أحدث المقالات

البيان والعرفان والبرهان

ماهر سقا أميني

لا يخفي محمد عابد الجابري انحيازه إلى العقلانية ولكن أي عقلانية نقصد؟ لأن كلمة عقل وعقلاني كثيراً ما توحي بمعان لها علاقة بالحقيقة والحكمة، يقول “نحن نصدر عن موقف نقدي ينشد التغيير، من التحرك من موقع أيديولوجي واعٍ، أي لابد من الصدور عن موقف تاريخاني، موقف يطمح ليس إلى اكتساب معرفة صحيحة بما كان فقط، بل إلى المساهمة في صنع ما يتبقى أن يكون أيضاً وهو بالنسبة للمجال الذي نتحرك فيه: الدفع بالفكر العربي في اتجاه العقلنة، اتجاه تصفية الحساب مع ركام ولا نقول رواسب  اللامعقول في بنيته”

ويقول في موقع آخر “لأن موضوعنا هو العقل، ولأن قضيتنا التي ننحاز لها هي العقلانية” .

إن هذا يعني أن الجابري باعترافه  ينطلق من أيديولوجية هي أسوأ ما يعيق موضوعية البحث العلمي، أما التاريخانية فستجعله من القائلين حتى بتاريخية القرآن الكريم والسنة النبوية والأحكام الشرعية، كما أنه سيجير كل ما هو (إيماني) إلى جزء من ركام اللامعقول .

في كتابه “بنية العقل العربي” يعرض الجابري منهج أرسطو ويعدّه (المعلم الأول) ثم يبدي إعجابه بالفارابي الذي يعدّه (المعلم الثاني) ومؤسس العقلانية في الإسلام .

ومع أن فلسفة الفارابي لا تخلو من الجوانب الأسطورية والغنوصية، فإن (عقلانيته) تروق للجابري، كما يروق له ابن رشد الذي يعدّه الشخصية العقلانية المتميزة إسلامياً، وما يسحره في ابن رشد أنه يقول إن “كلاً من الدين والفلسفة بناءان مستقلان . يبحث في صدق كل منهما في داخل بنيته نفسها، لأن المقدمات الأولى في كل منهما مقدمات موضوعة يجب التسليم بها دون برهان، لذلك فإن الحكماء من الفلاسفة لا يجوز عندهم التكلم ولا الجدال في مبادئ الشرائع، وذلك أنه لما كانت لكل صناعة مبادئ، وواجب على الناظر في تلك الصناعة أن يسلم لمبادئها، ولا يتعرض لها بنفي ولا إبطال؛ كانت الصناعة العملية الشرعية أحرى بذلك..” (التهافت 2/791).

من هنا يمكن فهم عقلانية ابن رشد، والجذاب فيها عند الجابري، أن الدين يقوم على مقدمات يجب التسليم بها دون برهان وبالتالي لا يمكن الاستدلال على صحة المقولات الدينية فالأمر قائم على الإذعان والتسليم.

يقول الجابري “كانت الرشدية قادرة على طرق آفاق جديدة تماماً، وهذا ما حدث بالفعل، ولكن في أوروبا حيث انتقلت وليس في العالم العربي حيث اختنقت في مهدها، ولم يتردد لصيحتها الأولى صيحة الميلاد أي صدى إلى اليوم..” (بنية العقل العربي: ص323).

إنها بذور فصل الدين عن الدولة ثم عن الحياة، ما دام الدين نسقاً مغلقاً لا صلة له بالبناءات العقلانية والفكرية والحياتية الأخرى.

ويطلق الجابري أحكامه جزافا دون أي تدقيق، فالغزالي عنده انتهى إلى أن مصدر المعرفة الأوحد هو (العرفان) أي الكشف والإلهام، والقياس عند الشافعي أمره مرفوض في حين أن ابن حزم حاول تأسيس (البيان) على (البرهان)، وذلك برفض قياس الفقهاء التمثيلي، ومحاولة اعتماد البرهان المنطقي الأرسطي المبني على مقدمتين ينتج عنهما نتيجة ضرورية يقينية، وتابعه على ذلك الشاطبي بعض المتابعة في محاولته لتأسيس “فقه المقاصد” وهو الأكثر عقلانية وسنرى أن الجابري سيجعل مما سماه “فقه المقاصد” مطية للعبث بأحكام الشريعة التي ستتحول عنده إلى مقاصد عامة دون تفصيلات تشريعية وإجرائية وإن لم يبلغ مبلغ ابن رشد الذي أراح واستراح عندما فصل بين العقل والدين، واعتبر أن صدق كل منهما بنيوي وداخلي ولا صلة له بصدق الآخر.

إنه مما يحير حقاً موقف الجابري المؤيد بعمق للمنطق الأرسطي الذي يتعارض تماما مع فلسفة العلم الحديث ومناهجه، بل يمكن القول إن العلم الحديث لم يحقق فتوحاته إلا بعد استقلاله عن المنطق الأرسطي.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً