أحدث المقالات

تطوّرات نظرية الإمامة

الشيخ: محمد صفر جبرائيلي(*)

ترجمة: السيد حسن مطر

مقدمة ــــــ

ليس هناك في العادة علم ينشأ من الفراغ، بل يكون لظهوره علل وعوامل، وقد يحدث من خلال علة ما أو ظهور أرضية أن يواجه مشكلة أو يدخل في مرحلة جديدة.

وهذا هو شأن علم الكلام أيضاً، فهو ـ كغيره من العلوم التاريخية ـ قد قطع مسيرته التاريخية الخاصة، وتجاوز مراحل عديدة. وقد أغفل المتكلمون وعلماء المسلمين هذه المسيرة التاريخية، رغم إنجاز بعض الأمور في العقود الخمسة الأخيرة. ولكن المهم أن الغفلة عن مسار البحوث ومسائل الكلام الإسلامي قد عرّض ـ في بعض الموارد ـ كلَّ هذا العلم أو بعض مسائله وبحوثه إلى المشاكل. ونحن نسعى في هذا المقال إلى بيان الجانب التاريخي من علم الكلام، وخصوصاً (الإمامة)، بشكل إجمالي وعابر، استناداً إلى المصادر المعاصرة، والمدعومة طبعاً بالمصادر الأولى، وقد تمت الاستفادة من آراء الشخصيات غير الحوزوية أو المتكلمين أيضاً.

إن هذا المقال عبارة عن نقد لمحاضرة «إعادة قراءة الإمامة في ضوء الثورة الحسينية»([1])، حيث تعرضت لها باختصار ونظرة تاريخية عابرة.

للأسف الشديد فإن الغفلة عن المسار التاريخي للرؤى الفكرية والعقائدية قد أدت إلى عدم الفهم أو النسبة الصحيحة لبعض المؤلَّفات إلى الأشخاص أو المذاهب.

ومما يؤسف له أكثر أن الكثير من مؤلَّفات الشيعة قد تلفت أو فقدت، ولم تصل إلينا.

فلو أننا لم نحرم من المؤلَّفات الكلامية لعلي بن إسماعيل بن ميثم التمار، وهشام بن الحكم، ومؤمن الطاق، وكتاب «الرد على القرامطة»، للكليني، و«التنبيه في الإمامة»، لأبي سهل النوبختي، و«الإنصاف» و«المستثبت»، لابن قبة الرزاي، لأمكن الحكم بشأن تطور بحث الإمامة من زاوية الفكر الشيعي بشكل أفضل.

ولكن الضغوط السياسية والاجتماعية التي تعرَّض لها الشيعة، وأدت إلى إبعاد أهل البيت^ وإقصائهم، وما تبع ذلك من تشتت في الأفكار، وخلو الساحة للمخالفين، بل وحتى الجاهلين، ودخولهم معترك البحوث العلمية والفكرية، وكذلك ضيق الأفق والجمود، وتعصب البعض وربما الكثير من الحكام، وما إلى ذلك من الأسباب، تظاهرت بأجمعها على منع ظهور وانتشار علوم أهل البيت^، بل واختفاء المقدار القليل الذي ظهر منها.

ونذكر لذلك مثلاً السلاجقة، حيث هاجموا البويهيين في عام 447هـ، وبعد سيطرتهم على بغداد عمدوا إلى مكتبة الشيخ الطوسي فأحرقوها، وهدموا داره، وأخرجوه من المدينة([2]).

النزعة التاريخية ــــــ

إن النظام وقواعد العقائد والبحوث في علم الكلام تاريخية. وقد تكونت عبر الأزمنة والمنعطفات التاريخية، فكل جيل يضيف إلى ما أنتجه الجيل السابق عليه فكرة كلامية جديدة، وهذا ما يمكن ملاحظته بوضوح من خلال التتبع التاريخي في الكتب العقائدية والكلامية. لاشك في أن قراءة البحوث الكلامية بعيداً عن ملاحظة مسارها التاريخي قد يعرض العقائد الكلامية إلى المخاطر، ويحرمنا من معرفة العلوم الكلامية بشكل صحيح([3]).

إن بعض التعاليم الكلامية إذا لم يلحظ تاريخها تواجه عقبات كبيرة. ومن هذا القبيل: البحث في صفات النبي الأكرم‘ والإمام×، كعلم الغيب، والمعاجز، والعصمة، وما إلى ذلك.

قابلية التحول ــــــ

إن علم الكلام ـ كغيره من الفروع العلمية، الأعم من الدينية وغيرها ـ قابل للتحول والتطور من الناحية الكمية والكيفية.

ويختص التحول الكمي بمسائل وموضوعات العلم التي تضاف إليه بشكل تدريجي، ولهذا النوع من التحوّل في العلوم وتيرة تكاملية وتصاعدية.

وإن الحقائق التاريخية تشهد على أن العلوم البشرية في بداية الأمر كانت تتكوّن من المسائل المحدودة، ثم ازداد حجمها بالتدريج([4]). وإن هذا النوع من التحول في العلوم غير الآلية، مثل: علم الكلام، ليس له حدّ يقف عنده، وإن كان في العلوم الآلية، كعلم المنطق والأدب، قد بلغ غايته إلى حدٍّ ما.

وأما التحول الكيفي فقد يتحقق في مسائل العلم ومبانيه ومبادئه أو أساليبه، ومن الطبيعي أن التحول في البعد الثاني والثالث غالباً ما يؤدي إلى تحول في الرؤى، مضافاً إلى أنه من الممكن أن تضاف مسائل جديدة إلى ذلك العلم مع تبدل الأزمنة والظروف.

إن نظرة إجمالية على مؤلَّفات المتكلمين منذ القدم وإلى يومنا هذا تثبت وجود كلا نوعي التحول الكمي والكيفي، كما تحققت في النوع الثاني جميع أبعاده الثلاثة([5]).

وتظهر هذه الحقيقة من خلال مقارنة إجمالية بين كتاب «الإيضاح»، للفضل بن شاذان (260هـ)، و«أوائل المقالات»، للشيخ المفيد (413هـ)، و«كمال الدين وتمام النعمة»، للشيخ الصدوق (381هـ)، و«الغيبة»، للشيخ الطوسي (460هـ)، و«النكت في مقدمات الأصول»، للشيخ المفيد (413هـ)، و«الذخيرة» أو«شرح جملة العلم والعمل»، للسيد المرتضى (436هـ)، والمؤلفات الكلامية للشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي، و«نهج الحق وكشف الصدق»، للعلامة الحلي (726هـ)، وجميع المؤلفات الكلامية التي كتبت في القرون الرابع والخامس والسادس للهجرة، و«تجريد الاعتقاد»، للخواجة نصير الدين الطوسي (672هـ).

تدوين الكلام الشيعي ــــــ

يرى المحققون عدّة مراحل للكلام الشيعي ويذهبون إلى أن مرحلة (التدوين) قد تزامنت مع حلول القرن الثالث إلى القرن الخامس للهجرة.

وفي ما يلي نستعرض آراء عدد من المحققين من خارج دائرة الحوزة وخارج دائرة المتكلمين الشيعة، بل ومنتقديهم:

لقد تمّ تقسيم التاريخ المذهبي للشيعة الاثني عشرية في كتاب «دانشنامه إيران وإسلام» إلى أربع مراحل على النحو التالي:

1ـ مرحلة حضور الإمام إلى نهاية الغيبة الصغرى (11 ـ  329هـ).

2ـ من بداية الغيبة الكبرى إلى زمن الخواجة نصير الدين الطوسي (329 ـ 672هـ).

3ـ منذ عصر الخواجة نصير الدين الطوسي إلى تجديد حياة التشيع في العصر الصفوي.

4ـ منذ العصر الصفوي إلى وقتنا الحاضر.

والمرحلة الثانية تختص بتأليف المصنَّفات الشيعية الحديثية الكبرى، وتدوين ثوابت المذهب الشيعي. وقد بدأ تدوين أصول المذهب الشيعي بالشيخ الكليني (329هـ)، حيث تم في هذه الفترة إرساء علوم الفقه والأصول والكلام الشيعي([6]).

يرى الدكتور جعفر شهيدي أن التشيع قد قطع أربع مراحل في مسيرته الفكرية:

1ـ بعد رحيل النبي الأكرم‘ إلى بداية الغيبة الصغرى (11 ـ 260هـ).

2ـ من بداية الغيبة الكبرى إلى دخول السلاجقة مدينة بغداد (329 ـ 447هـ).

3ـ من سيطرة السلاجقة إلى ما قبل الخواجة نظام الملك (449 ـ 485هـ).

4ـ منذ سلطة نادر شاه إلى بداية النهضة العلمية الحديثة في البلاد الشيعية.

ويرى شهيدي أن المرحلة الأولى هي من أهم هذه المراحل الأربع؛ إذ تمّ فيها التأسيس للأصول الفكرية والاعتقادية، وإن لم تكن بشكل مدون وكان يعوزها الترتيب المنطقي، إلا أن الروايات الكثيرة المروية عن الأئمة^، وكذلك الاحتجاجات الكثيرة التي قام بها تلامذة الأئمة في حواراتهم ومناظراتهم مع المخالفين، شكلت حجر الأساس للأصول العقائدية القائمة على الأقيسة المنطقية.

وشكّلت المرحلة الثانية مرحلة إرساء المذهب الفكري الكلامي بالاستعانة بظواهر القرآن الكريم والروايات المأثورة عن الأئمة^، حيث تمكن علماء الشيعة من تأسيس مذهب لم يكن مسبوقاً حتى ذلك الحين استناداً إلى النصوص والروايات، وقد رسخوا الدعائم والأصول الاعتقادية والعملية لهذا المذهب. وقد كتب له معها الحياة والحيوية على طول التاريخ، وأصبح قادراً على تقديم الحلول على جميع المشاكل الاجتماعية([7]).

وقد قال السيد حسين نصر، ضمن تقسيمه البحوث الكلامية إلى خمس مراحل: إن مرحلة التدوين كانت منذ بداية القرن الثاني إلى نهاية القرن الخامس، حيث خضعت جميع أبعاد علم الكلام للبحث والتدوين، وفي المرحلة الأولى ـ القرن الأول والسنوات الأولى من القرن الثاني ـ كانت المباحثات تدور حول المسائل الكلامية المختصة، والتي تظهر فيها مختلف العقائد على هيئة انتماءات، وإن لم تكن في صورة متكاملة([8]).

كما تحدث الدكتور حميد عنايت بشكل خاص عن بحث الإمامة، والخصوصيات التاريخية لأسس نظريات الشيخ، وصرّح بأن تدوين هذه النظريات قد استغرق فترة القرون الثلاثة التي أعقبت بداية التاريخ الإسلامي([9]).

وقد تعرض مجتهد شبستري إلى بيان وظائف المتكلمين. وقسَّمها إلى ثلاث وظائف، وهي: التبيين؛ والإثبات؛ والدفاع. ورأى أن الوظيفة الأولى تعود إلى صدر الإسلام، حيث اضطلع بدورها القرآن الكريم والنبي الأكرم‘ والإمام علي×. وصرَّح بأن تدوين هذه الأصول يعود إلى السنوات اللاحقة. وقد كانت في بدايتها مجملة ومختصرة، ثمّ تطورت فيما بعد بشكل تدريجي([10]).

كما قسم الدكتور محسن كديور الحوار الغالب في عصر الغيبة إلى أربعة أقسام: أولها: (عصر تكوين الهوية الشيعية المذهبية)، والتي يرى أنها بدأت منذ أوائل القرن الرابع واستمرت إلى القرن العاشر([11]).

ويتضح من خلال هذا التقرير أن بداية التدوين المنهجي للكلام الشيعي تعود إلى القرن الثالث، ويستمر إلى القرن الخامس للهجرة.

وكما تمت الإشارة إليه وبحث في محله بشكل تفصيلي فإن علم الكلام هو علم إسلامي مئة في المئة، حيث ضرب جذوره في الكتاب والسنة، وإن أثَّرت فيه بعض العوامل الخارجية، كالثقافات الأخرى، وترجمة الكتب الفلسفية، واتساع رقعة الإسلام من الناحية الجغرافية([12]). وعليه فإن تدوين الكلام الشيعي في القرن الرابع والخامس لا يشكل دليلاً على عدم قدم البحوث الكلامية؛ إذ كما ذكرنا سابقاً فإن الكلام في هذه المرحلة قد تمّ تدوينه بالاستناد إلى الآيات القرآنية والروايات.

ومن الجدير بالذكر أن ما هو المهم ليس هو أصل التدوين، وإنما هو التدوين المنهجي، وإلا فإن التدوين البدائي، وحتى الموضوعي، قد كتب له التحقق في بعض الموارد والبحوث. وفي الواقع فقد عمد المتكلمون من القرن الثالث إلى القرن الخامس إلى تقرير آراء أصحاب الأئمة في القرنين الأول والثاني([13]).

أسباب عدم تدوين الكلام الشيعي في القرنين الأول والثاني ـــــ

إن لعدم تدوين الكلام بشكل منهجي ومستقر قبل القرن الثالث أسباباً([14])، نشير لبعضها على النحو التالي:

1- حضور الإمام× ــــــ

في عصر الحضور كان الإمام× يتولى مهمة السهر على المذهب، وصيانته من أن يشاب بالانحراف والباطل، فكان× هو البوصلة الموثوقة التي يُهتدى بهديها([15]). وعليه ما دام الإمام موجوداً بين الناس كانت الأخطاء سريعة الزوال، حيث كان الإمام يعمل على بيان تلك الأخطاء في المقاطع الحساسة، وكان الذي يسعى إلى كشف الحقيقة هادئ البال؛ إذ سرعان ما يعثر على حلّ مشكلته من مظانها([16]). وبعد الغيبة الصغرى (329هـ) آلت أمور المسلمين إلى علماء الطائفة، حيث تم تدوين وتهذيب الفقه والأحاديث المروية عن الأئمة المعصومين^، وتم على يدهم أيضاً تقرير المسائل العقائدية وفقاً للموازين العقلية والنقلية([17]).

2- الضغوط ضد الشيعة ــــــ

لقد صرح الكثير من العلماء والمحققين بتأثير هذه الضغوط في تأخير تدوين الكلام الشيعي.

يرى الدكتور حميد عنايت أن سبب هذا التأخير يعود من جهة إلى المتغيرات السياسية العامة في المجتمع الإسلامي، وإلى الوقائع الخاصة التي عاشها التشيع من جهة أخرى. فمنذ استشهاد الإمام علي×، واستيلاء الأمويين على السلطة، إلى منتصف القرن الهجري الرابع، كان الشيعة على الدوام يعانون من المطاردة والتعذيب والقتل والتشريد على يد الخلفاء وعمّالهم، ولم تكن لهم حرية في إظهار عقائدهم. وقد جعل الأمويون العداء لأهل البيت^ على رأس سياستهم العامة. كما حكّم العباسيون بعدهم السيف بحق أهل البيت وشيعتهم، ومارسوا نفس سياسة العنف والكبت التي سار عليها الأمويون قبلهم. وبعد سيطرة البويهيين في إيران (حوالي عام320هـ) تغيرّت الأمور لصالح الشيعة، وتمتعوا بحرية كافية لبيان معتقداتهم([18]).

كما أكد السيد حسين نصر على هذه الحقيقة، قائلاً: رغم الجهود التي بذلها أئمة الشيعة في الدعوة إلى التفكير الحر والفلسفي والعقلائي، وتأكيدهم المستمر على العقلانية والاستدلال، إلا أن المؤسسات الحكومية كانت في الأصل مناهضة للتشيع، وكانت تعمل على تقويض إنجازات الشيعة على مدى قرون([19]). ولكن بالرغم من ذلك واصل الشيعة جهودهم، وتمكنوا من المحافظة على أصولهم وعقائدهم.

إن الضغوط السياسية والاجتماعية التي مارستها الحكومات الأموية والعباسية ضد الشيعة كانت بحيث لم يتمكن الإمام من بيان أهم المسائل الفكرية والعقائدية، حتى لأصحابه.

إن إبعاد الناس عن الأئمة^، وابتعادهم عن المعارف الخالصة لأهل بيت النبي‘، أدى بالمجتمع الإسلامي، وحتى الشيعي، إلى الجمود والضعف الفكري والثقافي، بحيث اضطر الإمام الكاظم× أن يأمر العلماء والمفكرين من أصحابه ـ من الذين لم يبلغ عددهم بطبيعة الحال عدد أصابع اليد ـ بمداراة الناس (الشيعة)، وعدم إخبارهم بكل ما يعلمون من حقائق مذهب أهل البيت^؛ لعدم تمكنهم من فهمها وهضمها بشكل صحيح، ومنها: قوله×: «دارهم؛ فإن عقولهم لا تبلغ»([20])؛ وكذلك قوله ×: «إن كلامك يدقّ عليهم»([21]).

ومن الضغوط التي كان يعانيها الإمام الرضا× ما رواه الراوي حيث قال: كنا عند أبي الحسن الرضا×، وعنده يونس بن عبد الرحمن، إذ استأذن عليه قومٌ من أهل البصرة، فأومأ أبو الحسن× إلى يونس أن ادخل البيت، وإياك أن تتحرّك حتى يؤذن لك، فدخل البصريون، فأكثروا من الوقيعة والقول في يونس، وأبو الحسن× مطرق، حتى لما أكثروا فقاموا وودّعوا وخرجوا أذن ليونس بالخروج، فخرج باكياً، فقال: جعلني الله فداك، إني أحامي عن هذه المقالة، وهذه حالي عند أصحابي، فقال له أبو الحسن×: يا يونس، فما عليك مما يقولون إذا كان إمامك عنك راضياً…([22]).

موقع الإمامة وأهميتها ــــــ

تعتبر الإمامة من أهم مسائل علم الكلام الإسلامي، بحيث تأتي في الدرجة الثانية من الأهمية بعد إثبات الله تعالى بين علماء المسلمين، ولم يقتصر النزاع حولها على الأقلام والحوزات العلمية الجادة فقط، بل تعداهما إلى سفك الدماء في سوح القتال والأزقة والشوارع([23]).

فقد ذهب جميع أتباع  المذاهب الإسلامية، سوى ما كان من أحد تلاميذ أبي هذيل العلاف (235 ـ 237هـ)، والخوارج، إلى ضرورة ووجوب نصب الإمام([24])، وإن كان هناك اختلاف حاد وعريق بينهم في تحديد مصداق الإمام، وكيفية انتخابه.

وقلما نجد بين أتباع المذهب الشيعي الإمامي كاتباً لم يتعرض للإمامة. كما بحثوا هذه المسألة ضمن المباحث الكلامية الأخرى، وبشكل مستقل، وأحياناً في رسالة أو كتاب مستقل قد يستغرق عدّة أجزاء([25]).

قدم البحث الشامل والمنهجي حول الإمامة  ــــــ

إن البحث عن أصل الإمامة وشرائطها ومكوناتها من البحوث القديمة لعلم الكلام الإسلامي. وقد تم طرحها إلى جانب المسائل الكلامية والعقائدية، من قبيل: الجبر والاختيار، والقضاء والقدر، التي طرحت في بداية الأمر، وخصوصاً بعد رحيل النبي الأكرم‘، وكانت من أكثر المباحث التي احتدم النزاع والخلاف حولها، واُُلِّفت الكتب في إثباتها أو ردّها.

ربما أدى عدم تدوين المباحث الكلامية، وخاصة (بحث الإمامة)، بشكل جامع ومنهجي في فترة زمنية إلى عدم فهم بعض الشيعة الإمامة وشرائطها بشكل شمولي([26])، بل ربما طالبوا الإمام أحياناً بإقامة الدليل على كلامه([27]). كما كان هناك نزاعٌ بينهم حول بعض شرائط الإمامة([28])، أو كان هناك تفاوت حول فهم علم الإمام([29])، أو يرون الأئمة ـ كسائر الفقهاء في ذلك العصر ـ يجتهدون في المسائل، أو يلجأون إلى العمل بالقياس([30]). وحتى النوبختيون، مثل: أبي سهل إسماعيل (311هـ)، وأبي محمد موسى (310هـ)، ورغم دورهم الملحوظ في إرساء بحث الإمامة في الفكر الشيعي([31])، أبدوا آراءً خاصة حول الأئمة^، كاستحالة صدور المعاجز (الكرامات) عنهم([32])، أو عدم إمكان اتصالهم واتصال الأنبياء بعد موتهم بالناس([33])، في حين كانوا يعتقدون من جهة أخرى بمعرفة الأئمة بجميع فنون ولغات العالم([34]). وربما كان لاتّباعهم للعقل([35])، وبعدهم عن النصوص، وعدم حصولهم أحياناً على الروايات، دورٌ في ظهور هذه الآراء بينهم؛ إذ لم يكن هناك آنذاك مصدر جامع ومدوّن ومنظم للروايات. فقد ألف الكليني (329هـ) كتاب الكافي بعد وفاتهما أو في أواخر عمرهما. كما أن المصادر الموسوعية الروائية الأخرى، مثل: «التوحيد»، و«الغيبة»، و«من لا يحضره الفقيه»، وغيرها، تعود إلى ما بعد النوبختيين.

والشاهد الآخر على هذه المسألة عدم وجود تعريف جامع للإمامة في مؤلَّفات الشيخ المفيد والسيد المرتضى. فإن أول تعريف شامل للإمامة في الأمور الدينية والدنيوية أفاده الشيخ الطوسي([36])، رغم أن ابن قبة (قبل عام 319هـ)، وأفضل منه الشيخ المفيد والسيد المرتضى، قد سبقوه في بيان مقومات الإمامة وشرائطها.

المتكلمون حماة الفكر الخالد ــــــ

رغم جهود المخالفين من أجل محو فكر الإمامة من التفكير الشيعي فقد نجح المتكلمون من أتباع مدرسة أهل البيت^ في الدفاع عن الإمامة، والتأسيس لها بوصفها فكرة خالدة وباقية إلى الأبد. كما عمدوا إلى تثبيتها وترسيخها بأدلة مسندة ومحكمة ومتقنة، وأسس ثابتة، وأساليب عقلية. وفي ما يلي نستعرض على نحو عابر بعض الموارد في هذا الإطار:

1ـ تأليف الكتب  وتدوينها ــــــ

ذكرنا سابقاً أن المتكلمين والمفكرين الشيعة منذ السنوات الأولى لطرح بحث الإمامة إلى يومنا هذا قد ألف كل واحد منهم في هذا الموضوع، حتى بلغت مؤلَّفاتهم من الكثرة عدداً لا يستهان به. ونلاحظ ذلك من خلال الرجوع إلى ثلاثة من الفهارس القديمة، كفهرست ابن النديم (385هـ)، والشيخ النجاشي (450هـ)، والشيخ الطوسي(460هـ)، وغيرها من المصادر المتأخرة والمعاصرة، مثل: «تأسيس الشيعة»، للسيد حسن الصدر، و«طبقات المتكلمين»، بإشراف الشيخ جعفر السبحاني، حيث نقف على الحجم الكبير لمؤلَّفات متكلمي الشيعة منذ القرن الثاني وحتى القرن الخامس، والتي أخذت وتيرة تصاعدية مع تقدّم الزمن.

وتعود سابقة التأليف الفردي لعلماء الشيعة حول الإمامة إلى أصحاب الأئمة^. ويمكن الإشارة من بينهم إلى عيسى بن روضة (138هـ)، وابن رئاب (148هـ)، والخليل بن أحمد (170هـ)، ومحمد بن النعمان (مؤمن الطاق) (160هـ)، وهشام بن الحكم (189أو199هـ)، وغيرهم.

وفي القرن الثالث اتسع مسار التأليف في هذا الموضوع، حتى يمكن العثور على قرابة أربعين شخصاً ممّن كتب في عنوان (الإمامة)، ومنهم من له أكثر من مؤلف في هذا الخصوص، وقد عبّر عنها بـ (الكبير) و(الصغير)([37]). ويمكن الإشارة من بينهم إلى إبراهيم بن محمد الثقفي (273هـ)([38]).

وفي القرن الرابع، ومع بداية الغيبة في عام (329هـ)، وتعرض الشيعة لإشكالات وشبهات المخالفين والمعاندين، وما تبع ذلك من اضطراب وحيرة، وكذلك ظهور الفرق المنحرفة داخل المذهب([39])، انطلق علماء الشيعة في بحث الإمامة بشكل أوسع وأشمل، وقد ألف الكثير منهم كتباً عديدة في هذا الموضوع.

فقد ألف ابن قبة الرازي (قبل عام 319هـ) «الإنصاف»، و«المستثبت»، و«المسألة المفردة في الإمامة»، و«نقض الإشهاد في الإمامة»([40]).

كما قدّم النوبختيون، وخاصة أبو سهل إسماعيل (311هـ)، بالإضافة إلى المباحثات والمناظرات، مؤلّفات عديدة في بحث الإمامة([41]).

وقد تعرض أبو إسحاق الكليني (329هـ) في موسوعته القيّمة والخالدة «الكافي»، وفي بحث الاعتقادات وأصول الدين، إلى بحث الإمامة بتفصيل أكثر، ومع ذلك صرح بعدم كفاية ووفاء المقدار الذي قام به من البحث، وأنه يسعى إلى تأليف كتابٍ مستقل أكثر تفصيلاً وأكمل مما ذكره في مباحث الحجة والإمامة من كتاب «الكافي»([42]).

وقد ألف علي بن بابويه (329هـ)، والد الشيخ الصدوق، رغم كونه فقيهاً، كتاباً في الإمامة تحت عنوان «الإمامة والتبصرة من الحيرة».

وألف الشيخ الصدوق، ذو النزعة الروائية، «كمال الدين وتمام النعمة». وإن مقدمته التفصيلية والعلمية مفعمة بالبحوث العقلية والاستدلالية في أصل الإمامة وشرائطها.

وفي القرن الرابع والخامس بادر الشيخ المفيد (413هـ)، وهو مؤسِّس الكلام الشيعي العقلي، مضافاً إلى ردوده الكثيرة على المعتزلة في ما يتعلق ببحث الإمامة، إلى تأليف كتاب مستقل تحت عنوان «الإنصاف».

وألف السيد المرتضى (436هـ) شبه دائرة معارف في بحث الإمامة تحت عنوان «الشافي»، وكانت الأولى من نوعها في ردّ ونقد آراء القاضي عبد الجبار المعتزلي.

وألف الشيخ الطوسي «تلخيص الشافي»، و«المفصح»، و«الغيبة».

وفي هذه الفترة اتخذ الكلام الشيعي في مجال الإمامة حالة من الاستقرار والثبات.

2ـ عرض البنية التحتية للإمامة: قاعدة اللطف ــــــ

ومن جملة ما قام به المتكلِّمون في مجال بحث الإمامة هو التأسيس لمبانٍ متقنة ومحكمة لبيان وتثبيت هذه الرؤية في الفكر الشيعي. وقد استمرت هذه الجهود وتطورت عبر الأزمنة؛ تلبية لمواجهة الإشكالات والشبهات. فمثلاً: قيل عن دور الخواجة نصير الدين الطوسي في هذا المجال: إن أدلة الخواجة في كتاب «تجريد الاعتقاد» التي أقامها على إمامة أمير المؤمنين× وغيره من الأئمة من القّوة والإحكام بحيث عجز شراح التجريد عن أن يشكلوا على أدلته المتقنة في باب الإمامة، مكتفين بالقول: «أجيب عنه»، أو «قد أجيب عمّا ذكره». ومما ينقل عن العلامة قطب الدين الشيرازي، شارح «حكمة الإشراق»، وهو من تلاميذ الخواجة، ومن كبار علماء أهل السنة، أنه اقترح عليه أن يتصدّى لمناقشة الخواجة في بحث الإمامة، فأجاب قائلاً: إن قدرة الخواجة الفكرية ودقة نظره تذهل العقول وتدهش الألباب([43]).

ومن جملة الأصول والقواعد المهمة في الكلام الإمامي (قاعدة اللطف)، التي تأتي في الأهمية بعد قاعدة الحسن والقبح العقلي، حيث أثبت المتكلِّمون من العدلية (الإمامية، والمعتزلة) الكثير من التعاليم والعقائد الدينية على أساسها، ومنها: وجوب التكاليف الدينية، ولزوم بعث الأنبياء، ووجوب عصمتهم، والوعد والوعيد الإلهي، ووجوب الإمامة.

وقد أطبقت غالبية المتكلمين من العدلية على صحة (قاعدة اللطف). وقد ألفوا فيها منذ البداية. ويمكن أن نذكر من باب المثال: كتاب «الألطاف»، لهشام بن الحكم (179 أو 199هـ)([44]).

وقد استعملت كلمة (اللطف) في اللغة بمعنى العطف والإكرام والقرب. كما أنها في مصطلح المتكلمين عبارة عن أنه يجب على الله أن يبيّن للمكلَّفين جميع ما يقرِّبهم من طاعته ويبعدهم عن معصيته([45]).

إن قاعدة اللطف قد تمّ التأسيس لها؛ لإثبات ضرورة التكاليف الشرعية وإثبات النبوّة. وقد عمد المتكلمون من الإمامية إلى تسريتها إلى موضوع الإمامة([46]). ولكن مع بداية غيبة الإمام# لم يعد الاستدلال بهذه القاعدة، التي تعد الرئاسة الدينية لطفاً، وأن وجود الإمام من مصاديقها، منسجماً مع الاعتقاد بغيبة الإمام#، مما أدىّ إلى طرح تساؤلات واعتراضات شديدة، حيث قال المخالفون: طبقاً لهذه القاعدة فإن اللطف واجب على الله، ومع غياب الإمام# يكون الله قد أخلّ بهذا الواجب. الأمر الذي دعا المتكلمين من الإمامية ـ الذين أطبقوا على قيام الإمامة على هذه القاعدة ـ في الإجابة عن هذا الإشكال  إلى التصرف في مصداق هذه القاعدة.

فقد تبنى الشيخ المفيد قاعدة اللطف، واستند إليها في إثبات الإمامة، وقال: إن اللطف الواجب على الله هو اختيار الإمام ونصبه، وأما التحقق الخارجي وبسط يده في الأمور فهو رهن بإرادة الناس، فإن تنكروا لاختيار الله لم يتحقق بسطٌ ليد الإمام؛ بسبب تقصير الناس وسوء اختيارهم([47]).

ورأى السيد المرتضى بسط يد الإمام وتصرفه لطفاً، وذهب إلى أن اللطف في الإمامة على قسمين: أحدهما: واجبٌ على الله؛ والثاني: واجبٌ على الناس، وهو رهن بسلوكياتهم([48]).

وذهب الشيخ الطوسي، خلافاً لما ذهب إليه الشيخ المفيد، إلى أن تصرف الإمام× لطف، وأن وجوده واجب من باب المقدمة([49]).

3ـ التبيين العقلاني للإمامة ــــــ

قيل في محله: إن الكلام الشيعي في عصر حضور الأئمة يتمتع بالصبغة العقلية  والنقلية، وإن طغت عليه؛ لأسباب معينة، في السنوات الأخيرة من عصر الحضور، وحتى فترة قصيرة من عصر الغيبة، الصبغة النقلية([50]). إلا أن متكلمين عقلائيين، مثل: ابن قبة الرزاي، والنوبختي، والشيخ المفيد، والسيد المرتضى، وغيرهم، قد تمكنوا من بيان عقائد الشيعة بشكل عقلي، فدفعوا الشبهات والتهم الباطلة، وأثبتوا العقائد الصحيحة والخالصة. ويمكن أن نمثل لذلك بأبي سهل إسماعيل النوبختي، حيث دافع عن العقائد التي دوَّنها قبله عدد من المتكلمين الإمامية بمصادقة من الأئمة^، وتلقاها جمهور الإمامية بالقبول، وأضفى عليها أسلوباً عقلياً أكثر ممَّن سبقه، وخلص مذهب الإمامية من بعض التهم في باب الرؤية والتشبيه والتجسيم وغيرها من التهم التي تعرض لها المتكلمون الأوائل، وصرح بانحيازه إلى استحالة رؤية الله تعالى، وحدوث العالم، وخالف الجبرية في باب الخلق والاستطاعة.

وقد اتبع هذا الأسلوب في بحث الإمامة الذي يحظى بأهمية كبيرة عند الإمامية، وأثبت وجوب الإمامة وأوصاف الإمام بالطرق الاستدلالية والعقلية، وإن كان أحياناً يدعم أدلته العقلية بالمضامين والنصوص النقلية([51]).

وقد أثبت بهذه الطريقة العقلية ضرورة الإمام المنصوص عليه، حيث قال: «إنما تكلمنا في ما توجبه العقول إذا مضى النبي‘، وهل يجوز أن لا يستخلف وينصّ على إمام بالصفة التي ذكرها؟([52]).

ثم أجاب الذين يقرّون بأصل الإمام المنصوص عليه بهذه الطريقة، ثم يسألون عن مصداقه، فقال: «فإذا أثبت ذلك بالأدلة فعلينا وعليهم التفتيش عن عين الإمام في كل عصر من قبل الأخبار»([53]).

وقال في دفع شبهة أن تكون هذه العقيدة وهمية؛ بسبب بعض الأحاديث المختلفة: إن الشيعة هم وحدهم من بين المسلمين الذين يذهبون إلى كون إمامهم منصوصاً عليه من قبل الله. وبالالتفات إلى أنه لم تكن لهم دولة أو سلطة لم يكن لديهم دافع لاختلاق الأحاديث وروايتها، وخاصة أنهم بلغوا من الكثرة حالياً بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب([54]).

4 ـ دفع الشبهات ومساجلة الخصوم ــــــ

هناك الكثير من المناظرات التي خاضها المتكلِّمون في عصر الحضور. وبلغت هذه المناظرات ذروتها في القرنين الرابع والخامس، وخاصة في بغداد، ومن بعدها في الرّي. وقد تم توثيق هذه المناظرات في كتب الفهارس.

وقد غطت كتبٌ، مثل: «الاحتجاج»، للطبرسي، و«الفصول المختارة»، للشيخ المفيد، والمقدمة التفصيلية لكتاب «كمال الدين وتمام النعمة»، للشيخ الصدوق، جانباً من تلك المناظرات.

يضاف إلى ذلك أن الردود التي كتبها المتكلمون الشيعة منذ القرن الثاني وإلى القرن الخامس وحتى يومنا هذا من الكثرة بحيث تجد للمتكلِّم الواحد منهم أكثر من ردّ، وقد تجد ردّاً على متكلم مخالف. وربما كان أول رد هو كتاب تحت عنوان «الرد على من أبى وجوب الإمامة بالنص»، لأحد المعاصرين لهشام بن الحكم([55]).

إن الواقعة التي يرويها المتكلِّم الكبير محمد بن بشر الحمدوني السوسنجردي([56]) عن ابن قبة الرازي تحمل في طياتها العبر، حيث قال: «بعد زيارة الإمام الرضا× ذهبت إلى بلخ، والتقيت بأبي القاسم البلخي (319هـ)، وكانت لي به معرفة سابقة، فأعطيته كتاب ابن قبة، فقرأه، وكتب عليه ردّاً بعنوان «المسترشد»، فعدت إلى الري، ودفعت الردّ إلى ابن قبة، فكتب «المستثبت» في ردّه، فعدت به إلى أبي القاسم، فكتب في نقده كتاب «نقض المستثبت»، فعدت إلى الري، فوجدت أبا جعفر ابن قبة قد فارق الحياة([57]).

كما يعدّ نقد أبي الحسين البصري على كتاب «الشافي»، للسيد المرتضى، تحت عنوان «نقض الشافي» نموذجاً آخر. وقد ردّ عليه أبو يعلى سلار بن عبد العزيز في كتابه «نقض النقض»([58]).

5ـ مواجهة ثلاثي: التفويض والغلو والتقصير ــــــ

لو أن شخصاً نسب إلى النبي والإمام أكثر مما ورد بشأنهما في الشرع فهو (غالٍ)، وإن تنزَّل بهما عما ثبت لهما في الشرع فهو (مقصِّر)، وإن اعتقد أنّ بيدهما الخلق والرزق فهو (مفوِّض). وإن كلاًّ من الغلو والتفويض يعني تشبيه الإنسان بالله تبارك وتعالى، إلا أن الغلو تشبيه في الذات، والتفويض تشبيه في الصفات.

وقد بدأ الغلو منذ عهد الإمام علي×، واستمر إلى الغيبة الصغرى وما بعدها، وأدى إلى أضرار فادحة في مذهب التشيع، وكان من نتائجه إضعاف موقع الأئمة، وظهور الاختلاف بين أصحابهم.

وكان لأئمة الشيعة جهود حثيثة ومشهودة في مواجهة الغلاة([59]). كما لم يألُ علماء الشيعة المخلصون جهداً في القضاء على هذا التفكير واجتثاثه، وألَّفوا كتباً كثيرة في نقد الغلو وردّه([60]).

والملفت أن المتكلمين الشيعة في كلتا المدرستين الكلاميتين آنذاك: بغداد؛ وقم، عملوا في هذا الاتجاه، وإن أدى الاختلاف في تحديد الغلو للأسف الشديد إلى مشاكل من جهة أخرى؛ فقد ذهب مشايخ قم (الشيخ الصدوق وغيره) إلى غلو من ينكر سهو النبي‘؛ في حين كان الشيخ المفيد وغيره من مشايخ مدرسة بغداد يذهبون إلى تقصيرهم([61]).

أسئلة واستفسارات ــــــ

إذا لم يتم تعريف الأئمة بمفاهيم، من قبيل: العصمة، والنصب، والنصّ، من قبل الشيعة الأصلاء، مثل: أبي بصير، وزرارة، ومحمد بن مسلم، وغيرهم، فماذا يعني أن يحمل كتابٌ عنوان «الرد على من أبى وجوب الإمام بالنص»، وكاتبه معاصر لهؤلاء الثلاثة المذكورين، مضافاً إلى أن هذا الكتاب لم يرد ذكره في الفهارس الشيعية، وإنما ذكره ابن النديم، وهو من المصادر السنية؟([62]).

وما هو المقصود من عبارة: «هو ممَّن فتق الكلام في الإمامة»، التي قيلت بحق هشام بن الحكم (179 أو 199هـ)؟([63]).

وماذا تعني كل هذه المؤلَّفات التي كتبت في موضوع (الإمامة) من قبل المتكلمين في القرن الثاني، وردودهم على المخالفين، والمناظرات التي احتدمت بينهم؟

ولو كان الهدف من ذلك مجرد ذكر الفضائل فقد ذكر أصحاب الفهارس، إلى جانب كتب (الإمامة)، كتباً ـ وان لم تكن بتلك الكثرة ـ تحت عنوان «الفضائل»، ونسبوها إلى بعض أصحاب الأئمة وتلاميذهم، ومع هذه الكثرة يمكن القطع بوجود موارد منها في القرنين الثالث والرابع، كما يمكن العثور حالياً على بعضها، وإن كانت ناقصة. وعليه يمكننا أن نتساءل: لماذا لم يتطرق أحد من الشيعة إلى هذا التحوّل والتغير والانحراف؟

 ولو كان مثل هذا الانحراف موجوداً لذكروه، وخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار الأسفار الكثيرة التي قام بها الشيخ الصدوق والشيخ الكليني، واستماعهما لمختلف الآراء. ولو تواطأ الشيعة على التكتم، لسبب من الأسباب، لكان بإمكان المخالفين للشيعة الإمامية، كالمعتزلة، والزيدية، التعرض إلى ذلك، وخاصة أن فيهم المدققين والمحققين من المتكلمين، الذين كانوا يسعون إلى التغلب على الفكر الشيعي الإمامي من خلال ذكر التفريعات والإشكالات الدقيقة. ولحسن الحظ لازال التراث الشيعي يحتوي على نماذج كثيرة منها. ويمكن الإشارة من بينها إلى المقدمة التفصيلية للشيخ الصدوق في كتابه «كمال الدين وتمام النعمة»، و«الفصول المختارة»، للشيخ المفيد، و«الشافي»، للسيد المرتضى، و«الغيبة»، للشيخ الطوسي، وكذلك «الغنى»، للقاضي عبد الجبار المعتزلي.

الهوامش

_____________________________

(*) أستاذ مساعد في معهد الثقافة والفكر الإسلامي، باحث متخصِّص في علم الكلام والمذاهب والفرق.

([1]) راجع: محسن كديور، صحيفة (شرق)، العددان: 713 و 714.

([2]) العسقلاني 5: 140.

([3]) فرامرز قراملكي، هندسه معرفتي كلام جديد: 22.

([4]) الإمام الخميني، مناهج الوصول إلى علم الأصول 1: 35 ـ 37.

([5]) الرباني، تحول وتجدد در كلام، مجلة قبسات، العدد 38: 54 ـ 55.

([6]) دانشنامه إيران وإسلام 9: 1175.

([7]) شهيدي، أز ديروز تا إمروز (مجموعة مقالات وأسفار): 144.

([8]) السيد حسين نصر، تاريخ الفسلفة الإسلامية 1: 140 ـ 141.

([9]) حميد عنايت، نمادها وأنديشه ها در إيران وإسلام: 137 ـ 139.

([10]) نقد تفكير سنتي در كلام إسلامي، كيان، العدد 10: 8.

([11]) كديور، حكومت ولايتي: 12.

([12]) راجع: مقال (كلام إسلامي، عوامل وزمينه هاي بيدائي)، للكاتب، مجلة (قبسات)، العدد 38.

([13]) حسين نصر، تاريخ الفسلفة الإسلامية: 234.

([14]) من العوامل الأخرى التي ربما أمكن ذكرها شيوع أسلوب اتباع النص، والمعارضة الشديدة من قبل الحكومات الأموية وبعض حكام أهل السنة للعقل، والتشكيك في علم الكلام والبحوث الكلامية، ومنع تدوين الحديث، وما إلى ذلك.

([15]) مدرسي طباطبائي، مقدمه اي بر فقه شيعه، كليات وكتاب شناسي: 150 ـ 154.

([16]) جوزيف فان أس، ساخت منطقي كلام إسلامي، مجلة التحقيقات الإسلامية، العدد 2: 29؛ حميد عنايت، المصدر السابق: 139.

([17]) حسين نصر، المصدر السابق 1: 237.

([18]) حميد عنايت، المصدر السابق: 137 ـ 139.

([19]) حسين نصر، المصدر السابق 1: 219.

([20]) رجال الكشي: 188، رقم 929.

([21]) المصدر السابق، رقم 928.

([22]) المصدر السابق: 487، رقم 924.

([23]) جعفر شهيدي، المصدر السابق: 23.

([24]) جعفر شهيدي، المصدر السابق: 24.

([25]) آغا بزرگ، الذريعة إلى تصانيف الشيعة 2: 320.

([26]) خلافاً لما تمّ التعارف عليه في القرون الأخيرة من تعقيب كلمة الإمام أو اسمه بعبارة (عليه السلام) لم يكن هذا الأمر متداولاً في القرون الأولى، بل وحتى في القرنين الرابع والخامس، كما نلاحظ أن الشيخ الطوسي (460هـ) يذكر في «تهذيب الأحكام» اسم الإمام في الكثير من الموارد دون تعقيبه بهذه العبارة، إلا في ما ندر.. (من إفادات الفقيه والرجالي المتتبع السيد موسى شبيري الزنجاني).

([27]) الكليني، الكافي 3: 30. وراجع: مدرسي طباطبائي، المصدر السابق: 35.

([28]) المصدر السابق 1: 409 ـ 410.

([29]) رجال الكشي: 172، 148، 158.

([30]) المفيد، سلسلة المصنَّفات، أوائل الاعتقادات 5: 136.

([31]) راجع: عباس إقبال آشتياني، خاندان نونحتي 2: 101 ـ 103.

([32]) المفيد، المصدر السابق 4: 68.

([33]) المصدر نفسه: 72 ـ 73.

([34]) المصدر نفسه: 67.

([35]) أحمد باكتجي، دائرة المعارف الإسلامية الكبرى، مقال الإمامية 10: 324؛ نقد ونظر، العددان: 3و4: 222.

([36]) راجع: الطوسي، الرسائل العشر: 103.

([37]) راجع: رجال النجاشي: 17، 123، 157، 36، 306، 307.

([38]) المصدر نفسه: 17.

([39]) عباس إقبال، المصدر السابق: 161 ـ 165.

([40]) رجال النجاشي: 375 ـ 376.

([41]) عباس إقبال، المصدر السابق: 116 ـ 117.

([42]) الكليني، المصدر السابق 1: 9.

([43]) الآشتياني، نقدي بر تهافت الفلاسفة للغزالي: 87.

([44]) الطوسي، الفهرست: 259.

([45]) اللاهيجي، سرمايه إيمان: 79؛ الرباني، عقائد استدلالي 1: 290.

([46]) المرتضى، الشافي في الإمامة: 410. وراجع: حسن طارمي راد، تاريخ عقائد وآراء كلامي (كراسة تعليمية): 33 ـ 39.

([47]) المفيد، المصدر السابق 1: 45.

([48]) السيد المرتضى، المصدر السابق: 415.

([49]) الطوسي، تلخيص الشافي 1: 79.

([50]) مدرسي طباطبائي، المصدر السابق: 173.

([51]) المرتضى، الشافي في الإمامة 1: 98.

([52]) الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة: 89.

([53]) المصدر نفسه.

([54]) المصدر نفسه.

([55]) ابن النديم، الفهرست: 219.

([56]) رجال النجاشي: 381.

([57]) المصدر السابق: 376.

([58]) أبو القاسم الكرجي، تاريخ فقه وفقهاء: 161.

([59]) راجع: نعمة الله صفري فروشاني، غاليان كاوشي در جريانها وبر آيندها: 27 ـ 29.

([60]) راجع: المصدر السابق: 169 ـ 171.

([61]) المفيد، المصدر السابق 4: 135.

([62]) ابن النديم، المصدر السابق.

([63]) المصدر نفسه.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً