده هباءً منثوراً، مع أني اقترحتُ أن ينهج في بيانه أسلوباً آخر فأجابني بأنّه كتبه للأساطين من أهل الحوزة، ولكنّ مصيره اليوم أنّه لا ينظر إليه الأساطين ولا غير الأساطين.

وأمّا حركة علم الأصول لدى أصحابنا فقد حدث فيه منذ القرن الحادي عشر بعض الاهتزازات الجديدة التي لم يُشاهد مثلها في أصول العامّة، الذي هو في حالة استقرار نسبيّ. وفي القرن الثالث عشر شوهد تكثير الأبحاث والمناقشات الأصوليّة والتسابق فيها بين فضلاء أهل الحوزة. وبالإضافة إلى ذلك شوهدت بعض المحاولات الجديدة في طرح الأبحاث الأصوليّة مكتنفة بالاصطلاحات المنطقيّة، بل الفلسفيّة. فبينما كان كثيرٌ من هذه المصطلحات مبهماً لدى الفلاسفة أنفسهم، ومختلفاً فيه، أدخلوها بكلّ عزم وإصرار في المباحث الأصوليّة، فورّطوا الأصوليّين في مفاهيمها، وبدل أن يقوموا بحلّ المشكلات الأصوليّة أو المسائل العالقة فيها شدّوا جوارح هذا العلم بمشكلات جديدة، وهي مشكلات العلوم التصوُّريّة، ليتوقَّف عن التقدُّم. وربما تحقّق بلوغ قمّة هذا السير على يد المولى محمد حسين الإصفهانيّ، المعروف بصاحب (الفصول)، في كتابه (الفصول الغرويّة). وبما أنّه لم يكن متفرِّداً بزعامة الحوزويّين، وكان له رقباء، لم يسِرْ غالب الحوزويّين على خطاه، إلى أن وصل الزمان إلى صاحب (الكفاية)، حيث انتهت الزعامة العليا للحوزة إليه، فسار على منهج صاحب (الفصول)، فكثرت في أبحاثه الأصوليّة المصطلحات المنطقيّة والفلسفيّة. وبالإضافة إلى ذلك أورد الكثير من الشبهات والاختلافات والأبحاث الغامضة وغير المحلولة المرتبطة بالمنطق، التي نقلت من قبله في كتب الأصول، ونقلها صاحب الأسفار من أمثال: جلال الدين الدواني، والسيد الشريف الجرجاني، إلى الأبحاث الأصوليّة، بحيث صار الأصول مسرحاً للاختلاف والمشاكل المنطقيّة والفلسفيّة. وسارت الحوزة إلى عصرنا الحاضر على منهج صاحب (الكفاية). وكان له أيضاً منهجٌ آخر، وهو بيان المطالب باختصارٍ مخلّ، وحذفٍ لقرائن معرفة المراد من الكلام عمداً، حيث أوجب التعقيد والإبهام وعدم اتّضاح المرام. وإنّه وإن لم يحدث في الأصول تحقيقات هامّة، ولكنْ حاول أن يعرضها عموماً بشكل تعجيزيّ ومغلق ومكتنف بالإبهام، بحيث يصعب على المراجع فهم مراده بسهولة. وقد عرّض بأسلوبه بعض تلامذة الشيخ النائيني&، وقال: إنّ كتابه دورة في علم الأصول، ولكنّها باللغة الهنديّة. وكانت هذه المشكلات سبباً في ركود علم الأصول وجموده في العصر الحاضر. وقال بعض أهل النظر، الذي راجع إحدى النسخ الخطّيّة لبعض الكتب الدرسيّة: إنّ بعض عباراتها الأوّليّة كانت أوضح من عبارة النسخة المطبوعة، ولكنّ المؤلِّف شطب عمداً بخطّه على بعض الكلمات، لتزداد غموضاً وإبهاماً، وحذف قرائن فهم الكلام في بعض العبارات فصارت مبهمة وغير واضحة؛ لكي يصعِّب فهمها وحلّها. وبهذا الشكل تزداد أهمّيةً!

 

الأصول: تاريخه، والاختلاف في تعريفه

إنّ علمَيْ الكلام والأصول من العلوم التي حدثت تدريجاً على ضوء المسائل والأبحاث التي كانت تعرض في المجتمع الخاضع لسيطرة الأمراء. وكان الناس على مذاهب وآراء ومقالات واتّجاهات مختلفة. فاتّجاهٌ يدعو إلى التمسُّك بالكتاب والسنّة ونبذ البدعة، وأنّ كلّ حكم يوجد فيهما، وعلمه عند الأئمّة المعصومين من آل الرسول|، ولا حاجة إلى الرأي والقياس والظنّ والاجتهاد العقليّ والاستحسانات بدل الشرع لاستخراج الأحكام، وأنّه ما من شيء إلاّ وحكمه موجودٌ في الكتاب والسنّة؛ واتّجاهات تابعةٌ للأمراء من المرجئة وأهل الرأي ومتكلِّمي العامّة ومحدِّثيهم. وتطوَّرت هذه الاتّجاهات وتكاملت على مرور الأيّام، وتولّد منها تشعّبات وأفكار واتّجاهات ومدارس جديدة أخرى في الكلام والاستدلال والفقه والحديث وغيرها. وعلى ضوء هذه المتغيِّرات ظهرت عندهم كتب وأسفار مختلفة. ففي الأصول ظهرت رسالة الشافعي، وكتاب العمد والمغني للقاضي عبدالجبّار المعتزليّ، وغيرها.

ويوجد في كلّ علم أسماء واصطلاحات تداول استعمالها فيها. فمن المهمّ قبل كلّ شيء معرفة مداليلها ومعانيها، خصوصاً الكلمات التي يحتمل أن يكون لها معانٍ لغويّة متعدّدة، ووجوه اصطلاحيّة متفاوتة. فيجب على مَنْ يريد أن يقرأ في ذلك العلم أن يكون عارفاً بها.

والاختلاف في تعريف علم الأصول وبيان موضوعه ومحموله وغايته ومسائله من الأمور التي وقع فيها الجدال كثيراً. فالأفضل في المسائل الاختلافيّة دراسة أبحاثها من جذورها التاريخيّة، وعلى أساس عمدة النظريّات التي جاءت حولها من أوائل أمرها؛ فإنّه بعد مضي أكثر من ألف عامٍ، وبرغم ما صرفه مهرة هذا الفنّ من طاقات وجهود جبّارة وأوقات كثيرة في سبيل تنقيحها ورفع الإشكالات عنها، لا زال الاختلاف في صياغتها كثير. وهذا يدلّ على وجوب عدم اغترار الإنسان بقدرة عقله وفكره مهما بلغ من العلم وذاع صيته في المجتمع. فلا يمكن الاعتماد دائماً على ذهن الإنسان لفهم جميع الجزئيّات والحقائق كما هي مهما بالغ في جهوده وكان له من قوّة.

نعم، إذا تمكَّن من المعرفة التامّة بجميع جوانب الأمور يستطيع ذلك، ولكنّ الكلام في تحقُّق ذلك.

وعليه يظهر أنّ التعريف الحدّيّ المنطقيّ لا يمكن أن يتحقَّق إلاّ من قبل أولئك الذين عرفوا كنه خصوصيّات المورد المعرَّف بشكلٍ تامّ ومناسب. وأمّا دعوى معرفة ذلك لغيره فهو بحسب الظاهر، لا بحسب الواقع. والدليل على ذلك الاختلاف المستمرّ للعلماء في التعاريف العلميّة، التي لبعضها تاريخٌ يتجاوز ألف عام. وهذا دليلٌ على أنّ ما يسمّونه بالتعريف المنطقيّ الحدّيّ لمطالب طال الاختلاف فيها لم تكن حقيقة منطقيّة، وأنّ كلامهم بذلك مجرّد ادّعاء، وإنْ كان أصحابها في مقام ذكر التعاريف الحقيقيّة، وكانوا يجهدون بكلّ إصرار على ذكر خصوصيّات بهدف أن يصير تعريفهم جامعاً ومانعاً، ولكنّها في الغالب لم تتجاوز كونها شرحاً للاسم.

فإذا أردنا التعريف بعلم الأصول، استلهاماً من التعريفات المنطقيّة السابقة، والإيرادات التي أوردت عليها، فلن نصل إلى مبتغانا، كما لم يصِلْ الماضون إلى غرضهم ومبتغاهم بأخذ نتيجة ثابتة فيه لم تتعرَّض للإشكال والإيراد من جانب كبار العلماء. فكلُّ تعريفٍ عرضوه في هذا الباب، ومهما صرف حوله من الجهود، وتحمَّل مؤسِّسوه من العناء، خولف من قِبَل الآخرين واعتُرض عليه، حتّى أذعن بعض أرباب الكتب بأنّهم عاجزون عن إعطاء تعريف جامع مانع. فالأفضل تعريفه بشكلٍ إجماليّ وكلّيّ، ورفع اليد عن تعريفه بشكلٍ حدّيّ دقيق لا يمكن الاعتراض عليه. وكان أحد أساتذتي& ـ مع مهارته في علم المنطق ـ ملتفتاً إلى هذه النكتة، ولم يعقِّب كثيراً في حاشيته على كتاب الكفاية على التعريفات، كما يفعل الكثيرون، من خلال التوقُّف فيها، وبذل الوقت الكثير لها، والخروج عن البحث الأصوليّ، والحرص على حلّها بما أُوتوا من قوّة، بشرحها وتوضيحها والإجابة عن الاعتراضات الواردة عليها. ولأجل الإيرادات الواردة على هذه التعاريف كان يعتقد أنّها ليست تعاريف حدّيّة حقيقيّة، بل هي شرح للاسم، والمقصود منها تقريب المعنى المعرَّف إلى الأذهان، ولذا لم يكن يلحّ على حلّها، ولا ينبغي للبيب اللوذعيّ والذكيّ الألمعيّ أن يصرف نفيس لبّه وعزيز وقته إلى هذه الظواهر والقشور، كما يفعله القاصرون الغافلون.

ومن الإيرادات الأساسيّة على هذه التعاريف أنّ علماء الأصول كانوا منذ الحقبة الأولى يعترضون على صحّتها ويحكمون بضعفها وخطئها وبطلانها، ويورِدون الإشكالات الكثيرة عليها. فما كان هذا نتيجته لا ينبغي صرف الوقت الكثير عليه بالشكل المتداول في عصرنا.

ومن الإيرادات الأخرى أنّ التعريف يجب أن يكون أوضح وأجلى من المعرَّف، فيجب أن لا يكون متساوياً معه في الظهور والخفاء، أو أخفى منه، وأنّ الألفاظ المستعملة في التعريف يجب أن تكون ظاهرة وناصعة، لا إبهام فيها، فلا يصحّ استعمال الألفاظ الوحشيّة والغريبة والغامضة، أو المجملة والمشتركة، أو الألفاظ المجازيّة من دون ذكر قرينة في التعريف. والحال أنّ عمدة هذه التعاريف على عكس هذه الأوصاف، فإنّها لم تقرِّب المعرَّف إلى الذهن، فضلاً عن تعريفه، بل كانت موجبةً لابتعاده عن الذهن، وحدوث الشكّ والإبهام في ما كان واضحاً.

وذُكِرَ أنّ تمايز العلوم ينتج من تمايز موضوعاتها وغاياتها. فمثلاً: علم الصرف موضوعه اشتقاقات الكلمة. وموضوع علم النحو هو الكلمة والكلام، وغايته ونتيجته صون اللسان عن الخطأ في الكلام، ومحموله أحكام الكلمة والكلام المختلفة من حيث البناء والإعراب. أو ما يقال حول موضوع علم المنطق: إنّه كذا، ونتيجته صون الذهن عن الخطأ في الفكر. وذكر أنّ موضوع علم الأصول هو أدلّّة الفقه، ومحموله حجّيّتها، وغايته والهدف منه معرفة أحوال الأدلّة الفقهيّة التي وقع البحث حول حجّيتها؛ لأجل الاستفادة منها عند مظانّها في الفقه.

 

تعريف أصول الفقه، مراجعة تاريخية

فالمقصود من أبحاثه التي يجري البحث حولها في الكتب الأصولية هي المسائل التي وقع فيها الخلاف والكلام. لذا يقول السيّد المرتضى في مقدّمة (الذريعة) حول أبحاثه: وأخصّ مسائل الخلاف بالاستيفاء والاستقصاء، فإنّ مسائل الوفاق تقلّ الحاجة فيها إلى ذلك([1]).

وقال أيضاً: وقد كنّا قديماً أمللنا قطعة من مسائل الخلاف في أصول الفقه [على الطلاّب]، وعُلِّقَ عنّا([2]) من غير كتاب يقرؤه المعلِّق علينا على غاية الاستيفاء دفعات كثيرة([3])، وعلّق عنّا كتاب العمد مراراً لا تحصى!!([4]).

ويقول السيّد المرتضى& حول تعريفه لأصول الفقه: اعلم أنّ الكلام في أصول الفقه إنّما هو على الحقيقة كلام في أدلّة الفقه، ولا يلزم على ما ذكرناه أن تكون الأدلّة والطرق إلى أحكام فروع الفقه الموجودة في كتب الفقهاء أصولاً للفقه؛ لأنّ الكلام في أصول الفقه إنّما هو كلام في كيفيّة دلالة ما يدلّ من هذه الأصول على الأحكام على طريق الجملة دون التفصيل، وأدلّة الفقهاء إنّما هي على تعيين المسائل، والكلام في الجملة غير الكلام في التفصيل، وإذا كان مدار الكلام في أصول الفقه إنّما هو على الخطاب وجب أن نبدأ بذكر أحكام الخطاب([5]).

وقريبٌ من هذا التعريف تعريف الشيخ في العدّة ـ وكأنّه مأخوذ من مجالس أمالي المرتضى في أبحاث الأصول ـ حيث يقول: أصول الفقه هي أدلّة الفقه، وليس يلزم على ذلك أن تكون الأدلّة الموصلة إلى فروع الفقه الكلام فيها كلاماً في أصول الفقه؛ لأنّ هذه الأدلّة أدلّة على تعيين المسائل، والكلام في الجملة غير الكلام في التفصيل([6]).

ويمكن القول: إنّ اصطلاح «الأصول» اسم جنس لا عَلَم على الأبحاث الأصليّة المرتبطة بأساس الأدلّة، سواء أدلّة العقائد والدين أو أدلّة الفقه. فأبحاث أصول الفقه هي أبحاثٌ ترتبط بإثبات أو عدم إثبات صحّة بعض الأدلّة المستعمَلة في الفقه التي بعد ثبوتها تقع في طريق إثبات الحكم الفقهيّ. فعلم الأصول أو البحث الأصوليّ أو المسائل الأصوليّة هي اسم جنس ينطبق على أنواع أبحاث هذا العلم ومسائله.

والمهمّ في كلّ علم أن يكون طالبوه على علم ومعرفة بكيفيّة مسائله وعلل حدوثها وتاريخها، حتّى تكون أحكامهم واستنتاجاتهم حول مطالبه تصدر عن علمٍ وبصيرة، لا عن عمى وتقليد.

وتختلف مناهج التعريف بين المنهج اللغويّ والمنهج الصناعيّ والمنطقيّ والمنهج اللغويّ، وربما يعبَّر عنه بشرح الاسم أفضل من غيره، وآنس في لسان البشر في التعبير عن مقاصده وأفكاره؛ لأنّه يتّكل على الحقائق الخارجيّة المسلَّمة والواضحة، دون المفاهيم المبهمة والاصطلاحات الخفيّة الخاصّة والمصطنعة من قبل العديد من أهل الفنّ، التي وقع الخلاف في صحّة الكثير منها مفهوماً ومصداقاً، وكمّاً وكيفاً، ودون الاختلاف في الألفاظ والتعبيرات.

ويمكن التعبير عنه بالطريقة العرفيّة العقلائية؛ لأنّه هو سيرة عموم العقلاء في تعريفاتهم وإفهامهم للحقائق والأسماء، دون التعاريف الحدّيّة المنطقيّة، التي تعتمد على ذهنيّات وتصوُّرات البعض، التي يكون احتمال الاشتباه والخطأ والضعف فيه أكثر. فالكثير من التعاريف المنطقيّة والحدّيّة، التي كان يعتقد بأنّها عقليّة وقطعيّة وبرهانيّة، ظهر بعد فترة من الزمان أنّها مخالفةٌ للواقع، وأنّها واهية، وما كانت إلاّ جهلاً مركبّاً، وحتّى في زمان ظهورها عورضت من جانب بعض رجال الفنّ، وحكموا عليها بالبطلان. فالأفضل في التعاريف والشروح هو الاعتماد على الأمور الثابتة والمستقرّة والمتَّفق عليها عند أبناء البشر، التي كانت أساس الاعتماد عنده في مفاهماته ومحاوراته واستعمالاته.

وهناك تعريفات متفاوتة ومختلفة لعلم الأصول بتفاوت الكتب المختلفة والأعصار المتفاوتة، ولا يهمّ التعرّض لجميعها، ولا يمكن. وكلٌّ منها تطرّقت إلى تعريفه من وجهة نظر صاحبها. ولا يهمّ كيفيّة الألفاظ والأنظار فيها. ولا هي كلمات صدرت عن الوحي والمعصوم حتّى يجب الالتفات إليها، والتقيّد بذكرها جميعاً. والمهمّ هو إعطاء صورة مطابقة وصحيحة عن علم الأصول ورؤوس مطالبه أو قريبة عنها لمَنْ يريد فهمها ومراجعتها. وما كان المقصود من هذه التعاريف الوقوف الطويل فيها، والخروج عن المباحث الأصلية من ذلك العلم، والغور في المناقشات اللفظيّة والجدالات الكلاميّة والمشاحنات النفسيّة والتعصُّبات والنزاعات وتصريف الأعمار، وتضييع الأوقات، والعبث بالكلمات، بل هو المعرفة الإجماليّة والكلّيّة والتمهيديّة؛ لكي تتحقَّق المعرفة التفصيليّة والأصليّة بعد قراءة موادّ العلم. فالغرض من التعاريف العامّة التي تذكر في ابتداء العلوم لمادّة البحث أن يكون المراجع على علم إجماليّ لما يقرؤه، والمقصود منه هو الفهم الأنسب والأسهل للمقصود، لا التعقيد اللفظيّ والمعنويّ وإيجاد الغموض والإبهام في المراد، وإيجاد جدالات وصراعات في ماهيّة المعنى المقصود.

وقيل: والأصل في اللغة ما يبتني عليه الشيء. فعلم أصول الفقه هو ما يبتني على أبحاثه معرفة الأدلّة التي تقع في طريق إثبات الحكم الفقهيّ واستنباطه، فأبحاثه في الحقيقة هي أبحاث عن دليليّة الأدلّة الفقهيّة وطريقيّتها في إثبات الحكم الفقهيّ وما يرتبط بكيفيّة الاستدلال بها، وإثبات حجّيّتها وبيان معانيها وشروطها ومقدّماتها، من دون نظر إلى حكمٍ فقهيّ معيَّن، فإنّ محلّ ذلك في الفقه([7]).

فالأصل هو الأساس والقاعدة والجذر، وهو في مقابل الفرع والجزء. ويطلق على المسائل الأوّليّة والعامّة والقواعد الأصليّة (المسائل الأصوليّة). وكان المقصود من المسائل الأصوليّة في الصدر الأوّل المسائل التي ترتبط بالاعتقاد، ووقع حولها الكلام والنقاش، وعبّر عنها المتقدِّمون بمسائل الكلام وعلم الكلام. وكانت المسائل المرتبطة بالاعتقادات التي جرى حولها الكلام والخلاف كثيرة، ومختلفة ومتفرّقة، ولكن حُدِّدت بعد ذلك بمسائل خاصّة، وفُصِل عنها المسائل والشبهات المرتبطة بأدلّة الفقه والحديث، وسُمِّيت بـ (أصول الفقه)، وبقي اصطلاح علم الكلام على الباقي كما كان، والمقصود منه المسائل الخلافيّة التي ترتبط بالاعتقادات، وحصروها في الغالب بالمسائل الأهمّ التي تعرف اليوم بمسائل أصول الدين، وهي: التوحيد والنبوّة والمعاد والإمامة والعدل الإلهيّ، وبعض الاختلافات في اعتقادات المذاهب. وكان المتقدِّمون يعبِّرون عن مسائلها ومسائل أصول الفقه بالمسائل الأصوليّة. وكانت مباحث اختلافات المذاهب الإسلاميّة تُعَدّ من المباحث الكلاميّة، حيث كانت أطياف مهمّة من المتقدِّمين يتعرَّضون لها عبر الأخبار والنصوص؛ لأنّها هي الأصل في إثبات أحكام الإسلام، ولكن بما أنّ بعض الأطياف لم يكونوا يمتلكون أخباراً معتبرة، ونصوصاً مقنعة، لنصرة مذاهبهم وأفكارهم، وكانوا صفر اليدين منها، أو أنّ أخبارها وطرقها كانت كثيرة ومعروفة ومسلّمة، ولم تكن حاجةٌ إلى ذكرها، وكان الاختلاف منحصراً على معانيها، فقد توجَّهوا إلى الكلام والجدل، بدل التمسُّك بالأخبار المعتبرة والنصوص لإثبات معتقداتهم. واشتهر هذا الأسلوب شيئاً فشيئاً في المجتمع، في حين أنّ البحث النصّيّ مقدَّم على الكلاميّ إلاّ عند مَنْ ليس له حظٌّ من النصوص، أو النصوص ليست لصالح أفكاره ومذهبه، كما هو الحال عند علماء الأمراء.

فأصول الفقه بمعنى القواعد الأصليّة لأدلّة الفقه، والمسائل الأصوليّة هي المسائل الأصليّة، سواء في العقائد أو في الفقه أو في غيرها.

ويمكن تعريفه بالعلم الذي يتوصَّل بأبحاثه إلى صحّة أو عدم صحّة دليليّة الأدلّة الفقهيّة ـ التي وقع حولها النزاع والخلاف ـ وما يرتبط بذلك من الأبحاث.

والأفضل هو التعريف اللغويّ، فيجب محاولة التعريف اللغويّ، وترك التعاريف المنطقيّة والصناعيّة.

وقد اعترض المتأخِّرون على تعاريف علم الأصول بحزمٍ، ووضع الكثير منهم تعاريف أخرى له، وادَّعَوْا أنّ تعريفهم هو التعريف الأفضل. وأهمّ هذه التعاريف ما يلي([8]):

الأوّل: هو علم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة([9]).

الثاني: «إنّه صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام، أو التي ينتهي إليها في مقام العمل»([10]).

الثالث: «إنّه علم بالكبريات التي لو انضمّت إليها صغرياتها يستنتج منها حكم فرعيّ»([11]).

الرابع: هو القواعد الآليّة التي يمكن أن تقع في كبرى استنتاج الأحكام الكلّيّة الفرعيّة الإلهيّة أو الوظيفة العمليّة([12]).

وأنت ترى أنّ هذه التعاريف ليست واضحة، ولا صريحة، بحيث يتمكَّن المتأمِّل من أن يصل إلى معرفة صحيحة وسريعة وواضحة من كلّ واحد منها لعلم الأصول، وإلاّ ما كانت تختلف ولا تتغيَّر. ولو كان كلٌّ منها صحيحاً ما كانت تُذكَر تعاريف أخرى مغايرةٌ لكلّ واحد منها.

فالمراجع يستطيع أن يأخذ الذي يعجبه منها، أيّاً كان الأصحّ بنظره، وليس أخذ واحد منها أمراً إلزاميّاً وواجباً. ولم تكن هذه التعريفات قواعد أصولية، ولا دليلاً أصوليّاً، وإنّما هي تصوُّرات ذهنيّة لأصحابها، فإنْ تمكّنت من مطابقتها للواقع فنعم المطلوب، وإنْ خالفت فلا يضرّنا مخالفتها. فالمهمّ في الأصول معرفة المسائل التي وقع حولها النزاع من جهات فنون الكلام، ومقتضى صناعة العلوم والاستدلال، وأنّ الوجه الصحيح والمذهب الصحيح ما هو؛ لإعمال الرأي عند محلّ الحاجة في الفقه، وإنْ كانت رؤوس مسائلها واضحة ومعروفة، ولنا في عمدة الأحكام الفقهيّة نصوص معتبرة وواضحة، وصلت إلينا عن طريق الثقات عن الأئمّة المعصومين من أهل البيت^، ولا تحتاج إلى هذه الأبحاث والنزاعات.

نعم، مَنْ يريد أن يكون جامعاً في الفقه، وقادراً على الإجابة عن الشبهات التي تعترض على بعض الأدلّة من المخالفين لها، يجب أن يكون ذهنه منفتحاً في هذه القضايا عند مواجهته لها؛ ليتمكّن من الجواب عنها.

المعرفة قبل التعريف

يجب قبل تعريف علم الأصول المعرفة الصحيحة بمسائله وكيفيّة وعلل وتاريخ نشوئها. ومن دون المعرفة التامّة والصحيحة الجامعة لا يصحّ ولا يمكن التعريف الصحيح. فالمحاولات للتعريف تكون مجرَّد تصوُّرات ناقصة لا نهاية لها توجب العناء الدائم للأشخاص، وتشديد الاختلافات، وتضييع الغالي من الأوقات. فلا يمكن الدخول في التعاريف الذهنيّة والدقائق العقليّة قبل حصول المعرفة الصحيحة بالموضوع؛ لأنّه ليس فقط لا يحلّ مشكلاً، بل يزيد الغموض والإبهام والإشكال والاختلاف والجدال. فيجب عند الاختلاف في التعاريف المشي على التعريف العرفيّ والأمور المعروفة الظاهرة، والمصاديق والأمثلة الخارجيّة الواضحة، لتعريف المعرَّف بقدر الإمكان إلى الأذهان، بدل التعاريف الحدّيّة التي لا يمكن بها التعريف الجامع الشامل للمعرَّف. ومثال ذلك التعاريف التي صاغها الفقهاء لمفهوم الطهارة، من زمن الشيخ الطوسي& إلى اليوم، وكانوا دائماً مشغولين بتكميله وتصحيحه؛ بغرض تقديم تعريف جامع كامل له، ولكنّهم إلى اليوم لم يتمكَّنوا من الوصول إلى ذلك، وتقديم تعريف متَّحد يوافق عليه الأكثر، مع كلّ ما بذلوه من الطاقات بواسطة أقوى الأذهان والأفكار. وإنّ فهم مفهوم الطهارة بواسطة هذه التعاريف ليس ميسوراً، بل إنّها زادت التعقيد والغموض والإبهام في سبيل فهمه. ففهم المعنى المصدريّ واللغويّ للطهارة يكون أسهل بكثير من فهم معناه عبر هذه التعاريف.

وقد ناقش الأصوليون المتأخِّرون تعاريف علم الأصول، وحاولوا حثيثاً ـ ومن دون فائدة ـ أن يصوغوا له تعريفاً منطقيّاً وحدّيّاً جديداً لا يمكن الاعتراض عليه، ولكنّهم لم يستطيعوا حتّى هذه اللحظة صوغ تعريفٍ موحَّدٍ يرضيهم جميعاً، ولم يتّفقوا إلى اليوم على تعريف جامع، مع أنّ الاختلاف في هذه المسألة له تاريخ طويل يمتدّ لأكثر من ألف عام، وهم من أرباب هذا الفنّ، ومن أصحاب العلوم الصناعيّة، والاهتمام الذي كان يُبذَل في الأصول في العصور المتأخِّرة ربما لم يبذل للعلوم الأخرى، ولم تكن مسألة علم الأصول لهم أمراً غريباً وغير معروف، وبعيداً عن أذهانهم، بل كان توجُّههم إليه وأنسهم به مسألة ليل ونهار. إذاً فما هو السبب في ذلك؟ وهل أنّ التعاريف المنطقيّة ضعيفة وناقصة، ولم تلبِّ الحاجات العلميّة ولم تكن بالنحو المطلوب، أو أنّهم لم يتمكّنوا من فهمٍ صحيح لمكانة مطالبه وأبحاثه، وهو الذي سبَّب عدم تمكُّنهم من تعريف جامع مانع له، أو أمر آخر؟ نترك الجواب للآخرين.

فكانت مسائل أصول الفقه شبهات وإشكالات صعب علاجها. واختلاف الأنظار فيها مرتبط بكيفية أدلّة الفقه وكيفيّة صحّة الاستنباط عند علماء العصور الإسلامية الأولى، من دون أن تكون بين أكثر هذه المسائل علاقة خاصّة، ولم ينشأ بعضها بالنظر إلى البعض الآخر في وقتٍ واحد أو زمان قريب، ولم يكن هدف واضعيها إنشاء علم باسم أصول الفقه، حتّى يلتقطوا مسائلها ويرتِّبوها بالنظر إلى ذلك العلم بشكل فنّيّ، بل حدث كلٌّ منها في ظروف خاصّة، وفي محلّ منفصل عن الآخر، وذلك بواسطة أفراد مختلفين ومميَّزين. واستمرّ البحث والنظر حولها إلى أن اشتهر، ورأَوْا أن يدوِّنوه ضمن المسائل التي وقع حولها النزاع والكلام. ولكنّ الطبقات التي تأخَّرت عن عصر المؤسِّسين لعلم الأصول يظنّون أنّها أمور منظَّمة مرتبطة ببعضها، وأنّها رُتِّبت على أسس فنّية واحدة. لذا أرادوا أن يصوغوا لها تعريفاً موحَّداً ومطابقاً، فصاغوا ـ ومن دون فائدة ـ عشرات التعاريف، التي هي اليوم مثبتة في كتب الأصول، ولم يتمكّنوا من ذكر تعريف جامع لها، لا يَرِد عليه إشكال، رغم ما تحمَّلوه من خسارة للأوقات التي هي أفضل رأس مال للإنسان. ولا شكّ أنّ الوصول إلى تعريف عقليّ لعلم الأصول إذا أمكن بيسرٍ يكون راجحاً، وأمّا في صورة عدمه فهل يجب ـ في العصر الحاضر، كما كان الوضع في العصور السابقة ـ على جميع المشتغلين العبث بأوقاتهم، والاشتغال ليلاً ونهاراً، لأجل تنقيح تعريف لا يَرِد عليه إيرادٌ صناعيّ، بالرغم من الإحباطات التي تحمَّلها الطلاّب في سبيله في الماضي، وصرفهم الملايين من الساعات من أجله من دون حاصل؟! ليس الوصول إلى التعريف الصناعيّ أمراً جوهريّاً، واجباً، يحسن إهلاك النفس من أجله، وليس تركه حراماً، محذوراً. فالمعرفة الإجماليّة كافية بحكم العقل.

ويمكن تعريفه إجمالاً بأنّه علمٌ يتكلّم عن شبهات ونزاعات وأسئلة متفرِّقة حول الأدّلة المستعملة في الفقه، وصلت إلينا غالباً من العصور الأولى، والتي عناوينها الأصليّة والفرعيّة ثابتة في كتب هذا العلم.

وبتعبير آخر: هو علمٌ يبحث عن صحّة الأدلّة المتنازَع فيها، التي يُدَّعى وقوعها في طريق استنباط الأحكام الفقهيّة، وتنقيح كيفيّة العمل بها، وما يرتبط بها من أحكام، مثل: حجّيّة ظواهر الآيات، وحجّيّة اللسان وظاهر الألفاظ، من أوامرها ونواهيها، وخاصّها وعامّها، ومطلقها ومقيّدها، وحقيقتها ومجازها، وصحّة التمسُّك بعمل العقلاء وبنائهم في المشكوكات. واعتبار الأخبار المسنَدة من طريق الثقات إلى الأئمّة الأطهار^، وعدم حجّيّة ما يُقصَد بأخبار الآحاد، وغيرها من المسائل الثابتة عناوينها في كتب الأصول.

وعُرِّف أيضاً بأنّه علمٌ يتكفَّل البحث عن الأدلّة التي لو ثبتت دليليّتها تقع كبرى لإثبات الأحكام الفقهيّة الفرعيّة.

وعرّفوا علم الفقه بالعلم الذي يبحث عن الأحكام الشرعيّة الفرعيّة عبر أدلّتها الخاصّة.

وغايته هو الوصول إلى معرفة الحكم الفرعيّ، وكيفيّة العمل به.

وأمّا علم القواعد الفقهيّة فهو الذي يُبحَث فيه عن الأدلّة الشرعيّة الخاصّة التي تبيِّن أحكام المظنونات والمجهولات والمشكوكات في المصاديق الخاصّة التي وقع الشكّ فيها، كقاعدة الطهارة عند الشكّ في الطهارة، وهكذا قاعدة الصحّة، والملكيّة، والتجاوز، والاستصحاب، والبراءة، والاحتياط، وغيرها، فتكون حاكمةً على الأحكام الفقهيّة، ومستثناة لها عن إجرائها في مواردها. فالقواعد الفقهيّة هي التي يستنبط منها أحكامٌ فقهيّة كلّية، يمكن تطبيقها على جزئيّات الأحكام الفقهيّة. ووجه تشابه قواعد الفقه وأصوله أنّهما يتكلَّمان على العموم، وليس نظرهما إلى مورد جزئيّ خاصّ.

 

المحطّة الأخيرة في تعريف علم الأصول

ويجب لهذا الغرض الابتداء في الكلام بنبذة من الأبحاث اللفظيّة واللغويّة؛ لتبيين المقصود من أصول الفقه، كما تعرّض له بعض المتأخِّرين، فأقول: لفظ أصول الفقه اسم جنس للعلم الخاصّ، فهو مركّب من جزءَيْن. وقد وقع الخلاف في أنّ المقصود منه في المقام هو المعنى الاصطلاحيّ أو معناه اللغويّ. والأظهر أنّ معناه الاصطلاحيّ يرجع إلى اللغويّ، فهو مركَّب إضافيّ. ويعتبر هو والمركَّب الوصفيّ ـ مثل: أن نقول: «الفكر الدينيّ» و«الإنسان المؤمن» ـ من المركَّبات الناقصة، التي لا يتمّ الكلام بها، حيث تكون في حكم المفرد، مثل: لفظ عبد الله، وكتاب زيد.

وأمّا تعريفه التركيبيّ الإضافيّ: فالأصول جمع أصل، وهو في اللغة ما يبتني عليه الشيء، وفي اصطلاح بعض العلوم، كالفقه والأصول، يطلق عموماً على معانٍ أربعة، وهي: الظاهر، والدليل، والقاعدة، والاستصحاب. والمقصود منه هنا هو المعنى اللغويّ، أو شرح الاسم، لا غيرهما. فلا يصحّ التعريف بالحدّ والرسم للأمور الغامضة التي لا يمكن للإنسان الوصول إلى كنهها، وحقيقتها، وماهيّتها، وذاتيّاتها المنطقيّة. لذا فإنّ حمل هذه التعاريف غير الظاهرة على الحدّ والرسم والمناقشة في جامعيّتها ومانعيّتها في غير محلّه.

 

اعتراض الخراساني على استعمال التعاريف المنطقية

إنّ السؤال عن المطلوب المجهول الذي يُراد تعريفه يتحقَّق بكلمة «ما». ومن هنا قسَّم المنطقيّون المطالب التي يُسأل بها إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل: يسأل به عن مفهوم اللفظ، فيكون سؤالاً لغويّاً صرفاً، فيسأل: ما هو الغضنفر؟ فيجاب: إنّه الأسد. فيكون الجواب تعريفاً لفظيّاً.

الثاني: يسأل بها عن تصوُّر المعنى، فتسمّى «ما» هذه بـ «ما الشارحة»؛ لأنّه بها يسأل عن شرح المعنى بشكل لفظيّ وعرفيّ.

الثالث: يسأل بها عن تفصيل ماهيّة ما تصوّر؛ وانطبق في الذهن، وخصوصيّاته، فتسمّى بـ «ما الحقيقيّة». فيجب أن يكون جوابه التعريف بالحدّ والرسم المنطقيّ.

أمّا السبزواريّ فأخذ القسم الأوّل والثاني قسماً واحداً، وتبعه الآخوند صاحب (الكفاية) على ذلك. ولا يكون عملهم هذا وتفرُّدهم مستحسناً.

قال الآخوند في (الكفاية)، في تعريف الوجوب المطلق والمشروط: وقد ذكر لكلّ منهما تعريفات وحدود تختلف بحسب ما أخذ فيها من القيود، وربما أُطيل الكلام بالنقض والإبرام في النقض على الطرد والعكس، مع أنّها كما لا يخفى تعريفات لفظيّة لشرح الاسم، وليست بالحدّ ولا بالرسم. والظاهر أنّه ليس لهم اصطلاحٌ جديد في لفظ المطلق والمشروط، بل يطلق كلٌّ منهما بما له من معناه العرفيّ([13]). وقريبٌ منه في أوّل مبحث المطلق والمقيّد([14]). وقال في أوّل بحث الاجتهاد والتقليد: إنّ اختلاف عباراتهم في بيان معناه اصطلاحاً ليس من جهة الاختلاف في حقيقته وماهيّته؛ لوضوح أنّهم ليسوا في مقام بيان حدّه أو رسمه، بل إنّما كانوا في مقام شرح اسمه، والإشارة إليه بلفظ آخر، وإنْ لم يكن مساوياً له بحسب مفهومه، كاللغويّ في بيان معاني الألفاظ بتبديل لفظ بلفظ آخر، ولو كان أخصّ منه مفهوماً أو أعمّ، ومن هنا انقدح أنّه لا وقع للإيراد على تعريفاته بعدم الانعكاس أو الاطّراد، كما هو الحال في تعريف جلّ الأشياء لولا الكلّ، ضرورة عدم الإحاطة بها بكنهها أو بخواصّها الموجبة لامتيازها عمّا عداها لغير علاّم الغيوب([15]).

وغرضه أنّه لا وقع للنقوض المذكورة في الكتب الأصوليّة على تعريفات الواجب المطلق والمشروط والمطلق والمقيّد والاجتهاد وأمثالها من الموارد التي تمّ تعريفها، وتطويل الأبحاث والمشاجرات حولها؛ لأنّ هذه التعريفات لا ينبغي أن تكون تعريفات حدّيّة ورسميّة، حتّى يصحّ أن نورد عليها طرداً وعكساً، وإنّما هم في مقام التعريف اللفظيّ أو بيان شرح الاسم. وهذا اعتراف من الآخوند بوجوب عدم الخلط بين الاستدلالات العلميّة والأبحاث المنطقيّة، فإنّ لكلّ شيءٍ محلاًّ خاصاً.

فظهر أنّ التعاريف المنطقيّة بالحدّ والرسم لا يمكن أن تتحقَّق للمعرَّفات الغامضة والمجهولة الحقيقة؛ لأنّه ربما لا يمكن لأحد أن يعرف كنه حقيقتها بشكل يمنع من الاشتباه في تطبيق التعاريف الحقيقيّة الكاملة عليها. فالتعاريف الحقيقيّة المنطقيّة التي تتحقَّق بذكر أجزائها التحليليّة الذهنيّة القريبة من الجنس والفصل والعرض الخاصّ محلّ استعمالها في الأمور الواضحة، أمّا المفاهيم الغامضة التي لا يمكن الوقوف على جميع ذاتيّات مفهوم المعرَّف بشكلٍ مطمئن لا محلّ لذكرها فيها. فلا يمكن صياغة تعاريف حقيقيّة منطقيّة تبيِّن ذاتيّات المعرَّف، ونتوقَّع منها أن تكون جامعة ومانعة. فالأفضل في تعريف غير الواضحات الاقتصار على التعاريف اللفظيّة واللغويّة، أو التعاريف المنطقيّة الناقصة التي تأتي في جواب السؤال بـ «ما الشارحة»، وتسمّى بشرح الاسم والتعريف الاسميّ، لأنّه يسأل بها عن شرح ماهيّة الاسم، فهي تعاريف غير مقيَّدة بذكر جميع ذاتيّات المعرَّف، بل ذكر بعضها وذكر المفهوم بشكلٍ كلّيّ وإجماليّ، من دون التقيُّد بالإتيان بجميع ذاتيّاته اللازمة وأجزائه التحليليّة الذهنيّة؛ لتبيين حقيقته وكنهه، بل تعريف ما هو الخفيّ بما هو الأجلى والأظهر. فالتعريف بشرح الاسم ليس من التعاريف المنطقيّة الجامعة لأفراده، والمانعة لأغياره، بل هو مجرَّد توضيح كلّيّ لمفهومه، ومقرِّب له إلى الذهن. فمحاولة الأشخاص التثبُّت من مطابقته مع الحدّ والرسم في غير محلّه؛ لأنّ الفرض هو أن لا يكون تعريفاً منطقيّاً كاملاً حتّى نتوقَّع ذلك.

والاختلاف في تعريف العلوم قد يكون لاختلاف الأغراض، واختلاف الأنظار في ما هو الأهمّ فيه، أو لأجل الاختلاف في الآثار والتبعات واللوازم والنتائج الحاصلة منه. وفي التعريف مجالٌ واسع للاختلاف والتسامح وعدم الدقّة، فلا يقتضي لنا الجمود على ظاهر التعريفات.

فظهر أنّ البحث الأصوليّ ليس بحثاً نظريّاً حول مداليل بعض الاصطلاحات الذهنيّة، التي يمكن تصوُّرها حول أبحاثها، والتي عبَّر المنطقيّون عنها بالرؤوس الثمانية من مبادئ العلم ومسائله وموضوعه وغاياته وأغراضه ومنافعه والبحث عنها بشكل الاصطلاحات المنطقيّة والوقوع في الخلافات والجدالات الطويلة التي لا حدّ ولا نهاية لها؛ لأنّ التصوُّرات الفكريّة للإنسان لا نهاية لها، وهي قابلة للزيادة والاستمرار، بحيث يمكن لها أن تأخذ جلّ أوقات الإنسان، التي يمكن أن يصرفها في العلوم والمجالات الاجتماعيّة والتربويّة.

أما مع ما ذكرناه فيجب ـ استحساناً ـ وبقدر اليسر والإمكان ذكر ذاتيّات المعرَّف وخصوصيّاته الذاتيّة؛ لكي تتجلّى حقيقته وماهيّته بشكلٍ أوضح وأفضل. فإنْ ظهر من التعريف ذاتيّاته الأصليّة فنعم المطلوب، كما إذا استطاع أن يذكر التعريف بالفصل القريب، فيسمّى بالحدّ؛ وإذا اقترن معه الجنس القريب سُمِّي تامّاً؛ وأمّا إذا لم يقترن معه الجنس القريب أو أصل الجنس سُمّي ناقصاً؛ لأنّه لا يشتمل على ثاني ذاتيّيه القريبين؛ وأمّا إذا اشتمل على العرض الخاصّ فيُسمّى بالرسم؛ فإذا كان معه الجنس القريب فهو الرسم التامّ؛ فإذا لم يكن معه الجنس القريب أو كان من دون الجنس فيُسمّى بالرسم الناقص.

والفقه في اللغة هو الفهم. والمقصود منه هنا هو المعنى الاصطلاحيّ، وهو العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة. والمراد بالشرعيّة هو ما من شأنه أن يؤخَذ من الشارع، كوجوب الصلاة والصوم وكيفيّتهما، فخرج به غيرها، مثل: الأحكام العقليّة المحضة، التي ليس من شأنها ذلك، كبيان أنّ الكلّ أعظم من الجزء، والنقيضان لا يجتمعان، وبالفرعيّة ما يتعلَّق بالعمل بلا واسطة، فخرج بها غيرها، كالأصوليّة، وهو ما يتعلّق بالعمل مع الواسطة أو الوسائط.

ووقع الخلاف في أنّ أسماء العلوّ أعلام جنسيّة أو أسماء جنسيّة ـ أي إنّها لفظاً تعتبر من المعارف أو النكرات ـ؟

والأظهر الأوّل؛ لأنّه يتعامل معها معاملة الأعلام، وأمّا إطلاق العَلَم على مسائل العلم فليس لشخص خاصٍّ وكتاب خاصّ منه، بل هو لمطلق جنسه، فهو علم الجنس الإضافيّ؛ إذ المقصود من المسائل أشخاص غير مخصوصة، فيطلق هذا العلم على جنس مسائل هذا العلم؛ لأنّ حكمه من حيث المعنى لا يخصّ واحداً بعينه، وإنْ كان يوجد في أفراد ذلك الجنس ومصاديقه بعض الاختلاف والتغيير في الكمّ والكيف والزيادة والنقصان من كتاب إلى كتاب. وحكمه اللفظيّ كعلم الشخص، فيُمنَع من الصرف، ولا تدخل عليه الألف واللام([16]).

ويمكن تعريف علم الأصول بأن نقول: هو علمٌ يبحث عن القواعد والمسائل التي وضعت عموماً في طريق الاستدلال؛ لإثبات أو عدم إثبات الأحكام الشرعيّة الفرعيّة العمليّة.

وقولنا: «عموماً» لإمكان الاستفادة من بعض هذه القواعد أيضاً للعلوم الأخرى، ولا تنحصر الاستفادة منها في علم الأصول؛ ولأنّ مبادئها التصديقيّة، وهي الكتاب والسنّة واللغة والعرف والملازمات العقليّة، مشتركة، فيمكن الاستفادة منها في علم الكلام والأخلاق والتاريخ والمعارف الأخرى. فلا يكون المقصود من هذا التعريف أن يكون تعريفاً منطقيّاً حقيقيّاً مانعاً للأغيار؛ لأنّه لم يذكر فيه الفصل حتّى يكون حدّاً، أو العرض الخاصّ حتّى يكون رسماً. ولضعف القواعد المنطقيّة وعدم قدرتها لم يتمكّن الأصوليّون من صياغة تعريف منطقيّ جامع ومانع يحظى بالقبول لدى الجمهور. فهذا دليلٌ على عدم إمكان عقد الأمل الكثير على مثل هذه القواعد.

ولأجل تحصيل الحكم الشرعيّ استناداً إلى القاعدة الأصوليّة يجب أن تتحقَّق مقدّمتا القياس، ففي إحداهما تقع القاعدة الأصوليّة كبرى للمسألة الشرعيّة، والأخرى تقع صغرى ومصداقاً للكبرى ـ وهي القاعدة الأصوليّة ـ، فينتج منها حجّيّة أو عدم حجّيّة تلك الصغرى، بصفة أنّها حكم شرعيّ، مثل: الحكم بأنّ كل ما حكم الفقيه الموثوق مع توفُّر الشرائط الأخرى في الحكم فهو واجب الاتّباع، وأنّ هذا الحكم ممّا أفتى به ذلك الفقيه، فينتج منه أنّ هذا الحكم واجب الاتّباع.

وقيل: إنّ موضوع علم الأصول هو نفس موضوع مسائله، والفرق بين موضوع العلم وموضوع مسائله هو التفاوت الموجود بين الكلّيّ ومصاديقه. فالقاعدة هي القضيّة والمسألة الكلّيّة التي يستفاد منها حكم المصاديق الجزئيّة، مثل: قاعدة «كلّ فاعل مرفوع»، فإنّه بواسطته يعرف مرفوعيّة مصاديق الفاعل في الجملات الخاصّة والجزئيّة، مثل: ذهب زيد، وقام عمرو.

فظهر أنّ موضوع علم الأصول هو عبارة عن كلّ قاعدة تقع في طريق استفادة الحكم الكلّيّ الشرعيّ. وتصوّر البعض أنّ المقصود منه المقابل للمحمول.

وقد نقل عن بعض قدماء الفلاسفة والمنطقيّين التكلّم عن ثماني مسائل في مقدّمة كتبهم، والتي اشتهرت بالرؤوس الثمانية، وهي: 1ـ تعريف العلم؛ 2ـ الغرض والغاية منه؛ 3ـ موضوعه؛ 4ـ فائدته؛ 5ـ فهرس عناوين أبواب الكتاب؛ 6ـ التعريف بالمؤلِّف؛ 7ـ بيان مقام العلم ورتبته؛ 8ـ الأنحاء التعليمية (التقسيم، والتحليل والتحديد)([17]).

ولكنّ أجيال الفلاسفة الذين خلفوهم اقتصروا على بيان ثلاثة منها على أنّها هي الأجزاء الأصليّة للعلوم، وهي: الموضوع؛ والمسائل؛ والمبادئ.

 

الاختلاف في موضوع علم الأصول

حدَّد الخالق سبحانه وتعالى جهاز الفكر في الإنسان بمحدوديّات كثيرة، لا يستطيع معها فهم الكثير من الحقائق والعلل التي ليس من شأنه أن يعرفها ابتداءً ومستقلاًّ، إلاّ بعد أن يأخذ تلك الحقائق والأسرار من جهات خارجة عنه. لذا احتاج إلى الوحي والشريعة. ولكنْ كأنّ هذا الأمر خفي على البعض، حيث اتَّخذوا جهاز التصوّر والخيال والتصديق والإدراك مصدراً مستقلاًّ في وجوده في معرفة جميع الأشياء، غنيّاً بذاته عن غيره، أصيلاً، صمداً، وأطلقوا كلمات ساخنة وشعارات برّاقة في سبيل ذلك، وزعموا أن ما يتصوَّره في كلّ شيء هو الواقع مطلقاً، من دون محدوديّة وشروط، وأنّهم دعاة العقل، ونسبوا تحكُّماً كلّ مَنْ خالفهم ولم يرَ لرأيهم دليلاً مقنعاً إلى مخالفة العقل والاستدلال، ومواكبة الجهل والباطل، واحتكروا العقل والدليل العقليّ لهم بكلّ اعتساف. فالعقل عندهم هو رأيهم ومعتقدهم وما يرونه من تصوُّرات. والفريق المقابل لهم مخالفٌ للعقل. وكلّ حزب بما لديهم فرحون. وتأثَّر بكلامهم كثير ممَّنْ لا اطّلاع له. ومن العجيب أنّ بعضاً من أرباب العلوم التصوُّريّة؛ لقصور رؤيته وحسن نظره وابتهاجه وإعجابه بها، تحوّل إلى أداة فاقدة للقدرة على التأمُّل والنظر والتشخيص، فصار حاله في متابعة أبحاثها حال التابع المقلِّد.

وإنّي وإنْ كنتُ محبّاً لكلّ مَنْ يبذل جهده في سبيل العلوم والمعارف والفكر، ولكنْ مع ذلك يجب أن لا يمنع ذلك من البحث والنقاش في صحّة بعض المناهج والتصوُّرات والأفكار، التي هي ليست من الوحي، بل من صنع الإنسان المتعرِّض للاشتباه والزلاّت والعثرات. فيجب أن لا يوجب لنا التعصُّب لهم والعبوديّة لأشخاصهم وأفكارهم أن ندافع عنهم دفاع المتولِّه الأعمى، والدفاع غير المبرَّر عنهم، وغمض العين عن اختبار صحّة أفكارهم وآرائهم.

وأمّا التعريف بموضوع العلم فيجب القول: إنّه بعد قرون طويلة من الزمن التي مضت على هذا التعريف، وبالرغم من تلك الجهود والمساعي التي بذلها أهل المعقول، لا زال الخلاف بينهم موجوداً وشديداً حول تعريف موضوع العلم، فإنّهم لم يتمكَّنوا من تقديم تعريف متَّحد وواضح لا خلاف بينهم في تفسيره. ومع هذه الوضعيّة نرى أنّ المتعلِّمين في العلوم العقليّة نقلوا هذا التعريف الذي لم يتمكَّنوا من حلّه إلى علم الأصول، وأوقعوا الباحثين فيه في المشاكل التي لم يستطيعوا حلَّها في العلوم التصوّريّة.

وأمّا تعريف موضوع علم الأصول فهو من أبسط الأشياء، وإني لم أوضِّحه بأكثر من هذا؛ لكي لا ينتهزه المنكر المتعسِّف القليل الإنصاف، والمنحرف عن جادّة الصواب. فعرَّفوا موضوع العلم وقالوا: إنّ موضوع العلم هو الذي يبحث عن عوارضه الذاتيّة، أي بلا واسطة في العروض.

ولابدّ لنا هنا من الإشارة إلى أنّ أرباب الأصول وفنّ المعقول في هذا المقام احتاروا وارتبكوا وعجزوا عن تفسير هذه العبارة، وذهبوا يميناً وشمالاً، مع أنّهم يُعَدّون من أساطين هذه العلوم، ومهرة هذه الفنون، فكيف بالضعفاء وقليلي البضاعة؟!. ولم أجد أحداً من الكبار الذين يدّعون الفهم في الفلسفة والمنطق فسّر هذا الاصطلاح بشكل مقبول ومتوازن يتَّفق معه الآخرون من أهل الفهم في هذين العلمَيْن. وهذا يدلّ على ضرورة غربلة الفلسفة وتصفيتها واستفراغها عن كثير من الفضولات التي ليس لها وزن علميّ، وإخراج أبحاثها ممّا هو موجب للتغرير. فما هو السبب في الوقوف على هذه الجملة المبهمة، والذهاب يميناً وشمالاً لحلّها، والمحاولة لتفسيرها بالشكل المطلوب مهما كلَّف الثمن؟! وهل هذه الجملة تكون نصّاً شرعيّاً يجب التقيُّد بها واتّباعها والتعبُّد بها بأيّ شكل من الأشكال؟! فالمحاولات الحثيثة لتعريف موضوع العلم أو مصطلحات العلوم التصوُّريّة وأبحاثها في علم الأصول، والإصرار على تصحيحها وتنقيحها اللازم، الذي لم يتمكّن منه نفس الفلاسفة والمنطقيّون، وإخراجها من الإبهام الذي عاشته طوال القرون، لا ارتباط له بالأصوليّ، ولا ببحثه، حتّى يتحمَّل مسؤوليّة الإبهامات والاختلافات والإشكالات فيها. وما كان مستحسناً الخلط بينها وبين مسائل الأصول، فكلّما ملأنا أوقات المشتغلين وفرصهم بالزوائد والشواذّ نكون قد حرمناهم من الاشتغال بالمسائل الأَوْلى والمسائل الأصليّة والعلوم الإلهيّة المرتبطة بالكتاب والسنّة، كعلم التأويل والتنزيل، وأبحاث التفسير والقراءة، وجمع القرآن، والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والمجمل والمبيّن، ومعارف النبيّ وآله من أسرار الوحي والدين المختلفة، والعقائد، والأخلاقيّات، والسلوكيّات، وتاريخ المعصومين ومقاماتهم وفضائلهم، والحقائق الأخرى المرتبطة بالشريعة.

وهذه جملة من كلمات أهل الفنّ في تفسير هذه الجملة، لتقف على واقع الأمر فيها.

 

اضطراب الفلاسفة في تفسير العرض الذاتيّ

هذا صدر الدين الشيرازي&، وهو صدر الفلاسفة وزعيمهم، ينسب الحيرة والاضطراب والضعف والتوهُّم إلى كبار الفلاسفة في تفسير معنى العرض الذاتيّ، ويقول: واقضِ العجب من قومٍ اضطرب كلامهم في تفسير الأمور العامّة التي يبحث عنها في إحدى الفلسفتين الإلهيّتين، بل تحيَّروا في موضوعات العلوم([18]).

وأنتَ إذا تذكَّرت أنّ أقسام الحكمة الإلهيّة ما يبحث فيها عن العوارض الذاتيّة للموجود المطلق بما هو موجود مطلق، أي العوارض التي لا يتوقّف عروضها للموجود على أن يصير تعليميّاً أو طبيعيّاً، لاستغنيت عن هذه التكلُّفات وأشباهها؛ إذ بملاحظة هذه الحيثيّة في الأمر العامّ، مع تقييده بكونه من النعوت الكلّيّة، لا يخرج البحث عن الذوات، ويتمّ التعريف سالماً عن الخلل والفساد. ومثل هذا التحيُّر والاضطراب وقع لهم في موضوعات سائر العلوم.

بيان ذلك: إنّ موضوع كلّ علم ـ كما تقرَّر ـ ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة. وقد فسَّروا العرض الذاتيّ بالخارج المحمول الذي يلحق الشيء لذاته، أو لأمر يساويه، فأشكل الأمر عليهم، لمّا رأَوْا أنّه قد يبحث فيه عن الأحوال المختصّة ببعض أنواع موضوعه، فاضطروا تارةً إلى إسناد المسامحة إلى رؤساء العلم في أقوالهم بأنّ المراد من العرض الذاتيّ الموضوع في كلامهم هو أعمّ من أن يكون عرضاً ذاتيّاً له أو لنوعه، أو عرضاً عامّاً لنوعه بشرط عدم تجاوزه في العموم عن أصل موضوع العلم، أو عرضاً ذاتيّاً لنوع من العرض الذاتيّ لأصل الموضوع، أو عرضاً عامّاً له بالشرط المذكور، وتارةً إلى الفرق بين محمول العلم ومحمول المسألة، كما فرّقوا بين موضوعيهما بأنّ محمول العلم ما ينحلّ إليه محمولات المسائل على طريق الترديد، إلى غير ذلك من الهوسات التي ينبو عنها الطبع السليم. ولم يتفطّنوا بأنّ ما يختص بنوعٍ من أنواع الموضوع ربما يعرض لذات الموضوع بما هو هو، وأخصّيّة الشيء من شيء لا ينافي عروضه لذلك الشيء من حيث هو هو، وذلك كالفصول المنوِّعة للأجناس، فإنّ الفصل المقسّم عارض لذات الجنس من حيث ذاته، مع أنّه أخصّ منها، والعوارض الذاتيّة أو الغريبة للأنواع قد تكون أعراضاً أوّليّة ذاتيّة للجنس، وقد لا تكون كذلك، وإنْ كانت ممّا يقع به القسمة المستوفاة الأوّليّة. فاستيعاب القسمة الأوّليّة قد يكون بغير أعراض أوّليّة، وقد تتحقَّق أعراض أوّليّة ولا تقع بها القسمة المستوعبة.

نعم، كلّ ما يلحق الشيء لأمر أخصّ، وكان ذلك الشيء مفتقراً في لحوقه له إلى أن يصير نوعاً متهيّئاً لقبوله، ليس عرضاً ذاتيّاً، بل عرضٌ غريب على ما هو مصرَّح به في كتب الشيخ وغيره.

كما أنّ ما يلحق الموجود بعد أن يصير تعليميّاً أو طبيعيّاً ليس البحث عنه من العلم الإلهيّ في شيء.

وما أظهر لك أن تتفطَّن إلى أنّ لحوق الفصول لطبيعة الجنس، كالاستقامة والانحناء للخطّ مثلاً، ليس بعد أن يصير نوعاً متخصِّص الاستعداد، بل التخصُّص إنّما يحصل بها لا قبلها، فهي مع كونها أخصّ من طبيعة الجنس أعراض أوّليّة له. ومن عدم التفطُّن بما ذكرناه استصعب عليهم الأمر، حتّى حكموا بوقوع التدافع في كلام الشيخ وغيره من الراسخين في الحكمة، حيث صرَّحوا بأنّ اللاحق لشيء لأمر أخصّ، إذا كان ذلك الشيء محتاجاً في لحوقه له إلى أن يصير نوعاً، ليس عرضاً ذاتيّاً، بل عرضاً غريباً، مع أنّهم مثَّلوا العرض الذاتيّ الشامل على سبيل التقابل بالاستقامة والانحناء المنوِّعين للخط، ولست أدري أيّ تناقض في ذلك، سوى أنّهم لمّا توهَّموا أنّ الأخصّ من الشيء لا يكون عرضاً أوّليّاً له حكموا بأنّ مثل الاستقامة والاستدارة لا يكون عرضاً أوّليّاً للخطّ، بل العرض الأوّليّ له هو المفهوم المردّد بينهما([19]).

وقد فسَّر العوارض الذاتيّة بما يعرض لذات الشيء من دون واسطة، مثل: العرضيّات التي تعرض على ذات الإنسان بما هو حيوان ناطق؛ أو مع الواسطة لجزء ذاته التي تعرض للفصل بما هو ناطق، أو الخارج عن الذات المساوي له، مثل: الأعراض التي تعرض على العرض المختصّ بالإنسان المساوي له، كالضاحك، فحكموا عليها بأنّها في حكم عدم الواسطة، دون العوارض التي تعرض لذاتيّات الشيء مع الواسطة الأعمّ أو الأخصّ.

وفسّر صاحب الهداية العرض الذاتيّ فقال: ما يكون عارضاً للشيء لنفس ذاته من غير واسطة في العروض، أو لأمر مساوٍ للذات، سواء كان داخلاً في الذات أو خارجاً، كما نصّ عليه جماعةٌ من محقِّقي المتأخِّرين([20]).

وكذلك ذكر الشيخ في منطق الإشارات أنّ المقصود من العرض الذاتيّ الذي يكون موضوع العلم هو ذاتيّ باب البرهان([21]).

وقال الشوكاني: المراد بالعرض هنا المحمول على الشيء الخارج عنه، وإنّما يقال له: العرض الذاتيّ؛ لأنّه يلحق الشيء لذاته، كالإدراك للإنسان، أو بواسطة أمرٍ يساويه، كالضحك للإنسان بواسطة تعجُّبه، أو بواسطة أمر أعمّ منه داخل فيه، كالتحرّك للإنسان بواسطة كونه حيواناً([22]).

وفسّر بعضٌ آخر العرض الذاتيّ فقال: هو الذي يعرض على موضوعه بدون واسطة في العروض، سواء كان العارض أعمّاً أو أخصّاً أو مساوياً([23]).

فالأعراض الذاتيّة في الموارد التي لم تكن بديهيّة في عروضها للموضوع تحتاج إلى واسطة، وإنّ وساطة تلك الواسطة ليست في الثبوت والعروض، وإنّما وساطة في الإثبات. فالأعراض الذاتيّة التي هي بحاجة إلى واسطة في الإثبات إذا كانت الواسطة واضحة تعتبر من الفطريّات، وإنّ قياساتها معها، مثل: زوجيّة الأربعة؛ لأنّ واسطة إثبات الزوجيّة للأربعة هو انقسام الأربعة إلى أمرَيْن متساويين، حيث يمكن تشكيل القياس المنطقيّ التالي منه، فيقال: إنّ عدد الأربعة ينقسم إلى أمرين متساويين، فكلّ عدد انقسم إلى أمرين متساويين فهو زوجٌ، فينتج من هاتين المقدّمتين والقضيّتين: إنّ الأربعة زوجٌ([24]).

وأتى اصطلاح العارض في فنّ المنطق مغايراً لما هو في علم الطبيعيّات لدى القدماء، واختلطت معانيها على العلماء وتشابهت. فالعارض للموضوع في العلم الطبيعيّ هو المقسَّم إلى النوع والجنس والفصل، ويسمّى في المنطق بالذاتيّات، حيث قسّمه الطبيعيّون إلى المقولات العشر، تسعة منها من العرضيّات في العلم الطبيعيّ، وواحد في مقابلها، فيسمّى بالجوهر([25]).

والمراد من العارض في تعريف موضوع العلم بخلافه، وهو العارض المنطقيّ، كما صرّح به شارح المطالع وغيره([26]).

وهو ما اصطلح عليه المنطقيّون في كتاب إيساغوجي، أي باب الكليّات الخمس، وقسَّموه إلى الخاصّة والعرض العامّ، وهو الخارج المحمول، أي الكلّيّ الخارج عن الشيء مفهوماً المتَّحد معه وجوداً، وهو الكلّيّ الصادق على الشيء لا في مرتبة ذاته، بل يكون خارجاً عنه ومحمولاً عليه باعتبار اتّحاده معه في الخارج، مثل: عنوان الماشي للإنسان، الذي هو مقابل للذاتيّ [لا العارض في العلم الطبيعيّ الذي هو من الذاتيّات في المنطق].

فالمراد من الذاتيّ في هذا التعريف هو المحمول الذي تتقوَّم ذات الموضوع به، غير الخارج عنها، كالحيوان أو الناطق المحمولان على الإنسان. والمراد من العرض هو المحمول الخارجيّ عن ذات الموضوع، لاحقاً به بعد تقوُّمه بجميع ذاتيّاته، كالضاحك اللاحق للإنسان، والماشي اللاحق للحيوان([27]).

وبعبارة أخرى: العرض في اصطلاحهم عبارة عن كلّ مفهوم متغاير مع مفهوم آخر، متَّحد معه في الوجود الخارجيّ، بحيث يصلح باعتبار ذاك الاتّحاد حمله عليه، لا العرض المصطلح عند الطبيعيّ، الذي يكون عبارة عن الذاتيّ في باب الكلّيّات، وهو ما لا يوجد إلاّ في الموضوع، في مقابل الجوهر الذي يوجد غير محتاج إلى موضوع في مرتبة الوجود أصلاً.

والدليل على ما ادّعيناه من الظهور هو أنّ عادة المنطقيّين كانت مستقرّة على تعريف موضوع العلم في فنّ المنطق بما عرَّفناه. وبعيدٌ جدّاً خروجهم عن المصطلح عندهم، فيحمل كلامهم على مصطلحهم، ما لم تكن قرينةٌ على الخلاف.

والظاهر أنّ المراد من الذاتيّة في المقام هو أنّ الموضوع بنفسه مستحقّ لحمل العرض الفلانيّ عليه، من غير احتياج إلى حيثيّة تقييديّة أخرى، غير نفس حيثيّة الموضوع، وإنْ كان محتاجاً إلى حيثيّة تعليليّة.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ موضوع كلّ علم عبارة عمّا يكون أهل الفنّ في صدد بيانه، من الجهات المنظورة في الفنّ والحيثيّة المقصودة. مثلاً: أهل فنّ النحو إنّما يكونون في صدد بيان حيثيّة الإعراب والبناء من الكلمة والكلام، فتكون تلك الحيثيّة موضوعاً لعلم النحو. وأهل فنّ الأصول إنّما يكونون في صدد بيان الحجّة، وأنّه ماذا يكون حجّة في الفقه، فيكون موضوع الأصول مفهوم الحجّة في الفقه، فتكون مصاديقها، مثل: حجّيّة خبر الواحد أو حجّيّة ظاهر الكتاب مثلاً، محمولة عليها، وإنْ كان المحمول في المسائل موضوعاً، والموضوع محمولاً، فإنّه لا ضير في ذلك. ومقصود القوم من جعل الأدلّة موضوعاً لهذا الفنّ هو حيثيّة حجّيّتها، فينطبق على ما ذكرناه من موضوع الفنّ. فلا مجال لما أورده عليهم بعض الأجلّة([28]) من خروج جلّ المسائل الأصوليّة، كالأصول العمليّة؛ لعدم دليليّتها، فإنّ الحجّة عبارة عمّا يكون شاملاً لمثل الأصل العمليّ، فإنّها عبارة عمّا يكون عذراً للمكلَّف، وهو موجود في الأصل العمليّ، كما تكون في بعض المقامات منجّزةً للتكليف.

وعلى ما ذكرناه من التحقيق فنحن في فسحة عمّا تكلَّفه المصنِّف، من جعل موضوع علم الأصول هو الكلّيّ المنطبِق على موضوعات مسائله، وإنْ لم يكن معنوناً بعنوان خاصّ، ومسمّىً باسم مخصوص، فيصحّ أن يعبَّر عنه بكلّ ما دلّ عليه، مثل: مفهوم أحدها؛ فراراً عمّا يكون عنده محكماً من الإشكال الوارد على جعل موضوع العلم عبارة عن الأدلّة.

ومن جعل تمايز العلوم بتمايز الأغراض، لا الموضوعات أو المحمولات، خلافاً لطريقة القوم، وما هو الحقّ من كون تمايز العلوم بتمايز الموضوعات؛ فراراً عمّا يَرِد عليه من الإشكال على جعل الموضوع مفهوم أحدها، فإنّ هذا المفهوم موجود في سائر العلوم، فلا يمتاز ذاك العلم عن سائر العلوم بالموضوع الكذائيّ.

وبالجملة إنّ موضوع كلّ علم عبارة عمّا يكون أهل الفنّ في صدد بيانه. والبحث عن عوارضه على ما بيَّناه آنفاً هو تعيين مصاديقه، وبيان محمولاته الطارئة على نفس ذاته من غير واسطة حيثيّة أخرى. مثلاً: موضوع علم الأصول عبارة عن عنوان «الحجّة في الفقه»، والبحث عن عوارضه هو البحث في نفس مصاديقها. ألا ترى أنّ الأصوليّ يبحث في أنّ ظاهر الكتاب مثلاً حجّة أم لا؟

وبهذا التقرير تندفع جميع الإشكالات، سوى خروج أبواب الألفاظ عن ذلك. ولا ضير؛ لأنّها من المبادئ اللغويّة والحُكميّة، وذلك من غير إتعاب النفس والوقوع في التكلُّف، كما أوقع المصنِّف& نفسه في ذلك([29]).

وقال الأستاذ الشهيد مطهَّري& حول تعريف موضوع العلم: لم يحدِّد الشيخ ابن سينا في ما تعرَّضنا لأبحاثه موضوع علم الفلسفة، والذي يعبَّر عنه بالعلم الإلهيّ، باستثناء ما أشار إليه إشارة عابرة في مبحث البرهان من المنطق([30]).

وقال أيضاً: وأمّا سبب أنّه لا يمكن أن يبحث عن مبحث واجب الوجود في ضمن العلوم الجزئيّة التي يبحث فيها عن جنس أو نوع خاصّ من الموجودات فهو أنّ ذات واجب الوجود مبدأ لجميع الموجودات والمعلولات، ومن ضمنها موضوع ذلك العلم. لذا لا يمكن البحث عن واجب الوجود في ضمن علم جزئيّ بعنوان أنّه أحد المسائل التي تبحث في ذلك العلم عن أحد عوارضه الذاتيّة.

وأمّا سبب عدم إمكان أن يكون البحث عن واجب الوجود موضوعاً لعلم خاصّ جزئيّ، بمعنى أن نجعل علم معرفة الله علماً مستقلاًّ، ونجعل ذات الباري الموضوع الفرضيّ لذلك العلم، فإنّما هو لأجل أنّ ذاته تعالى تستوجب كلّ موجود، ولا يوجد موضوع لا نسبة له معه. كما أنّ ذات الواجب لا يمكن أن يصير موضوعاً لمطلق العلم، وكلّي العلم؛ لأنّه ليس بعامّ وكلّيّ. وعليه فإنّ العلم به يكون جزءاً من العلم بالمسائل الكلّيّة([31]).

فمبحث واجب الوجود يجب أن يبحث في علم يكون موضوعه أعمّ الموضوعات، ولا يمكن أن يبحث في علم موضوعه جزئيّ.

فالبحث عن واجب الوجود في الفلسفة هو مسألة علم الفلسفة، وفي التصوّف والعرفان هو موضوع العلم؛ لأنّ العرفان يبحث عن الوجود بشكلٍ مطلق، وهو وحدة الوجود عنده، وهو أساس العرفان، وموضوع علمه هو الوجود المطلق لمقام الجلالة، ولا يرى حاجة إلى إثباته، بل يبحث عن آثاره. ولكنّ الفلسفة ترى ضرورة إثباته؛ لأنّه يعتبر من مسائل الفلسفة، فهي تبحث عن الوجود والموجود، وتقسّمها إلى: الواجب، والممكن؛ والعلّة، والمعلول؛ والواحد، والكثير؛ والحادث، والقديم؛ والنفسيّ، والرابطيّ.

وقالوا: إن موضوع كلّ علم لم يثبت في ذلك العلم، بل في علم آخر([32]).

وأمّا موضوع العلم الطبيعيّ فهو الجسم من حيث إنّه جسم، لا من حيث إنّه موجود أو جوهر([33]).

وأمّا موضوع المنطق فهي المعقولات الثانية، التي تعتمد على المعقولات الأوّليّة([34])، والتي لا تعتمد على شيء آخر.

 

أقسام الذاتيّات التي تحمل على الموضوع

الأوّل: الذاتيّ المستعمل في المنطق في باب الكلّيّات الخمس (إيساغوجي)، وهو الجنس والفصل. وهو عرضيّ في العلم الطبيعيّ، حيث قسمّها الطبيعيّون إلى المقولات العشر…

الثاني: الذاتيّ المستعمل في باب البرهان ـ وهو عرضيّ طبق باب الكلّيّات الخمس ـ، وهو المحمول العرضيّ الخارج عن ذات الموضوع، والمنتزع عنه، حيث يكون من لوازمه وتتَّصف الذات به، ولا يكون له محلّ إلاّ الذهن، فيمكن انتزاعه من صميم الذات، وحمله عليه، من غير لزوم تصوُّر واسطة غير حاقّ الذات في العروض، والثبوت له، فيكون لزومه بيّناً، ويسمّى هذا القسم من الذاتيّ بالعرض الذاتيّ. والأعراض الذاتيّة هي أوصافه الذاتيّة. فموضوع العلم هو الذي يبحث عن أوصافه الذاتيّة.

مثل: قولنا: النار حارّة؛ أو الإنسان ممكنٌ؛ أو الأربعة زوج؛ أو المثلث له زوايا، وكذلك بقيّة الأوصاف الهندسيّة والحسابيّة، التي يمكن انتزاعها من صميم الأشكال الهندسيّة والمقادير. والفرق بين الذاتيّ في باب البرهان والذاتيّ في باب الكلّيّات الخمس هو أنّ ذاتيّ باب البرهان منتزَع عن الذاتيّ، ومعلول له، فرتبته متأخِّرة عن الذات، أمّا ذاتيّ باب الكلّيّات فهو علّة لماهيّة الذات، ومقوِّمة له، فرتبته متقدِّمة على الذات.

فالذاتيّ في باب البرهان هو العرضيّ في باب الكلّيّات الخمس، أي من المقولات التسع العرضيّة، وهو على قسمين: فإمّا أن يكون من لوازم الموضوع غير منفكّ عنه، فهو عرض لازم للماهيّة؛ أو منفكّ عنه، فيقال له: العرض المفارق.

وحمل الأعراض على الموضوعات على أقسام:

1ـ حملها من دون واسطة للحمل، والعرض على الموضوع ـ والذي يقال لها: واسطة العروض أو الثبوت ـ مباشرة، فيقال لمثل هذه العرضيّات: اللازم الأوّل أو الأوّليّ، مثل: حمل الإمكان والوجود على الإنسان، والزوجيّة على الأربعة وسائر أعداد الزوج، وحمل قبول الانقسام للمقادير.

2ـ حملها على الموضوع مع الواسطة الداخليّة المساوية لها، مثل: حمل التعجُّب على الإنسان بواسطة الناطق، أو مع الواسطة الخارجيّة المساوية، كحمل الضاحك على الإنسان بواسطة التعجُّب، وهو خارج عن حقيقة الإنسان، فيقال لهذين القسمَيْن من العرضيّ: العرض الذاتيّ أو الأعراض الذاتيّة.

3ـ حملها على الموضوع مع الواسطة المباينة، أو الواسطة الخارجيّة الأعمّ، أو الخارجيّة الأخصّ من الموضوع، فيقال لهذه الأقسام من العرضيّ: العرض الغريب، وهو في مقابل العرض الذاتيّ.

ومثال الواسطة الخارجيّة المباينة: حمل الحركة على الإنسان بواسطة السفينة، أو عروض الحرارة للماء بواسطة النار.

ومثال الواسطة الخارجيّة الأعمّ: حمل عوارض الجنس على الفصل، كحمل التحيُّز على الناطق.

ومثال العارض الخارجيّ الأخصّ: حمل عوارض الفصل على الجنس، على عكس الأعمّ، كحمل إدراك الكلّيّات على الحيوان.

واختلف في العرض مع الواسطة الداخليّة الأعمّ مثل: حمل عوارض الحيوان على الإنسان بواسطة الجزء الأعمّ الذي يكون هو الحيوان، كحمل الماشي على الإنسان، أنّه من العرض الذاتيّ أو من العرض الغريب؟ والأوّل لا يخلو من قوّة.

والواسطة في العروض إمّا واسطة في الثبوت أو واسطة في الإثبات. فإذا كان العرضيّ لا يحتاج إلى واسطة في الإثبات كان لازماً بيِّناً، يعني ثبوت المحمول للموضوع يكون بديهيّاً وواضحاً لا يحتاج إلى برهان وحدّ وسط وحجّة، وبمجرّد تصوّر الموضوع والمحمول نجزم بالملازمة بينهما. وهو من قسم البيِّن الأعمّ، مثل: حمل التغيُّر على العالم، فحمله عليه يكون من خلال انتزاعه وفهمه من مفهوم العالم الذي هو الموضوع، من دون حاجةٍ إلى واسطة أخرى، فهو مقتضى ذات العالم. وأمّا اللازم البيِّن الأخصّ فهو يحصل من مجرَّد تصوُّر الموضوع، فيمكن حينئذ تصوُّر المحمول.

وأمّا اللازم غير البيِّن فظهورها بحاجة إلى تصوُّر الموضوع والمحمول وواسطة الثبوت والعروض، اللتين هما هنا بمعنىً واحد، وتارةً يحصل العلم بثبوت المحمول للموضوع بواسطة الممارسة والأنس والحدس والتخمين وأمثالها، فيكون ظهورها بلا حاجة إلى تأمُّل ودليل. ففي هذه الحالة لا يقال لها: اللازم البيِّن.

 

تقسيم آخر للعرضيّ

الأوّل: المحمول العرضيّ الخارج عن ذات الموضوع، والمنتزَع من صميم الموضوع وذاته، كحمل الموجود والإمكان للشيء، والزوجية للأربعة، والفردية للثلاثة. كقولنا: الإنسان موجود، وممكن، والأربعة زوج. فيكفي ذات الموضوع في انتزاعه وحمله عليه، من دون حاجةٍ إلى واسطة أخرى في العروض. وهذا القسم يُسمّى أيضاً بالذاتيّ في باب البرهان؛ لأنّه يُنتزَع عن ذات الموضوع، ويحمل عليه، لا ذاتيّ باب الكلّيّات، ويُسمّى العرض الذاتيّ.

الثاني: المحمول العرضيّ الخارج عن ذات الموضوع، فلا ربط له بذاتيّات الموضوع من الجنس والفصل، ويقال له: المحمول بالضميمة، كالأبيض والأسود في الأجسام، والعالم والفهيم للأشخاص. فالظاهر أنّ هذا هو العرضيّ مع الواسطة، والذي يسمّى بالعرض الغريب أيضاً.

ولا يخفى أنّ الحمل هو بمعنى الاتّحاد بين الشيئين في المفهوم أو الوجود في الحمل الذاتيّ، كقولنا: الإنسان حيوانٌ ناطق، أو الإنسان حيوان، أي من حيث وجودات أفراده، وأمّا حمل العرض على الذات فغير ممكن بأن نقول: الإنسان بياض، بل يجب تقدير كلمة ذو فيه، أو كلمة ذات، ونصفه بالعرضيّ، ثم نحمله على الذات، فنقول: الإنسان ذو بياض، أو أبيض، أي ذات له البياض. فتحصَّل أنّه لا يمكن حمل العرض على الذات، بل العرضيّ يحمل على الذات.

ويشير السبزواريّ& في منظومته إلى المطالب التي أشرنا إليها، ويقول:

 

ذاتيّ شيء لم يكن معلَّلاً

وكان ما يسبقه تعقُّلاً

وكان أيضاً بيِّن الثبوت له

وعرضيّه أعرفنّ مقابله

كذلك الذاتيّ بذا المكان

ليس هو الذاتيّ في البرهان

من لاحقٍ لشيء من حيث هي

بلا توسُّطٍ لغير ذاته

فمثل الإمكان هو ذاتيّ

لا الذاتيّ الإيساغوجي بل ثاني

وقال المنطقيّون: إنّ موضوع كلّ علم هو نفس موضوعات مسائله، وإنْ كان يغايرها مفهوماً، تغاير الكلّيّ ومصاديقه، والطبيعيّ وأفراده.

والمسائل هي المطالب التي يستدّل عليها فيها، وهي عبارة عن جملة من قضايا متشتَّتة، جمعها اشتراكها في الدخل في الغرض الذي لأجله دُوِّن هذا العلم، ولذا قد يتداخل بعض المسائل في عدّة من العلوم؛ لإمكان استعمالها لأغراضها.

وذكر أنّ تمايز العلوم إنّما هو باختلاف الأغراض الداعية إلى التدوين، لا اختلاف الموضوعات، ولا المحمولات، وإلاّ كان كلّ مسألة وباب من كلّ علم علماً على حدة؛ لاختلاف الموضوع والمحمول فيها، كما لا تكون وحدتهما سبباً للوحدة.

ورؤوس العلم التي يبحث عنها في كلّ علم عند المنطقيّ هي ثلاثة: موضوعه، مسائله، مبادئه.

وأمّا مهمّة علم الأصول فهي القيام بإثبات أو عدم إثبات محمول المسائل لموضوعاتها، مثل: قاعدة ظهور الأمر في الوجوب، فالبحث عن إثبات هذه المسألة هو من شأن علم الأصول. فإنّ حقيقة كلّ علم في الواقع هو حقيقة مسائله، وهي غير خارجة عنها. فالمسائل هي المحمولات المنسوبة إلى الموضوعات، كما قاله الدواني. فإنّ القاعدة الأصوليّة هي حقيقة غير بسيطة، بل مركبّة من الموضوع والمحمول. وأيّ شيء يبحث في علم الأصول هو جزء من مسائله، سواء كان من المسائل الأصليّة أو الفرعيّة. ومقصود العلم في الدرجة الأولى البحث عن المسائل الأصليّة.

والمبادئ جمع مبدأ، وهو مصدر ميميّ يصلح للدلالة على الزمان، والمكان، والحدث، ويسمّى بالمقدّمات، حيث يذكر قبل الشروع في المقصود من العلم؛ لتوقّف معرفته عليه.

وفي الاصطلاح هي مقدّمات يتوقَّف التصديق والاستدلال في مسائل الفنّ عليها؛ فإنْ كانت تصديقات كانت مبادئ تصديقيّة؛ وإنْ كانت تصوُّرات، من تصوّر حدود الموضوع والمحمول وأجزائهما وجزئيّاتهما وأعراضهما الذاتيّة، كانت مبادئ تصوّريّة.

وأشكل على عدّ المبادئ التصوّريّة والتصديقيّة من أجزاء العلوم؛ إذ يلزم حينئذٍ جعل كثير من مسائل سائر العلوم جزءاً من العلم الذي يتوقَّف عليها. ولذا خصّ بعضهم المبادئ بالتصديقيّة. ولكن يمكن الجواب عنه بأنّ هذه هي مبادئ عامّة، ولذا يمكن أن يشترك فيها عدّة من العلوم.

فالمبادئ التصديقيّة هي القضايا التي تتألَّف منها قياسات العلم، كحجّيّة الكتاب والسنّة، ودليليّتهما، والفهم العرفيّ والعقلائيّ واللغويّ، وتسمّى القضايا المتعارفة إنْ كانت بيِّنة، وإلاّ إنْ كان تسليمها مع مسامحة وحسن ظنّ بالمعلِّم فتسمّى أصولاً موضوعة، وإنْ كانت مع استنكارٍ وتشكيك تسمّى مصادرات.

وهناك معنى آخر للمبادئ ذكره ابن الحاجب، وهو بمعنى ما يبتدئ به قبل الشروع في المقصود، وهو بمعنى المقدّمة. وهذا هو المعنى اللغوي الذي تقدّم إيراده([35]).

 

كلام الملا عبد الله

قال: كلّ علم من العلوم المدوَّنة لابدّ فيه من أمور ثلاثة:

الأوّل: ما يبحث فيه عن خصائصه والآثار المطلوبة منه، أي يرجع جميع أبحاث العلم إليه، وهو الموضوع. وتلك الآثار هي الأعراض الذاتيّة.

الثاني: المسائل. وهي القضايا التي تكون نظريّة في الأغلب، وقد تكون بديهيّة محتاجة إلى تنبيه.

الثالث: ما يبنى عليه المسائل، ممّا يفيد تصوُّرات أطرافها ومفردات في اللغة، وهي المبادئ التصوّريّة، أو تصديق القضايا المأخوذة في إثباتها، وهي المبادئ التصديقيّة.

وها هنا إشكالٌ مشهور، وهو: إنّ مَنْ عدّ الموضوع من أجزاء العلوم إمّا أن يريد به نفس الموضوع، أو تعريفه، أو التصديق بوجوده، أو بموضوعيّته. والأوّل مندرج في موضوعات المسائل التي هي أجزاء المسائل، والثاني من المبادئ التصوّريّة، والثالث من المبادئ التصديقيّة، والرابع من مقدّمات الشروع ومبادئه، فلا يكون جزءاً على حدة.

والجواب عن الأوّل أن يُقال: إنّ نفس الموضوع وإنْ اندرج في المسائل، لكنْ لشدّة الاعتناء به، من حيث إنّ المقصود من العلم معرفة أحواله والبحث عنها، عدّ جزءاً على حدة.

أو يقال: إنّ المسائل ليست هي مجموع الموضوعات والمحمولات والنسب بانفراد كلّ منها، بل المحمولات المنسوبة إلى الموضوعات، كما نقل عن الدواني في حاشية المطالع.

وفيه نظر؛ لأنّه لا يلائمه قول المنطقيّين: إنّ المسائل هي قضايا تطلب في العلم، وموضوعاتها إمّا موضوع العلم أو نوع منه، ومحمولاتها لها كذا من صفات.

وأمّا عن الثاني فيقال: إنّ تعريف الموضوع وإنْ كان مندرجاً في المبادئ التصوّريّة، لكنْ عدّه جزءاً على حدة لمزيد الاعتناء به، كما سبق.

وأمّا عن الثالث فيقال بمثل ما مرّ. أو يقال: إنّ عدّ التصديق بوجود الموضوع من المبادئ التصديقيّة ـ كما نقل عن الشيخ ـ تسامحٌ؛ فإنّ المبادئ التصديقيّة هي القضايا التي تتألَّف منها قياسات العلم، كما نصّ على ذلك العلاّمة في شرح الكلّيّات، وأيَّده بكلام الشيخ أيضاً.

وأمّا عن الرابع فيُقال: إنّ التصديق بالموضوعيّة لمّا توقَّف عليه الشروع على بصيرة، وكان له مزيد مدخليّة في معرفة مباحث العلم وتميُّزها عمّا ليس منه، عُدّ جزءاً من العلم مسامحة. وهذا أبعد المحتملات([36]).

 

تعليق على استعمال مصطلحات العلوم التصوُّريّة في علم الأصول

إنّ مصطلحات أبحاث العلوم التصوُّريّة والعقليّة ليست أموراً توقيفيّة تعبُّديّة يجب التقيُّد بها والإصرار والتفاني من أجل تبيين ما أبهم أو اختلط من معانيها، بل هي من صنيعة البشر، سواء قلنا بأنّه صنعها بشكلٍ صحيح أو قلنا بأنه صنعها بشكل غير صحيح. فيجب عدم استعمال المصطلحات الغامضة، وعدم التوقُّف والجدال من أجل الوصول إلى معانيها، والتنازع في أنّ معانيها الأصليّة عند واضعيها وأهل صناعتها ما هي؛ لأنّها ليست أموراً مقدَّسة نزلت بالوحي، فيجب التعبُّد بها والتنازع والتهالك من أجلها.

ومع الأسف فإنّ الأشخاص الذين كانوا يعتبرون عند عوامّ عصرهم وخواصّهم من كبار الفلاسفة؛ لاشتغالهم بتدريس متونها العليا، نراهم عاجزين بشكلٍ فظيع عن فهم مبهماتها وحلّ مشكلاتها. وأبحاثهم لحلّها هي مجموعة من المسائل الغامضة والمبهمة، بل هي مجموعة من الأغلاط والاشتباهات. فسيطرة أساليب الجهل على العلوم، واستعمال المصطلحات الغامضة والمبهمة في الفنون، ربطت بحبالها نفوساً كثيرة، وحرمتها من التفرُّغ لمهمّات الدين والدنيا، وسلبت عنهم الروح والراحة والسكينة في حياتهم، إلى أن استقرّت أبدانهم في اللحود، وذهبت أرواحهم إلى الملكوت.

ولم يكن من الجيِّد ما فعله البعض من تقييد الأبحاث الأصوليّة بالمتشابهات من المصطلحات، وجعل علم الأصول عرضةً لاصطلاحات مجعولة ومصطنعة مختصّة ببعض العلوم. وكان من الأفضل لهم التكلُّم باللغة العرفيّة، التي هي مورد تفاهم العقلاء، لا بالاصطلاحات الغريبة والمتشابهة التي يلتبس أمر فهمها ودركها حتّى على الأذكياء من أصحاب تلك المصطلحات، وتوقع المراجعين والمزاولين لتلك الأبحاث في الإحراجات. وكان يجب على مدرِّسي علم الأصول ومؤلِّفيه أن يحترزوا عن اختلاطها بالمصطلحات الغريبة للعلوم الأخرى، كالمنطق والفلسفة، والتي كانت مبهمة في تلك العلوم أيضاً، ولدى أصحابها، حيث وقع الكلام والخلاف حولها عند أصحاب تلك العلوم، واحتاروا في تفسيرها ومعناها، فكيف بالآخرين. ولكن لم يتحقَّق هذا الأمر، وجرى الأمر على خلافه. وكانت الطامّة الكبرى أنّ الكتب التي نهجت هذا السلوك الغريب لزعامة أصحابها أصبحت كتباً درسيّة مورد تداول واستعمال الطلاّب، فوقعت المشكلات العظام والمعضلات الجسام.

فمسائل العلوم التصوُّريّة التي لم تكن متسالمة لدى العقلاء لا يمكن قبولها إلاّ مع أدلّة مقبولة. ولذا لا يمكن الاعتماد على المسائل التي تطرح في هذه العلوم، والإصرار على تنقيحها ورفع إبهاماتها واختلافاتها، وذلك في علوم غير علومها. وليست هي وحياً منزَلاً حتى نتوقّف عن الفكر والبحث في تلك العلوم، ونبقى حيارى في نتائجها؛ لأجل عدم تنقيح هذه الأبحاث والاصطلاحات. فإنْ أمكن تبيينها بشكلٍ واضح بعيدٍ عن الشكّ بأقلّ جهدٍ فهو، وإلاّ فلا حاجة إلى سلوك مسالك العلوم التصوُّريّة المصطنعة من جانب الإنسان الضعيف المتعرِّض للأخطاء والزلاّت، والذي لا يستلزم كلّ ما يقوله علماً ولا عملاً، وترك المسالك البديهيّة العقليّة والطرق المعروفة الطبيعيّة المتسالَم عليها عند العقلاء التي وهبها الله لهم. فلا يجب في أبحاث العلوم التصوُّريّة والتخيُّليّة، كالمنطق التي لم تستند إلى متسالمات الشرع والعقلاء، الإصرار والتكلُّف، بل التهالك والتفاني، من أجل تحرير غموضاتها، وشبهاتها، واختلافاتها؛ فإنّها إذا كانت من الحقائق الناصعة فلا يمكن أن تخفيها السحاب، فتظهر من عند أنفسها، وإذا كانت من المكتومات التي كتمها الخالق سبحانه عن الإنسان فلا يمكن حلّها بهذه الجهود القاصرة والحقيرة، التي هي مستقلّة عن الخالق سبحانه وتعالى ووحيه وشريعته.

وقد وصل التقليد للعلوم التصوُّريّة عند المتأخِّرين إلى درجةٍ كبيرة، حتّى شوهد أنّ بعض الكتب والمدرِّسين والشخصيّات يستعمل اصطلاحاتها في كلامه وحواراته وكتاباته؛ ليحصل له التمرُّن. فمثلاً: يتكلَّم أو يكتب في كتابه طبقاً لأشكال القياس الأربعة، أو يقول: هذه القضية ممتنعة، أو هذا بالإمكان العامّ، أو هذان الأمران من قبيل المثلَيْن، أو من قبيل المتخالفَيْن، وغيرها، ويقصد معانيها التي ذكرت في العلوم التصوُّريّة، ويتصوَّر أنّه بهذا الأسلوب يمكن أن يصل إلى قمّة التفكُّر والتعقُّل والعلم.

والحقيقة أنّ دخول الاصطلاحات المنطقيّة والفلسفيّة في الأبحاث الأصوليّة أو العلوم الأخرى لم تخدمها، بل ولَّدت الخلط والالتباس في أبحاثها، وزادت في مشاكلها، ولم تُحدِث تطوُّراً وتحوُّلاً في العلوم، سواء دخلت في علم الكلام أو علم الأصول. وما كان المفروض أن تفعل شيئاً؛ لأنّها اصطلاحات وتقسيمات ومفاهيم في سبيل الاستدلال، لا غيره، وهي ما جاءت لتحلّ محلّ مسائل العلوم وقواعدها، بل لتيسير الاستدلال فيها. والسبب في مجيئها إفلاس بعض الباحثين وقلّة حصّتهم وحظّهم من ذلك العلم، بالإضافة إلى الدعايات البرّاقة للعلوم التصوُّريّة وأصحابها ودعاتها، وما ترفع هذه العلوم من شعارات.

ومع وجود هذه النواقص في البين ينبغي أن يصرف جماعة من ذوي البصائر والألباب، من الذين لهم استقلال في الفكر، وثبات في النفس، واعتدال في المشي، شطراً من أعمارهم لدراسة أبحاثها وشبهاتها على الكفاية، وبعيداً عن التقليد، ليتمكّنوا من إبطال بعض الادّعاءات الكبيرة والمبالغ فيها التي تدّعيها بعض هذه العلوم، والتي يمكن أن تكون محلّ افتتان بعض بسطاء النفوس، ومَنْ ليس له معرفة مسبقة، وفرغ ضميره من كلّ علم، ولسدّ الشبهات التي يمكن أن تحصل منها، التي يمكن أن تهدِّد الفكر والاعتقاد في المجتمعات الإسلاميّة.

وفي حدود القرن السادس الهجريّ ظهرت حالة علميّة لدى بعض المؤلِّفين وأصحاب الفكر، وهي حالة الإخفاء والإضمار للمعاني في الكتابة، وتعمية معاني الكلام، واستعمال أسلوب اللغز في الجمل والعبارات. وكان سبب ذلك عدّة أمور، مثل: إنّ الكاتب بما أنّه يعرض فكره ورأيه وبضاعته أمام المجتمع، وهو محلّ منافسة وتسابق بين الرقباء، وفيهم مَنْ لا يضمر له الخير، ويبطن الحسد، ولا يحبّ أنْ يرى لأحدٍ تقدُّماً وثقلاً في المجتمع، وأن يظهر بمظهر العلم والكمال، لذا كان الكاتب؛ لكي يسدّ على نفسه مداخل الإشكال، يبهم عبارات كلامه ويجملها؛ لكي لا يستطيع أحدٌ أن يعترض على مرامه بسهولة، ويستشكل على كلامه. وبهذا الشكل كان يغلق على نفسه باب اعتراض النفوس الضيِّقة، والتي لا تريد له الخير والصلاح، ويتَّخذ من أسلوب الإجمال والإبهام مانعاً وعائقاً وترساً لحفظ الكاتب من الأخطار؛ أو أنّه كان يحبّ أن لا يُستهان بعمله، فكان يتشبَّث بهذه الطريقة؛ لكي لا يتمكّن المراجع أن يفهم مطالبه بيسرٍ، وأن لا تُحتقَر مكانتها ووزنها، بل تتعاظم؛ أو كان يرى الكاتب أنّ معاني الكلام إذا كانت بين الوضوح والخفاء والظهور والإجمال كان ذلك أوقع في النفوس، وأحسن في الحفظ، ويقع بشكلٍ أفضل محلّ عناية واهتمام.

وهذه الموارد الصحيحة وأمثالها كانت من عوامل هذه الحركة. والكلام هو في ازدياد هذا الأسلوب وطغيانه، الذي كان عاملاً لهدر الطاقات والنفوس والأجيال، وتضييع أهل الفضل من الناشئين، وانعدام العلم، وإحياء الجهل والظلام في المجتمع. فهل يجدر لنا أن نستبدل العلم بمسائل صغيرة وتافهة إلى مسائل غريبة وغامضة للغاية، يقع من أجل حلّها عراك ونزاع لا نهاية له، ويستلزم حلّها ـ لو أمكن ـ صرف أوقات كثيرة، وهدر فرص جسيمة، بل لا يرجى لحلّها النور، وتترك على ما كانت عليه من الإبهام في ليلها المظلم الديجور.

فظهر أنّ من مشاكل العلوم التصوُّريّة لدى أصحابها هو التقيُّد والجمود على الاصطلاحات، التي هي في الواقع أمورٌ توافقيّة مرتبطة ببعض الأصناف والأزمان، بل الأشخاص، وهي تختلف معنا من صنف إلى صنف، ومن زمان إلى زمان، ومن شخص إلى شخص، فيتحيّر الباحثون، وربما يشتبهون في المقصود والغرض منه، ويصعب عليهم تحديد المقصود من بين المحتملات الكثيرة، والمعاني المتصوَّرة لها، فتتفاوت الكلمات وتتهافت، ويسخن النزاع والنقاش، وتكثر الآراء والكلمات، بحيث لا تعدّ ولا تحصى، كما في ما نحن فيه، من أنّ موضوع علم الأصول هو الذي يبحث عن أعراضه الذاتيّة.

ويمكن أن يعترض عليهم المعترض، ويقول لهم: أيّتها الجماعات المتنافرة، والفرق المتنازعة المتناحرة، أنتم ما زلتم متوقِّفين ومتحيِّرين وعاجزين في كيفيّة استعمال الكلام والألفاظ، فكيف تريدون الوصول إلى حلّ المعاني وفهم المرام؟! فينبغي لمَنْ لا يحسن التكلُّم واستعمال الألفاظ أن يتعلَّم ذلك أوّلاً، ثم لو قدر على ذلك وأثبت مهارته أن يتكلّم عن المعاني والأسرار.

إنّ اصطلاحات العلوم التصوُّريّة صارت كالأغلال والسلاسل، فقيَّدت أبحاث العلوم التصوُّريّة والعلوم التي استفادت من اصطلاحاتها، ومنعتها من التقدُّم والكمال، وكانت سبباً في تأخُّرها وعنائها، ومعاناة المراجعين لها. فكثيرٌ من الذين استعملوا هذه الاصطلاحات لم يفهموها حقّاً، ولم يقفوا حقيقةً على مفاهيمها التي شابها الغموض، فكان استعمالهم لها لتكرير النظر وإعمال الفكر فيها، أو لإحراج الآخرين وتعجيزهم، أو للتظاهر بمظهر العلم والقدرة والفهم، وإجبار المراجع على الاعتراف بالعظمة، ولتسويق بضاعتهم والازدياد في ثمنها، أو تماشياً مع الوضع.

ويتفاقم الوضع لو استعملت في جملةٍ أو تعريف عدّة مصطلحات أو عبارات ذات معانٍ متعدّدة ومختلفة، وذلك بشكلٍ موجز، ومن دون نصب قرينة موضّحة ومعيّنة للمقصود منها، حيث كان يتعمَّى المعنى، ويصير لغزاً وطلسماً، محلاًّ للاحتمالات المختلفة والمعاني المتفاوتة.

الهوامش:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) باحث في الفقه الإسلامي والحديث، له عدّة مصنّفات.

([1]) الذريعة 1: 2.

([2]) أي تلك الأمالي بعد ذلك، بواسطة قراءة التلاميذ عليه في مجالسه، فإنّه كان يعلِّق على تلك المطالب.

([3]) والظاهر أنّ بعض تلامذته الأذكياء وحضّار مجالس درسه، من أمثال: الشيخ الطوسيّ، عندما كان يملي عليهم السيّد المرتضى مطالبه في الأصول كانوا يسجِّلونها، ثمّ يتأمَّلون فيها، وبعد ذلك كانوا يحضرون عليه، ويقرؤون تعليقاتهم عليه، وهو يعلِّق على كلماتهم وتعليقاتهم على كلماته. وبهذا الشكل كانوا يضبطون المسائل العلميّة.

([4]) الذريعة 1: 4 ـ 5.

([5]) الذريعة 1: 7 ـ 8. وتعريف السيّد المرتضى هذا أضبط وأفضل وأكمل وأوزن من تعريف الشيخ الطوسيّ في العدّة، حيث يقول: أصول الفقه هي أدلّة الفقه، وإذا كان تكلّمنا في هذه الأدلّة فقد نتكلّم في ما تقتضيه من إيجاب وندب وغير ذلك.

([6]) العدّة 1: 7.

([7]) أكّد على بعض هذه المطالب أبو الحسين البصري في المعتمد 1: 5.

([8]) أنوار الأصول 1: 30 ـ 32.

([9]) القوانين: 5؛ غاية المسؤول: 2.

([10]) كفاية الأصول: 9.

([11]) فوائد الأصول 1: 29.

([12]) تهذيب الأصول 1: 6، أنوار الأصول 1: 32.

([13]) الكفاية: 94 ـ 95.

([14]) الكفاية: 243.

([15]) الكفاية: 463.

([16]) ولمزيد من الاطلاع على حكم الأعلام الجنسية راجع: شرح ابن عقيل: 1: 126؛ معجم النحو: 249؛ المبادئ العربية: 4: 101.

([17]) فيمكن للتحقيق في هذا الشأن مراجعة كتاب أرسطو، الذي عدّ مؤسّس علم المنطق، ولقّب بالمعلِّم الأوّل، وكتاب الفارابي: 340، الذي هذَّب ونقَّح المنطق، ولقّبوه بالمعلِّم الثاني.

([18]) الأسفار 1: 28.

([19]) الأسفار 1: 28 ـ 34.

([20]) هداية المسترشدين: 17 (الطبعة الحجريّة).

([21]) الدكتور عبدالمحسن مشكاة الديني، منطق نوين: 164؛ منطق الإشارات: 58.

([22]) إرشاد الفحول: 54.

([23]) دروس الشيخ جوادي الآملي للأسفار (الرحيق المختوم) 1: 209.

([24]) الرحيق المختوم 1: 216.

([25]) شرح المطالع: 18؛ شرح الشمسية (منشورات الرضي): 23؛ بيان الأصول 1: 12.

([26]) المصادر نفسها.

([27]) بيان الأصول 1: 12.

([28]) والظاهر أنّ المراد منه الشيخ محمد حسين بن محمد رحيم، وهو صاحب الفصول(ص 150).

([29]) الشيخ حجّتي، الحاشية على الكفاية (تقريراً لأبحاث السيد البروجرديّ): 4 ـ 7.

([30]) مجموعة آثار الأستاذ الشهيد مطهري (دروس الإشارات والنجاة والشفاء) 7: 238.

([31]) المصدر السابق 7: 239.

([32]) مجموعة آثار الأستاذ الشهيد مطهري (المقالات الفلسفية) 13: 210 ـ 211؛ 10: 393 (شرح منظومة السبزواريّ).

([33]) مجموعة آثار الأستاذ الشهيد مطهري (دروس الإشارات والنجاة) 7: 247.

([34]) المصدر السابق 7: 248.

([35]) اقتباس من هداية المسترشدين: 18 (الطبعة الحجريّة)؛ مختصر ابن الحاجب من شرح بيان المختصر للإصبهانيّ: 52 ـ 53.

([36]) اقتباس من حاشية الملاّ عبد الله: 209 ـ 212، مع الإصلاح والتهذيب. ومع ذلك ربما لا زال فيه بعض الإشكال.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً