أحدث المقالات

نظرية إسلامية

زهراء پور سينا(*)

ترجمة: علي آل دهر الجزائري

مدخل تعريفي ـــــــ

يتكون كتاب «الإنسان في التصور الإسلامي اعتماداً على مؤلفات الغزالي»، لكاتبه علي عيسى عثمان، من مقدمة؛ وخمسة فصول؛ وملحق.

 وقد حاول المؤلف في هذا الكتاب الإجابة ــ من وجهة نظر الإسلام ــ على مسائل من قبيل: لماذا وجد الإنسان؟ وما هي غاياته؟ وهل تتناسب تلك الغايات مع طبيعته أم لا؟ وكيف يمكنه تحقيق رغباته؟ وأين تقع الحرية في طبيعته؟ وعلى أي أسس يربط الإنسان نفسه بالعالم الخارجي، سواءٌ كان مجتمعاً إنسانياً أم طبيعةً أم إلهاً؟ وكيف يمكنه إدراكها؟ وماذا يؤثر حضور الفرد في المجتمع في تعيين غاياته؟ وهل تتفق غاياته وغايات المجتمع؟ وما هو تأثير انتخاب هذه الغايات في مسيره الأنفسي؟

يقدِّم عثمان دراسة دقيقة عن ماهية الإنسان من وجهة نظر الإسلام في كتابه، ولما كان الغزالي في اعتقاده أحد أكبر علماء المسلمين، إن لم يكن أكبرهم جميعاً، بناء على إجماع علماء السنة؛ فقد تولى الإجابة عنها في إطار كتابات الغزالي.

تكوّن التحليلات التي يقدمها عثمان عن ماهية الإنسان وسيره الأنفسي والارتباط بين أبعاده الوجودية المختلفة، ومنها: البعد المعرفي، والبعد الأخلاقي، إعادة بناء (هيكلة) منظمة لآراء الغزالي.

إنّ الارتباط العميق الذي يراه عثمان بين أفكار وعلائق الغزالي مع القرآن، والأهمية التي يوليها لتكوّن أفكار الغزالي في أجواء المجتمع الإسلامي، ترشدنا إلى فهم أفضل حول نظرة الغزالي للمسائل، ويمكن أيضاً الاطلاع على رأي الإسلام من وجهة نظر الغزالي.

يعتقد عثمان أنّ القرآن الكريم هو المصدر الرئيسي الذي تأثر به الغزالي في مسيرته الفكرية و الروحية ؛ ولذا تراه يربط بشدة بين أسلوب نبي الله إبراهيم × في الوصول إلى ربه والتسليم له وبين السير الأنفسي للغزالي.

وبوضوحٍ يمكن ملاحظة محطات عديدة يمر بها الغزالي في سيره الفكري والروحي، من قبيل: حالة الترديد في حقانية الدين الموروث، والشوق والطلب الحثيث للإله النابع من الفطرة المتجذِّرة في طبيعة كل إنسان، ونيل الهداية والتفقد الرباني، والتمحيص الناقد لكل ما يحتمل أنه الإله، والصراع الداخلي الذي ينتهي بحصول الاطمئنان النهائي.

ويركِّز عثمان في مقدمة كتابه على الأسلوب الذي يعرضه القرآن لمخاطبيه في كيفية التوصل إلى الحقيقة، ويشير إلى أنّ القرآن لا يدعو الناس إلى كسب الفهم العقلي للعالم فحسب، بل إنه يدعوهم إلى التأمل في آثار جمال الخلقة، لكي يتبين أنّ الطريق لفهم العالم ليس هو البعد العقلاني للإنسان فحسب، بل إنّ هناك بعداً آخر لابد من إشباعه، وهو «قلبه». فإنَّ طريق الإنسان إلى الله بوصفه حقيقة مطلقة، من وجهة نظر القرآن الكريم، هو الجذب القلبي والإقناع العقلي معاً. تلك الرؤية التي تعتبر الأساس الفكري للغزالي، ويحاول عثمان إثبات أنها الرؤية التي يتبناها القرآن، ومن ثَمّ الغزالي، حول ماهية الإنسان.

إنّ للإنسان من وجهة نظر القرآن نزوعاً شديداً نحو أكمل الغايات، وهي معرفة الله تعالى وأفعاله والتسليم مقابل الإرادة الإلهية، وذلك من جهة تكوينه الفطري، ومن جهة أخرى فإنه يواجه موانع في داخله تحول دون وصوله لهذه الغاية، وتتمثل بالغضب والشهوة والتكبر. ويعتقد عثمان أنّ الغزالي استطاع ببراعة أن يحلل التدافع والنزاع بين تلك النزعات الموجودة في الإنسان، ويقدم الحل الناجع لها، وهذا ما يظهر من مؤلفات الغزالي، لأنه يبدأ خطاه في مسيره الفكري و الروحي بالشك في جميع اعتقاداته حتى يصل الى المعرفة اليقينية ( والتي يجد فيها الإنسان كماله النهائي)، و يعد هذا التعارض ــ من وجهة نظره ــ مانعاً مهماً في هذا الطريق.

ولذا يضطر الغزالي إلى البحث العميق في ماهية الإنسان ومعرفته، وهذا ما يستلزم في النهاية الاهتمام بأهم المسائل التي تكوِّن نظامه المعرفي، واكتشاف القصور الذاتي للعقل كأداة للمعرفة، وإدراك أهمية القلب باعتباره المركز الأساسي لكافة المعارف البشرية، والتوصل إلى أنّ هذه المعرفة اليقينية لا توجد إلاّ في خفايا القلب (أو الجانب الروحي منه، يعني الروح)، والتي تعتبر أهم اكتشافاته. ويعتقد أنّ الوصول الى المعرفة اليقينية، وإن كانت تبدأ باكتساب المعارف التجريبية والعقلية، يرتبط بأكثر أجزاء الإنسان خفاءً، وهو الروح. فالإنسان إنما يتمكن بالتجربة الروحية، التي تتم بواسطة معرفة القلب، من الوصول إلى ذلك التصوير الذي يعتبر انعكاساً للأوصاف الإلهية من جهة، وانعكاساً لأفعال النفس من جهة أخرى.

وبعبارة أخرى: إن معرفة الله وصفاته ترتبط مباشرة بمعرفة الإنسان لنفسه بصورة تامة. وهذا لا يتحقق إلا باكتساب العلم بتهذيب النفس (للسيطرة على انشغالات القلب وقصرها على هدفه الأساسي ) من جهة، وعدم الانفكاك بين هاتين الجهتين في عملية كسب المعرفة اليقينية، وهي المحور الرئيسي في النظرية المعرفية للغزالي، التي حاول عثمان توضيحها مع ما يرتبط بها من المسائل في فصول كتابه.

ففي الفصل الأول من الكتاب المعنون بـ«البحث عن الحقيقة» يبتدئ بعرض تصور عن فلسفة النفس عند الغزالي. ويرى عثمان أنّه بالرغم من أن همّ الغزالي الأول هو الجهة العملية والأخلاقية للإنسان إلا أن الالتفات إلى أن الإنسان كلٌّ لا تتجزأ أبعاده المختلفة، ولذا فهو مضطر للبحث حول المسائل المعرفية والقوانين الناظرة إلى المجال المعرفي أيضاً وهذا ما مكّنه من التوصل إلى فلسفة نفسية متكاملة، وجديرة بالاهتمام، تغطي الجوانب الإنسانية المختلفة. وعليه فالنظام الفكري الفلسفي للغزالي يشتمل من حيث الأجزاء على أنظمة مختلفة في عدة مجالات. وعلى حد تعبير عثمان فإن فلسفة الغزالي تهتم بالدرجة الأولى بالنظام المعرفي الشامل الذي يدرس الأدوات المعرفية والقوانين الحاكمة على الذهن؛ والنظام الميتافيزيقي الذي تتجلى فيه وحدة الموجودات تحت الوحدة الإلهية المطلقة؛ بالإضافة إلى ذلك يعرض نظاماً من الفلسفة الأخلاقية يعرض فيه فضائل النفس ورذائلها وكيفية الوصول إلى استكمال النفس؛ ومن جهة أخرى فإنه يشتمل على برنامجٍ تعليميٍّ يأخذ بنظر الاعتبار المراحل المختلفة لتكامل القوى البشرية ونموها وهدايتها بما يناسبها من المعرفة؛ ويشتمل أيضاً على منظومة من علم السياسة وفلسفة التاريخ، يبحث فيها عن المسائل المتعلقة بالمجتمع البشري، وهو لا يرى انفصالاً حدياً بين المجالات المعرفية المختلفة؛ لأن هدف الفرد في ذلك الفكر ومسؤوليته أمرٌ واحدٌ، فكل فردٍ مسؤول وحده أمام الله، وتنبع مسؤولياته الأخرى من هذه المسوؤلية. وترتبط مسؤوليات كل فرد أيضاً بكل جوانب حياته، ولذلك تعتبر جميع تصرفاته تصرفات أخلاقية في الأصل، وبناء على ذلك يشير عثمان إلى أنّ الغزالي كان يريد الإجابة عن السؤال: من هو المؤمن الصالح؟ فأجاب عن أسئلة عديدة أخرى أيضاً، ولذا أدى إلى ذلك تكوين رؤية كونية شاملة في نظره تطرح فيها المسائل المتعلقة بالمعرفة البشرية، وماهية الإنسان، والإمكانات المختلفة في مسيره الأنفسي، وارتباطه بالعالم الخارجي. وفي الحقيقة؛ وبتركيز ذهن الغزالي على كيفية تبديل الإيمان إلى يقين معرفي، فإنه لابد أن يدقق في ماهية المعرفة، وأدوات المعرفة الإنسانية، وميزان قدراته المعرفية، وتوصَّل إلى كيفية بناء الإنسان لإيمانه على أشد المباني الباطنية أصالةً.

وكذلك كان الغزالي ــ استيحاءً من الحديث النبوي المشهور: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه، أو ينصِّرانه، أو يمجِّسانه» ــ حريصاً على فهم الطبيعة الإنسانية الأولى، والفطرة الصافية، والميل الذاتي للبحث عن الله ومعرفته، وكيف ينحرف الإنسان عن جوهر طبيعته ويقع في سبل الانحراف عن كماله الحقيقي. وبناء على ذلك يلجأ الغزالي للبحث عن ماهية المعرفة وقابلية الإنسان بصفته عارفاً من جهة، وإلى التحليل العميق في الأبعاد المختلفة لشخصية الإنسان، واكتشاف تلك الفطرة الأصلية التي يجب أن يبنى عليها مسيره الاستكمالي، ويقوم بذلك بالتأمل الباطني و بدراسة الأساليب الفكرية الموجودة في عصره. والنقطة الجديرة بالاهتمام، ويؤكد عليها الكاتب عثمان هنا، أنه من المسلمات الثابتة لدى المفكرين المسلمين، ومنهم: الغزالي، أنّ نظرة المفكر المسلم لمسألة المعرفة أنها ليست غاية بذاتها، بل هي وسيلة للوصول إلى السعادة، وأن إمكان تحصيل المعرفة أمر يقيني، وأن القرآن والسنة يُجسِّدان الحقيقة، ويتكفّلان بيان أصول السعادة وحتى المعرفة، قبل أن يدعوانه إلى الإبداع والتجدد بعيداً عن ذلك المجال، هذه النظرة تقوده إلى الحركة باتجاه رفع المستوى المعرفي واستكمال النفس؛ للغور أكثر في حقائق القرآن والسنة. وعليه فبالرغم من تقديم الغزالي أيضاً ـ كما يقول عثمان ـ نظريات بديعة ومهمة في مسألة المعرفة إلا أن أهميتها كانت بالنسبة له محصورة في بيان المسائل المتعلقة بالسعادة.

وبناء على ذلك فلابد من الالتفات إلى أنّ القرآن والسنة هما مبنى الحركة نحو الكمال، وكذلك هما غايته، وكما أنّهما يحويان أصول الحركة نحو الكمال فهما يعدّان ثمرة هذه الحركة، والذي يحدث في البين هو سير كمالي يظهر من باطن الإنسان.

والكلام الذي يذكره عثمان في شرح هذا البحث، وضمن تعريفه بالأسس الفكرية للغزالي، يحكي النظم الفكرية القائمة في مجتمعه والمسائل المعرفية الأساسية التي كان على الغزالي أن يتصدى لها في تلك الأجواء. وكذلك عندما يطرح عثمان كيفية السير الفكري للغزالي بعد فترة الشك والتحول الفكري والمعنوي الذي مرّ به فإنه يبين كيف يتوصل الغزالي إلى الأصول التي لابد لطالب المعرفة من الاعتماد عليها في بحثه. ويوضِّح أيضاً كيف أن التجارب الشخصية للغزالي عن وجود الله، وإمكان هدايته المباشرة، طمأنته، وكشفت أنّ العقل ليس الأداة الوحيدة أو المثالية التي يجب الاعتماد عليها لطلب المعرفة، ولا سيما إدراك الحقائق الدينية. ومن وجهة نظره فإنّ هذه الحقائق في النهاية تبنى على مرتبة وراء العقل الإنساني، وهي تلك المرتبة التي يمكن فيها الاتصال بالوحي الإلهي. ويرى الكاتب أنّ الغزالي بعد تحوله توصل إلى ملاكاتٍ تمكَّن بواسطتها من تمحيص النظم الفكرية الموجودة في عصره. والأمر الذي كان الغزالي يهتم به هو القوى المعرفية التي يستند إليها كل واحد من هذه الأنظمة الفكرية، والقصور الذاتي في كل واحدة من تلك القوى، وهل نستطيع أن نعرف الله بواسطتها أو لا؟ وتبعاً لذلك التمحيص يتوصل الغزالي للمنزلة الحقيقية لعلم الكلام المدرسي والفلسفة، ويركِّز على طريقة المتصوِّفة في كشف الحقائق، حتى يكتشف أن البحث عن الحقيقة ليس الفحص الناظر إلى التدقيق العقلي؛ لأجل التمييز بين الخطأ و الصواب فحسب، بل إنّه عملية لا تنفك عن التغيُّر والتحوُّل الأخلاقي.

أما الفصل الثاني في الكتاب، وهو بعنوان «العقل و الوحي»، فيرسم النظام المعرفي للغزالي، و يختار عثمان عنوان «نظرية المعرفة النبوية» لنظرية الغزالي المعرفية، ويبيِّن أن الإنسان ــ من وجهة نظر الغزالي ــ يستطيع فقط في مستوى النبوة أن يصل الى المعرفة اليقينية. وهذا المستوى هو مستوى المكاشفة أو المعرفة العرفانية أو المعرفة الشخصية، وتحصل الحقيقة بالمباشرة وبلا واسطة في نهاية السير الذي يتزامن فيه التعليم وتهذيب النفس.

ويشير هذا الكلام إلى أن هذا المستوى من المعرفة فوق القواعد العقلية؛ ولذا لا تستوعبه الألفاظ، ويكون نقل هذه المعرفة إلى آخر أمراً غير ممكن. ولهذا فهو يستطيع أن يبين الطريق بحيث يتمكن السالك من الوصول إلى هذه المرتبة من المعرفة، وهذا المسمى بـ«علم المعاملة» مبني على تحصيل العلم من جهة، ورفع ما يجعل الروح في حجاب من جهة أخرى، وبعبارة أخرى: إنه يقدم «علم المعاملة» كطريقة للتوصل إلى علم المكاشفة، ويسوق طالب الحقيقة إلى حيث تتبدل جميع العناصر المكونة للمعرفة في شخصيته إلى كلٍّ لا يقبل التجزئة، والموضوع المهم الذي تكفَّله هذا الفصل هو بيان العلاقة العميقة بين الأبعاد المختلفة للمعرفة الإنسانية. ويُبرز هذا الموضوع ــ بعد طرح مسألة أنّ علم المعاملة هو السبيل لكسب علم المكاشفة ــ عدم إمكانية الوصول إلى ذلك الأمر المهم بدون الارتباط بتلك المرتبة من المعرفة التي يعتبرها الغزالي المرتبة الوحيدة للوصول إلى المعرفة اليقينية. وعلى هذا الأساس وجب أن يكون علم المعاملة ناشئاً من علم المكاشفة، ولكن كيف يكون هذا العلم وسيلة للوصول إلى معرفة تنشأ من نفس ذاك العلم؟ الجواب عن ذلك السؤال يحكي أحد الأسرار الكبيرة الناظرة إلى طبيعة البشر وسيره الأنفسي، وعليه تبنى النظرية المعرفية للغزالي. فمن وجهة نظر الغزالي لابد أن تبدأ حركة طالب المعرفة على أساس نتائج علم المكاشفة، وتكون نهايتها عند ذلك المستوى أيضاً. أما بداية الحركة فهي الموضع الذي يمكن اعتباره ثمرة مكاشفة النبي، كما بيَّنه الله تعالى، أي الوحي، فالوحي عبارة عن التعبير اللفظي الإلهي لإيصال الرسالة الإلهية إلى البشر، والتي تظهر للنبي في مرتبة الكشف. ويشرع طالب المعرفة ــ بعد طيّه للمراحل الابتدائية للوثوق بصدق الوحي ــ بالاعتماد على أصول يقدمها له الوحي، إلا أنه يتقدم في مسلكه و بتحصيل لوازم هذا السير في علم المعاملة فانه يصل بالتدريج إلى مستوى من المعرفة، وهي المعرفة الشخصية، وتلقي المعارف بلا واسطة. وهذه اللوازم هي تحصيل المعارف التي تكتسب عن طريق العقل والقرآن والسنة (وبعبارة الغزالي: العلوم العقلية أو الدينية أو الشرعية)، وهي أيضاً المسير الذي ينظِّم الأبعاد الروحية االمختلفة، ويلتفت إلى كل جزء من وجوده بمقدار لزومه في سيره المعرفي. وعندها إذا توصل طالب المعرفة إلى هكذا مكسب مهم يمكنه الوقوع في معرض النفحات الإلهية، بحيث يستطيع من خلال الإلهام أن تنكشف له الحقائق.

وهذه اللوازم، وهي لوازم لا تنفك عن بعضها في هذا المسير، لا يوصل أيٌّ منها الفرد إلى مطلوبه، فالإنسان يتقدم نحو أعلى مستويات المعرفة بحركة متعددة الأبعاد.

ومن خلال البحث الدقيق الذي يعرضه عثمان عن هذا المسير تحل كثير من الإبهامات والتناقضات الظاهرية التي تبدو في النظرية المعرفية للغزالي، ويستقر كل عنصر في مكانه المحدد.

وتبنى هذه النظرية على رؤية الغزالي حول مصير الإنسان، وتبدأ المراتب المعرفية للإنسان من الحواس، ثم مستوى التمييز والعقل والفكر، وأخيراً النبوة. وبحسب الغزالي فإن كل مستوى معرفي مبنيٌّ في نفس الإنسان، ومن جهة أخرى مبني على ذلك الارتباط المجموعي للموجودات المتعلقة بذلك المبنى. فالحواس بالموجودات المحسوسة (وكل حس بطائفة من المحسوسات)، وقوة التمييز والعقل والفكر، وفي النهاية (الروح النبوية)، كل منها ترتبط بسنخ من الموجودات، وهذه المرحلة الأخيرة هي التي تعرف الإنسان بالغيب والموجودات الباطنية التي تعتبر غير موجودة من وجهة نظر سائر المراتب المعرفية للإنسان. هذه المرتبة يمكن الوصول إليها في طبيعة جميع البشر، مع تفاوت أن بعضهم، وهم الأنبياء، مكلَّفٌ بأداء واجبات لم تطلب من غيرهم.

والأمر المثير للاهتمام أن السير الاستكمالي للنفس عند عثمان، بناءً على رؤية الغزالي، يعني المراحل التي يطويها الإنسان لكي يكتسب المعرفة من جهة، ويصل إلى نمو باطني من جهة أخرى، وهذا هو الموضوع الذي سيبحث في الفصل الثالث. أما الذي سيتبيَّن في هذا الفصل (الفصل الثاني) فهو استناد مسير اكتساب المعرفة إلى قابلية صاحب المعرفة، والتي تبنى على الارتباط العميق بين جميع أجزاء الشخصية الإنسانية. ويتضح من هذه الدراسة أن ما يُعرف بأدوات المعرفة، ومنها: الذهن، ليست منفصلة عن كل الشخصية، ولا يمكن اعتبارها بمثابة قوى المعرفة، أو الأدوات التي ينحصر فيها تأمين الارتباط بالواقع، منفصلة عن بقية الشخصية. وكل الجوانب الأخرى للشخصية، ماعدا القوى المعرفية، أي العادات والميول والعواطف والخصائص الشخصية والأهداف والعلائق الشخصية كلها، دخيلة في عملية المعرفة.

ولهذا فإن الإنسان ـ من وجهة نظر الغزالي ـ؛ بكونه صاحب معرفة، موجود يرتبط فهمه بصورة مباشرة بوضعه الوجودي، وهذا الوضع الوجودي يتناظر مع مرحلة سيره الشخصي التي هو فيها. وكل مرحلة هي انعكاس للقدرات المعرفية للشخص وعاداته وأهدافه وكيفية التوازن الذي حققه بين الأبعاد المختلفة لشخصيته.

وقد طرح عثمان في ختام الفصل الثاني، وقبل الدخول في بحث السير الشخصي والمعرفي للإنسان في الفصل الثالث، إجابات لعدة أسئلة أساسية تنشأ من الطرح المعرفي للغزالي.

فيعرض في الجواب الأول كيفية تبيين الحقائق في الشرع المقدس من وجهة نظر الغزالي، وذلك بملاحظة أنّ الغزالي يعتبر المكاشفة أعلى مرتبة من مراتب المعرفة، وأن هذا المستوى لا تسعه الألفاظ، ومن جهة أخرى فإنه يعتبر القرآن والسنة تبلورٌ للحقيقة في مرتبة المكاشفة للنبي ‘. وفي هذا البحث يوضح أنّ بعض الحقائق الواردة على لسان الشرع هو على مستوى الظاهر، وبعضها الآخر هو على مستوى الباطن، وهذا ما أدى إلى أن نضطر للتأويل لفهم لسان الشرع في الموارد التي لا يتمكن الظاهر من كشف الحقيقة المستترة وراءه. ولكن برأي الغزالي فإنّ هذا التأويل لا يتم إلا من قبل الذين وصلوا إلى الحقائق بنور اليقين وفي مرتبة الكشف. ويرجع عثمان وجهة نظر الغزالي هذه إلى نظريته المعرفية، ويشير إلى أنّ الفرد ما لم يكن موفَّقاً في مسيره المعرفي في كافة الأبعاد لا يتمكن من الفهم الصحيح للحقائق، حتى في الموارد التي وردت في قالب الألفاظ.

والسؤال الثاني يرتبط بمصدر تمييز الحسن والقبح من وجهة نظر الغزالي، أي هل يعتقد الغزالي بقدرة العقل على إدراك حسن الأفعال وقبحها بدون الاعتماد على الوحي أو لا؟

فيشرح عثمان في هذا البحث كيف أنّ الغزالي لا يعتبر الحسن والقبح وصفاً ذاتياً للأفعال، بل إنه وصفٌ عرضيٌّ لها، ويرى أنّ المنافع والمصالح الشخصية هي الأساس في نسبة الحسن والقبح للأفعال من قبل البشر. وبرأي الغزالي فإنّ الأفعال ليس لها حسن وقبح في ذاتها، ولهذا السبب تتصف في الموارد المختلفة بصور مختلفة من الحسن والقبح. ولذا يعتقد أنه لا يوجد اتفاق عام على الحسن والقبح في الأفعال بصورة مطلقة، ولا على أنّ المعرفة بحسن وقبح الأفعال معرفة عقلية ضرورية. لكن الذي يثير الانتباه في هذا الرأي، ويسعى عثمان إلى تقديم توضيح جيد عنه، هو أنّ تشخيص الحسن والقبح يعتمد على المنافع الشخصية للفرد أكثر من اعتماده على العقل الإنساني، وبحسب تعبير عثمان فإن ما اهتم به الغزالي في مسألة الحسن والقبح هو سيكولوجيا الموجود البشري، لا المنطق الموجود فيه، ويبين الغزالي في بحثه كيف أنّ الوهم يحرف تشخيص الفرد لتأثره بالرغبات الشخصية. ولهذا يعتبر الغزالي أن مصدر الحكم هو الشرع، لا العقل؛ لأنه يعتقد أنّ التشخيص الصحيح للحسن والقبح إنما يصبح ممكناً في حال المكاشفة فحسب. والحقيقة أنه في ذلك المستوى من المعرفة ينتفي احتمال تأثير الرغبات الشخصية والنزعات النفسانية في إدراك الواقع، أما في المستويات الأخرى ــ غير مستوى المكاشفة ــ فلا يمكن نفي احتمال ذلك التأثير، و لا سيما إذا عرفنا أنّ العثور على النزعات الناشئة من المنافع الشخصية في غاية الصعوبة؛ بسبب لطافتها. ولهذا السبب لا بد أن نعترف أنّ الغزالي لا يرى العقل غير المهذّب قادراً على درك الملاكات الحقيقية للحسن والقبح، ويعتبر أن المصدر الوحيد المؤهَّل لهذا التشخيص هو «الشرع» أو «مرتبة الوحي» أو «مستوى المعرفة النبوية».

ويعود عثمان للإجابة عن سؤال آخر يرجع إلى منزلة الفقه من وجهة نظر الغزالي، ويقع الفقه الذي يشغل مساحة ضيقة من الأفعال الإنسانية ـ من وجهة نظر الغزالي ـ ضمن العلوم الدنيوية التي لا تسع جميع أبعاد الحياة البشرية، بينما تشتمل رؤية المعرفة العرفانية كافة الأفعال الإنسانية في الحياة، من حيث استكمالها النفسي والسلوك الأخلاقي، لا لبسط العدالة في المجتمع فحسب، التي تعتبر هدفاً من وجهة نظر فقهية لهؤلاء، بل لخدمة أهداف سامية جداً؛ لأنها في الحقيقة البعد الضروري لضبط النفس، وهي الأصل في البحث عن الحقيقة.

وينهي عثمان هذا الفصل بالإشارة إلى مسألة وصف الغزالي لمذهب فكريٍّ أو مجموعة بأنهم على حق أو باطل. ويبين هذا الموضوع بقوله: إنّه بناءً على رأي الغزالي لا يتمكن أحد ــ ما عدا الله تعالى ــ من الحكم بالقطع واليقين حول الإيمان الواقعي للناس، ويؤكد على أنّ من خصائص الإسلام وجود العلاقة المباشرة بين الله تعالى وبين خلقه، ويخالف بشدة ادّعاء شخص أو جماعة أن الحقيقة منحصرةٌ فيهم. ثم يوضِّح الحد الأقل من لوازم الإيمان من وجهة نظر الغزالي، ويقول: إنّه بالاستناد إلى اعتقاد أهل البصيرة القائل: إنّ رحمة الله تعالى سبقت غضبه، فإنّ جمع الإيمان والعمل الصالح يعتبر الملاك في الأمل بالنجاة.

وفي الفصل الثالث، وهو بعنوان «النمو في الطبيعة الإنسانية والمعرفة»، حيث يفسر الغزالي الآية: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} في رسالة قصيرة بعنوان «المضنون الصغير»، يشير الغزالي إلى المبدأ الفاعلي والقابلي لخلقة الإنسان، يعني الفيض الإلهي وحصول الاستعداد في المادة، ويتعرض لبيان التركيب الخاص للروح والجسم، ومجيء الإنسان للأرض، وعلى ضوء ذلك فهو يرى أن للروح المتعلقة بعالم الأمر، لا عالم الخلق، تكليفاً ذاتياً، وهو عبارة عن معرفة الله ومعرفة أفعاله. وهذا التكليف، الذي يعتبر بمثابة أمانة يجب عليه أداؤها في ظل الارتباط القائم بين الروح والجسد؛ لكي تتمكن الروح من السير في عوالم الوجود،ومنها: عالم المادة، يمكن القيام به. وحينئذٍ فإنّ هذا التركيب بين الروح والجسد يؤدي إلى أمور كثيرة حول مصير الإنسان، ينقِّب عنها الغزالي في أبحاثه، وإحدى هذه المسائل التي يسبِّبها هذا التركيب نزول الروح إلى الأرض، رغم أنها متعلِّقة بعالم الأمر، إنّ تعلق الروح بعالم الأمر يؤدي إلى أنها تكون في شوق دائم واضطراب للعودة إلى ذلك العالم، وهذا الشعور يوجد فيها رغبة لمعرفة الحقيقة، وبعبارة أخرى: إنّ الشوق الذي يشعر به الإنسان لإدراك الحقيقة وكسب المعرفة يعود إلى ذلك الشوق الذاتي للعودة إلى مبدئه. ولما كان تحصيل هذه الغاية، أي تحصيل المعرفة بالله وأفعاله، ملازماً لكسب المعرفة بكافة عوالم الوجود وجب الشروع من التعرف على عالم المادة، أو عالم الظواهر، و من ثمّ عدم التوقف في ذلك المستوى من المعرفة، والتقدم في المسير المعرفي إلى أفعال الله. وفي رأي الغزالي كلما ازداد مقدار معرفة الفرد تزداد معرفته في ما يخص الأفعال الإلهية، ولذا تزداد معرفته بالله تعالى، وبهذا النحو يقترب من غايته النهائية وسعادته.

ولكن من جهة أخرى فإنّ هذا التركيب بين الروح والجسد، ومجيء الإنسان إلى الأرض، يؤدي إلى المواجهة مع أبعاده الوجودية المتنوعة. إنّ تعدد أبعاد الإنسان، والتعارض الواقع بينها في وجوده، موضوع مهم يلعب دوراً مهماً في كيفية طي الإنسان لمسيره المعرفي. إذا لوحظت الأبعاد المختلفة للوجود الانساني واقتضاءاتها، بدون الالتفات إلى ارتباطها مع كل الوجود الإنساني، تطرح ــ كما يقول عثمان ــ مسألة ابتلاء الإنسان، أي إلى أي مقدار يشتغل الإنسان بكل واحدة منها؟ وكيف يمكن لهذا الاشتغال أن يلحظ بنحو مستقل وبدون ملاحظة ارتباط كل واحد من الأبعاد مع شخصية الفرد بصورة عامة؟ أما إذا لوحظت كلٌّ من هذه الأبعاد المختلفة بدقة مع الارتباط التام بالدور الذي يمكن أن تؤديه كلٌّ منها في استكمال النفس الإنسانية فهنا تبرز أهمية وضرورة تهذيب النفس والسيطرة الأخلاقية عليها؛ لأنه في هذا البحث يعرف دور كل واحد من هذه الأبعاد في نيل الكمال، وما هي غايته النهائية. ومن وجهة نظر الغزالي فإنّ هذا البحث يبين لنا ما هي الفلسفة الوجودية لكلِّ واحدٍ من أجزاء التركيب الوجودي للإنسان، ولذا يتضح في هذا البحث أن الإنسان لا ينبغي له أن يكبت أياً من أبعاده الوجودية، بل يجب أن يفهم بدقة كيف يمكن لكل واحد من هذه الأبعاد أن يساهم في تطوير مسيره الكمالي. وبعد ذلك البحث يتجه عثمان إلى البحث عن غايات الإنسان الحقيقية، وما هو الذاتي في الإنسان؟ وكيف يتم إشباعه؟ ويشير إلى أنّ ذاتي الإنسان في رأي الغزالي هو بعده الذي يكسب به المعرفة، وأما سائر أبعاده فإنما تكون موفَّقة في حالة قيامها بدورها في خدمة البعد الذاتي.

وبعبارة أخرى: يحاول عثمان ـ بلحاظ تركيب الإنسان من روح وجسد ـ بيان البعد الذي تعود إليه ذات الإنسان من أبعاده الوجودية، ويشير في كلامه إلى أن تركيب الروح والجسد يبحث في كلمات الغزالي تحت عنوان (النفس)، لكن الاستعمالات المختلفة للنفس في كلمات الغزالي ربما أربكت الباحث عن مقصود الغزالي في هذا الموضوع.

ولكنه يعتقد أننا إذا درسنا هذه الاستعمالات بملاحظة مجموع النظام الفكري للغزالي لتمكنا من معرفة النظرة الواقعية للغزالي، ووفقاً لكلامه فإنّ المهم هو أنّ الغزالي يرى أن البناء الحقيقي للإنسان يرجع إلى روحه أو إلى ذلك البعد المكتسب للمعرفة، ولا يؤدي ذلك إلى اضطراب في كتاباته. ويعتقد أنّ الروح هي التي تشرق في الجسد، وكنتيجة لذلك، فبالإضافة إلى الصفات الذاتية للإنسان النابعة من روحه تظهر فيه صفات تشبه الحيوانات والنباتات. والمهم هو إدراك التمايز بين الصفات الذاتية للإنسان و الصفات العارضة عليه، لكي نتمكن من فهم المحرك الأصلي لحركة الإنسان، وعلى أساسها نفهم جوانبه الأخرى.

ولكي يوضح عثمان هذا الموضوع يشرع في بيان معاني المفردات التي تستعمل في الثقافة الإسلامية، وبالتالي في مؤلفات الغزالي، مشيرة بنحو ما إلى البعد الروحي للإنسان. مع تذكيره بأنّ ماهية الروح ـ من وجهة نظر الغزالي ـ لا يمكن إدراكها في غير مقام المكاشفة، ولهذا فلا يمكن تقديم شرح يبين ماهيتها، وإنما يُكتفى ببيان بعض الإشعارات في علم المعاملة.

والمفردات المتعلقة هي عبارة عن أربع كلمات: (قلب)، (روح)، (نفس)، و(عقل). يقول عثمان: يشير القلب في الأدبيات الإسلامية ــ وفي مؤلفات الغزالي ــ إلى أكثر الأشياء خفاءً وواقعية، أو أعمق أسس الطبيعة المعرفية للإنسان، وغالباً ما يعبر عنه في القرآن والأحاديث بـ (مركز المعرفة). فالقلب بحسب هذه الرؤية ليس محلاً للعواطف، بل هو مرتبط بها، وبالذات في البعد المرتبط بالحاجات الجسدية. ويشير القلب في آثار الغزالي إلى تلك (اللطيفة الربانية) أو (الروح) المرافقة للجسم وحل في القلب الجسماني.

 وفي رأيه فإنّ القلب هو الجزء الذي يخاطب ويعاقب من الإنسان، وإنما تتحقق سعادته ورضاه في القرب من الله تعالى وطاعته والشقاء في سخطه وغضبه، فالقلب هو الذي يطيع، وهو الذي يعصي، وبتبعه تقوم الأعضاء الأخرى بأفعالها المناسبة.

وتستعمل لفظة (روح) للإشارة إلى تلك اللطيفة الربانية، وهي أيضاً تحل في القلب الجسماني، لكن بعث الحياة في الجسم على عاتق الروح، أي إن الروح كالشمعة التي يسري نورها في كل الجسم، وتنشر الحياة فيه، و(الروح) في ذاتها هي تلك اللطيفة الإلهية حصراً، وأقوى أدوات المعرفة، والتي إذا تخلصت من كافة المعلومات الظاهرية تؤدي إلى بوارق الرؤية الصافية.

أما (النفس) في العربية فتستعمل في الغالب بمعنى التنفس، الحياة، أو الشهوات والعلائق الدنيوية، وفي مؤلفات الغزالي تستعمل بمعنيين: الأول: المركب من القوى الغضبية والشهوية في الإنسان؛ والثاني: هو التلك (اللطيفة الربانية)، والحال أنّ الوضع الوجودي للشخص بالفعل يشير إلى أنه حاكٍ عن ارتباط القلب بالشهوات والوضع الخاص لتلك (اللطيفة) في تلك الأحوال، بمعنى أنه يمكن القول: إنّ النفس، وحسب ما ورد في القرآن، إما أن تكون في حالة (النفس المطمئنة)، وفي هذه الحالة يكون كل وجودها وقفاً لمعرفة الله وأداء أمانته، ولا يسبب الغضب والشهوات ؛ وإما أن تكون في حالة (النفس اللوامة)، وهي الحالة التي لا زالت النفس فيها في صراع مع الغضب والشهوات، ولم تصل إلى الاطمئنان التام؛ وإما أن تكون النفس في حالة (النفس الأمارة)، وهي حالة النفس الخاضعة للغضب والشهوات، وتشتغل بأهداف غير الأهداف الناظرة إلى (الأمانة)، والقلب والعقل واقعان في خدمة تلك الأهداف.

وأما العقل الذي له معانٍ كثيرة فيستعمل في آثار الغزالي بمعنيين: الأول: وهو ما يحصل المعرفة، وهو بهذا المعنى يشير إلى تلك اللطيفة؛ والثاني: نفس المعرفة التي حصل عليها الفرد بالفعل، وفي هذا المعنى يكون القلب تعبيراً عن المعرفة التي محلها القلب، وماهيتها تعيّن إلى حدٍ كبير عن طريق حالة النفس، أي المعرفة الحاكية عن مرتبة سير شخصية الفرد ونوعه.

ومن ثمّ يلخِّص عثمان نظرية الغزالي في هذا البحث بالقول: من وجهة نظر الغزالي فإن قدرة الإنسان على كسب المعرفة تقع في الروح، وللروح ارتباط خاص بالقلب، حيث يرتبط بالجسم؛ ولهذا يمكن القول: إنّ القدرة على كسب المعرفة عند الإنسان تقع في القلب حال حياته. والمعرفة والتجارب التي يكتسبها القلب تأخذ اسم العقل، ويقع نوع العقل إلى حدٍّ كبير تحت تأثير العلاقة المتبادلة بين القلب والغضب والشهوات. ويعكس هذا العقل، بالإضافة إلى هذه الروابط، حالة الروح في الجسم بالفعل، ووجهة سيرها أيضاً الذي تعبر عنه لفظة (نفس).

وبهدف بيان نوع الارتباط القائم بين الروح والجسد، وضمن إشارة عثمان إلى نقاط الارتباط الجسدي التي تمثل كل واحدة منها علاقة خاصة للأبعاد ما وراء الجسدية (القلب والروح مع القلب المادي، النفس مع الجسم وحاجاته، العقل مع مادة المعرفة بالفعل) يطرح موضوع (جنود العقل) من وجهة نظر الغزالي، ويوضح الغزالي، بالتركيز على هذا البحث من جهة، علاقة القلب بعامة أبعاد شخصية الفرد، ويشير إلى أنّ فهم التعارض والنزاع الذي يحدث بين الأبعاد المختلفة لوجود الإنسان يسوق الفرد إلى كسب معرفة أكبر بالنسبة إلى طبيعته وكيفية تجلي مسير نمو شخصيته. ومن جهة أخرى فإنه ـ وعن طريق التشابه بين ارتباط القلب مع الأبعاد المختلفة للشخصية وارتباط الله وعماله في العالم ـ يعرّف طريقاً لكسب معرفة أكمل بالأفعال الإلهية.

يعرض الغزالي في بحث جنود القلب علاقة القلب بالجسم من حيث ارتباطها بسلامة أو حياة الجسم من جهة، ومن جهة أخرى بالاستعدادات التي يتمتع بها القلب، والتي تكون بمنزلة عماله لكي يتمكن من إيصال الفرد إلى ما هو مرتبط بحيثيته الذاتية. وفي القسم الأول يبين الغزالي علاقة القلب بالجسم في ثلاثة محاور: الأول: إنّ القلب يحاول جلب ما يحتاجه البدن بواسطة الإرادة، وإبعاد ما هو مضرٌّ له (والذي يظهر في إطار الغضب والشهوة)؛ الثاني: إنّ القلب يحرك الجسم والأعضاء بالقدرة لكي تعمل لتحقيق الأهداف المتقدمة؛ الثالث: إنه يتوصل إلى الإدراك الحسي عن طريق إدراك المحسوسات كي يستفيد منها في سبيل حياة الجسم.

لكن نظراً إلى أنّ الحيثية الذاتية للإنسان هي كسبه للمعرفة، أي هي القابلية للمعرفة بالله وأفعاله، فمن اللازم أن يستعمل القلب جهده لاستقرار هذا البعد. ويسمي الغزالي تلك الحيثية المعرفية للإنسان، أو قابلية كسب المعرفة فيه، بـ (الباعث الديني)، ويسمي الميول التي تمنع من تحقق هذه الحيثية بـ (الهوى)، ويقول: إنّ القلب يستعين بأمرين لتغلب الباعث الديني في مقابل الهوى: الأول: المعرفة؛ والثاني: الإرادة. وتختلف هذه المعرفة والإرادة عن المعرفة والإرادة التي تستعمل لحفظ حياة الجسم. المعرفة والإرادة التي هي من جنود العقل (في مقابل جنود الهوى) عبارة عن المعرفة العقلانية والإرادة المنبعثة منها؛ بهدف تنفيذ أوامر العقل، وعندها يختار الفرد بالاعتماد على عقله أفضل إمكان بين الإمكانات المختلفة، ويتحرك لتحقيقه. وكلما تمكن الفرد من رفع مستوى هذه المعرفة والإرادة كلما تقدم أكثر في سيره الاستكمالي وتحقيق الكمال المتعلق بحيثه الذاتي.

وقبل أن يتوسع عثمان في هذا الموضوع؛ وبهدف إتمام هذا البحث، يتصدى لبحث دقيق هو كيفية تأثُّر القلب بالخواطر الملكية والشيطانية، ويبين كيف تستطيع هذه الخواطر أن تقود فكر وإرادة الفرد إلى جهة خاصة. وفي الحقيقة فإنه يشرح في البحث السابق الأرضية النفسية التي يمكن أن تساعد أو تمنع الحركة الاستكمالية للنفس، ويؤكد في هذا البحث على المحركات الخارجية التي توجه حركة النفس نحو جهة بعينها. يقول في هذا البحث: إنّ خواطر الفرد إما أن تدعوه إلى الخير، ويسمى الإلهام؛ أو يسوقه إلى الشر، ويسمى الوسواس. ويرى الغزالي أنّ منشأ الإلهام هو المَلَك، ومنشأ الوسواس هو الشيطان. وإذا كان القلب مستعداً للإلهام فقد وفِّق؛ وإذا كان مستعداً لقبول الوسواس فقد غوى.

والمهم في هذا البحث هو اهتمام الغزالي بالبحث عن مسألة أن ميل الإنسان إلى كلٍّ من هذه الخواطر منوطٌ باختياره، أيّ طريق يختار وسط النزاع بين الهوى والدافع الديني. فإذا كان الفرد مستسلماً لغضبه وشهواته فقد هيأ الأرضية لغلبة الشيطان. وفي هذه الحالة فإن أبعاد شخصيته، حتى عقله، تقع تأثير وساوس الشيطان وحالات القلب. أما إذا استقام في مقابل أهوائه، وسعى في السيطرة على شهواته وغضبه، فقد استطاع تهيئة الأرضية للإلهام، وجعلها في معرض معرفة الذات، ولهذا جعل أبعاد شخصيته، ومنها: العقل، في مسير التقدم نحو الكمال.

المسألة المهمة التي يطرحها عثمان هنا هي صعوبة تمييز الخواطر الشيطانية من الخواطر الملكية. ويعتقد الغزالي أن الفرد لا يستطيع في كثير من الأوقات أن يميز ماهية الخواطر بسهولة. ولهذا فلابد له ــ وبدقه كاملة، وبصدق تام، وبعيداً عن أي نوع من الخداع ــ أن يفحص عن ماهية دوافعه وخواطره، ويسعى من خلال هذا الفحص الدقيق والصادق إلى تمكين القلب من الخلاص الكامل من موانع الحقيقة.

ويحظى بحث العلاقة بين الروح والجسد وتأثيراتهما المتبادلة بتفصيل أكثر من قبل عثمان، ثم يبين وجهة نظر الغزالي بأن تأثيرات الجسم على الروح بعد تجاوزها مستوى الارتباط بين هذين تنفذ إلى عمق الروح، وتصبح جزءاً من صبغة شخصية الفرد، وتترك تلك الصبغة أيضاً تأثيرها في نوعية وكيفية الحالات التي لها جنبة ظاهرية، وتتجلى في علاقة الروح بالجسد. وعلى هذا الأساس يشرع الغزالي في بيان دور العبادات في التطهير، ويسترسل حتى في بحث التأثيرات المتبادلة للروح والجسد في تكوّن أفكار الإنسان. وفي رأيه فإنّ الانغماس في الحاجات الجسدية يؤثر على أسلوب تفكير الإنسان، كما أنّ إشباعها المتعادل يفتح له الطريق الصحيح للتفكير.

ومن المواضيع المهمة الأخرى التي تطرح بتبع هذا البحث، ويتعرض لها في الفصل الرابع، بحث اختيار الإنسان وحريته. وهذا الموضوع يرتبط بشكل لطيف بموضوع تكون الشخصية الإنسانية، ويقدم عثمان عنه تقريراً بديعاً، فيشير كيف أن حرية الفرد، من وجهة نظر الغزالي، ترتبط مباشرة بنوع شخصيته التي تحوي الصفات التي يمكن أن تعين مقدار وقوع الفرد تحت سيطرة العوامل التي يمكنها تقييد حريته. كلما كانت شخصية الفرد أكثر رشداً وذات فضائل أكثر فإنّ ميزان معرفته يصبح أكبر بالنسبة إلى إمكاناته ومحدوديات أطرافه، ويحصل للفرد إشراف أكبر على العوامل المؤثرة في تقييده. وفي هذه الحالة يدرك ما لكل شيء حوله أو في داخله من تأثير في وصوله إلى سعادته. و تشير هذه النظرية إلى كيفية وقوع الارتباط الكامل من جهة الوصول إلى الحرية والاختيار الحقيقي، ونيل الفرد للمعرفة بالسير الذي تطويه شخصيته.

أما الفصل الرابع، وهو من الفصول المهمة في الكتاب، والمعنون بـ (مفهوم التوحيد)، فيرتبط بالنقطة الرئيسة في النظام الفكري للغزالي وتحليلها. و برأي عثمان فإن أصل التوحيد هو ما بعد الطبيعة ونظرية المعرفة والأخلاق و علم النفس والفكر الاجتماعي والسياسي للغزالي، وإن دوره في النظام الفكري للغزالي بحيث إنه يربط كل أجزائه مع بعضها في وحدة، في نفس الوقت الذي يبرر كل واحد منها.

ويذكِّر عثمان في بداية الفصل بالمحاور الأساسية لفكر الغزالي في باب المعرفة والتعليم، وجعلها الممهدة لبحثه الرئيسي. ويحاول في هذا القسم بحث محورين أساسيين حول رؤية الغزالي في باب التعليم بنحو خاص والمعرفة بنحو عام، ويتجه لتبيين مركز النظام الفكري للغزالي، أي التوحيد، على ضوء ما تقدم في الفصول السابقة. والمحوران اللذان يبحثان هنا هما: اعتقاد الغزالي قصور اللغة في نقل الحقيقة؛ والقصور الموجود في فهم وقابلية المخاطبين أو طالبي الحقيقة. وعلى هذا الأساس يوضح عثمان أن الغزالي يعتبر ـ أولاً ـ الشرع جسراً لملء الفراغ بين التجربة العادية للأفراد وبين الحقيقة؛ لأن الشرع بيان لغوي للحقيقة، واللغة ذاتها نابعة من التجارب العادية للبشر. ولهذا فمن جهةٍ يستطيع الذين هم في المستوى المتعارف بلحاظ الفهم والمعرفة أن يدركوا تجسم الحقيقة في قالب اللغة الشرعية، ولو أنهم فهموا من الكلمات ذلك المعنى المتعارف، ومن جهة أخرى فإنهم إذا أرادوا الوصول إلى نفس الحقيقة والمعرفة اليقينية أمكنهم؛ بالاعتماد على التعاليم الشرعية والمعارف العقلية وطي مسير استكمال النفس، أن يعبروا من القالب الظاهري للغة الشرع إلى معانيه الباطنية، والوصول إلى ذلك المستوى الذي تنزل منه الشرع. وهنا يستطيع الوصول إلى مستوى البصيرة، ويتمكن في الحقيقة من رؤية الحقائق المخفية في لسان الشرع.

 وثانياً: يتوصل الغزالي إلى حقيقة مهمة أخرى من خلال التبيين الذي يقدمه في هذا البحث، وهو أنّه بالرغم من اللغة والمعارف التي تُضمَّن في قالب اللغة هناك أمارات وعلامات للوصول إلى الحقيقة، إلا أنها يمكن أن تصبح حجباً كبيرة على طريق الحقيقة أيضاً. وكل تأكيد الغزالي في هذا البحث على مسألة أن الحقيقة والمعرفة اليقينية لا تحيط بها اللغة. وهذه المعرفة، كما تقدم، معرفة مباشرة وشخصية، ولهذا لابد من الانتباه إلى أنّ كافة المعارف التي تصب في قوالب لغوية معارف نسبية أو جزئية. وهذه المعارف إنما يمكنها عرض الجانب العقلاني والتجريبي للواقع، لكن الغزالي يعتقد أنّ هذه المعنويات للواقع لا يمكن فهمها إلا بشكل مباشر.

وعلى هذا الأساس يقصر الغزالي كل ما يمكن تعلمه بميدان علم المعاملة، وأما ما يرتبط بمجال المكاشفة فإنه يوكله إلى كسب المعارف اللازمة لطالب الحقيقة لكي يستطيع التوصل إليه بنفسه. ولهذا يمكن العثور على موارد كثيرة في مؤلَّفاته يعرض فيها توضيحاً للموضوع الذي يرتبط بمجال علم المكاشفة، وبعد ذلك يمتنع عن البيان التام للمسألة، ويكتفي بإشارات تنفع طالب الحقيقة.

ويصرِّح الغزالي بهذا الرأي في بحث معرفة الله تعالى وصفاته، فيمتنع في بحث معرفة الله تعالى وصفاته عن البرهنة على ذلك، إلا في الحالات التي تكون البراهين والاستدلالات في إطار حفظ اعتقاد عامة الناس وإبطال شبهات المخالفين. فمن وجهة نظره لا يمكن للبراهين والاستدلالات العقلية أن تكون مولِّدة للمعرفة في مجال الحقائق المعنوية، بل إنها ومن خلال بعض الدلالات تحفظ طالب الحقيقة من اليأس عن طلب الحقيقة، وتقوي مبانيه الفكرية. وعليه إذا تصوَّر طالب الحقيقة أنّ البراهين العقلية يمكن أن توصله إلى الحقيقة بنحو مُرْضٍ فقد واجه الجانب الخطر.

إنّ فهم الواقع بشكل مباشر يرتبط ـ من وجهة نظر الغزالي ـ بتحصيل الاستعداد لذلك في طالب الحقيقة، وإنما يمكن اكتساب ذلك الاستعداد في حالة التقدم في المسير التكاملي للنفس وكسب الفضائل الأخلاقية وتخلية القلب، الذي هو مركز المعرفة، من الرذائل.

ويكمل عثمان توضيح هذا البحث ببيان النظرية التي يتبناها الغزالي في باب الإيمان، لأن الغزالي يبين بنحو واضح في بحوثه عن الإيمان كيف يبتني التوصل إلى المعرفة اليقينية على حيثيات ثلاث: العلم؛ والحال؛ والعقل، أي ما لم تتناسق المجالات المختلفة لنفس الإنسان في اتجاه واحد لا يمكن لفرد الوصول إلى المعرفة اليقينية. ومن وجهة نظر الغزالي فإنّ اليقين في المسائل المتعلقة بالإيمان إلهامٌ شخصيٌّ يحصل عن طريق كسب العلم، واكتساب الكيفيات التي تناسبه في القلب، والأعمال والسلوك المناسب لها.

وبملاحظة رؤية الغزالي حول إدراك الواقع يطرح عثمان نظاماً من قبل الغزالي يمكنه من جهة أن يتضمن المحور السابق ( القصور اللغوي وطلب المعرفة)، ومن جهة أخرى يسوق طالب المعرفة نحو غاية تقع فيها المعرفة الحقيقية. ويؤسِّس هذا النظام على مبنى أصل التوحيد لكي يُعيّن اتجاه حركته ويكون نقطة لانطلاقه. فالصفات الإلهية ـ من وجهة نظر الغزالي ـ ولا سيما التوحيد، يجب أن تكون مسيطرة على سفر استكمال النفس من أوله إلى آخره. وفي الحقيقة فإن طالب المعرفة يشرع بحركته بالاعتماد على المباني العقلية والإيمانية بالنسبة إلى أصل التوحيد، لكنه يترقى باتجاه هيمنة (سيطرة) الله على كل الوجود، ويشاهد وحدة أجزاء العالم مع تجربة الوحدة في داخله التي تحصل في نهاية سير نفسه الاستكمالي. في هذا النظام تظهر له كل واحدة من المجالات المختلفة للمعرفة شطراً من الحقيقة، وترتبط مع بعضها، وهذا الارتباط المتناسق، مع كون كلٍّ في محله، فهي يُهيِّء لفهم أفضل للطالب.

يمكن لمعرفة الوجود عند الغزالي أن تُوجهنا إلى التناظر بين بحثه المعرفي والوجودي. يقول عثمان، في بيان الغزالي للوجود: إن ما ندركه، من وجهة نظره، من العالم بحواسنا ومعرفتنا العقلية تتنزل من المرتبة المعنوية (التي هي تجلي الإرادة الإلهية) إلى مرتبة اللوح المحفوظ، ثم الى مرتبة الفعلية، التي تشتمل على البعد الظاهري والبعد الباطني،ويسع البعد الظاهري والبعد الباطني فعلية العالم من أدنى الوجودات الجسمانية إلى أعلى الوجودات المعنوية، وبناءً على ذلك فلا تشكل مرتبتين مستقلتين فقط. و في رأي الغزالي فإنّ لكل موجود في العالم الظاهر تجسُّماً معنوياً في عالم الباطن، ولذا تظهر كل الموجودات، حتى المادية والظاهرية، جانباً معنوياً من الفعلية؟. وبعبارة أخرى: إنّ أصغر موجود، بحسب التصور الذي يقدمه الغزالي عن العالم، هو تجلي الإرادة والتدبير والحكمة الإلهية، ولهذا يتجلى بعدها المعنوي، وهو عبارة عن معناها في العالم. ويدرك هذا البعد ــ برأي الغزالي ــ بالقلب. وعليه فمن كان يريد الوصول إلى المعرفة اليقينية إنما يصل إليها بعد أن يصل إلى ذلك البعد المعنوي لكل موجود، حيث يجد الموجودات مرتبطة مع بعضها في مجموعة منسجمة، وعندها يتمكن في هذا التصور من فهم كيف أنّ كل الوجود يعمل في ظهور الموجود أو الحادث بمثابة شرط ضروري. وهذا فهم مبنيٌّ على رؤية أنّ كل شيء في العالم ينتهي إلى الحكمة والتدبير الإلهي، ولذا يعلم أهل البصيرة أنه ليس في العالم من عبثٍ.

وتظهر هذه الرؤية في نظرية العلّية عند الغزالي. يرى الغزالي ـ كما يقول عثمان ـ أن كل ظاهرة أو موجود مرتبطٌ ضرورةً بسلسلة معقدة من الشرائط. ومن وجهة نظره فإننا عندما نعتبر شيئاً علة لشيء آخر فقد لاحظنا هذه العليّة فقط من منظار ضيّق، وهو الارتباط الظاهري بين الموجودين، دون النسيج المعقد من الشروط التي أدت إلى تحقق ذلك الموجود. إن رؤية كل هذه الشروط في النسيج المنسجم المعقد لكل الوجود، الواقعة بحسب السنة الإلهية وعلى مبنى (الحق)، إنما تتحقق في مرتبة المعرفة الصوفية أو المعرفة النبوية (مرتبة المكاشفة).

معرفة الوجود بمنزلة تجلي الإرادة، بالرغم من كونه سيراً نحو معرفة الله تعالى، إلا أنّ هذه المعرفة ــ وحسب كلام عثمان ــ لا يمكنها لوحدها أن توصل الإنسان إلى معرفة كاملة بالله. وباعتقاده فإن الخطوة المهمة الأخرى التي يجب أن يخطوها الفرد مبنيةٌ على اعتقاد الغزالي أنه لابُدّ للإنسان لمعرفة أي شيء أنْ يكون له دالٌّ عليه في داخله، ولا يمكن للإنسان التعرف على شيء لا توجد له علامة دالة عليه في نفسه. وبناءً على ذلك ففي معرفة الله لابد للإنسان من البحث عن شيء في نفسه يهديه إلى معرفة الله.

ولهذا السبب فإن عثمان في هذا الموضع يركِّز بحثه على العثور على تلك الحيثية في وجود الإنسان التي يمكن أن ترشده إلى الله، ويبني هذا البحث على هذه المسألة المهمة، وهي أنّ سير الانسان نحو الله تعالى هو بالذات سيره باتجاه الكشف التام لنفسه، ويتوصل في هذا البحث إلى أن في النفس الإنسانية حيثية يمكن اعتبارها مغايرة لسائر أبعاده الوجودية إلى حدٍّ ما، وكأنها آمرةٌ أو حاكمةٌ على سائر الأبعاد، ولها من الخصائص ما يميِّزها عن غيرها، وإن كانت في المراحل الابتدائية لسير النفس لا تتمايز كثيراً عن الأبعاد الأخرى، لكن يتضح في المراحل المتقدمة أنّ ما يرضي تلك الحيثية يختلف عما يرضي سائر أبعاد الوجود الانساني، وتظهر منها خصائص لا تشابه خصائص الأبعاد الأخرى. ومن أمثلة ذلك: قابلية اكتساب المعرفة، والنزوع إلى الخلود، ورغبتها بالتعظيم، وحب التسلط على الأشياء والأشخاص، والانتقام، والعفو، والحب، والبغض، ونحوها. ومن هنا إذا وصلت تلك الخصائص إلى مرحلة الكمال فإن الفرد يشعر بها في نفسه بوضوح أكثر. وهذه الحيثية ـ من وجهة نظر الغزالي ـ هي (روحنا). ومن وجهة نظر الغزالي فإن هذه هي الخطوة التي يجب طيها في سبيل المعرفة التامة لله؛ أي معرفة الذات والصفات الإلهية عن طريق النظر والتأمل في ذات وصفات النفس، ومعرفة كيفية حاكمية الله على العالم من خلال التأمل في كيفية حاكمية الروح على سائر أبعاد الوجود الإنساني.

وبذلك فإنّ الموضوع المهم الذي يتضح هنا أنّ مقدار معرفة الإنسان بالله وصفاته تتناسب مع مقدار سيره لاستكمال نفسه، وفي النتيجة فإنها تطوى بمقدار معرفته بأبعاده الوجودية وانكشاف ذاته. ولهذا فإنّ ما يفهم من الصفات الإلهية، في مرتبة الفهم المتعارف من المعرفة، محاطٌ بأنواع القيود ودلالات العوام، والحال أن هذا الفهم في مرتبة المكاشفة قد تخلص من جميع تلك الدلالات، وبني على أعمق التجارب الخفية للروح. ولكن، من وجهة نظر الغزالي، فإن أعلى مراتب معرفة الله تكون أيضاً محدودة بمقدار الفهم الإنساني، وعلى أية حال فلا يمكن لأحد أيضاً ــ إلا الله ــ أن يعرف الذات الإلهية بصورة كاملة.

إنّ بحث التناظر بين انكشاف النفس الإنسانية مع سيرها التكاملي وتقدمها في المسير المعرفي هو بحث مهم يؤكد عليه عثمان هنا كثيراً بناءً على الأبحاث السابقة، ويوضِّح أن الوصول الى أعلى المراحل المعرفية ــ برأي الغزالي ــ يتيسر بالعبور من المراحل المختلفة في مسير تكامل النفس. وكل مرتبة من هذا المسير هي مقتضى تحصيل المعرفة بالنفس في تلك المرتبة من جهة، واكتساب المعرفة بالوجود في تلك المرتبة من جهة أخرى. لذا تعتبر تجربة كل واحدة من هذه المراتب ضرورية في هذا السير؛ للوصول إلى المراتب التالية، والبقاء في نفس المرتبة والاشتغال باقتضاءاتها عيناً تخلف عن الوصول إلى المراتب التالية.

وعلى ضوء ذلك فالشخص الذي لا يلتفت إلى أنّ كل واحدة من هذه المراحل ضرورية للوصول إلى المراحل التالية يبتلي في كل مرحلة منها بعادات أو اشتغالات تمنعه عن كسب المعرفة الأعلى بنفسه، ومن ثم بالوجود أيضاً. وبناءً على ذلك فالعجيب أنّ القلب لابد من تطهيره دائماً في هذا المسير من تلك الأمور التي مكَّنته من تحصيل المعرفة؛ لكي يتمكن أيضاً من رؤية ما يعرض في اللوح المحفوظ، ويعرف ذاته وصفاته الذاتية لمعرفة الله تعالى. والمقصود بذلك أنّ المعارف الحسية والعقلية التي تساعد كل منها الشخص في كسب المعرفة بالوجود هي فقط مراحل للعبور والوصول إلى المراحل المعرفية الأعلى. وعندما يتمكن القلب من إدراك المعارف عن طريق الحواس والعقل، وبالتركيز على نفسه، يتمكن من إدراك نفسه المنفردة، وهذا الأمر يستلزم تطهير النفس من المعارف السابقة، ويستطيع التوصل إلى خصائصه المختصة به، والتي ترشده إلى الله. وبسبب أن كل أداة معرفية للإنسان ــ برأي الغزالي ــ تكشف عن تلك المرتبة من الوجود التي تقع في مجال قدرتها فإنّ التعرف على أرقى مراتب الوجود تتم بواسطة أرقى حيثيات الوجود الانساني. وفي هذه النظرية تؤدي كل من الأدوات المعرفية للإنسان التي تظهر بموازاة سيره النفساني دور المهد لظهور وبلوغ الأدوات التالية، إلى الحد الذي يتمكن الإنسان معه من الوصول إلى المجال المعرفي الذي يمكن معه أن يعرف ذاته، وينال المعرفة اليقينية من خلال العبور من المعارف النسبية والجزئية. وعلى هذا المنوال فإنّ طبيعة الإنسان ـ في رأي الغزالي ـ قد خلقت بحيث تتمكن من تجربة كل سلسلة الموجودات، ومعرفتها من أظهرها إلى أخفاها، ذلك السير الذي يطويه في فهم الحقائق، ومقارناً مع تقدم شخصيته نحو الوحدة يترقى أكثر.

ترقي الإنسان في الفهم، مقارناً للسير الذي يوجه شخصيته نحو الوحدة، موضوع مهم يفيدنا رؤية عميقة حول مسألة اختيار الإنسان. ينكر الغزالي أصل العلّيّة وإحلال أصل التوحيد ومفهوم الحق، ويدعي أنه لا يمكن لشيء أن يكون في الزمان والوضع الذي هو فيه بدون أن تلحظ كل حياة العالم، وفقاً للعلم والارادة الإلهية، باعتبارها شروطاً ضروريةً لأجل تحققه. وعلى ضوء ذلك فإن فهم أي شيء في عالم الوجود يعني فهم كافة ظروف ظهوره، والعلاقات التي تربطه مع سائر الموجودات، وفهم معناها في كل الوجود. وفي هذه النظرية يتعين كل فعل اختياري يصدر من الإنسان بناءً على كل شخصيته، وسائر العوامل المؤثرة على سيره ونوع تعقله وفهمه، والتي تدل بدورها على مقدار التناسق بين الأبعاد المختلفة لشخصيته، وعلى خصائصه وأفكاره وأهدافه في مرحلة خاصة من سيره الأنفسي الذي هو فيه، وبناءً على الظروف الخارجية والعوامل الأخرى. و يعتبر مستوى الفهم أهم تلك الشروط. وإن الشعور بالترديد والشك، الذي يطرأ على الفرد عند انتخاب أحد الأمور الممكنة من بين مجموعة إمكانات متعددة، يرتبط بميزان فهمه. ولذا فإنّ اختيار الفرد ومقدار حريته يرتبط بالكامل بكيفية فهمه، بحيث إنه ـ من وجهة نظر الغزالي ـ إذا حصل للفرد مستوى من استكمال النفس، بحيث تكون أبعاده المختلفة خاضعة لقلبه، فإنه يتمكن، وبفهم الظروف الخارجية ونسبتها إليه، ودورها الذي تؤديه في وصوله إلى أهدافه، من القيام بالفعل الذي يوافق رغباته. إنّ إهمال حالة الشخص واختياره باعتبارهما جزءاً من العالم يؤدي إلى إهمال سلسلة الشروط الداخلة في صدور الفعل من الشخص، وغفلة الفرد عن التأثير الذي تتركه الأبعاد المختلفة لشخصيته في قراراته وصدور أفعاله، ولذا يبيّن مسألة اختيار الإنسان من نافذة فهمه. ولهذا السبب فإنّ عثمان يعتبر جواب الغزالي على مسألة الاختيار منوطاً بموقفه الذي ينظر منه إلى تلك المسائل.

ومن وجهة نظر توحيدية فإنّ كل ما في العالم يحدث تحت الإرادة الإلهية المطلقة، ولا يمكن لحاظ شيء في العالم بدون ملاحظة كافة الشروط المؤثرة في حدوثه. لذا فإنّ الفرد الإنساني أيضاً جزء من الحالة العامة التي هو فيها، ويمكن فقط عن طريق فهم النسبة إلى هذا الكل، والنسبة إلى أهدافه، ودور كل شيء في التوصل إليها، ومن بين كافة الظروف التي تعيِّن أفعاله، أن يكون شرطاً أساسياً، وبالتالي مختاراً.

أما إذا نُظر إلى المسألة من زاوية الفرد المحدودة، بدون ملاحظة كافة شروط تحقق الفعل، فيبدو أنّ الإنسان مختار، وبعبارة عثمان: فمن هذا المنظار تكتسب الطاعة والمعصية معناهما، وإلا فمن وجهة النظر السابقة لا معنى لطاعة أحد سوى الله، وبنفس الكيفية تفقد المعصية مفهومها؛ لأنه لا يبقى شيء في ذلك التصوير ما عدا الله تعالى يمكن إطاعته، ولا يبقى للتخلف عن أوامر الله معنى. وإذا لاحظنا المسألة من حيث الغاية النهائية للإنسان فينبغي القول: إن مقدار حرية الإنسان يرتبط بكيفية ومقدار سيره النفساني، والذي يشير بالتالي إلى كيفية ومقدار معرفته.

وبعد تبيين هذه المسألة يطرح عثمان عدة موضوعات أخرى في نهاية هذا الفصل، تبعاً للأبحاث التي تعرض لها.

وأحد هذه الموضوعات المطروحة على ضوء آراء مباني الغزالي هو قصور الفهم البشري وقصور اللغة في نقل الحقيقة، وهي عبارة عن النزاعات التي تحدث بين البشر حول الحقيقة. فمن وجهة نظره إنّ أعلى درجات التوافق التي يمكن أن تحصل بين البشر لا تتجاوز مستوى علم المعاملة الذي تصب الحقيقة فيه في قالب الألفاظ.

وبعبارة أخرى: لما كان الناس ينظرون إلى كل شيء على ضوء سيرهم الأنفسي، ولا يكتمل إدراك أي شخص بالنسبة إلى أي شيء إلا إذا نظر إليه من منظار توحيدي، وأيضاً لما كان من المتعذِّر تجلّي الحقيقة بنحو كامل في قالب الألفاظ؛ لهذا لم يَزَلْ النزاع قائماً بينهم على فحوى الحقيقة.

ولهذا، ما لم يتمكن الناس من تبديل نظرتهم إلى نظرة توحيدية شاملة يستطيعون بواسطتها وضع كل شيء في موضعه، وكشف الارتباط الصحيح بينها، يبقى النزاع بينهم قائماً حول ماهية الحقيقة. وبناء على ذلك فمن وجهة نظر الغزالي، ونظراً للقصور الملاحظ في رؤية أغلب الناس، لا ينبغي لفرد أو طائفة أن يجبروا الآخرين على القبول بوجهة نظرهم لا غير. وهذه المسألة في رأيه، بالإضافة إلى السبب المتقدم، ترتبط باستكبار هؤلاء أيضاً، وفي هذه الحالة يجعل من ذهنه المعيار لفهم الآخرين، ويعتبر الحقيقة مختصة به.

وآخر الموضوعات التي يطرحها عثمان في هذا الفصل هو العلاقة التي كان الغزالي يراها بين غايات الإنسان ومقدار معرفته. وإن الالتفات إلى هذه العلاقة يمثل الأساس لفلسفة دينية، والتي تعطي ــ بتعبير عثمان ــ معياراً تصنَّف على ضوئه ـ في رأي الغزالي ـ الأديان والأنظمة الفلسفية والأفراد. وعلى هذا الأساس يبين عثمان وجهة نظر الغزالي المهمة حول الغاية التي يختارها الإنسان في حياته، وأثرها المباشر على مقدار ونوع معرفته وقيمه وعاداته والخصوصيات التي تتركها، ومن جهة أخرى فإن لكيفية سيره الأنفسي تأثير في تعيين تلك الغايات أيضاً، وإنما تحصل أعلى مراتب استكمال النفس ومستويات الفهم والتكوين الأخلاقي عن طريق التسليم الكامل والواعي لله فقط.

ويطرح عثمان مباحث الفصل الخامس من كتابه حول محور نظرية الغزالي في خصوص ماهية الإنسان، من حيث نزعاته الدنيوية، والدور الذي تؤديه تلك النزعات في ما يتعلق بمعارفه، والتصور الذي يقدمه في هذا الشأن بناءً على الارتباط الاضطراري للفرد مع أبناء نوعه في المجتمع. وكذلك يبحث احتمال تعارض نزعات الإنسان الدنيوية مع غايته النهائية، ويقدم تحليلاً نفسياً عن الحالة التي تحصل لقلب الإنسان في توجهه للدنيا من جهة، وتوجهه إلى الآخرة من جهة أخرى.

فمن وجهة نظر الغزالي، يعتبر قلب الإنسان محلاً لتلاقي الرغبات التي تعمل على رفع حاجاته الجسدية، ومن جهة أخرى لابد من كسب التجربة والمعرفة للوصول إلى السعادة. فهو يعتقد أنّ الإنسان؛ لأجل الوصول إلى السعادة، يجب أن يجتهد في ضبط نفسه والسيطرة على أفعاله، بحيث يكون قيامه بالأمور لدورها في تحصيل سعادته فقط.

ويسعى عثمان بطرحه تلك المسألة للإشارة إلى جعل الغزالي محورية السعادة للإنسان مبنىً لتكوين نظامه القيمي من بين الأمور التي يتعرض لها. إنّ الأفعال التي يقوم بها الإنسان، من وجهة نظر الغزالي، إما دنيوية خالصة؛ وإما أخروية خالصة؛ وإما دنيوية من حيث وأخروية من حيث آخر. والمهم أن يتمكن الإنسان من القيام بأفعال لها تأثير إيجابي في تحقيق سعادته، ولهذا يجب أن يسخر أفعاله الدنيوية في هذا الاتجاه أيضاً.

ويحاول عثمان بجعل هذا البحث محوراً لهذا الفصل تبيين الأبعاد المختلفة لأفعال الإنسان الدنيوية في رؤية الغزالي، ولاسيما عندما تتخذ هذه الأفعال صيغة حاجات متنوعة، وتظهر للإنسان في إطار اجتماعي. وضمن إشارة عثمان إلى أبحاث الغزالي حول كيفية تكون المجتمع البشري وتطوره يقول: إنّ الغزالي يقدم نظريته حول توسع المجتمع البشري، ويعرض لطالب الحقيقة الأصول اللازمة للحركة في مسير كسب المعرفة، فالمجتمع في رأيه طريق لإشباع حاجات الإنسان الفردية، ويطرح أمامه أيضاً مسائل جديدة من حيث سيره الأنفسي.

وعندما يولد الفرد في مجتمعٍ يرى نفسه في مواجهة أهداف ومطالب، بحيث إذا التفت إليها في مسألة سعادته يدرك أنه من اللازم عليه تقييمها على أساس الدور الذي تضطلع به في وصوله إلى السعادة.

يجب أن تجد كل الحرف والصنائع والمشاغل الاجتماعية والحاجات التي تبرز لكونه في المجتمع مكانها في نظامٍ منسجمٍ.

والنكتة المهمة التي يتعرض لها عثمان هنا أن الأهداف والمطالب التي يختارها الناس في المجتمعات المختلفة يمكن أن لا تتشابه،إلا أنها بعينها تحكي عن وجود ميول ونزعات عند البشر. وبعبارة أخرى: ليست الأهداف، ولا المطالب في المجتمعات، بل تلك الأمور التي جعلت الناس تعتبرها أهدافاً مطلوبة لهم، يمكن أن تكشف عن الأبعاد الذاتية من الكيان الإنساني، ولهذا تجبره لكي يكتشف الذاتيات التي تهديه إلى غايته النهائية وتلك التي تمنعه من الالتفات إليها، ويسعى على هذا الأساس لتنظيم مقدار التفاته إلى الأمور الموجودة في المجتمع.

وهنا إذا لاحظنا تلك المسألة نظراً لوضع الفرد في ابتداء سيره الأنفسي فإنّ المسألة تتعقد أكثر، لأنّ الميول الشهوية والغضب والتكبر تظهر في الإنسان قبل ميله القلبي لكسب المعرفة؛ يعني في الوقت الذي لم يكتسب القلب المعرفة اللازمة لكي يدرك وفق أي معيارٍ يجب عليه السير نحو سعادته، ولم يكتسب تلك الإرادة القوية التي تمكنه من السيطرة على الأمور التي تمنعه من كسب المعرفة. وفي هذه الحالة فإن وضع الفرد يتأثر الى حدٍّ كبيرٍ بوضع المجتمع والنماذج المشاهدة فيه. وبناء على ذلك لابد للفرد من التمييز بصورة إجمالية بين ما هو ضروري لسعادته وبين ما ليس بضروري، وهذا التوجه العام يمكن أن يكون له دورٌ إيجابيٌّ ومؤثِّرٌ في حركته.

ويبيِّن عثمان في هذا الموضع تقسيمات الأشياء من وجهة نظر الغزالي؛ لكي ترشد طالب المعرفة في سلسلة المراتب القيمية التي يجعلها الغزالي، مع تذكيره بأنّ الغزالي في هذا التقييم يميِّز الأمور بالاعتماد على حياة الإنسان بمنزلة كُلٍّ واحدٍ؛ لأنّ لكل شيء، بغض النظر عن القيمة التي يمكن أن تكون له بذاته، قيمة خاصة بالنظر إلى كل حياة الإنسان، وحتى بالنظر إلى كل حياة العالم. وهذا المنظر له أهميته الكبيرة في السير الاستكمالي للإنسان.

وإذا استطاع الإنسان،في رأي الغزالي، أن يفهم الدور الوجودي لكل شيء في نظام الوجودي (الذي نُظِّم على أساس الحق) تمكَّن من المعرفة بأنّ الله تعالى جعل أهدافاً متعددةً في كل شيء ولو صغيراً في الوجود، سواء كان في داخل الإنسان أم خارجه. إنّ إدراك تلك الأهداف والحكم، وإدراك الدور الحقيقي لكل شيء في الوجود من قِبل الإنسان، هو ما يفعله ذو البصيرة، والذي يوصله إلى مقام التسليم والطاعة الحقيقية.

وفي الحقيقة إنّ هكذا إنسان سيجعل حياته في نفس ذلك المسير الذي يريده الله تعالى؛ وينتفع من الأشياء في ما يريده الله ؛ ويجعل كل شيء في نفسه في موضعه الذي خلقه الله لأجله. وبهذا تحصل للإنسان بصيرة بحيث يرى على أساسها خلقة كل موجود وأن كل بعد من ذات الإنسان ضروري. وفي تلك الرؤية يكون حتى لشهوة وغضب الإنسان واستكباره دور إيجابي في سيره أيضاً.

وليس للإنسان ـ باعتقاد الغزالي ـ الحق بكبح أيّ بُعْد من أبعاده الوجودية. وحتى الانفعالات الاعتيادية للبشر يمكنها في اعتقاده أن تصبح تجارب تعين الإنسان على تحصيل المعرفة بالله. فالفرد الذي يجرب الشوق والمحبة وغيرها من مشاعر الإنسان الاعتيادية يمكنه العبور بذلك الفهم وتلك المشاعر إلى مستوى أعلى من المعرفة بالنسبة لله.

وفي تبيين أكثر لنظرية الغزالي القائلة بلزوم تنظيم متعلقات علائق الإنسان ونشاطاته بناء على أثرها في سعادته يحلِّل عثمان مسألة الحب في الإنسان، ويشير إلى الحدّ الذي ترتبط به علاقة الإنسان بالأشياء المختلفة بمعرفته، ومقدار ونوع اللذة التي يحصل عليها، وإلى أي حدٍ ترتبط هذه المسألة بمحبته لذاته وكماله. ولكي يتمكن الفرد من إضفاء الصحة على علائقه بالأمور المختلفة فمن اللازم جعلها حول محور محبة الله.

إنّ (محبة الله)، وكذلك (أصل التوحيد) في المعرفة، ترتب العلائق و النزعات الإنسانية من وجهة نظر الغزالي، وتعطي الفرد ملاكاً يدرك على أساسه إلى أيّ حدٍّ ينبغي له أن يشتغل بالأمور المختلفة. وإن كل ما من شأنه المنع من محبة الله أو التعارض معها فلابد من طرحه جانباً، أو انشغال القلب به إلى حدٍّ يساعده في الوصول إلى الدرجات العالية من المحبة الإلهية.

والملاك الآخر الذي يساعد الإنسان ـ بنظر الغزالي ـ في تقييم الأشياء هو الالتفات إلى حالة القلب بالاعتماد على (لحظة الموت)، تلك اللحظة الفاصلة التي تميِّز بين حالتين للقلب؛ ناظر في أحدها إلى الدنيا؛ وناظر في الأخرى إلى الآخرة، بل يمكنه أن يشخص أي الأمور مطلوبة للقلب بالذات، والتي تعمل بمنزلة ملاك يلحظ الأمور على ضوء قيمتها. إنَّ الموت، من وجهة نظر الغزالي، لحظة في المستقبل، يستطيع الإنسان نظراً إلى مراحل المختلفة في سيره الأنفسي أن يراها بقلبه قبل وقوعها، ويدرك قيمة كل شيء بحسب الدور الذي يمكن أن يكون له. وما يبقى في القلب بعد الموت هو العلم والعمل (أو المعرفة والفعل)، يعني ذلك المستوى من الرقي الذي حصل للقلب بالاستناد إلى علمه وعمله في الدنيا. وعلى هذا الأساس تتعيَّن قيمة الأشياء نظراً لما ستكون عليه حالة القلب في الآخرة، وهذه المسألة ترجع مباشرة إلى دافع الفرد للقيام بأي عمل. إنّ القيام بأي عمل، حتى اكتساب المعرفة، بدافعين مختلفين يترك تأثيرين متفاوتين في كيفية نمو القلب، بل إنّ الاختلاف في الدافع يؤدي إلى اختلاف نوع وميزان المعرفة في الحالتين المكتسبتين.

وينهي عثمان الفصل الخامس بعرض الأصول الفكرية للغزالي في باب المجتمع البشري، وجذورها في القرآن. ويشير بناءً على ذلك إلى أنّ المجتمع البشري، الذي يعتبر جزءاً من العالم بمنزلة كلٍّ واحد من وجهة نظر الغزالي،هو بنفسه كلٌّ تحكمه وحدة. ويتضح من كلامه كيف يجري الله تعالى حكمته بواسطة عمّال في الكون، وبنحو خاص في المجتمع البشري.

ويرى عثمان أنّ من اللازم على مفكِّري المسلمين أن يدركوا كيف تتجلى حكمة الله تعالى في حياة النوع البشري بمثابة كلٍّ واحد. إنّ اختلاف الأفراد والمجتمعات، و نجاح وإخفاق الأمم المختلفة، والتاريخ، والأنماط المتنوعة للحياة على الأرض، وهداية الله للأمم، كلها أصول تشير إلى كيفية تدبير وحاكمية الله تعالى على المجتمع البشري. ويمكن لفهم هذه الأصول أن يساعد الإنسان في مسيرة التغيير والارتقاء بمجتمعه، ويساعده من جهة أخرى في مسيرة سيره الأنفسي. إنّ هذا الفهم والمعرفة ــ وكما تقدم ــ تمنح الفرد حرية العمل. وبعبارة أخرى: لابد للفرد في أي مجتمع كان أن ينظم كيفية سيره الأنفسي من خلال فهم الأصول الحاكمة على ذلك المجتمع، وبإدراك الشروط الموجودة، ومعرفة ظروفه.

وبذلك يشرح عثمان ـ بناء على رؤية الغزالي ـ ماهية الإنسان نظراً للمسير الذي لابد أن يطويه كل شخص منفرداً من جهة، ويتابع هذا البحث نظراً لوقوع كل فرد إلى جانب سائر أفراد المجتمع من جهة أخرى. ويعتقد أن إحدى الخصائص الأساسية للإسلام هي الجمع بين النظرتين الفردية والمجتمعية للإنسان، فالشخص من جهةٍ مسؤول بمفرده عن سيره الأنفسي، وهو المسؤول المباشر عنه أمام الله تعالى، ومن جهة أخرى فإن الفرد جزء من النسيج الاجتماعي، و يقع ضمن الأصول التي تحكمه، ويقوم المجتمع بدور تنظيمي، لا دور إجباري.

ويعرض عثمان في أثناء هذا الفصل ترجمة إنگليزية لقسم من كتاب (مذمة الدنيا) من كتاب «إحياء علوم الدين»، للغزالي، ويشرح مقصوده من (الدنيا)، وارتباط الإنسان بها وتأثيرها في سيره النفساني، ويجعلها تكملة لمباحث الفصل الخامس من كتابه.

__________________________

(*) باحثة متخصّصة في علم الفلسفة والكلام.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً