أحدث المقالات
لعل القراءة الدقيقة لما يجري بالوطن العربي عامة و بالخليج خاصة، تتحدد في عنصرين مهمين لنضوج أي مجتمع إنساني و وصوله إلى مستوى من الوعي السياسي أقل ما يوصف به هذا الوعي أنه انتقال جوهري في المنظومة الثقافية، العنصر الأول هو التحدي الحداثي و العنصر الثاني هو التكلس السياسي…
بصراحة: العنصر الأول يمكننا اعتباره كمؤثر خارجي واضح أما الثاني فهو مهدد داخلي لمستقبل هذه المجتمعات بالنظر لتسونامي الحداثة العولمية التي بلغت أدق خصوصيات هذه الأمة، و لا ريب أن كلا العنصرين متداخلان مع بعض بحيث لا يمكننا فك مدى الارتباط بينهما وفق المنطق السياسي العام، و لكن الاستبانة البسيطة عبر التحليل التاريخي للعلاقة بين الدولة العربية الحديثة و علاقتها بالقوى الكبرى في الغرب، تؤكد أن هذا من ذاك، مما يجعلنا أمام معاملين مركزيين في عملية البحث عن معادلة استراتيجية للتغيير في الوطن العربي، وهذا يعني أن كل الثورات الجارية و النائمة و المكبوتة على طول خط طنجة-مسقط وليس الخليج فقط، ماهي سوى أساليب تعبير عن رهاب اجتماعي(تعبير للمفكر مالك بن نبي) يسعى للارتفاع إلى مستوى الفاعلية الاجتماعية المنظمة للشأن السياسي في الوطن العربي وفق منظومة معرفية ثقافية جديدة قد يمكن التعبير عنها بالمواطنة لكنها تبقى بحاجة لتأسيس فلسفي سياسي دقيق بالنظر للأبعاد النفسية و الاجتماعية و التاريخية للمجتمعات الخليجية خاصة و العربية عامة…
ببساطة: هذه المرحلة التي تبدو للعديد من جهابذة الفن السياسي العربي كـ"رد فعل عابر"، قد تكون كذلك لكن القانون العام يقول بالإمكان لرد الفعل أن يصبح فعلا على مستوى مغاير للأول في حال اكتملت محدداته و طاقاته الكامنة لتتجه نحو الهدف، لأنه فلسفيا رد الفعل الخلاق هو القادر على إيجاد التغيير في قوة الفعل، يعني الثورة القادرة على تجاوز التكلس المستشري في العقل السياسي العربي، واستخدامي لمصطلح التكلس جوهري و دقيق لأنه المصدر الأساسي لأكثر من نصف الأمراض المسببة للموت البطيء…و أحد هذه الأمراض هو الزهايمر، هذا المرض المعاصر و الكاسح للقارات الخمس، و الذي يصيب الأفراد الذين تزيد أعمارهم عن ال65 سنة  لكن حضوره بالوطن العربي مستعصي أكثر، لأن نسبته على مستوى الاجتماع السياسي أكبر و أخطر، كون غالبية السكان العرب شباب و تقل أعمارهم عن 60 سنة لكن الأنظمة فكلها طاعنة في الوقف السياسي، مما يؤشر بمستقبل سياسي خطير للمجتمعات العربية، و الدليل على ذلك، درجة النسيان الطافحة على غالبية أنظمتنا السياسية بخصوص الحريات و المواطنة والتنمية و العزة و الكرامة لشعوبها، بالإضافة إلى الخلط بين الأولويات السياسية و الكماليات الاقتصادية و فقدان الاستراتيجيات المستقبلية…  
بكلمة: العقل السياسي العربي قد بلغ مبلغا من الشيخوخة ما يستدعي مراجعة كل منابع شرايينه الرئيسية سياسيا و تنظيف سراديبه التاريخية من أدواء الحشائش الضارة المضرة، حيث أقصد بمعضلة الزهايمر في السياسة أساسا أنها خرف يطغى على النظام السياسي بحيث هذا الأخير يتجمد في تعامله مع الواقع و المتغيرات من حوله وينأى بمقوماته عن التجديد و الإصلاح كما يتناسى جرائمه و انحرافاته و أخطائه تجاه شعبه و أول مؤشراته هو التفكير الخاطئ، ثم يتفاقم لمستوى النسيان إلا النزر اليسير من الإنجازات الثورية أو المواقف البطولية التي هي في الأصل من صنيع الشعب عليه، و الفارق في الهازيمر السياسي العربي أنه يعصف بكل مناطق العقل الحساسة إلا منطقة الحاشية و الخواجة…!!
النظام السياسي العربي دخل مرحلة الشيخوخة و عقيدته السياسية تفسخت منذ نكسة 1967، ثم استفحل الانحلال الإيديولوجي خلال حروب الخليج الثلاث، حيث ظهر في الواجهة التحدي و التكلس كواقع حي لا مفر منه…و عليه العقل السياسي العربي الآن في حالة موت إكلينيكي، إما يعود مرة أخرى للمستشفى الغربي كما فعلها ما بعد الموحدين، أو يجن فيهلك بجنونه الحرث و النسل ويكرس واقعا نظرية القابلية للاستعمار التي نبه إليها المفكر مالك بن نبي قبل نصف قرن، أو يثير دفينته ليستعيد حيويته من خلال التفكر السياسي السليم الذي يعيد للأمة ما لها فلا يستأثر الحاكم رغم استيقانه بأن السلطة لو دامت لمن قبله لما وصلت إليه، و العبرة حية وعظيمة في صدام و بن علي و حسني و القذافي حيث نبشر كل من أبى و استكبر أن القائمة مفتوحة لإحتضانه، و من وصل للحكم بالمكر و الكيد و الطغيان فكذلك سيُدَانْ، لأن الله يمهل و لا يهمل و العزة له تعالى جميعا…

و الله من وراء القصد.

________________________________________

(*)كاتب و باحث إسلامي
Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً