أحدث المقالات

ينطبق الآن على حال الأوطان العربية والإسلامية وصف مرض "ازدواجية الشخصية". ففي معظم هذه البلدان تزداد على المستوى الفردي ظاهرة "التديّن" واهتمام الناس بالعبادات الدينية، لكن مع ابتعادٍ كبير لهذه المجتمعات عنمبادئ الدين وقيَمه وفروضه الاجتماعية.

إنّ المسلمين عموماً، والعرب خصوصاً، بحكم دور ثقافتهمولغتهم واحتضان أرضهم للمقدّسات الإسلامية، مدعوون إلى مراجعة هذا الانفصام الحاصلفي شخصية مجتمعاتهم، وإلى التساؤل عن مدى تطبيق الغايات النبيلة فيما هو منصوصٌعليه من قيم وواجبات دينية.
فأين الالتزام بقول الله تعالى: "ولقد كرَّمنا بني آدم" بغضِّ النّظر عن أصولهم وأعراقهم وألوانهم وطوائفهم؟ أين العدالة والمساواة والشورىوكرامة الإنسان في كثير من المجتمعات العربية والإسلامية؟ وأين الوحدة في هذهالمجتمعات، وأينَها بين بعضها البعض؟ أين التكافل الاجتماعي ومكافحة العوز والفقر؟وأين دور الاجتهاد والعلم والعلماء في مواجهة الجهل وعلامات الجاهلية المتجدّدة؟أين رفض التعصّب والتمييز العرقي والإثني والطائفي؟ أين المسلمون من جوهر إسلامهم،وأين العرب من كونهم "خيرَ أمّةٍ أُخرِجت للناس" بعدما حملت رسالةً تدعو إلىالإيمان بالله الواحد وبكتبه ورسله، لا تفرّق بينهم، وتؤكّد على وحدة الإنسانيةوعلى قيم العدل والمساواة بين البشر؟!
وهل ينسى المسلمون موقف عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) حيندعاه راعي كنيسة القيامة إلى الصلاة فيها، فرفض ذلك الخليفة عمر، حتى لا يأتي يوماًأحدٌ فيقول: هنا صلّى عمر، ويدعو إلى تحويل الكنيسة إلى مسجد. فقد جرت في المنطقةالعربية، على امتداد تاريخها العربي الإسلامي، المحافظة على الكنائس المسيحيةورعايتها. والإسلام، كما عرفه وعاشه العرب المسلمون والمسيحيون (بل واليهود أيضاً)،هو إسلام التسامح والتعايش الديني الذي حافظ على التعدّدية في المجتمع الواحد،خاصّة في ظلِّ القيادة العربية لحقب التاريخ الإسلامي.
إنّ الله عزّ وجلّ يقاضي الناس ويحاسبهم على أعمالهم بشكلفردي، فلا تُظلَم، بلا ذنب، جماعةٌ بأسرها، عائلةً كانت أم قبيلة أم طائفة أم أمّة،لأنّ أفراداً منها أساءوا. وهذه الحكمة الإلهية جليّة الوضوح في قوله تعالى: "ولاتزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أخرى"، إذ لا يجوز أن ينظر الناس إلى بعضهم البعض من مواقععائلية أو قبلية أو طائفية، فيتمّ إمّا تكريم أشخاص أو ظلمهم تبعاً لانتماءاتهم، لابسبب كفاءتهم أو أعمالهم.
بل أين المسلمون، في سلوكهم الفردي مع أنفسهم ومع محيطهمالعائلي والوطني، ممّا يقولونه في صلاتهم ويقرأونه في كتاب الله العزيز والسيرةالنبوية الشريفة من مفاهيم وقيم وضوابط السلوك في التعامل مع النفسوالآخر؟
وعسى أن يحمل حجّاج بيت الله الحرام هذا العام، في رحلةعودتهم سالمين بإذن الله، كثيراً من معاني الحج إلى أهلهم وقومهم. ففي تلك المعانيوحدها شفاء المجتمعات.. لا ببركة "ماء زمزم" فحسب!!
إنّ هناك معانٍ نبيلة عظيمة يمكن استخلاصها من مناسبةالحج، وما في هذا التجمّع السنوي البشري الضخم من مغزًى، يتجاوز طبيعته كركن عبادةمتوجّب على من استطاع من المسلمين إليه سبيلا. ففي الحجّ يلتقي، من بقاع الأرضقاطبةً، ملايينٌ من البشر. ويتساوى على أرض مكّة وفي مناسك الحج: الغنيّ والفقير،الأبيض والأسود والأسمر، الرجال والنساء، والحاكم والمحكوم. وفي الحجّ أيضاً تظهروحدة الجنس البشري ووحدة الدين الإسلامي، فلا تمييز في الحجّ ومناسكه بين عربيٍّوأعجميّ، ولا بين مسلمٍ من هذا المذهب أو ذاك.
كذلك يرتبط الحج بوحدة الرسالات السماوية وبتكريس الإيمانبالله تعالى وبكلّ رسله وكتبه، فالأضحية في الحج والمزار المقصود فيه وكثير منمناسكه تتّصل بالنبيّ إبراهيم أبي الأنبياء بمن فيهم موسى وعيسى وخاتم الأنبياءمحمّد صلوات الله عليهم أجمعين.
هذه المعاني الكبيرة كلّها تتكرّر كلَّ عام، على مدارأكثر من 14 قرناً، لأيامٍ معدودة، ثمّ يعود الحجّاج بعد أداء المناسك إلى أوطانهموأقوامهم ليجدوها كما تركوها، مليئة بنواقض ما عاشوه من نبل معانٍ وما أدركوه مندروسٍ عظيمة في الحج.
فالحجّاج في زمننا هذا يعودون إلى أوطانٍ عربية وإسلاميةلا تتوافق أوضاع الكثير منها مع حقيقة حِكَم الحج ومعانيه، إذ يعيش بعض هذه البلدانانقساماتٍ حادّة بين مسلمين ومسلمين، بينما جمعت مناسك الحج بين مسلمين من مختلفالفرَق والمذاهب والاجتهادات، والكلّ يعلم أنّ أحَدَ أهمّ معاني الحج هو إظهار وحدةالمسلمين في تجمّعهم السنوي الهائل.
كذلك الأمر بالنسبة لأوطان تتعدّد فيها الأعراق والإثنياتوالطوائف، وبعضها يعاني الآن من حالات انقسام وتمييز، بما يتناقض تماماً مع مانشهده في الحجّ من مظاهر الوحدة الإنسانية وغياب الفوارق بين الأجناسوالأعراق.
يعود الحجّاج إلى أوطانهم ليجدوا في معظمها هذا الانقسامالاجتماعي الحادّ بين الغنيّ والفقير، وبين الحاكم والمواطن، وبين المحروم والمالك،بينما الدعاء في الحج "له الملكُ وحدَه، لا شريكَ له"!.
في الحجّ يتساوى الناس أيضاً في لباسهم وأشكالهم، وحينمايعود الحجّاج إلى أوطانهم تصدمهم فئات من الناس منشغلة بآخر صرعات الأزياء وأشكالالوجوه والأجسام وزينة الحياة الدنيا!!
يعود الحجّاج إلى أهلهم وقومهم ليسمعوا منهم من جديدرواياتٍ وقصصاً عن خلافات بين أتباع هذا المذهب أو ذاك، أو من هم على دين رسولٍ آخرمن أحفاد النبيّ إبراهيم عليه السلام، ممّن وصفهم القرآن الكريم بـ"أهلالكتاب".
يعود الحجّاج إلى حياتهم العادية ليلمسوا فيها وفيمجتمعهم هذا التمايز الكبير بين الرجل والمرأة، ولمفاهيم وممارسات مناقضة لما عاشوهفي الحجّ من مساواة بين الرجل والمرأة في كلّ المناسك، فالاختلاط بين الرجالوالنساء حلالٌ في الحجّ وحرامٌ في غيره!
إنّ الحجّ ليس عبادة وأداء مناسك فقط، يقوم بها المسلم منأجل التكفير عمّا مضى من ذنوبه، بل هو، كما صوم شهر رمضان المبارك، من أجل بناءمجتمع أفضل، ولتدريب الفرد على ما هو متوجّب عليه تجاه الإنسان الآخر والجماعةعموماً. فالصائم الذي يدرك قيمة الجوع والعطش يشعر أيضاً بواجبه تجاه الآخرينوالفقراء والمحرومين، ولذلك سُمّي شهر رمضان بشهر العطاء، والعيد من بعده هو عيدفطر الصائمين الذين جمعوا بين حرمان النفس والعطاء للآخرين.
فأعياد المسلمين (عيد الفطر وعيد الأضحى) مرتبطة بأعمالوسلوك وعطاء وليست مجرّد احتفالٍ فقط بمناسبات.
وحبّذا لو يكون عيد الأضحى، في كلّ عام، هو عيد احتفالالمسلمين بتكريس معاني الحج وليس بالقيام بالأضحية فقط وبتكريم حجّاج بيت اللهالحرام.
وكلّ عام، وأوطاننا وقيمنا الدينية، بألفخير.
 
Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً