أحدث المقالات

الشيخ حسن الصفّار(*)

التكفير هو نسبة أحدٍ من أهل القبلة إلى الكفر، فمَنْ هو خارج الإسلام لا يطلق على تسميته بالكفر (تكفير)؛ لأنه كافرٌ. وهناك معانٍ أخرى للتكفير:

منها: تكفير الذنوب والسيّئات، أي محوها، كما في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ﴾ (آل عمران: 193).

ومنها: إخراج الكفّارة عن بعض المخالفات، كحَنْث اليمين أو ترك الصيام الواجب، أو غيرهما من الموارد المشابهة، كما في قوله تعالى: ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾ (المائدة: 89).

والبحث هنا حول التكفير بالمعنى الأوّل، وهو نسبة أحدٍ يُظْهِر الإسلام إلى الكفر. وتترتّب عليه نتائج وآثار خطيرة، تتَّضح بعد عرض الفكرة التالية:

مكاسب الانتماء إلى الدين

يفترض أنّ انتماء الإنسان للدين يحقّق له ثلاث مسارات من النتائج والآثار:

أوّلاً: الاطمئنان النفسي والاستقرار الفكري؛ لأنه يجيب عن أسئلته الحائرة عن وجوده وعن الكَوْن والحياة، كما يشعره بالاتصال بالقوّة المطلقة المسيِّرة للوجود.

ثانياً: تأمين المستقبل والمصير الأخروي، حيث يعتقد الإنسان أنّ تديُّنه سبيل خلاصه ونجاته في الدار الآخرة.

هذان المساران لا يتأثّران بالتكفير؛ لأنهما يرتبطان بداخل الإنسان؛ فالمؤمن بدينه يشعر باطمئنان نفسيّ، وثقة بمستقبله الأخروي، سواءً أقرّ الآخرون بإيمانه أو أنكروه.

ثالثاً: الاعتبار والحماية الاجتماعية، حيث يصبح عضواً في المجتمع الديني، يتمتَّع بمكاسب وامتيازات العضوية.

ففي الإسلام يكون له احترامه وحقوقه كمسلم، بدءاً من إلقاء التحية الخاصّة عليه (السلام عليكم) حيث يرى البعض أنها تختصّ بالمسلم، أما غير المسلم فيُحيَّا بغير هذه الصيغة، مروراً بعصمة دمه وماله، وطهارته، وحمله على الصحة في أقواله وأفعاله، ودخول المساجد والحَرَمين الشريفين، والتزاوج والإرث، والدفن في مقابر المسلمين، وقبول الشهادة، وصولاً إلى إمكان تبوّئه المناصب القيادية، كالقضاء والولايات ورئاسة الدولة. وكذلك استحقاقه الحماية والنصرة لو تعرّض للعدوان. وفي بعض هذه القضايا نقاشٌ بين الفقهاء.

إنّ التكفير يعني إسقاط الهوية الدينية، ممّا يلغي كلّ تلك الحقوق والامتيازات، بل قد يترتّب عليه إجراءات عقابية، كأحكام الردّة؛ فالمتّفق عليه بين فقهاء المسلمين الحكم بقتل المرتدّ، وهو ما يثير تساؤلاً ملحّاً خاصة في هذا العصر، الذي تعزَّزت فيه الحرّيات الفكرية والدينية، والإسلام يؤكِّد على مبدأ حرّية المعتقد، وعدم الإكراه في الدين، كما يصرِّح القرآن بذلك، فكيف يحكم بقتل المرتد؟!

يقول تعالى: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة: 256).

ويقول تعالى: ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس: 99).

ويقول تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف: 28).

ويقول تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾ (الغاشية: 21 ـ 22).

بالطبع للفقهاء أدلّتهم التي يستندون إليها في الحكم بقتل المرتدّ، وأهمّها: أحاديث مرويّة في السنّة النبوية؛ وإجماع الفقهاء.

 

رأيٌ آخر في حكم المرتد

لكنْ هناك رأيٌ آخر لبعض العلماء المعاصرين، وهو أنّ الارتداد يوجب القتل حين يكون التحاقاً بمعسكر العدوّ؛ أما إذا كان مجرّد تغيير فكري عقدي فلا يستحقّ ذلك.

 وقد مال إلى هذا الرأي شيخ الأزهر الأسبق الشيخ محمود شلتوت (1310هـ/1893م ـ 1383هـ/1963م)، ومن فقهاء الشيعة: الشيخ محمد مهدي شمس الدين (1354هـ/1936م ـ 1421هـ/2001م)، والسيد محمد حسين فضل الله (1354هـ/1935م ـ 1431هـ/2010م)([1]).

وقد أصدر الباحث الفقيه الدكتور طه جابر العلواني([2]) كتاباً بعنوان: (لا إكراه في الدين، إشكالية الردّة والمرتدّين عن الإسلام من صدر الإسلام إلى اليوم)([3])، ناقش فيه الرأي الفقهي السائد بقتل المرتدّ عن الإسلام. وانطلق في بحثه من النصوص والمبادئ الدينية التي تؤكِّد حرّية اختيار الدين. وقد تناول النصوص ذات العلاقة بالموضوع، ليصل إلى نتيجة خلاصتها: عدم وجود نصٍّ قرآني يشرِّع هذا الحدّ، كما تخلو السنّة الفعلية من ذلك، فلم نجِدْ واقعةً واحدة في العصر النبويّ تفيد بتطبيق عقوبةٍ دنيوية ضدّ مَنْ يغيِّرون دينهم، مع ثبوت ردّة عناصر كثيرة عن الإسلام في العهد النبوي، ومعرفة النبيّ بذلك، أما السنّة القولية الواردة فيحتمل أن تخصّ مَنْ ينتقل إلى معسكر الأعداء.

وقد ناقش في بحثه رأي الفقهاء بمختلف مذاهبهم، ليستنتج أنّ الردّة التي تستوجب العقوبة هي التي تتمثَّل في الانتقال إلى جبهة العدوّ.

وقد ذكر في مقدّمة الكتاب أنه أعدّ هذا البحث سنة 1992م، وكان يريد نشره لولا أنه تلقّى تحذيرات بأن تبنّيه لهذا الرأي قد يؤثِّر على وضع مؤسَّسته (المعهد العالميّ للفكر الإسلامي). فلمّا استقال من رئاستها عام 1996م، وأصبح رئيساً للجامعة الإسلامية في ماليزيا، أعاد التفكير في طباعة الكتاب، فجاءته تحذيرات من إدارة الجامعة بأنّ ذلك سيؤثِّر على سمعة الجامعة، وقد يدفع لاتّخاذ مواقف ضدها، فأخَّر نشره، ولم ينشره إلاّ بعد عشر سنوات من تأليفه. يقول في مقدمته: (بدأ السن يتقدَّم، والأمراض تتكاثر، ولا أريد أن ألقى الله وقد كتمْتُ علماً مَنَّ الله به عليَّ…)([4]).

كما صدر مؤخّراً بحثٌ علميّ حول ذات الموضوع، عنوانه: (الفقه الجنائي في الإسلام، الردّة نموذجاً)، للباحث الفقيه الدكتور الشيخ حسين الخشن، من لبنان، وصل فيه إلى نفس النتيجة.

ونحن هنا لسنا في مورد مناقشة هذا الموضوع. وإنما نشير إلى خطورة التكفير باعتباره حكماً شرعيّاً له آثاره المصيرية الخطيرة؛ لأنه يكون افتراءً على الدين حينما لا يكون في محلّه، وللنتائج المترتِّبة عليه تجاه مَنْ يصدر ضدّه.

التكفير وإسقاط الجنسية

 التكفير إسقاطٌ للهوية الدينية، وهو ما يشبه إسقاط أو سحب الجنسية الوطنية، الذي يترتّب عليه آثار مدمّرة لحياة المواطن. لذلك تتشدّد القوانين والمواثيق الدولية في هذا الموضوع، وتتفاوت البلدان في الالتزام بها؛ حيث تنصّ المادة 15 من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان على حقّ كلّ فردٍ في أن تكون له جنسيةٌ، وعلى أن لا يُحْرَم أحدٌ من جنسيته تعسُّفاً.

 

استحقاق الهويّة الدينية

يفترض في الإيمان أن يكون نابعاً من نفس الإنسان، فلا يفرض عليه من خارجه؛ فالدين في حقيقته وعمقه انفتاحٌ مباشر بين الإنسان وربّه وخالقه، دون حواجز ولا وسائط؛ حيث يواجه الإنسان أسئلة الوجود، وتحدّيات الحياة، فتنتابه الحيرة، ويشعر بالضعف، وهنا يحتاج إلى الاتصال بالقوة المطلقة، (الله تعالى)؛ ليستمدّ منه الثبات والعون والهدي والرشاد، في اتصالٍ مباشر، كما يقول تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ (البقرة: 186).

وإذا كان اللطف الإلهي اقتضى بعث أنبياء ورسل إلى الناس، كما اقتضت طبيعة الحياة البشرية إقامة نظامٍ اجتماعيّ على هَدْي الوحي الإلهي، فإنّ ذلك لا يعني إقامة أيّ حاجز بين الله وبين عباده. فالأنبياء والأئمة يدعون الناس للاتصال بربهم والانفتاح المباشر عليه، ودَوْرهم الرئيس هو مساعدة الناس في ذلك، وإزالة الموانع والحواجز.

إنّ الأنبياء لا يفرضون الإيمان بالله على الناس، وإنما يدعونهم إلى الإيمان، ويشجِّعونهم على استخدام عقولهم للاهتداء إلى الله، كما قال الإمام عليّ×: (ويُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ)([5]).

من هنا لا توجد أيّ ضوابط ولا شروط في انفتاح الإنسان على ربّه، وإيمانه به، واتّصاله معه. لكنّ هناك ضوابط وشروطاً تتّصل بتنظيم العلاقات الاجتماعية؛ لترتيب الآثار على الانتماء لمجتمع المسلمين.

 

متى يستحقّ الإنسان الهويّة الدينية؟

ذكر الفقهاء أنّ هناك ثلاثة طرق يحكم من خلالها بإسلام أيّ شخصٍ وانتمائه لمجتمع المسلمين، وهي: النصّ؛ والتَّبَعية؛ والدلالة.

أوّلاً: النصّ

وذلك بإعلان الشهادتين. فيحكم بإسلام مَنْ أظهر الشهادتين، سواء علمنا باعتقاده الباطن بالإسلام أو لم نعلم؛ نظراً إلى ظاهر القول، فلا يُتجسَّس عليه؛ إذ ليس قبول إسلام مَنْ أظهر الإسلام لكون إظهاره كاشفاً عن الإسلام الواقعي بالضرورة، بل لكونه موجِداً ومحقِّقاً للإسلام الظاهري.

وقد ورد ـ كما في الطبري ـ أن سبب نزول الآية الكريمة: ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً﴾ (قتيلٌ قتلته سريّة لرسول الله| بعدما قال: إنيّ مسلم، أو بعدما شهد شهادة الحقّ، أو بعدما سلَّم عليهم؛ لغنيمةٍ كانت معه، أو غير ذلك من ملكه، فأخذوه منه)([6]).

وجاء في صحيح مسلم، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِﷺ فِي سَرِيَّةٍ، فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَأَدْرَكْتُ رَجُلاً فَقَالَ: لا إِلَهَ إلاّ اللهُ، فَطَعَنْتُهُ، فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِﷺ: أَقَالَ لا إِلَهَ إلاّ اللهُ وَقَتَلْتَهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفاً مِنَ السِّلاحِ، قَالَ: أَفَلا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لا؟([7]).

وفي روايةٍ أخرى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ| فِي غَنَمٍ لَهُ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: مَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ إلاّ لِيَتَعَوَّذَ مِنْكُمْ، فَعَدَوْا عَلَيْهِ، فَقَتَلُوهُ، وَأَخَذُوا غَنَمَهُ، فَأَتَوْا بِهَا النَّبِيَّ|، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ (النساء: 94)([8]).

بل حتّى لو علمنا نفاق مَنْ أعلن إسلامه، وعدم مطابقة تظاهره بالإسلام للواقع، فقد ذهب الفقهاء إلى كفاية ذلك في الحكم بإسلامه.

وأوضحُ دليلٍ على ذلك تعامل رسول الله| مع المنافقين كمسلمين، مع نصّ الوحي على كذب ادّعائهم للإسلام، حيث يقول تعالى: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ (المنافقون: 1).

ومع كلّ الأدوار القَذِرة التي قام بها المنافقون في عهد رسول الله|، إلاّ أنه لم يخرجهم من الإسلام، ولم يصادر أيّ حقٍّ من حقوقهم المدنية، فكانوا يتمتّعون بحقوق المواطنة كاملةً كسائر المسلمين، يحضرون المساجد، ويُدْلُون بآرائهم في قضايا المجتمع، ويأخذون نصيبهم من الغنائم وعطاء بيت المال.

 بل وأكثر من ذلك، كان رسول الله| يبذل لهم الإحسان، ويحوطهم بمداراته، ويشملهم بكريم أخلاقه.

فقد (مرض رأس النفاق عبد الله بن أُبَيّ، فجاء ولده عبد الله إلى النبيّ، وأبوه يجود بنفسه، فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمّي، إنك إنْ لم تَأْتِ أبي عائداً كان ذلك عاراً علينا، فاستجاب رسول الله، وقام إلى عيادته، فدخل عليه وعنده جمعٌ من المنافقين، فقال ابنه عبد الله: يا رسول الله، استغفِرْ له، فاستغفَرَ له، فقال عمر: ألم ينهَكَ الله، يا رسول الله؟ فأعرض، فأعاد عليه عمر، فقال: إني خُيِّرْتُ فاختَرْتُ. إنّ الله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ (التوبة: 80).

قال الواقدي: ومرض عبد الله بن أُبيّ في ليالٍ بقين من شوال، ومات في ذي القعدة، وكان مرضه عشرين ليلة، فكان رسول الله يعوده فيها، فلما كان اليوم الذي مات فيه دخل عليه رسول الله، وهو يجود بنفسه، فقال: قد نهيتك عن حبّ اليهود، فقال ابن أُبيّ: أبغضهم سعد بن زرارة فما نفعه؟ ثم قال: يا رسول الله، ليس بحين عتاب! هو الموت، فإنْ مِتّ فاحضَرْ غسلي، وأَعْطِني قميصك أكفَّن فيه، فأعطاه قميصه الأعلى، وكان عليه قميصان، فقال ابن أُبيّ: الذي يلي جلدك، فنزع رسول الله قميصه الذي يلي جلده، فأعطاه، ثم قال: صَلِّ عليَّ، واستغفِرْ لي، فحضر رسول الله غسله، وحضَّر كفنه، ثم حمل إلى موضع الجنائز، فتقدَّم رسول الله ليصلّي عليه، فلما قام وثب إليه عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله، أتصلّي على ابن أُبيّ وقد قال يوم كذا: كذا، ويوم كذا: كذا؟ فعَدَّ عليه قوله، فتبسَّم النبي وقال: أخِّر عنّي يا عمر! فلمّا أكثر عليه عمر قال: إني قد خُيِّرْتُ فاختَرْتُ، ولو أعلم أنّي إذا زدْتُ على السبعين غفر له زدْتُ عليها، وهو قوله عزَّ وجلَّ: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ([9]).

 

أحكام في تحقُّق الإسلام

1ـ اقتصر عامّة الفقهاء على الشهادتين، وأنّ غيرهما ليس شرطاً في تحقّق الإسلام.

2ـ أضاف بعض الفقهاء المعاد وأركان الشريعة، من الصلاة والصوم والزكاة والحج. لكنّ أغلب الفقهاء لم يشترطوا ذلك.

نعم، لا يصحّ أن ينكر المعاد، وأيّ ضروريّ من ضروريات الدين، بعد أن يعرف ضرورته، خصوصاً إذا كان إنكاره نوعاً من التكذيب للنبيّ والرسالة.

3ـ لا يشترط في الإسلام أن يكون مقروناً بالاعتقاد بصفات الله الثبوتية أو السلبية، ولا الصفات المعتبرة في النبيّ، كالعصمة.

4ـ اختار بعض الفقهاء الاكتفاء من اليهوديّ والنصرانيّ بشهادة الرسالة فقط؛ لكون الشهادة الأولى متحقِّقة منهما.

5ـ لا توجد لغةٌ خاصة يفترض بها إبراز الشهادتين، فيعلن إسلامه بلغته، بما يؤدّي معنى الصيغة المعهودة بالعربية.

6ـ لا توجد صيغة ملزمة للشهادتين، فيمكن الاكتفاء بأيّ صيغةٍ مرادفة، فيها إقرارٌ بمضمون الشهادتين.

7ـ لا يعتبر بعد إظهار الشهادتين اليقين بمضمونهما، فلو علمنا أنه عقد قلبه على ذلك إجمالاً كفى.

8ـ لا يشترط أن يكون عن دليلٍ وبرهان.

9ـ لا يشترط التبرّي من كلّ دينٍ غير الإسلام؛ لأنّ الإقرار بما يقتضي الإسلام يوجب ذلك.

 

ثانياً: التَّبَعية

وتعني أمرين: التبعية للأبوين؛ والتبعية لدار الإسلام.

الأوّل: التَّبَعية للأبوين

ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ العبرة بإسلام أحد الأبوين، فيحكم بإسلام الصغار بالتبعية. ويحكم بإسلام الولد، ذكراً كان أو أنثى، وتجري عليه جميع أحكام المسلمين. ولا خلاف في إسلامه حتّى بعد ارتداد أبوَيْه؛ استصحاباً للحالة السابقة.

ولا فرق في التبعية بين إسلام كلا الأبوين أو أحدهما؛ لتسالم الفقهاء على تبعية الولد لأشرف الأبوين.

وذهب جملةٌ من الأعلام إلى تبعية الأطفال لإسلام الأجداد من حين إسلامهم، سواء كانوا لأبٍ أو لأمّ. وقيَّد بعضهم بما إذا كان الجدّان قريبين.

وذهبوا إلى أنّ إسلام الجدّ وإنْ علا يستتبع الحكم بإسلام الأحفاد الصغار ومَنْ في حكمهم، ولو كان الأب حيّاً كافراً.

والمشهور بين الفقهاء أنّ ولد الزِّنى مسلمٌ كسائر المسلمين؛ للتبعية، إذا كان الزاني مسلماً. وخالف في ذلك بعض الفقهاء.

الثاني: التَّبَعية لدار الإسلام

أيّ شخص في دار الإسلام لم تعرف هويته الدينية محكومٌ بأنه مسلم، حتّى يثبت العكس. ومن ذلك الحكم بإسلام لقيط دار الإسلام، حَسْب مشهور الفقهاء.

ودار الإسلام هي البلاد التي ينفذ فيها حكم الإسلام، أو يسكنها المسلمون. بل اكتفى الفقهاء بوجود مسلمٍ واحد محتمل الاستيلاد في دار الكفر.

فدار الإسلام هنا أوسع منها في ما يطلق عليه (سوق المسلمين).

ولو وُجد ميتٌ أو قتيل في دار الإسلام تجري عليه أحكام الإسلام.

ثالثاً: الدلالة

وهي الدلالة بالفعل، كأداء الأفعال المختصّة بالإسلام، مثل: الصلاة. فلو رأيت شخصاً يؤدّي أفعال الصلاة تحكم بإسلامه، وكذا لو رأيته لابساً ثوبي الإحرام، وأمثال ذلك من الممارسات الدينية الإسلامية.

وقد ورد عن رسول الله| أنه قال: (مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الذِي لَهُ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ)([10]).

إنّ ذلك يوضّح لنا منهجية الاستيعاب والتسامح في الإسلام، وأنّ الانتماء إلى المجتمع الإسلامي سهلٌ لا تعقيد فيه، وأنّ التشدُّد والتسرُّع في تكفير الناس، وسلب حقوقهم، ليس نهجاً إسلاميّاً. لكنّ الأمة ابتُليت بهذه النزعات من وقتٍ مبكّر، وعانَتْ من الاستبداد لزمنٍ طويل.

اتجاهات التكفير

الأصل بقاء المسلم على إسلامه، حتّى يقوم الدليل على خلاف ذلك، بأن يعلن الكفر بقولٍ صريح، كقوله: أشرك بالله، أو أكفر بالله، أو خرجتُ من الإسلام، وكذلك لو سبّ الذات الإلهية، أو استخفّ أو استهزأ بها، وكذلك مَنْ سبّ رسول الله|، أو أيّ نبيٍّ من الأنبياء. هذا ما يتفق عليه المسلمون. ويجب قبل تكفير أيّ مسلمٍ النظر والتفحُّص في ما صدر منه من قولٍ أو فعل، فليس كلُّ قولٍ أو فعل فاسد يعتبر مكفّراً.

ولا ينبغي أن يُكفَّر مسلمٌ إنْ أمكن حمل كلامه على محملٍ حَسَنٍ، أو كان في كفره خلافٌ، ولو على روايةٍ ضعيفة.

وما يشكّ في أنه كفرٌ لا يحكم به؛ فإنّ المسلم لا يخرجه من الإيمان إلاّ جحود ما أدخله فيه؛ إذ الإسلام الثابت لا يزول بالشكّ. فإنْ كان في المسألة وجوهٌ توجب التكفير، ووجهٌ واحدٌ يمنعه، فعلى المفتي أن يميل إلى الوجه الذي يمنع التكفير. هذا ما يقرِّره الفقهاء.

لكنْ ـ وللأسف الشديد ـ فُتِحَتْ منافذ توسّع فيها البعض من المتشدِّدين، ممّا ترك المجال واسعاً لاتجاهات التكفير. وأبرزها أربعة اتجاهات:

1ـ اتجاه الخوارج

ظهر هذا الاتجاه ـ وهو أبكر اتجاهات التكفير ـ على أثر انشقاق جماعة من جيش الإمام عليّ في معركة صفّين، رفضاً لقبول الإمام بالتحكيم، وإيقاف الحرب مع جيش معاوية. ولم يكن الإمام عليّ راغباً في قبول التحكيم، لكنّ الرأي العام في جيشه كان يضغط بهذا الاتجاه. قال× في خطبةٍ له: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَمْ يَزَلْ أَمْرِي مَعَكُمْ عَلَى مَا أُحِبُّ، حَتَّى نَهِكَتْكُمُ‌ الْحَرْبُ، وَقَدْ، وَاللهِ، أَخَذَتْ مِنْكُمْ وَتَرَكَتْ، وَهِيَ لِعَدُوِّكُمْ أَنْهَك. لَقَدْ كُنْتُ أَمْسِ أَمِيراً، فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ مَأْمُوراً، وَكُنْتُ أَمْسِ نَاهِياً، فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ مَنْهِيّاً، وَقَدْ أَحْبَبْتُمُ الْبَقَاءَ، وَلَيْسَ لِي أَنْ أَحْمِلَكُمْ عَلَى مَا تَكْرَهُونَ!»([11]).

كان مطلب الخوارج أن يعترف الإمام بالخطأ في قبول التحكيم، ويعتذر، وينقض العهد، وفيهم مجموعةٌ من القرّاء والعبّاد لكنْ على غير وَعْيٍ، كما تنبّأ رسول الله| بهم.

حيث ورد عنه|، كما في صحيح البخاري، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِﷺ يَقُولُ: «يَخْرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاتَكُمْ مَعَ صَلاتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَأَعْمَالَكُمْ مَعَ أَعْمَالِهِمْ، يَقْرَأونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ»([12]).

ورُوي أنَّ عَلِيّاً لَمّا وَجَّهَ إلى الخوارج عَبدَ اللهِ بنَ عَبّاسِ لِيُناظِرَهُم قالَ لَهُم: مَا الَّذي نَقَمتُم عَلى أميرِ المُؤمِنينَ؟ قالوا: قَد كانَ لِلمُؤمِنينَ أميراً، فَلَمّا حَكَّمَ في دينِ اللهِ خَرَجَ مِنَ الإِيمانِ، فَليَتُب بَعدَ إقرارِهِ بِالكُفرِ نَعُدْ لَهُ، فَقالَ ابنُ عَبّاسٍ: ما يَنبَغي لِمُؤمِنٍ لَم يَشُبْ إيمانَهُ شكٌّ أن يُقِرَّ عَلى نَفسِهِ بِالكُفرِ، قالوا: إنَّهُ قَد حَكَّمَ، قالَ: إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ قَد أَمَرَنا بِالتَّحكيمِ في قَتلِ صَيدٍ، فَقالَ عَزَّ وجَلَّ: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾، فَكَيفَ في إمامَةٍ قَد أشكَلَت عَلَى المُسلِمينَ؟!([13]).

وقد كتبوا إلى عليِّ رسالةً، جاء فيها: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ لَمْ تَغْضَبْ لِرَبِّكَ، وَإِنَّمَا غَضِبْتَ لِنَفْسِكَ، وَإِنْ شَهِدَتْ عَلَى نَفْسِكَ بِالْكُفْرِ وَاسْتَقْبَلْتَ التَّوْبَةَ نَظَرْنَا فِي مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، وَإِلاّ فَقَدَ نَابَذْنَاكَ عَلَى سَوَاءٍ، ﴿إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾ (الأنفال: 58)([14]).

 

تأصيلٌ ديني لخلافٍ سياسي

كان الخلاف في الأصل سياسيّاً حول قبول التحكيم، لكنه تحوّل إلى خلاف ديني؛ حيث اعتبروا قبول التحكيم كبيرة، ونظَّروا لمسألة حكم مرتكب الكبيرة. وتوسع هذا البحث فيما بعد وتعمَّق، ليصل إلى مسألة أنّ العمل هل هو جزءٌ من الإيمان أم لا؟

فإذا كان العمل جزءاً من الإيمان فإنْ أخلّ به الإنسان عامداً مصرّاً خرج من إيمانه، وإنْ لم يكن جاحداً له؛ أما إذا لم يكن جزءاً من الإيمان يبقى العاصي مؤمناً، ولكنْ يوصف بالفسق، وليس بالكفر أو الشرك.

وذهب الخوارج إلى أنّ مرتكب الكبيرة إما كافرٌ أو مشركٌ، وليس مؤمناً.

حيث ذهبت فرقةٌ منهم، يطلق عليها: الأزارقة، إلى أنّ مرتكب المعاصي مشركٌ، وليس كافراً فقط، من غير فرق بين الصغيرة والكبيرة.

وذهبت النجدية منهم إلى أنّ مرتكب الكبيرة مشركٌ، وأما مرتكب الصغائر فهو فاسقٌ.

وذهبت الإباضية إلى كون الارتكاب كفراً، لا شركاً. والكفر عندهم أعمّ من كفر الجحود وكفر النِّعَم. فمرتكبها من المؤمنين كافرٌ، كفر نِعْمة، لا كفر الجحود.

وذهبت المعتزلة إلى أنّ مرتكب الكبيرة في منزلةٍ بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، فضلاً عن كونه مشركاً. نعم، اتفقت المعتزلة والخوارج على كونه مخلَّداً في النار إذا مات غير تائب.

وذهبت الإمامية والأشاعرة وأهل الحديث إلى كون مرتكب الكبيرة مؤمناً، لكنّه فاسقٌ، وغير مخلّد في النار.

الاحتجاج بسيرة رسول الله|

قال الإمام عليّ× مخاطباً الخوارج، منكراً عليهم الحكم بتكفير مَنْ يرَوْنه ارتكب كبيرة من الكبائر: «فَإِنْ أَبَيْتُمْ إلاّ أَنْ تَزْعُمُوا أَنِّي أَخْطَأْتُ وَضَلَلْتُ فَلِمَ تُظَلِّلُونَ عَامَّةَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ| بِضَلالِي، وَتَأْخُذُونَهُمْ بِخَطَئِي، وَتُكَفِّرُونَهُمْ بِذُنُوبِي! سُيُوفُكُمْ عَلَى‌ عَوَاتِقِكُمْ‌ تَضَعُونَهَا مَوَاضِعَ الْبُرْءِ وَالسُّقْمِ، وَتَخْلِطُونَ مَنْ أَذْنَبَ بِمَنْ لَمْ يُذْنِبْ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ| رَجَمَ الزَّانِيَ الُمحْصَنَ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ وَرَّثَهُ أَهْلَهُ؛ وَقَتَلَ الْقَاتِلَ وَوَرَّثَ مِيرَاثَهُ أَهْلَهُ؛ وَقَطَعَ السَّارِقَ؛ وَجَلَدَ الزَّانِيَ غَيْرَ الُمحْصَنِ، ثُمَّ قَسَمَ عَلَيْهِمَا مِنَ الْفَيْ‌ءِ، وَنَكَحَا الْمُسْلِمَاتِ، فَأَخَذَهُمْ رَسُولُ اللهِ| بِذُنُوبِهِمْ، وَأَقَامَ حَقَّ اللهِ فِيهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ سَهْمَهُمْ مِنَ الإِسْلامِ، وَلَمْ يُخْرِجْ أَسْمَاءَهُمْ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ»([15]).

2ـ الاتجاه التكفيري السلطوي

تبنّى بعض الحكّام الأمويين والعبّاسيين قمع الناس باسم الدين؛ وذلك من أجل إرهاب الناس وإرعابهم؛ ليخضعوا للسلطة، وليظهر الحكّام أنفسهم أنهم حماة للدين. فترصّدوا بعض ذوي الآراء المختلفة دينيّاً، وحكموا عليهم بالكفر، وكانوا يتقرَّبون إلى الله أمام جمهور الناس بقتلهم. وفي ما يلي عيِّنات من هذه الممارسة السلطوية:

قصّة الجعد بن درهم

أقام الجعد بدمشق حتّى أظهر القول بخلق القرآن، فتطلَّبه بنو أمية، فهرب منهم، فسكن الكوفة. وفي عام (105هـ/724م) استلم الحكم في دمشق هشام بن عبد الملك، وعيَّن خالد بن عبد الله القسري والياً على الكوفة، فقبض على الجعد بن درهم. وفي أوّل يوم من أيام عيد الأضحى من ذلك العام قال خالد، وهو يخطب خطبة العيد: أيّها الناس، ضحُّوا، تقبَّل الله ضحاياكم، فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم؛ إنه زعم أنّ الله لم يتَّخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلِّم موسى تكليماً، تعالى الله عمّا يقول الجعد علوّاً كبيراً، ثم نزل فذبحه في أصل المنبر([16]).

 

إرهاب المهديّ العباسي

كان المهديّ ـ الذي حكم الأمّة من سنة 158هـ حتّى مات سنة 169هـ ـ مُغْرىً بالزنادقة الذين يُرْفَع إليه أمرُهم، فكان دائماً يعاقبهم بالقتل. لذلك كانت هذه التهمة في زمنه وسيلة إلى تشفّي مَنْ يحب أن يتشفّى من عدوٍّ أو خصم…

(كان كاتب الدنيا وأوحد الناس حذقاً وعلماً وخبرة الوزير أبو عبيد الله معاوية بن يسار، مولى الأشعريين، وكان متقدِّماً في صناعته، وله ترتيبات في الدولة، وصنَّف كتاباً في الخراج، وهو أول مَنْ صنَّف فيه… حصل حقدٌ عليه من الربيع الحاجب، فوشى عليه عند المهديّ بأنّ ابنه محمداً متَّهم في دينه، فأمر المهديّ بإحضاره (الولد)، وقال: يا محمد، اقرأ، فذهب ليقرأ فاستعجم عليه القرآن، فقال المهديّ لأبيه الوزير أبي عبيد الله معاوية بن يسار: يا معاوية، ألم تخبرني أنّ ابنك جامعٌ للقرآن؟ فقال: بلى يا أمير المؤمنين، ولكنّه فارقني منذ سنين، وفي هذه المدة نسي القرآن، فقال المهديّ: قُمْ فتقرَّب إلى الله بدمه، فذهب ليقوم، فوقع، فقال العبّاس بن محمد: يا أمير المؤمنين، إنْ شئتَ أن تعفي الشيخ، ففعل، وأمر المهديّ بابنه فضرب عنقه)([17]).

هكذا يكون مجرَّد الاتهام في الدين، والارتباك في قراءة القرآن، مبرّراً لقتل هذا الإنسان، وأن يُطلب من أبيه مباشرة عملية القتل!!

محنة خلق القرآن

وخلفاء آخرون مارسوا العنف والقمع تجاه مَنْ يقولون برأيٍ مخالف في بعض المسائل العقدية، كما حصل في ما عُرف بمحنة القول بخلق القرآن.

فقد كان الخليفة هارون الرشيد يتبنّى القول: إنّ القرآن ليس مخلوقاً، ويقمع القائلين بفكرة خلق القرآن، حتّى قال يوماً: بلغني أنّ بشراً المريسي يزعم أنّ القرآن مخلوقٌ. لله عليَّ إنْ أظفرني به لأقتلنَّه قتلةً ما قتلها أحدٌ قطّ([18]). ولما علم بشر ظلّ متوارياً أيام الرشيد.

وقال بعضهم: دخلتُ على الرشيد، وبين يدَيْه رجلٌ مضروب العنق، والسيّاف يمسح سيفه في قفا الرجل المقتول، فقال الرشيد: قتلتُه؛ لأنه قال: القرآن مخلوق([19]).

وفي عهد الخليفة الواثق العباسي تغيَّر رأي الحاكم، فتعرّض مَنْ يقول بأنّ القرآن ليس مخلوقاً للقتل والتنكيل، كما حصل لأحمد بن نصر الخزاعي، الذي قبض عليه والي بغداد، وامتحنه الواثق، فأصرّ على رأيه أنّ القرآن ليس بمخلوقٍ، وأنّ الله يُرى في الآخرة، فدعا الخليفة بالسيف، وقال: إني أحتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد ربّاً لا نعبده، وضرب عنقه، وأمر به فحمل رأسه فنصب بالجانب الشرقيّ أياماً، ثم بالجانب الغربيّ أياماً، وعُلِّقَتْ برأسه ورقةٌ: «هذا رأس أحمد بن نصر، الذي دعاه الإمام الواثق إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه، فأبى إلاّ المعاندة، فعجَّله الله إلى ناره»([20]).

3ـ التكفير المذهبي ومُنْكر الضرورة

تُصنَّف قضايا الاعتقاد الديني إلى أقسام؛ منها ما كان أصولاً للدين؛ ومنها ما يكون من ضروريات الدين.

والأصول هي ركائز الإيمان التي لا يتقوَّم إلاّ بها. والمتَّفق عليه أصلان، هما: التوحيد؛ والنبوة. فمَنْ لا يؤمن بهما لا يكون مسلماً، مهما كان سبب عدم إيمانه، سواء كان معذوراً أم غير معذور.

 واختلفوا في المعاد، هل هو ركنٌ مقوِّم للإيمان، بحيث لو لم يؤمن به، ولو كان لجهلٍ، فهو غير مسلم؟

قال به بعضٌ؛ ولم يقبله آخرون، مع الاتفاق على أنه من أسس الاعتقاد الديني، لكنّ مَنْ جهله وأقرّ بالشهادتين يكون مسلماً.

وقد دلَّتْ النصوص والسيرة على الأصلين، كما ورد عن الإمام الصادق× أنه قال: «الإِسْلامُ: شَهَادَةُ أَنْ لا إِلهَ إلاّ اللهُ، وَالتَّصْدِيقُ بِرَسُولِ اللهِ|، بِهِ حُقِنَتِ الدِّمَاءُ، وَعَلَيْهِ جَرَتِ الْمَنَاكِحُ وَالْمَوَارِيثُ، وَعَلى ظَاهِرِهِ جَمَاعَةُ النَّاسِ»([21]).

والسيرة العملية لرسول الله| قبول إسلام مَنْ نطق بالشهادتين، دون أن يطلب من أحدٍ عند إسلامه إعلان الاعتقاد بالمعاد.

هذه أصول الدين التي بها يستحقّ الإنسان هويّة الإسلام.

وهناك أصول المذهب؛ فالانتماء لمذهب أهل البيت^ يتحقَّق بالاعتقاد بالأصول الخمسة: (التوحيد، والعدل، والنبوة، والإمامة، والمعاد).

الضروريات

وهي مفاهيم لا ترقى إلى مستوى الأصول، بحيث يتوقف الانتماء للدين على الإيمان بها، لكنّها مفاهيم أساسية تتّسم بالوضوح والبداهة في مجتمع المسلمين، من قبيل: عصمة النبي في التبليغ، أو خاتمية نبوته، ومثل: الصلاة والصوم والحجّ.

كما أنّ هناك ضرورات مذهب تختلف من مذهبٍ إلى آخر.

ولم يَرِدْ هذا المصطلح (الضروريات) في النصوص الدينية، وإنما استوحاه العلماء منها، وقسَّموه إلى: ضروري عقدي؛ وضروري فقهي.

ومن ذلك يتّضح أنّ الإنسان إذا لم يؤمن بأصلٍ من أصول الدين، حتّى لو كان جاهلاً، لا يكون مسلماً. أما الضرورة فلا يوجب الخروج من الدين عدمُ الإيمان بها، جهلاً أو غفلة.

 فإذا أنكر الضروري، مع علمه بضروريته في الدين، وكان إنكاره يرجع إلى تكذيب النبيّ، أو إنكار رسالته، فهو يوجب الكفر؛ وبعضهم عدّ إنكاره بحدّ ذاته موجباً للكفر، وليس إذا كان راجعاً إلى تكذيب النبيّ فقط.

وقد ينقلب الضروريّ إلى نظري، أي يكون محلاًّ للنظر والنقاش، وبالعكس، فيصبح النظري المختلف فيه بدهيّاً واضح القبول، وذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة والمجتمعات.

لذلك هناك مَنْ يناقش في ادّعاء الضروريات؛ لأنها لم تَرِدْ في نصٍّ. قال الميرزا القمّي، صاحب القوانين: اختلف العلماء في ضرورات الدين؛ يحكم أحدهم بأنّ هذا الشيء من ضرورات الدين؛ ويحكم الآخر بأنّ عدمه من ضرورات الدين([22]).

ومن هنا اعترض أحد علماء المملكة، وهو الشيخ الدكتور حاتم الشريف العوني، على البيان الذي صدر عن مجمع الفقه الإسلامي الدولي([23])، في الفقرة التي جاء فيها: (تحريم تكفير أيّ فئة من المسلمين تؤمن بالله ورسوله|، وتؤمن بأركان الإسلام وأركان الإيمان، ولا تنكر معلوماً من الدين بالضرورة).

ورأى أنّ هذه الفقرة تقريرٌ للتكفير، وفتحٌ لأبوابه المشرعة: فمع أنّ التكفير بإنكار المعلوم من الدين بالضرورة مقالةٌ قد سبق إلى إطلاقها كثيرٌ من العلماء، إلاّ أنها مقالةٌ قد جرّ خطأُ إطلاقها شروراً كثيرةً على المسلمين، قديماً وحديثاً. وكان المرجوّ من جهةٍ علمية بثقل مجمع الفقه الإسلامي الدولي أن تتجاوز تلك الأخطاء في تراثنا، ولا تكرّرها دون تحرير، ولا تصحيح، ولا تجديد.

إنّ تكفير مُنْكِر المعلوم من الدين بالضرورة بهذا الإطلاق سيكون سبباً في تكفير البعض من المشهود لهم بالورع والتقوى عبر تاريخنا الإسلامي!! نعم، إلى هذا الحدّ سيكون أثره السلبي خطيراً!!

فهذا قدامة بن مظعون رضي الله عنه، وهو من أهل بدر، ومع ذلك ففي خلافة عمر بن الخطاب قد أنكر التحريمَ المطلقَ لشرب الخمر، فشربها، حتّى سَكِرَ، متأوِّلاً آيةً في كتاب الله تعالى على عدم إطلاق تحريم الخمر، فأقام عمر الحدَّ عليه، ولم يكفِّرْه بإنكاره هذا الأمر المعلوم من الدين بالضرورة، ولا عَذَره في تأوّله إعذاراً مطلقاً، لكنه لم يطبِّق عليه حكم بيان مجمع الفقه الإسلامي الدولي، فلم يحكم بردّته، مع كونه أنكر معلوماً من الدين بالضرورة!

ومن الصحابة مَنْ كان يُنْكِر قرآنية المعوذتين؛ وآخر منهم كان يضيف في القرآن دعاءَيْن للنبيّ|، ويسمِّيهما: سورتَيْ الحَفْد والخَلْع، ولعلّها من منسوخ التلاوة؛ ومن العلماء مَنْ أنكر بعض القراءات المتواترة، ومع ذلك لم يكفِّرهم أحدٌ بإنكار معلوم من الدين بالضرورة، خلافاً لإطلاق ذلك البيان المنتَقَد.

إلى أن يقول: وما استطال التكفيريون بشيءٍ أكثر من استطالتهم بمثل ذلك الإطلاق الذي جاء في البيان؛ فكلّ طائفةٍ تكفيرية تكفِّر غيرها بحجّة أنهم أنكروا معلوماً من الدين بالضرورة، دون النظر في حال المُنْكِر، هل كان عالـماً بما أنكره أم كان جاهلاً (جهلاً بسيطاً أو مركَّباً)؟([24]).

وكذلك قال المحقّق الأردبيلي: الظاهر أنّ المراد بالضروريّ الذي يكفّر مُنْكِره هو الذي ثبت عنده يقيناً كونه من الدين([25]).

وقال السيد اليزدي في العروة الوثقى: والمراد بالكافر مَنْ كان منكراً للألوهية…، أو ضرورياً من ضروريات الدين، مع الالتفات إلى كونه ضرورياً([26]).

التكفير المتبادل بين المذاهب

إنّ القول بتكفير مُنْكِر الضرورة هيّأ الأرضية للتكفير المتبادل بين أتباع المذاهب الإسلامية؛ حيث يرى كلّ مذهب أنّ معتقداته من ضروريات الدين، فيكفر مَنْ لم يؤمن بها من أتباع المذاهب الأخرى.

حيث رأى بعض علماء الشيعة كفر مَنْ أنكر ولاية أهل البيت؛ لأنها من ضروري الدين. لكنّ جمهور علماء الشيعة لا يرَوْن ذلك.

يقول السيد الخوئي: لأنّ الضروري من الولاية إنما هي الولاية بمعنى الحبّ والولاء، وهم (عامّة المسلمين) غير منكرين لها ـ بهذا المعنى ـ، بل قد يظهرون حبّهم لأهل البيت^. وأما الولاية بمعنى الخلافة فهي ليست بضرورية بوجهٍ، وإنما هي مسألةٌ نظرية، وقد فسَّروها بمعنى الحبّ والولاء، ولو تقليداً لآبائهم وعلمائهم. وإنكارُهم للولاية بمعنى الخلافة مستندٌ إلى الشبهة، كما عرفْتَ. وقد أسلفنا أنّ إنكار الضروريّ إنما يستتبع الكفر والنجاسة فيما إذا كان مستلزماً لتكذيب النبيّ|، كما إذا كان عالماً بأنّ ما ينكره ممّا ثبت من الدين بالضرورة. وهذا لم يتحقَّق في حقّ أهل الخلاف؛ لعدم ثبوت الخلافة عندهم بالضرورة لأهل البيت^. نعم، الولاية ـ بمعنى الخلافة ـ من ضروريات المذهب، لا من ضروريات الدين([27]).

وفي المقابل ذهب بعض علماء السنّة إلى تكفير مَنْ سبَّ الشيخين. لكنّ جمهور فقهائهم ذهب إلى عدم تكفيره. وتوقّف الإمام أحمد في كفره وقتله، وقال: يعاقب ويجلد ويحبس، حتّى يموت أو يرجع عن ذلك([28]).

واتفقوا على أنّ مَنْ قذف السيدة عائشة بما برّأها الله منه، أو أنكر صحبة الصدّيق، كفر؛ لأنه مكذِّبٌ لنصّ الكتاب.

وأما مَنْ كفَّر بعض الصحابة دون بعضٍ فذهب الحنفية والمالكية في المعتمد عندهم، والإمام أحمد في إحدى الروايتين، إلى عدم كفره؛ وذهب الشافعية والحنابلة في الرواية المشهورة إلى تكفير مَنْ كفَّر بعض الصحابة، وتطبَّق عليه أحكام المرتدّ.

وذهب المالكية إلى تكفير مَنْ تزيّا بزيّ الكفر، من لبس غيار، وشدّ زنار، وتعليق صليب؛ وقيَّده المالكية والحنابلة بما إذا فعله حبّاً فيه ومَيْلاً لأهله، وأما إنْ لبسه لعباً فحرامٌ، وليس بكفر([29]).

4ـ جماعات الإسلام السياسي

في أعقاب سقوط الخلافة العثمانية مطلع القرن العشرين، والانبهار الذي ساد أوساط الأمة بالحضارة الغربية المادية، وانتشار تيارات وقيام سلطات مناوئة للحالة الدينية في بلاد المسلمين، تكوّنت جماعات وأحزاب تدعو للالتزام بالإسلام وإقامته وتطبيقه، في مقابل التيار الانهزامي والتيار المناوئ للدين، ولقيت تجاوباً من مجاميع من أبناء الأمّة الغيارى على دينهم وأصالتهم. وكانت في البداية نشاطا دَعَويّاً ثقافيّاً اجتماعيّاً، لكنها ما لبثت أن تحوّلت إلى النشاط السياسي، ومقاومة السلطات التي واجهتها بالقمع الشديد، كما حصل في مصر في عهد جمال عبد الناصر. وهناك نقاشٌ وخلاف حول مَنْ بدأ بالعنف.

 من وحي هذه المواجهة انبعث تيار التكفير الجديد لتكفير الحكومات؛ حيث إنها تمنع الدعوة إلى الله ونشر الدين، ثمّ تكفير الأجهزة التابعة لها، وخصوصاً الأجهزة الأمنية. وقد ألّف (فارس آل شويل ـ سعودي) كتاباً بعنوان: (الباحث عن حكم قتل أفراد وضباط المباحث)([30])، وهي رسالةٌ في تأصيل جواز قتل أفراد المباحث السعودية. وقد صدر بعد المواجهات بين جماعات القاعدة والسلطات السعودية، عقب حادثة مواجهة استراحة حيّ الشفا، جنوب غربي الرياض، صباح 16 نوفمبر 2002م.

ثم تطوّر الأمر إلى تكفير المجتمعات الخاضعة لهذه الحكومات. وبعضُها اتخذ التكفير عنواناً لها، مثل: جماعة التكفير والهجرة في مصر([31]). ولهذه الجماعات كتابات وأدبيات منتشرة.

وتطوّرت الأمور إلى ظهور جماعات عديدة في هذا الزمان، كـ (القاعدة) و(داعش) و(بوكو حرام) و(أنصار الشريعة) و(الشباب المسلم في الصومال)، وغيرها.

التحذير من التكفير

بعد هذه المآسي والفظائع التي عاشتها الأمّة؛ بسبب هذه التوجُّهات التكفيرية، أما آن للأمة أن تضع حدّاً لهذه الحالة المأساوية؟!

إنّ الله سبحانه وتعالى ينهى عن تكفير مَنْ أعلن إسلامه؛ يقول تعالى بنصٍّ صريح: ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً﴾، ويُرجع سبحانه الدافع إلى هذا المنزلق الخطر بأنه طلب المصلحة والأغراض الدنيوية: ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، كما حذّر رسول الله| من التسرّع في تكفير الآخرين، فقال في ما رُوي عنه: «إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لأَخِيهِ: يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا»([32]).

وعنه|: «مَنْ دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ، أَوْ قَالَ: عَدُوَّ اللهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إلاّ حَارَ عَلَيْهِ» ([33]).

وقد ضرب الإمام عليّ× أروع الأمثلة في تجنُّب تكفير أحدٍ من أهل القبلة؛ حيث لم يسمح بتكفير مَنْ كفَّره أو حاربه، كما نقل ذلك حفيدُه الإمام محمد بن عليّ الباقر× في قوله: أَنَّ عَلِيّاً× لَمْ يَكُنْ يَنْسُبُ أَحَداً مِنْ أَهْلِ حَرْبِهِ إِلَى الشِّرْكِ، وَلا إِلَى النِّفَاقِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «هُمْ إِخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا»([34]).

وسُئِلَ عَلِيٌّ× عَنْ قَتْلَى الْجَمَلِ، أَمُشْرِكُونَ هُمْ؟ قَالَ: «لا، بَلْ مِنَ الشِّرْكِ فَرُّوا»، قِيلَ: فَمُنَافِقُونَ؟ قَالَ: «لا، إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَذْكُرُونَ اللهَ إلاّ قَلِيلاً»، قِيلَ: فَمَا هُمْ؟ قَالَ: «إِخْوَانُنَا، بَغَوْا عَلَيْنَا، فَنُصِرْنَا عَلَيْهِمْ»([35]).

ونقل الشيخ عبد الوهّاب الشعراني، من علماء القرن العاشر، في كتاب (الطبقات الكبرى)([36])،عن الإمام تقيِّ الدين السُّبكي، من أئمة القرن الثامن، فقد سُئِل عن حكم تكفير المبتدعة وأهل الأهواء؟ فقال: اعلم أيّها السائل أنّ كلّ مَنْ خاف الله عزَّ وجلَّ استعظم القولَ بالتكفير لمَنْ يقول: لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله؛ إذ التكفير هائلٌ عظيمُ الخطر؛ لأنّ مَنْ كفّر شخصاً بعينه فكأنما أخبر أنّ مصيره في الآخرة جهنّمُ خالداً فيها أبد الآبدين، وأنه في الدنيا مباحُ الدم والمال، لا يُمكَّن من نكاح مسلمةٍ، ولا تجري عليه أحكام المسلمين، لا في حياته ولا بعد مماته. والخطأ في ترك ألف كافر أهونُ من الخطأ في سفك مِحْجَمَة من دم امرئٍ مسلم. وفي الحديث: «لأَنْ يُخطئ الإمام في العفو أحبّ إليَّ من أن يخطئ في العقوبة»([37]).

وبعد هذه القرون الطويلة التي اشتغلت فيها الأمّة بعضها ببعضٍ، ضمن جَدَل عقيم، أبعدها عن الحضارة وتطوير الحياة، وأوصلها إلى هذه الحالة المتردّية من الاحتراب وسفك الدماء وسوء السمعة، أما آن أن نضع حدّاً لهذا المسار؟!

ومن المؤسِف جدّاً أن تعيش الأمة في هذا العصر في ظلّ موجةٍ عارمة من توجُّهات التكفير، مزَّقت مجتمعات الأمّة، وأسالت دماء أبنائها أنهاراً، واستباحت كلّ المحارم، وانتهكت كلّ المبادئ والأعراف، وشوَّهت سمعة الإسلام والمسلمين في العالم.

وفي مواجهة هذا الواقع الأليم لا بُدَّ من إعادة النظر في فهمنا للدين عبر المجالات التالية:

1ـ إعادة النظر في التراث ومراجعته

مع ما يحمل تراثنا الديني من كنوز عظيمة يمكن أن نقدِّمها للعالم، إلاّ أنّ المنطق العلمي يوجب علينا أن ننقّيه ممّا شابه والتصق به من نقولاتٍ وأفكار يأباها العقل والدين.

إنّ ما لدى المسلمين اليوم من كتبٍ عقائدية وحديثية تحتاج إلى غربلةٍ وتنقية؛ فبقاؤها دون مراجعة يشبه فتح مخازن الأدوية والسموم أمام الأطفال الذين لا يفرِّقون بين النافع والضارّ.

ونشير هنا إلى جانب الممانعة التي تواجهها جهود التنقية والغربلة، فكلُّ مَنْ يسعى لتنقية التراث يُتَّهم بشتّى التُّهَم.

2ـ إعادة النظر في مناهج التعليم الدينية في المدارس والمعاهد والحوزات

حيث لا تزال حوزاتنا ومعاهدنا وجامعاتنا الإسلامية، بل حتّى المدارس الابتدائية، تدرّس كتباً في الفقه والعقيدة أُلِّفَتْ منذ قرونٍ، وهي تحمل بذور التكفير والتطرُّف، وتربّي النَّشْء والمجتمع على التشدُّد!!

3ـ الخطاب الديني

لا بُدَّ من إعادة النظر في الخطاب الديني، الذي يتّهم الناس في أديانهم، ويصفهم بالكفر والشرك والابتداع؛ لاتّباعهم مذاهب مختلفة؛ أو لأنهم لا يؤمنون بولاية الائمة؛ أو لأنهم يزورون القبور؛ أو يحتفلون بالمولد النبوي الشريف؛ أو يحيون مناسبات أهل البيت^.

وبعضُ أئمة صلاة الجماعة يَدْعون في قنوتهم على المسلمين المخالفين لهم في بعض الآراء والمعتقدات، يَدْعون عليهم بالهلاك واللعن والخِزْي، كما تتوالى فتاوى التكفير والتضليل في الساحة الإسلامية.

ومن الطبيعي أن تخلق هذه الأجواء بيئةً ومناخاً لإنتاج وتفريخ حركات التكفير والإرهاب والعنف.

الهوامش

(*) كاتبٌ وباحث، ومن أبرز الشخصيات الإسلاميّة في المملكة العربية السعوديّة، ومن الشخصيات الناشطة في مجال التوعية الدينيّة، وعلى صعيد التقريب بين المذاهب الإسلاميّة.

([1]) راجع: حسين الخشن، الفقه الجنائي في الإسلام، الردّة نموذجاً: 25.

([2]) افتقدَتْه ساحة المعرفة الإسلامية مؤخَّراً، بتاريخ 4 مارس 2016م، رحمه الله.

([3]) صدر عن مكتبة الشروق الدولية، الطبعة الأولى سنة 2003م، والثانية بالاشتراك مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي سنة 2006م، ويقع في 198 صفحة من القطع الكبير.

([4]) الدكتور طه جابر العلواني، لا إكراه في الدين، بحثٌ في إشكالية الردة والمرتدّين من صدر الإسلام إلى اليوم: 12.

([5]) نهج البلاغة، خطبة رقم 1، ومن خطبةٍ له× يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم.

([6]) تفسير الطبري 9: 72، تفسير سورة النساء، القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ في سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا﴾.

([7]) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلاّ الله، ح169.

 ([8]) تفسير البغوي ١: ٤٦٦.

([9]) الواقدي، كتاب المغازي 3: 1043.

([10]) صحيح البخاري، كتاب الصلاة، أبواب استقبال القبلة، باب فضل استقبال القبلة، ح387.

([11]) نهج البلاغة، الخطبة 208.

([12]) صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب إثم مَنْ راءى بقراءة القرآن أو تأكّل به أو فخر به، ح4788.

([13]) بحار الأنوار 33: 349.

([14]) ابن كثير، البداية والنهاية 7: 318.

([15]) نهج البلاغة، الخطبة 127.

([16]) البداية والنهاية 9: 379.

([17]) تاريخ مدينة دمشق 59: 257؛ وتاريخ الطبري 8: 139.

([18]) الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد 7: 68.

([19]) البداية والنهاية 10: 215.

([20]) الذهبي، تاريخ الإسلام 17: 29.

([21]) الكافي ٢: ٢٥، ح1.

([22]) الشيخ محمد جواد مغنية، فلسفات إسلامية: 148، دار الجواد، بيروت، ط6، 1993م.

([23]) انعقدت الدورة الحادية والعشرين لمؤتمر مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي في الرياض بتاريخ 15 ـ 19 محرّم 1435هـ، الموافق 18 ـ 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013م، والقرار المشار إليه رقم 202.

([24]) نشر المقال بعنوان: (التكفير بإنكار المعلوم من الدين بالضرورة / 2) في صحيفة المدينة، الجمعة 13/12 /2013م.

([25]) المحقق الأردبيلي، مجمع الفائدة ٣: ١٩٩.

([26]) السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، العروة الوثقى 1: 60، فصل النجاسات، باب الكافر.

([27]) السيد أبو القاسم الخوئي، التنقيح في شرح العروة الوثقى 2: 86.

([28]) الموسوعة الفقهية 13: 232، لفظ (تكفير)، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في الكويت.

([29]) المصدر السابق 13: 233.

([30]) فارس أحمد جمعان آل شويل الزهراني، الملقَّب بـ (أبو جندل الأزدي)، أُلقي القبض عليه في أغسطس 2004م، وأعدم في 2 يناير عام 2016م.

([31]) جماعة ظهرت في مصر عام 1971م، وأطلقت على نفسها اسم جماعة المسلمين، وتولّى قيادتها وصياغة أفكارها ومبادئها رجلٌ يدعى شكري مصطفى. كان طالباً في كلية الزراعة، واعتقل في عام 1965م، وأدخل السجن بتهمة انتمائه إلى جماعة الإخوان المسلمين. وفي السجن تولَّدت أفكاره ونمَتْ، واعتبر نفسه مصلحاً عظيماً، وبايعه أتباعه أميراً للمؤمنين وقائداً لجماعة المسلمين. وانتهى الأمر به إلى أن أُعدم هو وزملاؤه من قادة الجماعة في عام 1978م.

([32]) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب مَنْ كفّر أخاه بغير تأويل فهو كما قال، ح5774.

([33]) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان حال إيمان مَنْ قال لأخيه المسلم: يا كافر، ح96.

([34]) وسائل الشيعة 11: 62، الباب 26 من أبواب جهاد العدوّ، ح10.

([35]) شرح الأخبار ١: ٣٩٩، ح344؛ وتفسير القرطبي ١٦: ٣٢٤.

([36]) الطبقات الكبرى 1: 13.

([37]) الدكتور عمر عبدالله كامل، التحذير من المجازفة بالتكفير: 15، دار بيسان للنشر، بيروت، ط1، 2003م.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً