أحدث المقالات

الشيخ حسين جهجاه(*)

تمهيدٌ

يحتلّ القرآن الكريم مكانةً عظيمة لدى المسلمين، على اختلاف انتماءاتهم المعرفيّة؛ فهو المصدر التشريعيّ الأول، ومنهج الحياة الذي يضمن للإنسان فيما لو التزم به سعادته وكماله، وكذلك هو يحوي مضامين رفيعة ومعارف عميقة في كافّة المجالات التي تعنيه. من هنا، عَرَّف القرآن الكريم نفسَه على أنه كتابُ هدايةٍ: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ (الإسراء: 9). وقد عرَّف المسلمون القرآنَ بأنه كلام الله الذي أُنزل من اللوح المحفوظ إلى النبيّ| بواسطة الملاك جبرئيل.

هذا المقدار اتّفق عليه جميع المسلمين، وسارت عليه كافّة الاتجاهات المعرفية، من المحدِّثين والفقهاء والمتكلِّمين والفلاسفة، إلاّ أنّ مورد الاتفاق هذا لم يكن كافياً لضمان عدم الاختلاف في كيفية استنطاق القرآن؛ للكشف عن مدلولاته، فوقع الخلاف الكبير بين المفسِّرين في اختيار الأسلوب والمنهج الأصحّ في تفسير كتاب الله، وبرزت نتيجةً لذلك اتجاهاتٌ عديدة.

لا نقصد بهذه الاتجاهات المناهجَ التفسيريّة المتعدِّدة المذكورة في الكتب التي تتناول مناهج التفسير مقارنةً وشَرْحاً، كالمنهج الفلسفيّ والأثريّ وغيرهما، بل المقصود أن المطالع لتفاسير العلماء يرى سريعاً، وبوضوحٍ، تمايزهم في التعامل مع القرآن واستنطاق الآيات القرآنية كمّاً ونَوْعاً. فعلى سبيل المثال: في تفسير الآية التالية: ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (ق: 30) ذهب بعض المفسِّرين إلى أنها مجرّد تصوير كنائيّ عن اتّساع جهنم لكلّ الكفّار والمجرمين، حيث إنها لا تضيق بهم مهما كبر عددهم([1])، فلا دلالة للآية على أكثر من ذلك؛ غير أن بعضهم الآخر لم يوافقهم على استفادة هذا المقدار فقط، واعتبر أن الخطاب والجواب على ظاهره الحقيقي؛ بدلالة أن العلم والشعور سارٍ في جميع الموجودات([2])، وعلى ذلك فجهنم مخلوقٌ حيٌّ عاقل، يُخاطَب و يجيب.

إذن، هناك تمايزٌ صريحٌ بين أصحاب هذين المنهجين على المستوى الدلاليّ الكمّي، حيث اكتفى صاحب الرأي الأوّل بدلالةٍ واحدة من الآية، وهي اتّساع جهنّم، وزاد عليه الثاني دلالةً أخرى، هي أنها مخلوقٌ حيٌّ وعاقلٌ، وأيضاً على المستوى الدلاليّ الكيفي، حيث حمل الأوّل الآية على الكناية، وحملها الثاني على الاستعمال الحقيقي.

ولهذا شواهد كثيرة في تفاسير هذين الاتجاهين، فرُبَما اقتصر اتجاهٌ على استفادة دلالةٍ أو دلالتين من الآية، ومنع استفادة أكثر من ذلك؛ وقابله اتجاهٌ آخر بالقول بإمكان استفادة عشرات الدلالات من الآية الواحدة، بل أكثر.

وهنا يقدِّم السؤال التالي نفسه أكيداً: ما هي الأسباب التي أدَّتْ إلى اختلاف هذين الاتجاهين في عملية التفسير؟ فهل يوجد متبنّيات محدَّدة اختلفوا فيها انعكسَتْ بالنتيجة على تفسير الآيات؟ وإنْ كان الجواب بالإيجاب فما هي تلك المتبنَّيات؟

تهدف هذه المقالة إلى إرجاع اختلافات هذين الاتجاهين إلى بعض المتبنَّيات المتقابلة لدى كلّ فريقٍ، وتوضيح كيفية انعكاس هذه المتبنَّيات على عملية التفسير. وقد عمدْتُ إلى انتخاب عَلَمين اثنين من أعلام هذين الاتجاهين، ورجعتُ إلى كتبهم التفسيرية، وأيضاً آرائهم في علوم القرآن؛ لرصد هذه المتبنّيات، وهما: العلاّمة السيد محمد حسين فضل الله، ممثِّلاً الاتجاه الأوّل، الذي حدَّد مداليل الآيات بمقدار ما يفهمه العُرْف فقط؛ والعلاّمة السيد محمد حسين الطباطبائي، ممثِّلاً الاتجاه الثاني، الذي سمح باستفادة مدلولاتٍ أكثر.

يمكن القول: إن اختلاف هذين العَلَمين في بعض مسائل علوم القرآن انعكس على اختلافهما في التفسير، وإنْ توافقا في بعض النقاط في المنهج التفسيري. فهما مثلاً اتفقا على استقلالية القرآن في بيان معارفه، بمعنى أنه نصٌّ مستقلّ بذاته، لا يحتاج من حيث المبدأ في فهم مراداته وتحديد معانيه إلى مرجعٍ آخر، وعلى كون السياق قرينةً تفسيرية يستفيد منها المفسِّر في تحديد المراد. إلاّ أنهما بالرغم من ذلك غير متّفقَين على مسائل أخرى، قد يُعْزَى سبب الاختلاف فيها إلى مسألةٍ أساسية جدّاً، هي: حقيقة القرآن الكريم.

فقد اختلفا في حقيقة الألفاظ المتشابِهة، ومسألة المُحْكَم والمُتشابِه، وبطون القرآن، والأسلوب البياني له، والطريقة التي اعتمدها في إيصال مراداته. وكلّ هذه المسائل تعود بالجذور إلى تغاير فهمهم لحقيقة القرآن الكريم. هذا التغاير نفسه هو الذي أتاح للسيد الطباطبائي أن يوسِّع من الدلالات القرآنية، ولم يسمح للسيد فضل الله بذلك.

إذن، بالإمكان أن نقول: إن المتبنّيات التي اختلفا بها تعود إلى أربعةٍ، هي:

1ـ حقيقة القرآن الكريم؛

2ـ لغة القرآن؛

3ـ بطون القرآن وتأويله؛

4ـ نظريّة روح المعنى.

ويُلاحَظ أن الثاني والرابع لهما علاقة بالطريقة المعتمدة في التخاطب بين القرآن والبشر، وهل هي طريقةٌ فوق عقلائيّة وغير عُرْفيّة أو لا؟ وهذه المسألة ترتبط أيضاً بشكلٍ وثيق بمسألة بطون القرآن، التي ترتبط بقضيّة فَهْم حقيقة القرآن الكريم، وتحديد طبيعته.

وعليه، المتبنَّيات الثلاثة الأخيرة تعود بالنهاية إلى حقيقة القرآن الكريم، وجميعها أثَّرَتْ على استنطاق الآيات.

1ـ حقيقة القرآن الكريم

يرى السيد فضل الله، وفقاً للنظرة العامّة في فهم حقيقية القرآن الكريم، أنه كتاب الله المنزل، والذي كان موجوداً في اللوح المحفوظ، الذي هو كنايةٌ عن علم الله تعالى، أنزله الله بواسطة جبرئيل على قلب النبيّ| بصورة ألفاظ وكلمات، معتمداً فقط على أساليب العرب في البيان والإفهام، من حيث الخصائص الفنيّة التي تحمل الإيحاءات والإشارات المطلوب إيصالها بواسطة هذه اللغة العُرْفيّة البسيطة([3]). وقد اعتمد في سبيل إثبات هذا المدَّعى على بعض آيات القرآن، التي تفصح عن كونه قرآناً عربيّاً، مثل: قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (يوسف: 2)، و﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى‌ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ (الشعراء 193 ـ 195). وبهذا فإن السيد فضل الله لم يحتَجْ إلى أزيد مما بيَّنه القرآن عن حقيقة نفسه، وفي طبيعة اللغة التي استخدمها، فاعتمد على آيات القرآن فقط، وتبنّى هذه النظرة البسيطة الخالية من التعقيد في فهم حقيقة القرآن، وطريقة مخاطبته.

وبذلك فقد حمل الآيات التي يفهم منها العربيّ البسيط المعنى الكنائي أو المجازي على الكناية والمجازية، واحتجّ بذلك أن هذا هو المفهوم بحَسَب أساليب البيان العربيّ، وقد صرَّح القرآن بأنه اعتمدها. مثلاً: حمل قوله تعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً (النساء: 10) على الاستعارة([4])؛ لأن هذا ما يفهمه العربيّ بشكلٍ طبيعيّ، على أساس القواعد البلاغيّة، بنحوٍ يتبادر هذا المعنى مباشرةً إلى ذهنه عند السماع، ثمّ نقض على العلاّمة الطباطبائي، حيث حمل الآية على الاستعمال الحقيقي؛ لتدلّ بذلك على تجسُّم الأعمال([5])؛ بحجّة أن هذا بعيدٌ عن أذهان عموم العرب.

وفي مقابل ذلك كلِّه، ذهب العلاّمة الطباطبائي، ووفقاً لنظرة العرفاء للوجود، إلى فهم حقيقة القرآن بشكلٍ أكثر عمقاً وتعقيداً. فهو يرى أن حقيقته أعلى من أن تنالها الأفهام البسيطة، وأنها نزلت إلى مرتبة الذكر بلسان النبيّ|؛ كي يعقلها عامّة الناس، وإلاّ فإنه في مرتبته العالية عند الله، والمعبَّر عنها بأمّ الكتاب، لا يتمكَّن من فهمه إلاّ المطهَّرون، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً.

وهذا يحتاج إلى مزيد بيانٍ؛ لنفهم كيف ربط العلاّمة الطباطبائي بين حقيقة القرآن والوجود. يرى الطباطبائي أن هذا الوجود بكلّ ما فيه من موجودات ـ والقرآن واحدٌ منها ـ يعود إلى قوسَيْ النزول والصعود، بمعنى أن هذا الوجود ينحصر في الله تعالى حقيقةً، وهو تعالى في مرتبته وجودٌ مطلق، وأشدّ كمالاً من كلّ ما عداه من مراتب، ثمّ هذا الوجود للذات الإلهية نزل درجةً إلى المرتبة الثانية، وتجلّى فيها، فصار أضعف من الدرجة الأعلى، ثمّ نزل درجةً أخرى، فصار أيضاً أضعف ممّا سبقه، حتى وصل إلى الدرجة الأدنى والأضعف وجوداً وكمالاً، وهي عالم المادّة.

وعلى هذا الأساس فالقرآن الكريم موجودٌ أيضاً في المرتبة الأولى، ويسمّى فيها أمّ الكتاب، أي العلم الإلهي المطلق، ثم هو نفسه موجودٌ أيضاً في المرتبة الثانية بمستوى أضعف كمالاً، حيث تجلّى في عالم المجرَّدات، وصار له نسخةٌ مجرّدة، ثمّ نزل إلى المرتبة الثالثة، فصار له مرتبةٌ في عالم المثال أقلّ كمالاً، حتّى وصل أخيراً إلى المرتبة الأدنى في عالم الدنيا، فصار القرآن فيها أحرفاً وألفاظاً وكلماتٍ عربية.

يتّضح جليّاً أن الطباطبائي قد انطلق في فهمه لحقيقة القرآن من وجهة نظر عرفانية، قد طبَّقها الملاّ صدرا أيضاً في فلسفته، وكذلك الإشراقيون، هذه النظرة الفلسفية والعرفانية للوجود أنتجَتْ هذا الفهم لحقيقة القرآن الكريم.

لكنّ الملفت هنا أن كلا العَلَمين المفسِّرَيْن قد استند أيضاً إلى نفس الآيات تقريباً لتحديد حقيقة القرآن؛ فهذا العلاّمة الطباطبائي قد استشهد على ذلك بالآية التالية: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (الزخرف: 3)، حيث قال: «وجعل غاية تعقُّله غايةً للجعل المذكور يشهد بأن له مرحلةً من الكينونة والوجود لا ينالها عقول الناس، ومن شأن العقل أن ينال كلّ أمرٍ فكريّ، وإنْ بلغ من اللطافة ما بلغ، فمفاد الآية أن الكتاب بحَسَب موطنه الذي له في نفسه أمرٌ وراء الفكر، أجنبيّ عن العقول البشرية، وإنما جعله الله قرآناً عربيّاً، وألبسه هذا اللباس، رجاءَ أن تستأنس به عقول الناس…»([6]). لكنّ السيد فضل الله علّق على ذلك بأنه خلاف الظاهر من الآية، فقال: «التأمُّل في الآية لا يدلّ على ما ذكره، بل الظاهر منها أن الله قد أنزله كتاباً عربيّاً بلغتكم؛ لتفهموه وتعقلوه، كما يفهم أهل كلّ لغةٍ الكلام النازل عليهم بهذه اللغة؛ باعتبار وضوح اللغة الذي يمنح الإنسان وضوحاً في المطلب»([7]). إذن، السيد الطباطبائي استفاد من الآية بيان حقيقة القرآن؛ والسيد فضل الله اعتبر أنها تريد الامتنان على العرب بأن القرآن قد نزل بلغتهم؛ كي يعقلوه.

وكذلك في آية: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ (هود: 1)؛ حيث اختار الطباطبائي أن معنى الإحكام ربط بعض الشيء ببعضه الآخر، بحيث يعود الجميع شيئاً واحداً بسيطاً غير ذي أجزاء وأبعاض، والمراد بالتفصيل إيجاد الفصل بين أجزاء الشيء المتّصل بعضها ببعضٍ([8])، وبناءً على ذلك ذهب إلى أن للقرآن حقيقةً ومرتبةً يكون فيها بسيطاً ومُحْكَماً، ثمّ مرتبة أخرى صار فيها مفصّلاً إلى آياتٍ. بَيْدَ أن فضل الله اختار معنىً آخر للإحكام والتفصيل؛ بقرينة السياق، فاعتبر أن الإحكام بمعنى الإتقان والوضوح في الدلالة على المعاني، والتفصيل بمعنى الأسلوب المبسَّط في تأدية المعنى، بحيث تصل المفاهيم بطريقةٍ لا خفاء فيها([9]).

وعليه، فالطباطبائي فهم الآية على أنها مسوقةٌ لبيان حقيقة القرآن؛ وفهمها فضل الله على أنها في مقام التعرُّض للجانب الفنّي للآيات، بحيث إنها جمعت بين الجانب البلاغي ـ لناحية الدقّة في الأسلوب ـ والوضوح في العرض.

ظهر إلى هنا أن رؤية العلاّمة الطباطبائي للقرآن الكريم هي أن له حقيقةً عالية جدّاً، وهي تتجلّى في كلّ مراتب الوجود بدرجةٍ كمالية تتناسب وتلك المرتبة، إلى أن تجلَّتْ ألفاظاً عربيّةً في عالم المادّة؛ ليعقلها البشر؛ ويرى السيّد فضل الله أنه مجرّد كتابٍ كان محفوظاً في اللوح المحفوظ، ثمّ أنزله الله على نبيّه| بلغة قومه؛ لكي يعقلوها.

2ـ لغة القرآن

المقصود هو السؤال التالي: هل القرآن الكريم نزل بلغةٍ عقلائيّة عُرْفيّة، يستطيع من خلالها أيّ إنسانٍ أن يفهم مدلولاته بشكلٍ بسيط غير معقَّد، فيكون بيانه هو البيان العربيّ المعروف بما يحمل من أساليب بلاغيّة وفنِّية فقط، أم للقرآن لغته الخاصّة وبيانه الخاصّ أيضاً، بحيث لا يمكن معه الاقتصار فقط على هذه اللغة العُرْفية، بل يجب التفتيش عن الأسلوب الذي اعتمده؛ لنستكشف من خلاله المدلولات؟

في الحقيقة لا يمكن الفصل بين الجواب عن هذا السؤال وبين فهم طبيعة القرآن الكريم؛ فالجواب هناك يؤثِّر على الجواب هنا.

لذا ربطَتْ بعض التيارات المعرفية الإسلاميّة ـ ومنهم اتجاه العلاّمة الطباطبائي ـ بين لغة القرآن وحقيقته، فهم يقولون: بما أن للقرآن حقيقةً مطلقةً توجد فيها جميع الخصائص والكمالات الوجودية في مرتبة الذات الإلهية فلا بُدَّ أن يكون واجداً لجميع العلوم بشكلٍ تامّ؛ حيث إن علم الله تعالى فيه جميع العلوم، وهذا معنى قوله تعالى: إن القرآن تبيانٌ لكلّ شيءٍ.

وعلى ذلك، وبما أن في القرآن معلوماتٍ غير متناهية ـ لأن علمه تعالى غير متناهٍ ـ يجب أن نفتِّش عن اللغة والبِنْيَة الدلاليّة التي اعتمدها في سبيل إيصال هذه المعلومات؛ إذ من الطبيعيّ أن اللغة العربية العُرْفية ـ كما هي أيّ لغةٍ بشريّة أخرى ـ غير قادرةٍ على استيعاب هذه المداليل؛ لأن القرآن محدودٌ بهذه الكلمات التي بين أيدينا، وواضحٌ أنه لا سبيل لدلالتها على هذه المعلومات اللامتناهية.

إذن، لغة القرآن هي لغةٌ غير عُرْفية وفوق عقلائية، وهي المتعيِّنة في التعامل مع النصّ القرآني، أما التعامل معه بطريقة اللغة العُرْفية العقلائية فهو وإنْ كان يمدّنا بالمعلومات، ويساعدنا على استكشاف بعض المداليل، إلاّ أنها مداليل معدودةٌ جدّاً، وبسيطةٌ للغاية، لا تعدو أن تكون قطرةً في بحار القرآن الكريم.

من هنا، يغدو من اللازم علينا أن نذهب إلى القرآن بنسخته الأعلى الموجودة في عالم المثال أو عالم المجرّدات، ونرى هناك مداليله، ثمّ نأتي إلى نسخته المادية ـ أي الموجودة في عالمنا ـ، المؤلَّفة من الألفاظ العربية، ونطبِّقها عليها، وهذا ما يقصده العرفاء بقولهم: إن خطاب الله يُفْهَم من مراده، لا العكس.

وعلى الخطّ الموازي لذلك يقف العلاّمة فضل الله، فهو ينطلق من اعتقاده الذي بيَّنّاه سابقاً، من أن القرآن كان محفوظاً في اللوح ثمّ نزل على النبيّ| بلغة العرب وأساليبهم وطرق بياناتهم، لذلك لا سبيل لفهمه إلاّ بما يفهمونه. وعلى ذلك، فالقواعد العربية في الاستعمالات الحقيقية والمجازية هي المُحَكَّم في مسألة الإفهام والتدليل، فما يفهمه العربيّ من كلمات القرآن وتراكيبه هو المراد فقط. من هذا المنطلق يعتبر السيد فضل الله أنه لا داعي أبداً للاستغراق في حَرْفيّة الكلام القرآني؛ كي نذهب ونسأل عن مسير الجبال وحركتها، ولماذا نراها ثابتة؟ كما في قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (النمل: 88)، وغيرها من الأسئلة، التي تبتعد بنا عن الجانب الجمالي البلاغي في القرآن، القائم على الاستعارات والكنايات، فهذه المعاني المتبادرة عُرْفاً في ذهن العربيّ هي ما يريده القرآن، لا غير.

ونضرب لذلك مثالاً: الآية التالية: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (البقرة: 257).

يعتقد السيّد فضل الله أنها واردةٌ على سبيل الاستعارة المجازيّة، حيث استعار القرآن كلمتي النور والظلمة، الموضوعتين للمعنى المادّي، في المعنى المعنويّ لهما([10])، فالإخراج إخراجٌ مجازي.

أما العلاّمة فإنه يرى أن هذا الإخراج حقيقيٌّ([11])؛ والسبب في ذلك يعود بحَسَب السيّد فضل الله إلى أن العلاّمة الطباطبائي قد انطلق من حالةٍ عقليّة تحليليّة، الشيء الذي نتج عنه البحث عن علاقة الولاية بالإيمان والكفر والظلمة والنور وغيرها بالشكل الدقّي، الذي استعمله العلاّمة، فابتعد بذلك عن فهم الكلمات بما تتضمّنه من معانٍ عُرْفية، يدركها الناس الذين يعيشون أجواء اللغة العربية بمنتهى البساطة.

بل ذهب السيد فضل الله أبعد من ذلك، فاعتبر أن الأحاديث التي قد توحي بوجود حقائق أخرى، وتفتح المجال لمثل هذه الأسئلة البعيدة عن ذهن العربي، يجب أن تخضع هي للعناوين والظهورات القرآنيّة، لا العكس، فتُرَدّ هي أو تؤوَّل، لا أن نتمسَّك بها ونؤوِّل فهمنا العُرْفي للقرآن([12]). من هنا، يلزم علينا أن نحافظ على ظهور بعض الآيات القرآنية الظاهرة بالجانب البلاغي، ونردّ ما يخالفها من الأحاديث، فيكون القرآن حاكماً عليها بمعنىً من المعاني.

وبالمقارنة بين تفسير العَلَمين يظهر افتراقهما كثيراً؛ بسبب هذه النقطة، حيث إن العديد من الآيات قام السيد الطباطبائي بعملية تأويلٍ لها، قد تكون بعيدةً عن أذهان العرب في عصر النزول، فاستفاد منها مجموعةً من الدلالات، وأيّدها ببعض الروايات؛ بينما نجد السيد فضل الله قد حافظ على ظهورها العُرْفي ـ سواء الحقيقي أو البلاغي ـ، وتصرَّف بتلك الروايات، كما في الروايات التي قد يُفْهَم منها تجسُّم الأعمال يوم القيامة، والتي اعتمدها الطباطبائي كمؤيِّدات لهذه القضية، خلال بحثه العديد من الآيات التي استفاد منها هذا المعنى([13])، بينما حافظ فضل الله على كنائيّة هذه المعاني.

 

3ـ بطون القرآن وتأويله

بما أن للقرآن بنيته الدلالية الخاصة به ـ حَسْب الاتجاه الذي ينتمي إليه العلاّمة الطباطبائي ـ يغدو من السهل قبول الروايات التي قد يُفْهَم منها أن للقرآن ظَهْراً وبَطْناً، وأن هذه البطون تصل إلى سبعين بطناً في دلالةٍ على كثرتها، بل إنّ هذا الاتجاه قد اعتمد على مثل هذه الروايات كدليلٍ لإثبات هذا المدَّعى، فقبول هذا المعنى بالنسبة إليه مستساغٌ جدّاً، وإنْ كان بعيداً عن طريقة العقلاء في عملية التخاطب. لكنّ الاتجاه الثاني، الذي يمثِّله السيد فضل الله، لا يمكن أن يقبل هذا المعنى البتّة؛ وذلك لنفس النكتة المذكورة، وهي أن هذا لا ينسجم مع أسلوب البشر التخاطبي وطرقه بالبيان، في حين أن القرآن قد نزل على هذه الأساليب والطرق، من هنا فهم العلاّمة فضل الله تلك الروايات بشكلٍ آخر، ولم يقبل أن تكون دليلاً على ما ادّعاه السيد الطباطبائي.

وُلدَتْ فكرة بطون القرآن في فضاء الفهم الخاصّ الذي تبنّاه اتجاه الطباطبائي في فهم القرآن ـ وإنْ افترقوا في معنى البطون أيضاً ـ، فهم يقولون: إنّ مضمون القرآن واسعٌ جدّاً، لا يمكن أن نتعامل معه ـ في سبيل استكشافه ـ مع هذه اللغة العُرْفية؛ لأن هذه اللغة لا تلامس إلاّ ظاهر القرآن، فلا بُدَّ من اعتماد الطريقة الخاصّة به، التي تنسجم مع لغته الخاصّة أيضاً، من هنا افترضوا أنّ له بطوناً أيضاً، وأن علينا أن نغوص في أعماقة لاقتناص هذه البطون غير المحدودة. واستدلّوا لذلك بروايات تصرِّح بأن للقرآن ظَهْراً وبَطْناً، ومنها: ما رُوي عن فضيل بن يسار قال: «سألتُ أبا جعفر× عن هذه الرواية: «ما من آيةٍ من القرآن إلاّ ولها ظهرٌ وبطنٌ»؟ فقال: ظهره تنزيله، وبطنه تأويله، منه ما قد مضى، ومنه ما لم يكن، يجري كما تجري الشمس والقمر، كلّما جاء تأويلٌ منه يكون على الأموات كما يكون على الأحياء، قال الله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ﴾، ونحن نعلمه»([14]).

ومنها: ما رُوي عن جابر قال: قال أبو عبد الله×: «يا جابر، إنّ للقرآن بَطْناً، وللبطن ظَهْراً، ثم قال: يا جابر، وليس شيء أبعد من عقول الرجال منه، إنّ الآية لتنزل أوّلها في شيءٍ، وأوسطها في شيءٍ، وآخرها في شيء، وهو كلامٌ متّصل متصرِّف على وجوهٍ»([15]).

هذه بعض الروايات التي استدلّ بها الطباطبائي على نظريّة بطون القرآن، واعتبر أن بعض بطونه يختصّ علمُها بالمعصوم×، كما تشير الرواية الثانية. كما استشهد أيضاً ببعض الروايات التي تبيِّن عملية تفسير الإمام× لبعض الآيات، والتي لا يظهر منها المعنى الذي بيَّنه الإمام×، مثلاً: عن عبد الله بن سنان، عن ذُريح المحاربي قال: قلتُ لأبي عبد الله الصادق×: إنّ الله أمرني في كتابه بأمرٍ، فأحبّ أن أعمله، قال: وما ذاك؟ قلتُ: قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾، قال: ﴿لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾ لقاء الإمام، ﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ تلك المناسك. قال عبد الله بن سنان: فأتيتُ أبا عبد الله الصادق×، فقلتُ: جُعلتُ فداك، قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾؟ قال: أخذ الشارب وقصّ الأظفار وما أشبه ذلك، قال: قلتُ: جُعلتُ فداك، إنّ ذريح المحاربي حدَّثني عنك بأنك قلتَ له: ﴿لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾ لقاء الإمام…، فقال: صدق ذريح، وصدقتُ. إنّ للقرآن ظاهراً وباطناً، ومَنْ يحتمل ما يحتمل ذريح؟!([16]).

كما ربط الطباطبائي بين بطون القرآن ومسألة التأويل، وهو أيضاً ما تشير إليه الرواية الثانية بقولها: «وباطنه تأويله». فالتأويل في عُرْف القرآن ـ بحَسَب العلاّمة الطباطبائي ـ ليس من قبيل: المعنى المدلول للفظ، بل هو الحقيقة الخارجية المتعالية عن المادّيات والجسمانيات، وهي أوسع من قوالب الألفاظ، وهي مضبوطةٌ في أمّ الكتاب([17]). من خلال هذا انطلق في اختياره لنظريته في تفسير حقيقة البطون، والتي تعود إلى القراءة العرفانية للقرآن، كما قلنا، ويمكن أن يطلق عليها اسم نظريّة البطون الوجودية([18])، ومفادها: إن بطون القرآن في حقيقتها بطونٌ طوليّة وجوديّة([19])، يعني أنّ الباطن ليس باطناً دلاليّاً، بل باطنٌ وجوديّ، لذلك من الخطأ أن أَعبُر إلى تلك البطون من خلال الألفاظ التي تتّصل بعالم الدلالات، بل يجب الغوص في رُتَب الوجود للوصول إليها؛ باعتبار أنّ القرآن حقيقةٌ متعالية تعود إلى الذات الإلهية، وهو يتجلّى في جميع المراتب ـ كما أسلَفْنا ـ، فما علينا إلاّ أن نصل إلى تلك المراتب، وننظر إلى حقيقة القرآن فيها، وبهذا نستكشف تلك البطون.

 كما يشدِّد العلاّمة الطباطبائي أيضاً على أنه لا خلاف بين ظاهر القرآن وباطنه؛ لأنه حقيقةٌ واحدة، ولذلك لا يجوز التوصُّل من خلال الباطن إلى نقيض ما يظهر من الألفاظ([20]). ولكنْ من جهة أخرى يعتقد أنه لا معيارية لفهم العربيّ من حيث الحدّ الأعلى، فلا يجوز أن نقتصر على المدلولات التي توصَّل إليها العربيّ فقط، ونعتبرها غاية ما يريده القرآن، بل القضية مفتوحةٌ على مئات المعاني التي يُتوصَّل إليها عبر هذه البطون. قال&، في مقام شرحه للظاهر والباطن في كتاب (القرآن في الإسلام): «وعلى هذا للقرآن ظاهرٌ وباطنٌ، أو ظهرٌ وبطنٌ، وكلا المعنيين يُرادان من الآيات الكريمة، إلاّ أنهما واقعان في الطول، لا في العرض؛  فإن إرادة الظاهر لا تنفي إرادة الباطن، وإرادة الباطن لا تزاحم إرادة الظاهر»([21]).

لذلك وفي مقام بيان العلاقة بين الظاهر والباطن صرَّح الطباطبائي بأنّ القرآن اعتمد في بيانه اللغوي على لغة المثال([22])، وهذه النتيجة تُعَدّ حصيلةً طبيعية للفهم الوجودي للقرآن وتعدُّد مراتبه. يذهب العلاّمة الطباطبائي إلى أنّ القرآن لجأ إلى أسلوب المثال واللغة الرمزية في بيان مراداته، وهذه الأمثلة ليست مجرّد أدوات يُراد منها إيصال المضامين العالية بأسلوبٍ بسيط يستسيغه العامّة، بل هي قوالب تشير إلى حقائق كامنة وراءها، مثلاً: وصف الإيمان بالنور والكفر بالظلمة ليسا وصفين تمثيليّين، بل هما حقائق واقعية تنشأ من الحالة الباطنية للمؤمن والكافر([23]). من هنا قرر الطباطبائي أنّ البيانات هي أمثالٌ، ولها ما وراءها من الحقائق الممثَّلة([24]).

هذا باختصارٍ حصيلةُ ما يراه العلاّمة الطباطبائي في هذه المسألة.

وعلى الطرف المقابل يقف العلاّمة فضل الله، الذي أفرز مساحةً لا بأس بها من مقدّمته في تفسير (من وحي القرآن) لمناقشته.

وبالإمكان القول: إن السيد فضل الله يُعَدّ من أصحاب الفَهْم المعرفي لا الوجودي لحقيقية البطون، وإذا كان الطباطبائي قد ربط بين بطون القرآن وحقيقة تأويله ولغة المثال فإن فضل الله قد ربط بين البطون والتأويل وفكرة الاستيحاء.

يعتقد العلاّمة فضل الله أن بطون القرآن ما هي إلاّ تلك الاستيحاءات واللوازم الكثيرة التي يتضمّنها القرآن. وفي مقام بيان معنى الاستيحاء الذي يقصده صرَّح بأنه الانطلاق من الجزئي إلى الكلّي، أو من المادّي إلى المعنوي؛ أما الأوّل فبمعنى أن القرآن قد يطلق بعض الموارد الجزئية، ويؤسِّس من خلالها قواعد كلِّية، وهو نفس نظريّة المصاديق في تفسير البطون التي تبنّاها بعضٌ([25])، يعني إذا قلت: إنّ آية ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ تدلّ على أنه يجب الوفاء بكلّ عهدٍ وثيق، ثمّ بعد ألف عامٍ ظهر عقدٌ جديد في حياة العقلاء، نقول: هذا مشمولٌ لهذه الآية وبَطْنٌ لها، يعني هو مصداقٌ جديد من مصاديق تلك الآية القرآنية. فأنت للوَهْلة الأولى عندما تقرأ الآية ينصرف إلى ذهنك مصداقٌ من مصاديقها، ولكن هناك مصاديق كثيرة أنت غير ملتفتٍ إليها. وعليه فكلما ظهر لك مصداقٌ فهو بَطْنٌ قد انكشف لك. كما يقصد السيد فضل الله من الثاني ـ أي الانتقال من المادّي إلى المعنوي ـ أن القرآن كثيراً ما يطلق لفظاً مادّياً ولكنه يريد تطبيقه على المعنويات أيضاً، مثلاً: في قوله تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرْ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾ يتمّ توسيع مفهوم الطعام، بحيث لا يقتصر على الطعام المادّي، بل يشمل الطعام المعنوي أيضاً، كالعلم مثلاً، وهذا ما قامَتْ بعض الروايات بتطبيقه بالفعل. وهذا يلتقي مع ما قاله الطباطبائي من أنّ القرآن قد يقرب المعاني المعنوي إلى الذهن البشري بالمعاني المحسوسة التي يألفها([26]).

كما يوجد تفسيرٌ إضافي للاستيحاء لفت إليه الشيخ حيدر حبّ الله، وهو عبارةٌ عن تجاوزٍ مدروس لحرفية النصّ أو القضية المطروحة في الآية، وهذا التجاوز لا بُدَّ أن يكون خاضعاً لمنهج الفهم اللغوي العُرْفي، بمعنى أننا نستطيع أن نلحظ إشارات ولطائف ودلالات يمكن استيحاؤها وفقاً لنظام اللغة العربية، كما لو أمكن استيحاء مفهوم قدرة المرأة على ممارسة الإدارة السياسية الحَسَنة من قصّة سبأ([27]).

وبهذا نجد أنّ السيد فضل الله ربط بين البطون والتأويل والاستيحاء، وهو نفسه صرَّح بذلك قائلاً: «إنّ التأويل ليس إلاّ عملية استيحاء للمعنى، من خلال التقاء المعاني ببعضها البعض في الأهداف التي يستهدفها القرآن، في القضايا التي يثيرها أمام الناس، والمفاهيم التي يوحيها إليهم…»([28]).

ويجدر هنا أيضاً أن نبيِّن قضيّةً ذكرها العلاّمة الطباطبائي في مقام بيان لماذا تكلَّم القرآن بأسلوب الظاهر والباطن؟ حيث يرى الطباطبائي أنّ القرآن الكريم كما أنّه كتابُ هدايةٍ هو كتابُ معرفةٍ أيضاً، وهو بذلك يحوي الكثير من المضامين الغيبية العالية والمعارف العميقة والغامضة؛ ومن جهةٍ أخرى فإنّ أغلب الناس يأنسون بالمادّيات والجسميات، وهم بعيدون جدّاً عن المسائل والعوالم المعنوية غير المحسوسة، فتتفاوت بتَبَع ذلك إدراكاتهم المعنوية، ونظراً لذلك لا يُؤْمَن الخطر عند إلقاء هذه المعارف العالية كما هي على عامّة الناس، لذلك استعرض القرآن الحكيم تعاليمه بأسلوبٍ بسيط جدّاً يتناسب وفَهْم العامة، فألقى هذه المعارف بقوالب مادّية تدلّ عليها الألفاظ، وأخفى وراءها هذه الحقائق المعنوية، وهذه الحقائق هي ذات مراتب كثيرة، والمرتبة بالحدّ الأعلى لا يمكن لأحدٍ فهمها سوى (المطهَّرين)، فهُمْ الذين يلمسون الحقيقة القرآنية، ويصلون إلى أعماق معارفها. وهذا كما يرتبط ببطون القرآن يرتبط أيضاً بتأويله([29]).

لكنّ السيد فضل الله رفض أن يكون هناك منطقةٌ خاصة لا يمكن إدراكها، ولا يصل إليها إلاّ الخاصّة؛ فالقرآن عنده كتابٌ موضوع للناس كافّةً، وهو كتاب يحتجّ به الله على عباده جميعاً؛ ولذلك وصفه بأنه مبيِّنٌ وهادٍ، وهذا يفرض أن تكون الفكرة الظاهرة من الآيات هي المرادة، وبالتالي ما يفهمه العرب عُرْفاً هو الحجّة والمراد من الآيات، ولا دليل على إرادة أزيد من ذلك([30])، فإذا فهموا المجاز فهو مجازٌ، وإذا فهموا الحقيقة فهو الحقيقة.

4ـ نظريّة روح المعنى

الكلام هنا يتعلَّق بتأويلات العرفاء المرتبطة بعالم النصّ المكتوب للقرآن الكريم، حيث قدَّموا مساهمةً لها صلةٌ بتأويل القرآن وقضيّة البطون، وهي نظريّة وضع الألفاظ لروح المعاني.

نشأَتْ هذه النظريّة في سياق مسألة الألفاظ المتشابهة في القرآن، فالقضية الأساس التي شغلت بالَ واضعي هذه النظريّة هي الألفاظ التي تتعلَّق بالظواهر الغيبية، كالقلم والميزان والكرسيّ والعرش، والتي يبدو أنها تتكلَّم عن المادّيات، مع أنها تتكلَّم عن غيبيّاتٍ. هذه الألفاظ التي استعملها القرآن الكريم في بيان أسماء الله وصفاته لا يمكن أن تُحْمَل على ظواهرها المادّية؛ لأنه تعالى منزَّهٌ عن المادّيات، وهو ليس جسماً. لذا حاول بعض العرفاء ابتكار هذه النظريّة؛ للخروج من هذا المأزق.

تُفيد هذه النظريّة ـ وخلافاً لنظريّة الوضع السائدة ـ أن الواضع عندما وضع الألفاظ للمعاني لم يلحَظْ المصداق المادّي لها، ثم يضع اللفظ لهذا المصداق، بل الشيء الذي لحظه هو المعنى المشترك بين المصداق المادّي والمعنوي، ثم وضع اللفظ لهذا المعنى المشترك. مثلاً: عندما وضع الواضع لفظ الميزان لمعناه لم يتصوَّر الميزان المادّي المعروف، بل تصوَّر المعنى المشترك بينه وبين الميزان المجرّد من مواصفاته المادّية، فوَضَعَ اللفظ له. وبهذا عندما يطلق القرآن لفظ الكرسيّ والعرش الميزان في ما يتعلَّق بالله تعالى هو لا يستعملها بالمعنى المادّي؛ كي نضطرّ لحملها على الاستعمالات المجازية، بل استعملها بالمعنى الأعمّ، فيكون استعماله لها على الحقيقة.

وبالتالي المطلوب منا عند تفسير القرآن تفسيراً حقيقيّاً تجريد أيّ مفردةٍ من مفرداته من الخصائص المادّية، والنظر إلى روحها، فنعزل بذلك التصوُّر المادّي الذي ينسبق إلى الذهن أوّلاً؛ لأنه في الواقع قد نشأ من الأُنْس الذهني بالمصاديق المادية، وبهذا هو لا يعبِّر عن الوضع الحقيقي.

تلتقي هذه النظريّة مع النظريّة التشكيكية للوجود، التي تفيد أن المعلول نفس العلّة ولكنْ بمرتبةٍ أضعف، وأن كل ما نراه في هذه النسخة المادّية موجودٌ حقيقةً في النسخة الأعلى ثمّ الأعلى. وعليه فألفاظ الميزان والصراط وغيرها، التي لها مصاديق مادّية، تملك أيضاً مصاديق غيبية محيطة بها. فالميزان الموجود بين أيدينا اليوم في عالم المادّة له نسخةٌ موجودة أيضاً في عالم المثال، وأيضاً في عالم العقل، وكلّ نسخةٍ من هذه تحوز على كمالاتٍ أعلى من الأدنى منها، ومحيطةٍ بها.

هذه الفكرة العامّة لنظريّة روح المعاني. بَيْدَ أن أصحابها افترقوا في تقريرها، وإنْ كانت النتائج واحدةً، وما يهمُّنا هو رؤية العلاّمة الطباطبائي، الذي تبنّاها نظريّاً، وطبّقها عمليّاً، ولو بنحوٍ جزئيٍّ، في تفسيره.

يرى الطباطبائي ـ بحَسَب ما يُستَوْحى من عباراته ـ أنّ الواضع هو الإنسان، وهو يحتكّ أوّلاً بالمصاديق المادّية للأشياء؛ لذلك وضع الألفاظ لها أوّلاً. ثمّ بدأت تظهر الأمور المعنوية في حياته، فبدأ يستخدم الكلمة التي وضعها للمصداق المادّي في المعنوي؛ لعلاقة الشبه بينهما، وشيئاً فشيئاً تطوّر استخدامه للكلمة في الأعمّ من المادّي والمعنوي([31]). مثلاً: فسق في الأصل هي خروج النواة من التمرة، ثمّ شبه حالة الإنسان في خروجه عن جادّة الصواب بخروج النواة من التمرة، وسمّاه فسقاً، ثمّ شيئاً فشيئاً بدأت المعاني تتَّسع، فشملت المعنى من المادّي والمعنوي، فصارت الألفاظ بوضعها التطوُّري الطويل موضوعةً للأعمّ. وقد طبَّق الطباطبائي هذه النظريّة كثيراً في تفسيره، وإنْ تجاوزها في بعض الآيات. فمثلاً: في تفسير مفردة النور يقول&: إنّ السراج قديماً كان يستعمل في ما له فتيلٌ، وعندما ظهر السراج الكهربائي استعمل أيضاً فيه، فالمسألة لا تتعلَّق بالمصاديق، بل بروح هذه المصاديق. فنحن إذا لاحَظْنا حياة البشر نرى أنه كلما ظهر مصداقٌ جديد استخدموا فيه الكلمة القديمة دون أيّ محذورٍ، وهذا ينبئ عن أنّ الوضع في الكلمة كان من الأوّل للمعنى الأعمّ من المصداق القديم والمصداق الجديد، واللفظ هنا لم يوضع للمصداق، بل لروحه، وهو الإضاءة، فكلما تحقَّقَتْ الإضاءة في مكانٍ كان الاستعمال حقيقيّاً، فإذا جاءت الإضاءة الوجودية ﴿اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ فهو استعمالٌ حقيقي.

ويلاحظ أنّ هذه النظريّة تقترب كثيراً من نظريّة إنكار المجاز في القرآن الكريم. والعلاّمة الطباطبائي وإنْ لم ينكر المجاز فيه، لكنه بتَبَنِّيه هذه النظريّة قلَّله كثيراً في تفسير الآيات، وحملها بذلك على الاستعمالات الحقيقية.

وفي مقابل ذلك نجد العلاّمة فضل الله؛ ونتيجة عدم تبنِّيه هذه النظريّة ورؤيته الأخرى للأسلوب البياني في القرآن، الذي يقوم على الإكثار من الاستعارات والكنايات، نجده قد وضع الكثير من الآيات في دائرة المجازات، واستبعد جدّاً أن تبقى على ظواهرها الحقيقية، واعتبر أنّه لا مبرِّر للزوم تبيين المعارف العالية بأسلوب الحقيقة، والتمسُّك بذلك بحجّة أن بيانها بالأسلوب المجازي مخالفٌ للذَّوْق، كما فعل الطباطبائي.

يتّفق السيد فضل الله مع جمهور الأصوليين في أن الواضع هو الإنسان، وهو ـ أي الإنسان ـ إنما يقابل المادّيات والمحسوسات أوّلاً، ثم يضع الألفاظ لهذه المحسوسات، ومن ثمّ فالألفاظ موضوعةٌ لخصوص المصاديق المادّية، وهي تستعمل في المعنويات مجازاً([32]).

ومن هنا يذهب السيد فضل الله إلى أن جميع الآيات التي استعملت الألفاظ المادّية في المسائل المعنوية والغيبية لا بُدَّ أن تحمل على المجاز؛ لأن هذا هو ما يتناسب مع الأساليب البلاغية التي يعتمدها العرب في بيان المعنويات، وهو ما فهمه العرب الأوائل حين النزول. وهذه الطريقة العربية هي التي اعتمدها القرآن الكريم في إيصال معانيه الرفيعة إلى كافّة الناس، وتشهد على ذلك العديد من الآيات القرآنية.

من هذا المنطلق، افترق العلاّمة فضل الله في تفسير عددٍ من الآيات عن تفسير العلاّمة ـ كما قلنا ـ؛ فهو مثلاً يحمل آية الكرسيّ على المجاز، أما العلاّمة الطباطبائي فهو وإنْ حمل الكرسيّ على المعنى الكنائي، إلاّ أنه يصرِّح بأن الله تعالى نور السماوات والأرض حقيقةً ـ كما ذكَرْنا سابقاً ـ، وهذا ما لا يقبله السيد فضل الله([33])؛ بحجّة أن لفظ النور موضوع للنور المحسوس حقيقةً، وهذا لا معنى له بالنسبة إلى الله تعالى، فلا بُدَّ أن يكون الاستعمال هنا مجازياً.

خلاصةٌ

خلصنا في هذه المقالة إلى وجود أربع متبنَّيات ساهمَتْ في افتراق العلاّمة فضل الله عن العلاّمة الطباطبائي في تفسير الآيات، وظهر أنّ هذه المتبنَّيات تعود جميعها إلى الأوّل، وهو حقيقة القرآن.

فالطباطبائي يرى أنّ للقرآن حقيقةً متعاليةً لا يمسّها إلاّ المطهَّرون، وهو بذلك حقيقة وجودية تتجلّى في جميع العوالم، وقد تجلَّتْ في عالمنا على شكل كلماتٍ وألفاظ، وهذا ما أثَّر بالضرورة في فهمه للغة القرآن المستخدمة، ومسألة بطونه وتأويله، وأثَّر أيضاً في اختياره لنظريّة روح المعاني، ونتج عن جميع ذلك ـ بحَسَب الطباطبائي ـ أنّ للقرآن دلالاتٍ لا متناهية؛ لأنّه بحقيقته يعود إلى علم الله اللامتناهي، كما أنّ أغلب آياته محمولةٌ على الحقيقة.

بينما وجَدْنا أنّ العلاّمة فضل الله؛ ونتيجة مغايرته للسيد الطباطبائي في فهم حقيقة القرآن الكريم، قد حَدَّ من هذه الدلالات التي تريدها الآيات، وحمل كثيراً منها على الاستعمالات البلاغيّة، التي تنسجم مع أساليب البيان العربي. وهذا أثَّر في سائر المتبنَّيات الأخرى، كما ظهر.

الهوامش

(*) باحثٌ وأستاذٌ في الحوزة العلميّة في قم. من لبنان.

([1]) انظر: محمد حسين فضل الله، من وحي القرآن 21: 185، دار الملاك، بيروت، ط2، 1419هـ.

([2]) انظر: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 18: 353، مؤسسة النشر الإسلامي، قم.

([3]) انظر: فضل الله، من وحي القرآن 1: 7 ـ 8.

([4]) انظر: المصدر السابق 7: 106.

([5]) انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 4: 166.

([6]) المصدر السابق 18: 83.

([7]) فضل الله، من وحي القرآن 20: 121.

([8]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 10: 130 ـ 131.

([9]) فضل الله، من وحي القرآن 12: 7 ـ 8.

([10]) انظر: المصدر السابق 5: 57 ـ 58.

([11]) انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 2: 349 ـ 350.

([12]) انظر: فضل الله، من وحي القرآن 7: 107.

([13]) انظر، على سبيل المثال، الآية 7 من سورة التحريم في: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 19: 388.

([14]) محمد بن الحسن الصفّار، بصائر الدرجات الكبرى في فضائل آل محمد 1: 196، تصحيح وتعليق وتقديم: حسن كوچه باغي، منشورات الأعلمي، طهران، 1404هـ.

([15]) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار 89: 95، مؤسّسة الوفاء، بيروت، ط2، 1403هـ.

([16]) محمد بن يعقوب الكليني، الكافي 4: 549، كتاب الحجّ، أبواب الزيارات، باب إتباع الحجّ بالزيارة، ح 4، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط5، 1363هـ.ش.

([17]) انظر: محمد حسين الطباطبائي، القرآن في الإسلام 47 ـ 48، تعريب: أحمد الحسيني، دار الزهراء، بيروت، ط1، 1393هـ.

([18]) انظر: جواد علي كسّار، فهم القرآن ـ دراسة على ضوء المدرسة العرفانية ـ 2: 7، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، ط2، 2010م.

([19]) انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 53 ـ 54، 77 ـ 78.

([20]) انظر: الطباطبائي، القرآن في الإسلام: 28.

([21]) انظر: المصدر نفسه.

([22]) وإنْ كان حقّ هذه المسألة أن تُذْكَر ضمن المتبنّى الثاني، إلاّ أنني ارتأَيْتُ أن أذكرها هنا؛ لعلاقتها ببطون القرآن والتأويل.

([23]) انظر: جواد علي كسّار، فهم القرآن 2: 65 ـ 66.

([24]) انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 62.

([25]) انظر: ضياء الدين العراقي، نهاية الأفكار 1 ـ 2: 117 ـ 118، مؤسّسة النشر الإسلامي، قم.

([26]) انظر: الطباطبائي، القرآن في الإسلام 28 ـ 32.

([27]) انظر: حيدر حبّ الله، دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 3: 420.

([28]) فضل الله، من وحي القرآن 8: 144.

([29]) انظر: الطباطبائي، القرآن في الإسلام 32 ـ 48.

([30]) انظر: فضل الله، من وحي القرآن 1: 6 ـ 10

([31]) انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 1: 12.

([32]) انظر: فضل الله، من وحي القرآن، المقدّمة.

([33]) انظر: فضل الله، من وحي القرآن 5: 28 ـ 30.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً