أحدث المقالات

تفتخر كل أمة بتاريخها الذي يعتبر جزءا من هويتها وحضارتها التي تتباهى بها أمام الأمم والحضارات الأخرى، ولكن الأمم الحية هي التي تبادر إلى ممارسة نقدية مستمرة لتاريخها بعيدا عن أدلجته أو أسطرته حتى تستطيع أن تبين الجانب الصحيح منه من الآخر المزور أو غير الصحيح، فالتاريخ ليس فقط للافتخار القومي أو الديني وإنما للدراسة والاعتبار أيضا، مع العلم بأن كثيرا من تلك الأحداث قد نشأت وساهم في تكوينها وانتشارها ظروف معينة وعوامل تاريخية عبر أحقاب مترامية، وقد لعبت أهواء المؤرخين والظروف السياسية دورا كبيرا في نشأتها، وقد آن الأوان لإزاحة الغبار عن حقيقتها ودراستها من خلال سياقاتها التاريخية الروائية وخاصة إذا كانت تلعب دورا سلبيا في التأثير على الحاضر والمستقبل، وللأسف الشديد فإن كثيرا من أحداث التاريخ الإسلامي تم أدلجتها وتديينها (نسبة إلى الدين) بحيث فقدت طابعها التاريخي وأصبحت جزءا من العقيدة والإيمان، وأقصد بأدلجة التاريخ إدخال بعض الحوادث التاريخية التي تعتبر ضمن فصول تاريخ البشرية بمآسيها وإنجازاتها ضمن مفاهيم العقيدة واعتبارها جزءا من الأيديولوجية التي تتكون منها وذلك وفق رؤية معينة واعتبار كل رؤية أخرى تخالفها بأنها خارجة عن العقيدة والإيمان الصحيح.
إن أدلجة الحوادث التاريخية وإسباغ صفة القداسة على الرؤية المذهبية لها ساهمت وبشكل كبير في تأجيج الصراعات الطائفية في العالم الإسلامي، وساهمت أيضا من الناحية المعرفية على الجمود الفكري وتعطيل ملكة النقد التاريخي وأغلقت المسلمين في الدوائر المذهبية الضيقة وهذا ما يفسر غياب الدراسات النقدية الجادة في الدراسات التاريخية في العالم العربي والتي أدت إلى سيادة القراءات التقديسية والتبجيلية المفتقدة لروح النقد والمنهج العلمي في البحث.
إن صناعة الأحداث التاريخية تخضع في وجودها للاجتهادات البشرية ولا دخل للوحي الإلهي فيها وتخضع أيضا في حركتها للمناسبات والاتفاقات التاريخية، لهذا ينبغي النظر إليها على أساس كونها حوادث تاريخية فقط بعيدا عن ربطها بالدين أو المقدس لأنها تأتي ضمن ظروف وملابسات متعددة ولا مجال لليقين القطعي في الاعتقاد بصحتها من عدمه. يقول المفكر الإيراني مصطفى ملكيان في بحث له تحت عنوان "المعنوية جوهر الأديان": "وإننا نرى أن الاعتقاد بعدم جزمية الوقائع التاريخية يشكل إحدى الخصوصيات للمدنيات الحديثة التي لا تنسجم ظاهرا مع متطلبات الدين، ولذلك نجد أنفسنا ملزمين بأن نقلل من اعتماد إيماننا بالدين على الحوادث التاريخية إلا قليلا". ولذلك فإن القيام بعملية فك العلاقة الجدلية بين المنظومة الدينية وبين الأحداث التاريخية أصبحت حاجة ضرورية من اجل فهم صحيح للإسلام وإبعاد واقع المسلمين عن الإشكاليات التاريخية المعقدة التي وقعت في صدر الإسلام وخاصة في الثلاثين سنة الأولى بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وما بعده.
إن ممارسة النقد التاريخي ضرورة معرفية من أجل معرفة التاريخ الإسلامي بشكل صحيح بعيدا عن أهواء المؤرخين وأكاذيب المرجفين وغلو المادحين، وقد ساهمت بعض الدراسات التاريخية التي صدرت في السنوات الماضية رغم بعض الملاحظات المنهجية عليها بدور كبير في الكشف عن بعض الفصول المغيبة والمجهولة في التاريخ الإسلامي وأماطت اللثام عن حقيقة بعض الشخصيات التي لعبت الدعاية السياسية والأيديولوجية دورا كبيرا في تضخيمها ونسبة الخوارق إليها سواء الإيجابية أو السلبية والتي أثارت أيضا الكثير من الجدل في التاريخ الإسلامي مثل شخصية عبدالله بن سبأ، وقد كان للأديب المصري الراحل طه حسين دور كبير في إثارة الشك حول ما نسب إلى هذه الشخصية من أعمال تآمرية خارقة وذلك في الجزء الأول من كتابه "الفتنة الكبرى" قبل أن يأتي أحد أساتذة جامعة الكويت وهو الدكتور عبدالعزيز الهلابي بنسف كل الروايات التاريخية التي تحدثت عن دوره في الفتنة الكبرى بعد مقتل الخليفة عثمان وذلك في كتابه "عبدالله بن سبأ.. دراسة للروايات التاريخية عن دوره في الفتنة" لتؤكد دراسات أخرى لمرتضى العسكري وحسن بن فرحان المالكي والباحث العماني علي الحجري صحة هذه الأبحاث ومن تلك الشخصيات التي أثارت الكثير من الجدل القعقاع بن عمرو التميمي الذي ذهبت دراسات حديثة إلى التشكيك في وجوده أصلا فضلا عن التشكيك في ما نسبه إليه المؤرخون من بطولات إضافة إلى شخصيات أخرى في سياقات دينية وسياسية مختلفة نسبت إليها أدوار مختلفة من التاريخ ولكن الدراسات النقدية الحديثة أثبتت وجود مبالغات كثيرة في ما نسب إليها من أدوار واستحالة وقوع البعض منها. وبالإضافة إلى تلك الشخصيات التي رحلت عن عالمنا منذ مئات السنين فإن هناك حاجة أيضا إلى ممارسة نقدية منهجية لكشف الغبار عن شخصيات أخرى لم تأتِ بعد وتتحدث كثير من الروايات الإسلامية عنها باعتبارها جزءا من علامات الساعة وإنني هنا لا أتحدث عن صحة ما جاء فيها أو نفي ذلك فذلك يحتاج إلى دراسات متخصصة وليس إلى عمود أسبوعي مع احترامنا الشديد لكل من يؤمن بذلك ولكن وللأسف الشديد فإن بعض الكتب التي تنشر بين الفينة والأخرى بيد رجال غير متخصصين في الدراسات التاريخية ولا تسعى سوى للتكسب من وراء ذلك جعلت كثيرا من الناس تربط كثيرا من القضايا المعاصرة بتلك الشخصيات الغيبية إلى درجة الاستغراق السلبي فيها، بل إن هناك من يكتب ويتحدث بأن إقامة العدالة والأمن والسلام في العالم لن تتحقق إلا في تلك الفترة الزمنية التي لم تأتِ بعد ولا تزال في حكم الغيب.
إن الأمم الأوروبية لم تعرف طريقها إلى التنوير والحداثة إلا بعد أن أزاحت القداسة عن تاريخها الذي كان يعتبر ضمن المقدسات التي لا يمكن التشكيك فيها أو حتى الاقتراب من ساحة قدسها وانطلقت إلى عملية نقدية تفكيكية مرت بعدة مراحل كان أولها الإصلاح الديني قبل أن تنطلق إلى المرحلة الفلسفية بفك العلاقة الجدلية بين الدين والتاريخ كما فعل سبينوزا في كتابه الشهير "رسالة في اللاهوت والسياسة" والفيلسوف ديدور -الذي تحتفل فرنسا في العام الحالي 2013 بالذكرى المئوية الثالثة لولادته- في "الموسوعة الفلسفية" قبل أن يدشن الفيلسوف العظيم رسالته الإنسانية في "التسامح"، وإذا قيل لنا ما العلاقة هنا بين نقد التاريخ وبين التسامح فإن الجواب هو إن النقد لا يمكن أن يشهد ممارسة منهجية إلا بالإيمان أولا بالتسامح.

 
Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً