أحدث المقالات

شهد العالم الإسلامي منذ مطلع القرن التاسع عشر حركات نهوض وإصلاح وإحياء، تسارعت وتائرها إلى النصف الثاني من القرن العشرين، وما تزال مستمرةً إلى يومنا هذا.

ولا شك أن مقولات النهضة والإصلاح والإحياء ظلّت تلاحق المفكّرين المسلمين طيلة هذين القرنين، وقد حُقّقت إنجازات كبرى على هذا الصعيد، وقدّمت أفكار وتصورات ونُظُم سعت لسدّ الثغرات وحلّ المشكلات وإصلاح الأوضاع… وقد تعرّض المصلحون الدينيون في الساحة الإسلامية خلال هذه المدّة للكثير من الظلم والقمع والإقصاء والتهميش والتهشيم، لكنّهم ظلّوا في غالب الحالات صامدين بوجه الهزّات والزلازل التي كان يصنعها خصومهم على الدوام في الداخل والخارج، وقدّموا قوافل من المضحّين في سبيل الرقي بالأمّة العربية والإسلامية دون تقصير أو تخاذل.

لكن رغم ذلك كلّه، ورغم جهود مضنية لا يقدر القلم ولا اللسان على وصفها، إلا أن أغلب حركات النهوض وتيارات الإصلاح ـ وبين النهوض والإصلاح تواصل وتقاطع ـ عانت من إخفاقات كبرى، حتى ظلّ العالم الإسلامي اليوم يعاني من الكثير من المشاكل على شتى الصعد.

لماذا حصلت الإخفاقات؟ لماذا لم تنجح كل هذه الجهود الهائلة؟ لماذا تراوح الأمة مكانها على غير صعيد؟ تتقدم هنا وتتأخر هناك، تنجح هنا وتتعثر بها الخطى هناك!!

الجواب عن هذا السؤال أصعب مما يتصوّره أي باحث أو مفكّر، يجب أن نبدي تواضعاً ملموساً أمام هذا السؤال، لكن يحقّ لعقلٍ يرغب في التفكير أن يضيء على بعض أسباب الإخفاق، علّ ذلك يشكلّ سبباً ومفتاحاً معاً لتحقّق المزيد من التقدّم والتسامي.

من الطبيعي أنّ حركات الإصلاح والنهوض الإسلاميين ـ وهما موضوع حديثنا ـ واجهت إشكاليات موضوعية وأخرى ذاتية؛ أي أنّ بعض المشكلات جاءتها من الخارج، من مثل القمع المفرط للسلطات السياسية التي مارس بعضها عهراً سياسياً وسلطوياً وظلماً وبطشاً لا تتصوّره الدنيا ولا تقدر أكبر حركة إصلاح في العالم أن تواجهه؛ لأنه يخترق كل المعايير والموازين ويطيح بكل قواعد اللعبة، فكيف يتحاور العالم مع الجاهل؟! أم كيف ينجز العاقل مهمّاته مع مجنون لا ضوابط له وبيده المقدّرات كلّها؟!

يجب أن نقرّ بدايةً، وقبل كل شيء، أنّ أوضاعاً قاسية من هذا النوع عانت منها حركات إصلاح ديني ونهوض إسلامي في غير مكان من عالمنا العربي والإسلامي، وعلينا أن ننصف هذه الحركات التي بذلت قصارى جهدها لمواجهة الواقع المأزوم، لكنها لم تقدر على فعل شيء يُذكر للأسباب التي أشرنا إليها. ومع ذلك، ثمة إشكاليات تعاني منها حركات الإصلاح الإسلامي تمثل مشكلات داخلية ذاتية، نقص في الحركة نفسها، بصرف النظر عن الظروف الموضوعيّة القاهرة، ويحلو لي أن أشير إلى بعض هذه النواقص والإشكاليات التي ما زلنا نشهد حضورها داخل حركات الإصلاح الإسلامي.

وعندما أتحدّث عن هذه الإشكاليات، فلا أقصد أنّ كل حركات الإصلاح الإسلامي تورّطت بها جميعها؛ بل قد تتوزع هذه الإشكاليات بين حركات الإصلاح، كما لا أقصد بحركات الإصلاح تياراً خاصاً، بل مجمل التيارات التي رفعت شعار إصلاح الوضع الإسلامي من موقع ما أعلنته من حرص على هذا الوضع، حتى لو كان بين هذه التيارات خصام وخلاف بل سيفٌ وتكفير.

 
إشكاليات في مسيرة الإصلاح الإسلامي

يلوح لي بعض إشكاليات مسيرة الإصلاح الإسلامي، وسوف أتحدّث عن بعضها بما يناسب هذه الوريقات، ساعياً لالتزام الاختصار والاقتضاب.

1 ـ الإصلاح الإسلامي بين الوعي والأمية السياسية والأمنية

يعيش المثقف المسلم مثاليّته المفرطة؛ إنه ينطلق من الصدق في إصلاح الأمور ومن تحرّقه على الواقع القائم المأساوي في عالمه الإسلامي، إنه راغب بصدق وإخلاص للوقوف على حلّ للمأزق الذي تعاني منه أمته؛ لهذا فهو ينطلق من موقع الحرص والإيمان والإرادة الصادقة لعمل شيء مختلف يمكنه أن يحدث تغييراً.

ولكنه لا ينتبه أثناء إصلاح المسيرة الفكرية إلى أن الواقع أكثر تعقيداً وسوءً من تصوّره، إنّ حماسه يدفعه للانطلاق لكنه لا يعرف أن كلّ مشروعه وحركته المخلصة قد تقع فريسةً لأجهزة مخابراتية تلعب بمشروعه في سياق الصراعات السياسية، قد يظنّ أن مشروعه ينجح لأنه يحتوي العناصر اللازمة، ولا يدري أن نجاح مشروعه كان لأنّ هذه السلطة أو تلك تنفخ فيه ليكون أكياس رمل في مواجهة تيار آخر، فتضرب الإخوانية بالسلفية، وتفتِّت التطرّف بالتصوّف وهكذا، وإذا انتهت ترتدّ سلطة الواقع عليهم جميعاً، فلا يلبثون ـ دون أن يكونوا متهيّئين ـ ليسقطوا دفعةً واحدة.

يندفع المثقف المسلم لإصلاح الأمور بدون خبرة سياسية ولا أمنية، فيكشف أوراقه كلّها دون أن يدري أن هناك حيتاناً تتربّص به، يلعب الغرب المخابراتي لعبته هنا أيضاً، يظنّ مثقفنا أنه يسعى في التعاون مع مؤسّسات ثقافية ولا يدري أن شركاً يُنصب له!!

إنّ هذا اللاوعي السياسي والأمني الذي تعاني منه بعض حركات الإصلاح الإسلامي، وعدم وعيها للأحجام الأخرى الموجودة على أرض الواقع… ذلك كلّه يسقطها بعد ولادتها مباشرةً، فتغدو فريسةً سهلة للنافذين الذين يملكون سلطة الواقع السياسية أو الأمنية أو الدينية أو المالية أو الاجتماعية..

من هنا، كان من الضروري رفع مستوى الوعي السياسي والأمني و.. عند المفكّر المسلم، لا ليعيش قلقاً أمنياً يعيق حركته، أو إحساساً بأنه محاصرٌ على الدوام بما يعطّل مشاريعه، بل ليملك حسّاً أمنياً وفهماً سياسياً يجعله قادراً على تحريك أوراقه ضمن مبادئه وقيمه العليا، تحت مظلّة الواقع؛ ليتحرّك في دائرة الممكن، وليس فقط في مثاليّة الماينبغي.

2 ـ أزمة الخواء العلمي والمعرفي

انطلقت العديد من حركات النهضة والإصلاح الإسلاميين من فراغ معرفي واضح، رغم أنها حملت مفاهيم صحيحة ومهمة في آن، لكنّ عدم تركيزها على الجانب العلمي لتخريج كوادر مفكّرة ومثقفة قادرة على الحضور في المحافل العلمية لمواجهة التيارات الأخرى وإثبات ذاتها أمامها… أدّى بها يوماً بعد آخر إلى السطحية، وتخريج أنصاف مثقفين وأرباع مثقفين، ومن ثم تحوّل بعضها إلى أحزاب سياسية بامتياز، لا تحمل عمقاً فكرياً وثقافياً، أو غدت جزءً من بروتوكول اجتماعي أو فولكلور شعبي.

إنّ قيام شخصيات غير مفكّرة بالإمساك بزمام نهضات كبرى قدّم المشاريع النهضوية مشاريع عملانية وميدانية تلاحق الأوضاع السياسية والعسكرية والأمنية والاجتماعية، دون أن تملك عمقاً فكرياً وامتداداً ثقافياً ورؤية استراتيجية، لهذا طغى فيها السياسي على الديني، والاجتماعي على الثقافي، فغرقت وأغرقت في تسطيح الوعي وتبسيط القضايا الفكرية والثقافية.

في وضعٍ من هذا النوع، صار السياسي يملك القرار والمثقف مجرّد بوق إعلامي لـه، وصار رجل العسكر صاحب الكلمة المتفرّدة فيما غدا المثقف مهمّشاً مهشّماً في الوقت عينه، فظهر داخل الحركات النهضوية المثقفون المقاولون الذين يعتبرون الثقافة وظيفة وعمل يقتاتون منه ويعيشون بفضل بركاته، وهو ما أدّى إلى تراجع دور المثقف في التوعية والترشيد، الأمر الذي ترك أثراً سلبياً عليه، فإما سقط في المقاولة أو اعتزل ليعيش نرجسيّته ومخمليّته عاطلاً عن العمل الميداني غير ممارسٍ للنشاط المعرفي المثمر، لاعناً لمجتمعه متطهّراً من نقائصه، يغرّد خارج السرب.

كان يُفترض إحداث توازن بين السياسة والثقافة، بين العسكر والفكر، بين الاجتماع والمعرفة، لتتكامل الأدوار، ويتحقّق النهوض العلمي الحقيقي على مستوى الأمة.

 
3 ـ من الإصلاح إلى التمترس، أو الإصلاح بين الجيل الأول والأجيال اللاحقة

لا تتوقف مسيرة الإصلاح والنهوض عند حدّ؛ لأنّ الأمة بحاجة ليس إلى نهضة واحدة، وإنّما إلى سلسلة متتالية من النهضات؛ فالمشكلات كثيرة والتحدّيات كبيرة، وهنا ومن شدة صعوبة تحقيق منجز استثنائي، يحصل أن تحقّق حركة النهضة والإصلاح بعض المنجزات الكبيرة، فتخشى من زوالها وفقدان هذا المنجز مرّة أخرى، فتضع ثقلها في الحفاظ عليه، وهذا أمرٌ طبيعي ومطلوب في الوقت عينه.

لكنّ الذي يحصل أن تغرق حركة الإصلاح في همّ الحفاظ على ما أنجز، فتنسى إكمال المسيرة أو تؤجل ذلك إلى حين، بل قد تضحّي ببعض ما كانت تريد تحقيقه لمصلحة ما تحقّق حتى الآن، وشيئاً فشيئاً تخفّ الحركة التقدّمية وتتعطل المسيرة التكاملية نحو الأمام، فتقف الحركة عند ما أنجز وتحقّق، وحيث تسير الدنيا مسرعةً تعود حركة الإصلاح وكأنّها حركة تقليدية لا تواكب المستجدّ، وإذا واكبته نظرت إليه بعين الريبة، فيصبح ضحيةً لها، كما كانت هي ضحيّة لمن سبقها، وبعد أن كانت تستصرخ من ظلم السابقين غدت تمارس ما يشبه حركتهم تجاه الآخرين.

هنا يكمن مقتل حركات النهضة، لاسيما التي تحقّق إنجازات ملموسة يمكن الحفاظ عليها، فيما المطلوب السعي نحو توازن في الحفاظ على المنجز والسعي لإنجاز المزيد.

وتتجلّى صور جديدة لهذه المعضلة عندما تنطلق الحركات الكبرى في الإصلاح والنهوض والتغيير، فيهبّ الجيل الأول الذي تغلُب عليه صفات التضحية والفداء والشجاعة والتحدّي والإباء و… فيقدّم الكثير تبعاً لمعطياته وإمكاناته، وقد يحقّق بعض المنجزات، لكن وبمجرّد تحققها أو بمجرد مجيء الجيل الثاني يبدأ النشاط المصلحي والتوظيف الشخصي وتتلاشى حالة الصدق، فيأخذ الجيل اللاحق بمصادرة جهود غيره، ويشرع بممارسة مداراة مصلحيّة زائفة لا تعبّر بالدقة عن الدينامية المطلوبة، وإنما تحوي إفراطاً لا ضرورة فيه؛ فلا نريد يأساً ولا إحباطاً في الطريق يغلّف بمفاهيم.

نعم، نحن ضدّ الراديكالية اللاعقلانيّة في العمل النهضوي والإصلاحي، لكنّنا أيضاً نعارض المداراة الفارغة المضمون، والتي تفرّغ المشروع من معناه ومحتواه، فلا بد من توازن يخضع لطبيعة المتغيّرات ليحدّد المنهج الأسلم في التعامل مع الواقع.

ومع الأسف الشديد، فقد لاحظنا على بعضهم أنّه بات يحاول تغييب أفكار روّاد حركته الإصلاحية أنفسهم، لأنّه يشعر بأنّ بعض مقولاتهم وصرخاتهم لم تتحقّق، فلا يريد أن يطالَب بتحقيقها؛ فيسعى لتغييبها وإبداء الصور التي تتناسب مع وضعه الحالي، وهذه من أعظم المعضلات؛ حيث يصبح قادة مسيرة الإصلاح أنفسهم ضحايا التغييب الممارس من جانب جماعاتهم وتياراتهم في الجيل الثاني والثالث.

4 ـ مأزق التمزق الداخلي

ظاهرة أخرى من الظواهر السلبية التي واجهتها أغلب حركات النهوض والإصلاح في العالم الإسلامي هي ظاهرة التشظّي الداخلي؛ فبمجرّد أن يصبح لها ظهورها تبدأ بالانقسام السلبي، وتتحوّل إلى جماعات تهزأ من بعضها وتسخر؛ وتنتقد بعضها انتقادات لاذعة، ويحاول كل فريق أن يزعم لنفسه تحقيق المنجزات دون غيره.

إننا نجد هذه الظاهرة تتواصل يوماً بعد آخر؛ فلا ترى بين هذه التيارات وبين رجالات النهضة والإصلاح في كثير من الأحيان سوى التشرذم وتصفية الحسابات، الأمر الذي لا يستفيد منه سوى التيارات الراغبة في التحفظ والتثبيط والمراوحة والترنّح.

وفي داخل سياق حالة التمزق الداخلي، نشهد غياب حالة الأعمال الجماعية الكبرى المتكاملة؛ ولهذا ظهرت الأعمال الفردية، فكلّ شخصية إصلاحية صارت لها أعمالها الخاصّة وأنشطتها الخاصّة دون القيام بتنسيق حقيقي فيما بينهما، وهذا ما ساعد على تعميم منطق الشخصانيات بحيث صار كلّ تيار إصلاحي يذوب في شخص، وينفي سمة النهضوية والإصلاح عن غيره، وصار الفكر الإصلاحي منسوباً إلى أشخاص بدل أن ينسبوا هم أنفسهم إلى هذا الفكر الكبير.

5 ـ الإصلاح بين وهم النخبوية وأزمة الجماهيرية

وهناك مشكلة لعلّها من أعقد المشكلات، وهي أنّ غرق العديد من مثقفي الإصلاح في الجانب النخبوي يغيّب حضورهم في الوسط الجماهيري الذي هو المفصل في حركات التغيير الكبرى. إنّ التنزّه عن التواصل مع القاعدة الجماهيرية ـ لأيّ حجة من الحجج ـ لا يخدم مسيرة الرقي والإصلاح، فبالعامة ـ كما يسمّونهم ـ تتحرك الأوضاع العامة، ومن الصعب على المثقف إذا ظلّ يعيش وهم النخبة ويطهّر نفسه ويلعن غيره أن يحدث تغييراً يُذكر.

وفي سياق هذا الوضع، من الأهمية بمكان دراسة الحالة المالية والاجتماعية للحركة الإصلاحية؛ لتقدر على الفعل، إذ بدون ذلك قد يكون من العسير عليها أن تقدّم شيئاً.

أكتفي في هذه العجالة بالإشارة إلى هذه النقاط الخمس، وهناك الكثير غيرها نتركه إلى فرصة أخرى، إن شاء الله تعالى.

وأخيراً، فقد تصفّحت هذا الكتاب الذي يقدّمه للمكتبة العربية والإسلامية أخونا العزيز الأستاذ عماد الهلالي، ووجدته يسعى لمحاولة في دراسة بعض حركات الإصلاح في الفكر الديني، وقد قدّم فيه الكثير من الأفكار والمعلومات وسجّل فيه بعض الملاحظات والانتقادات، وفي ذلك الخدمة لتواصل الشعوب وثقافاتها، والمدخل لتحريك الوعي ببعضنا. فجزاه الله خيراً ووفقه لكل ما يحبّ ويرضاه له، إنه قريب مجيب.

 
حيدر حب الله
11/3/2009م

13 ربيع الأول 1430هـ



 



(*) نصّ التقديم لكتاب (الفكر العلماني في إيران الإسلاميّة)، من تأليف الأستاذ عماد الهلالي، ونشر مؤسّسة الانتشار العربي في بيروت، عام 2012م.


Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً