أحدث المقالات

مطالعات في نظريات الإمامة بين الغلوّ والتقصير

الشيخ محسن كديور(*)

ترجمة: السيد حسن علي مطر الهاشمي

 

تفتح مجلّة «نصوص معاصرة»، كما عوّدت قرّاءها، الباب هذه المرة على ملفّ آخر ساخن تتعدّد فيه وجهات النظر؛ وهي تقدّم نظريات وطروحات مختلفة لبعض الباحثين والمفكرين الإيرانيين حول الإمامة، مثل: الشيخ محسن كديور، و د. عبد الكريم سروش، ثم ترفق هذه الآراء بسلسلة كتابات نقدية جادّة تعرّضت لها في المحافل العلمية. يشار إلى أن دراسة أخرى لمحسن كديور كنّا قد نشرناها في العدد العاشر، وقد تعرّضت بعض المقالات في هذا المحور لنقدها أيضاً. (التحرير)

لماذا هذا الاهتمام العالمي بالتشيّع؟ ــــــ

السؤال الأوّل: ما هو سبب كل هذا الاهتمام العالمي بالتشيع في النصف الثاني من القرن الأخير، وخاصة في السنوات الأخيرة؟

لقد تحولت الدروس في أغلب الجامعات العالمية المعتبرة في الآونة الأخيرة من معرفة الإسلام إلى معرفة التشيع. فقد توجهت الكثير من الدول الغربية إلى الاهتمام بالتشيع بشكل جاد، حتى تحول التشيع إلى مادة حيوية في الجامعات العالمية.

وطبعاً ليس من الضروري أن تكون دوافع جميع من يدرس التشيع دوافع إيجابية، يكون الهدف من ورائها قصد التقرب إلى الله، بل قد يكون الغاية من دراسة التشيع هي القضاء عليه. وتبرز أهمية معرفة التشيع من خلال مسألتين:

الأولى: الثورة الإسلامية الإيرانية. فحتى فترة ما قبل انتصار الثورة الإسلامية لم يحظَ التشيع بتلك الأهمية، سواء أكنا من المؤيدين للثورة الإيرانية أم لم نكن.

الثانية: هي مسألة العراق المعاصر. فبعد غزو الولايات المتحدة للعراق أدى ظهور وتنامي التيارات المعنوية ودور المذهب في الحياة السياسية للمرة الثانية إلى توجيه الأنظار إلى مسألة التشيع.

وقد أدت القضية اللبنانية وارتباطها بنا في بعدها الإيراني بوصفه أقلية مؤثرة إلى توسيع هذه المسألة.

وهذه مسألة سياسية ينبغي بحثها في موضعها المناسب، ولست بوارد بحثها في هذا المقال.

لماذا النقد الجديد للتشيّع؟ ــــــ

السؤال الثاني: لماذا خضع التشيع في إيران في الآونة الأخيرة إلى النقد والمناقشة أكثر من أيّ وقت آخر؟ إن هذه الإشكالات التي وجهت إلى التشيع مؤخَّراً ليست بالإشكالات الجديدة، ولكن يتم طرحها بزخم أكبر، ولا شك في أن لذلك أسبابه.

فحينما تقام حكومة في إيران باسم التشيع فإنها ستترك آثاراً لا يمكن تجنبها على صعيد الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية للمجتمع، وستخضع هذه الآثار والتبعات لنقد وتقييم علماء هذا المجتمع. وإذا كانت نتيجة هذا التقييم سلبية فمن الطبيعي أن تنعكس الإشكالات الحكومية على المذهب الذي يعدّ هوية لهذه الحكومة. وهذه الحقيقة تدعو الغيارى على الدين إلى التأمل بجدية. فهل أدى الترويج إلى الدين إلى تجذيره في النفوس أم لا؟ للأسف الشديد فإن الإجابة عن هذا السؤال لا تدعو إلى التفاؤل كثيراً.

فما الذي بدر منا حتى أخذنا نشكِّك في أبسط المسائل المذهبية؟ وهذا انتقاد مقبول. ولا بد لنا من الإجابة عنه، إلا أن بحثنا لا يصبّ في هذا الاتجاه.

لماذا التشيّع؟ ــــــ

السؤال الثالث: على فرض عدم تمامية جميع هذه الإشكالات نتساءل: ما هو سبب تشيعنا؟ وما الذي يدعونا إلى البقاء والمحافظة على تشيعنا؟ وما هي الخصوصية التي تميّز التشيع عن سائر المذاهب الإسلامية الأخرى، وتدعونا إلى التمسك به واعتناقه؟

يمكننا الإشارة إلى بعض هذه الإشكالات إجمالاً:

يقال مثلاً: إن بعض المفاهيم في مذهب التشيع لا تنسجم والمفاهيم الأصلية في الديمقراطية. فإذا تم نصب بعض الأفراد من قبل الله لا يبقى للناس حقّ في الانتخاب والاختيار.

أو يقال: إن مذهب التشيع أكثر المذاهب الإسلامية بعداً عن الديمقراطية، كما يعدّ الخوارج من أقرب المذاهب إلى الديمقراطية. وعليه إذا فرضنا صحة هذه الافتراضات فما هو سبب تشيعنا؟  وإن محور الدخول في البحث يتلخص في السؤال عن معنى التشيع. فما هو التشيع الذي يتصور البعض عدم انسجامه مع المفاهيم الأساسية للعالم المعاصر؟ وما هي ماهية التشيع التي لا يمكن جمعها ومقتضيات العالم المتحضِّر؟

إن الإجابة التاريخية عن هذا التساؤل تكمن في الرجوع إلى كتب كبار علماء الشيعة.

إن ما يميز مذهب التشيع عن سائر المذاهب الإسلامية الأخرى هي مسألة الإمامة، حيث يعرَّف الشيعة بأنهم بالإضافة إلى إيمانهم بالتوحيد والنبوة والمعاد يذهبون إلى القول بوجود أوصياء معصومين يخلفون النبي، وأن عدد هؤلاء الأوصياء معروف ومحدد، وتتوفر فيهم جميع صفات النبي ومزاياه، إلا الوحي. وهذا ما نجده في جميع الكتب والمصنفات الشيعية القديمة بوفرة.

الغيبة ودور الإمام ــــــ

والمسألة الأخرى التي ترد تبعاً لهذه القضية هي مسألة الغيبة. فبعد أن بلغ عدد الأئمة إلى الإمام الحادي عشر وصلت الضغوط السياسية والاجتماعية حدّاً لم يعد يمكن معه بقاء الإمام ظاهراً، فيبقى رغم وجوده محتجباً عن الأنظار. ومن هنا يطرح هذا التساؤل نفسه: إذا كان على الإمام أن يتولى بعض المسؤوليات فكيف يتأتى له الاضطلاع بها مع غيبته؟ ويأتي الجواب بأن للإمام ثلاثة مناصب، وإن أحد هذه المناصب يستمر حتى في عصر الغيبة، في حين يسقط المنصبان الآخران؛ بسبب ظلم الناس وتقصيرهم.

 وهذه الوظائف الثلاث عبارة عن:

الأولى: نشر الدين وبيان مسائله وأحكامه.

الثانية: النيابة المعنوية عن النبي، والوساطة في الفيض.

الثالثة: الزعامة والقيادة السياسية.

ويقال: إن إحدى هذه الوظائف، وهي وظيفة الواسطة في الفيض من السماء إلى الأرض، تظل باقية حتى في زمن الغيبة. ويبدو أن هذا الرأي هو الذي عليه غالبية علماء الشيعة.

إن النقطة المهمة التي أودُّ التنبيه عليها هنا أنه ليس من مسؤوليتنا تطبيق ديننا على بعض المفاهيم الخاصة، بل إذا كانت تلك المفاهيم صحيحة وجب علينا الإذعان لها، وإلا وجب علينا تغييرها.

تعدّد القرارات الدينية أو التشيّع التاريخي وغير التاريخي ــــــ

والسؤال الجاد للغاية هو أنه لو قيل: من الممكن توفر قراءات مختلفة بشأن الدين، ويمكن أن تكون هناك آراء مختلفة في زمن واحد بشأن دين واحد؛ فإن هذه التعددية في الآراء من شروط العالم الجديد، حيث لم يكن المتقدمون يؤمنون بمسألة تعدد القراءات كثيراً، حيث كانوا يتصورون أن على الآخرين فهم الدين كما فهموه هم، ولذلك قيل: إن هناك قراءتين للإسلام: قراءة استبدادية؛ وقراءة ديمقراطية. ومن هنا قيل أيضاً: هناك فهم مستنير للإسلام منسجم مع الديمقراطية؛ وهناك فهم تقليدي لا يمكنه التناغم مع الديمقراطية بتاتاً.

وعليه يطرح هذا السؤال: ألا ينبغي مراعاة هذا التنوع في الآراء بالنسبة إلى المذهب أيضاً؟

لو تساءل شخص: هل التشيع منسجم مع التطور والديمقراطية وحقوق الإنسان ونحو ذلك، دون التفصيل والتفكيك بين مختلف المفاهيم؟ فسواء أجبنا بالنفي أو الإثبات لن يكون جوابنا علمياً؛ إذ لا بُدّ من طرح السؤال على هذا النحو: أيُّ فهم للتشيع ينسجم أو لا ينسجم مع هذه المفاهيم؟([ii])

وعليه فإن أول نقد نوجهه للمؤمنين بتعدد القراءات حول الدين في هذا المجتمع هو ضرورة مراعاة ما آمنوا به في هذا الموضوع أيضاً. إذاً ليس من الصحيح القول بأن التشيع يتناغم وهذه المسألة أو لا يتناغم معها، وإنما يجب تحديد التشيع المتناغم من غيره؛ فلدينا أنواع مختلفة من التشيع. فمثلاً: لا يعدّ التشيع التاريخي  التشيع الوحيد، كما أن الإسلام التاريخي ليس هو الإسلام الوحيد. فلو أراد شخص تعريف الدين بمتوسط ما حدث في التاريخ فأين يكون محل الهدفية من الأعراب؟ فكل دين ترسَّخ في ذهن معتنقيه بفعل تأثيرات الظروف، بعد أن ابتعد عن حقيقته الأولى التي صدع بها النبي الذي جاء بذلك الدين، ولربما كان هذا الابتعاد باطلاً، إلا أن الملفت هنا أن مسألة الصحة والبطلان من جملة الموارد التي تطرح في ما نحن فيه؛ إذ لدينا محور باسم النبي، كما لدينا في الإسلام تعاليم هذا النبي، التي تؤلِّف المحور الأساس لتديننا. وفي كل عصر يمكننا قياس نسبة ابتعادنا واقترابنا من ذلك المحور.

وفي ما يتعلق بالمذاهب المختلفة يمكن التساؤل: أي المذاهب هو أقرب إلى المحور الأساس؟ وإذا واجهنا مشكلة تاريخية يمكن القول: إن التشيع التاريخي هو التشيع الذي تمخَّض عنه الواقع التاريخي، وكتبه المؤرِّخون في علم الكلام والتفسير والحديث وغيرها، ويمكن دراسة أبعاده من خلال الالتفات إلى تاريخيته. وفي التشيع التاريخي تتجلى مسألة الإمامة الانتصابية، ومكوناتها، من العصمة وعلم الغيب، بشكل بارزٍ للغاية. فما هو السبب في ذلك؟ وهل ذكر الإمام علي× هذه الأمور؟  أو أن هذا المذهب قد تكوَّن عبر التاريخ؟ فإذا كان قد تكوَّن عبر التاريخ على نحو تدريجي، ومن الطبيعي أن يكون للعوامل البشرية تأثير في ذلك التكوين، كان لنا كامل الحق في نقد هذا الفهم التاريخي. وإذا كان العلماء المتقدمون أبناء عصرهم، وعمدوا إلى تحديد المذهب مقارنة بالمفاهيم التي كانوا يرونها الأنسب والأفضل، كان لنا الحق أيضاً؛ بوصفنا أبناء عصرنا، أن نخضع المذهب لقراءة جديدة.

بأي دليل يمكننا أن نثبت أن ما توصل إليه المتقدمون من العلماء هو الذي كان يشغل ذهن الإمام علي بن أبي طالب×؟ فعندما نراجع نهج البلاغة؛ بوصفه أقوى سندٍ ديني لنا بعد القرآن، لا نجد للكثير من المفاهيم التي تعد رئيسة في المذهب الشيعي التقليدي أيّ محل من الإعراب. فقد تحدث الإمام علي× عن أفضليته في هذا الكتاب، ولكننا لم نعثر على كلام له يتحدث فيه عن عصمته. في حين أن المسألة الأولى التي تشغل اهتمام المتكلم هي مسألة العصمة، ومن بعدها علمه بالغيب، ثم مسألة النصّ التي تأتي في الدرجة الثالثة.

وقلَّما بحثت هذه المفاهيم في كلمات الأئمة^، أو أنها لم تبحث إطلاقاً. ولست أروم نفي وجودها، ولكن غايتنا أن نتساءل هل كانت مطروحة بهذا الحجم الذي تعرض له علماء الشيعة في خصوص هذه المسألة؟

يحق لنا إعادة النظر في ديننا؛ فإن المستندات والوثائق بين أيدينا، ويمكننا الرجوع إليها مباشرة. فما هو الدليل على ضرورة الاعتماد والاستناد إلى فهم آبائنا وعلمائنا الماضين؟ لم تكن مسألة الشيعة والسنة التي نعيشها حالياً موجودة في عصر النبي الأكرم‘، والذي كان قائماً هو الإسلام فقط.

ولكن بعد رحلة الرسول‘، وتعرض المسلمين الأوائل لظاهرة الخلافة، برزت إلى السطح آراء مختلفة، تعكس فهماً للدين. كما ظهرت الفرق المختلفة. ولا يحق لي البحث في مَنْ هي الفرقة المحقة؟ ولكن يحق لي أن أقول: لماذا اعتقد وأدين بهذا الفهم؟

 من هم الشيعة الأوائل؟ وكيف قدموا أنفسهم بوصفهم شيعة؟ ــــــ

إن الشيعة الأوائل، الذين أثبت التاريخ أسماءهم، قد برزوا في العقد الأول من صدر الإسلام، وفي عصر النبي الأكرم نفسه.

إن التشيع بحسب معناه اللغوي يعني الاتّباع، فيقال مثلاً: شيعة نوح، وشيعة علي، وشيعة أبي سفيان، وهكذا. وفي ما يتعلق بعبارة (شيعة علي) فقد كثر استعمالها حتى حذف المضاف إليه وبقي المضاف وحده علماً لأتباع علي، فإذا سمع السامع لفظ (الشيعة) انصرف ذهنه إلى أتباع علي بن أبي طالب×. وإن أول حادثة وقعت في صدر الإسلام، وأدت إلى الاصطفافات السياسية، هي حادثة خلافة النبي. وبرز الشيعة في هذه الحادثة، وميَّزوا أنفسهم بضوابط محددة. وكان أولئك النفر من الشيعة يعدّون بأجمعهم من النخب في تلك المرحلة. وإذا كنا حالياً نفخر بتشيعنا فإنما هو فخر بعمار وسلمان والمقداد، الذين انتخبوا طريقاً في مرحلة تاريخية حاسمة وحساسة، وكان انتخابهم صحيحاً في رأينا. ولكن لماذا وقع اختيار هؤلاء على علي×؟ وهل كانوا يذهبون إلى عصمته وعلمه بالغيب؟ إنهم طرحوا ضوابط، ولذلك يمكن القول بأن الشيعة يُعرَفون بهذه الضوابط.

البحث في قضايا الإمامة في العصر الراهن ــــــ

في تلك الأزمنة كان الناس يبحثون لكل شيءٍ عن جذور في ما وراء الطبيعية. وكان المتكلمون يضخِّمون بعض الخصائص البشرية، حتى ورد في كتبنا القديمة أن علياً×  فوق البشر. وأما حالياً فنحن نعيش في عصر لا يميل إلى ما فوق البشرية. ولكي نجعل الأئمة أسوة للناس يتعين علينا أن نظهرهم بمظهر لا يختلفون فيه عنهم بشيء. فنحن أتباع نبي وصفه القرآن بقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ}. ولذلك فنحن نؤمن بأن النبي الأكرم‘ والإمام علي× مثلنا، إلا أن علماءنا المتقدمين لم يلتفتوا إلى هذه المسألة، حتى ضربت فكرة ما وراء بشرية الأئمة بجرانها، واتسعت على طول التاريخ.

لقد سبق أن ذكرنا أن التشيع يعني اتّباع علي×. فنحن شيعة لأننا ندرك ونتفهم رأي علي×  وأصحابه أكثر من تفهمنا وتقبلنا للآراء الأخرى. وليس من الضروري أن تكون هذه الرؤية فوق الطبيعة، بل بإمكاننا في العصر الحاضر إدراك أفضلية هذه الرؤية.

إن الواجب يفرض عليّ حالياً التوصل إلى ترجيح أحد الأقوال والآراء بمعزل عن جميع التلقينات، فإن توصلت إلى رجحانه حق لي بعدها أن أفخر وأعتز بتشيعي.

وعليه يكون الإدراك الأول إدراكاً للمضمون والمحتوى. فنحن شيعة لأننا آمنا برؤية عليّ×، كما آمنا برؤية النبي، ووجدناها أكثر إقناعاً بالمقارنة إلى سائر الأديان.

ويتلخص البحث في ثلاثة محاور:

المحور الأول: إن رؤية علي× بالمقارنة إلى الرؤى المنافسة، والتي هي إسلامية أيضاً، رؤية عقلانية. فإن مستوى العقلانية في كلام علي× أشد وأقوى من العقلانية في الرؤى الأخرى، وليس هذا بالشيء القليل. ويكفي في إثبات ذلك الرجوع إلى كتاب نهج البلاغة، ومقارنة الآراء العقلية والمفاهيم الفلسفية التي يزخر بها هذا الكتاب بسائر المفاهيم الأخرى. وهذا ما أفاده العلامة الطباطبائي، صاحب كتاب تفسير الميزان، في الإجابة عن سؤال المستشرق (هنري كوربن).

إن كتبنا الحديثية والروائية تفتتح بكتاب (فضل العقل)، وإن مسؤوليتنا نحن الشيعة تكمن في البحث في هذه المصنَّفات. كما بدأ الفردوسي ملحمته باسم إله العقل.

ونحن نفخر بإيرانية وعقلانية علمائنا.

المحور الثاني: مسألة العدالة العلوية. ومن أجل هذا المحور يعرف الشيعة بالعدلية أيضاً، فلا نقول: «إن ما  يفعله الله عدل، بل نقول: إن ما هو عدل يجب على الله فعله».

وقال الإمام علي× في توصيف العدل: «أقرب الأمور عند التواصف، وأبعدها عند التناصف». ولو أننا تولَّهنا في علي× فلأجل عدله قبل القدرة وبعدها.

وعلى هذا المبنى أثبت الإمام علي× أنه قادر على إقامة العدالة، حتى بعد استلام السلطة. وعليه فإننا إذا أسلمنا وتشيعنا بحجة علي والحسن والحسين فلأننا وجدنا فيهم الإنسان مجسَّداً. وهناك من يتصور أن العدالة مفهوم أسطوري، في حين أننا حالياً عندما نثبت عدم عدالة شيءٍ ما فإنما نعني ــ بكل بساطة ــ أنه غير مشروع، إلا أن علماءنا للأسف الشديد قلَّما تنبَّهوا لهذا الأصل.

المحور الثالث: العرفان، وهو عبارة عن بطن الدين. ولم نعهد مذهباً مثل التشيع في اتجاهه نحو العرفان الديني. إن الفكر العرفاني الذي تزخر به كلمات أمير المؤمنين× يعد أكبر ذخيرة لدى العارف. والملفت أن جميع المذاهب العرفانية، شيعية كانت أم سنية، باستثناء مورد واحد منها، تنهي سلسلتها إلى الإمام علي×. وقد أثبتت أحدث التحقيقات أن التشيع والتصوف ينتميان إلى شجرة واحدة.

وإن الجهة المقابلة للعرفان هي السطحية والسلفية والزهد القشري، وهي المتفشية حالياً في سائر المذاهب الإسلامية الأخرى. فالذي تعانيه البلدان الإسلامية في الوقت الراهن هم العلماء السطحيون، الذين يظنون أن ظاهر النصّ هو تمام الشريعة، وليس هناك شيءٌ وراء ذلك، بل قد تمّ نبذ العرفاء من قبل العلماء، وقلَّما صُنِّفوا في عداد المسلمين.

ويجب علينا هنا أن نشير إلى (السيد الهراتي)، وهو من عرفاء القرن العاشر والمفكرين الكبار في هذا المجال، إذ كان يرى أن الشريعة والطريقة والحقيقة مجموعة في التشيع، دون سائر المذاهب الأخرى.

وعليه فأنا شيعي لأنني لم أعثر على فهم أكثر عقلانية وعدلاً وعرفاناً من فهم علي×. كما أنني آمنت بديني انطلاقاً من هذه المعايير الثلاثة.

ولقد آمنت بنفسي من خلال العقل، وبهذا العقل آمنت بنبيّي‘.

إننا نشهد في العصر الحاضر تغيراً في المفاهيم المحورية لدى الشيعة، حيث تبدلت القراءات التقليدية القديمة، وحلت محلها المفاهيم الثلاثة الجديدة، المتمثِّلة في (العقل والعدل والعرفان)، وتراعى في هذا القراءات الجديدة جميع حيثيات الأئمة^، ولكن بطريقة مختلفة.

نحن نفخر بالتشيع الذي يحتوي على أدعية عالية المضامين العرفانية، من قبيل: دعاء أبي حمزة الثمالي، ودعاء كميل، والمناجاة الشعبانية. وفي الوقت نفسه نحترم المذاهب الإسلامية الأخرى أيضاً.

ونتيجة هذا البحث هي أنه لكي نؤمن برؤية مذهبية علينا أن نقارنها بسائر الرؤى المخالفة الأخرى؛ بغية ترجيحها.

وإذا أردنا إن ننقد مذهباً فعلينا أن ننقده في ظرفه الزماني، مع أخذ تعدد الآراء بنظر الاعتبار. ولا بد من إيضاح أن التشيع لا ينحصر بالرؤية التقليدية، وأن بالإمكان إبداء رؤية أخرى.

ما هو التشيع؟ ــــــ

سؤالنا يقول: ما هو التشيع؟ ثم يذكر في هامشه سؤال آخر، وهو: كيف وبأية طريقة نريد الإجابة عن هذا السؤال؟ كيف نشأ التشيع على طول التاريخ؟ وما هي مقوماته وخصوصياته؟ وما هي أركانه بحسب الأزمنة المختلفة؟ وهل كانت هذه الأركان موجودة في مستهل التشيع كما هي عليه الآن أو أنها خضعت لتغيرات عبر التاريخ؟ إن من المغالطات السائدة في قراءاتنا أننا نتصور أن الطريقة التي كان يفكر بها المتقدمون تشبه طريقتنا الفكرية تماماً، في حين أنني أجزم بأن الأمر ليس كذلك، فإن جميع المسائل التي نطرحها في عصرنا بشدة وقوة لم تطرح في القرون الأولى بمثل هذا التضخيم والشدة.

والسؤال الثاني الذي يتراءى لنا جميعاً هو: هل بإمكاننا الحديث عن خصائص التشيع وذاتياته؟ وهل يصح بحث الذاتي والعرضي في ما يتعلق بالدين؟ وهل هناك ضابطة تميز الأمر الذاتي من العرضي؟ وإذا كانت مثل هذه الضوابط موجودة فما هو الذاتي في التشيع، الذي يتعين علينا كشيعة الإيمان به؟

والسؤال الآخر الذي قد يبدو مهماً حالياً: مَن هو أو مَن هُم الذين أقاموا صرح التشيع؟ فربما أمكن سؤالهم عن تلك الذاتيات والحيثيات. فهل تم تأسيسه من قبل الله؟ وطبعاً هناك من قال بذلك، ويمكن العثور على روايات كثيرة تدل على أن هذا المذهب هو مذهب إلهي؛ أو أنه تأسَّس على يد النبي الأكرم‘، حيث أطلق هذه التسمية وأقام هذا المذهب؛ أو أنه أقيم من قبل قادة هذا المذهب، وهم الأئمة الاثني عشر، كعلي× وآل علي؟ وإذا أمكننا إثبات إحدى هذه الفرضيات الثلاث: الله عز وجل؛ أو النبي‘؛ أو الأئمة^، افترضنا حيثيات من خلال الرجوع إلى النصوص الإلهية أو النبوية أو العلوية (الإمامية). وطبعاً يمكن إبداء افتراض رابع قد يبدو لأذهان البعض، وهو أن يكون التشيع من تأسيس بعض العلماء؛ كنتيجة لمواجهتهم مع سائر المذاهب الإسلامية، حيث وجدوا لأنفسهم ميزة عليهم، أدت إلى ظهورهم على طول التاريخ كفرقة مستقلة.

ولا بد من الالتفات إلى أن نتيجة الفرضيات الثلاثة الأولى تختلف عن الفرضية الأخيرة اختلافاً كبيراً. كما يمكن القول باختلاف نتيجة الفرضيتين الأوليين عن الفرضية الثالثة.

وبعد الإجابة عن هذه الأسئلة يفرض السؤال الأساسي نفسه، وهو: هل يحق لنا أساساً إعادة النظر في مذهبنا؟ وإذا كان يحقّ لنا ذلك فما هي الموارد التي يسوغ لنا إعادة النظر فيها؟ إن الجواب الذي توصلت إليه عن هذا السؤال إيجابي. وها أنا أستعرض هذه البحوث وأقولها بصوت مرتفع، ولا أدعي أنني بلغت الغاية، ولكن النتيجة التي توصلت إليها هي ضرورة مواصلة الطريق حتى النهاية، وهو ما سيتعمق من خلال الحوار.

محاور إعادة التفكير في التشيع ــــــ

المحور الأول: القرآن. فإن التشيع مهما كان فهو متفرِّع عن الإسلام. وإن القرآن الكريم يمثل حجر الزاوية في الفكر الإسلامي. وعليه إذا وجدت في المذهب الذي أنتمي إليه عقائد لا تنسجم والضوابط القرآنية، أو حظيت باهتمام  لم يتوفر عليه القرآن، كان ذلك دليلاً على عدم تمامية تلك العقائد. وإن الضرورة تقضي بتعديلها أو تغييرها بما يتطابق والكتاب الكريم. ومن باب المثال: إن القول بالشفاعة السائد حالياً بين الشيعة لا يتناغم وما هو موجود في القرآن. ولست أقول بعدم وجود أصل الشفاعة في القرآن، ولكنها ليست بالحجم الذي يتمّ طرحه في التشيع الراهن. فالذي يحظى بالدرجة الأولى من الأهمية في القرآن هو التوكُّل، أما الشفاعة فأمر ثانوي، وتقع بعد التوكل. في حين أن المسألة تبدو معكوسة عندنا، حيث نضع الشفاعة في الدرجة الأولى، ونعطي للتوكل دوراً هامشياً وضئيلاً جدّاً، يقع بحسب الترتيب بعد الشفاعة كأمر ثانوي. وفي رأيي إن لدينا الكثير من هذه الأمثلة التي تحلّ فيها الأصول محل الفروع، وبالعكس. وتمام ما أريد قوله هو: كيف يمكننا التوصل إلى محور الاعتدال؟ والجواب: إن أحد الطرق إلى ذلك هو الاحتكام إلى القرآن الكريم.

المحور الثاني: العقل. ولحسن الحظ فإن مذهبنا ــ رغم الكثير من الخرافات التي أقحمت فيه ــ ظل يتمتع بالحظ الأوفر من العقلانية، قياساً بالمذاهب الإسلامية الأخرى. وقد جُعل العقل في الفقه الشيعي واحداً من أدلته الأربعة.

المحور الثالث: سنة النبي‘. وطبعاً هناك اختلاف في تحديد ما يمكن اعتباره من السنة أو لا يمكن عدّه من السنة. ورغم تأسيس علوم في بيان ذلك إلا أن حدود السنة ليست واضحة، كما هو الحال في القرآن الكريم. فهناك اختلاف بين المذهبين الإسلاميين، بل وحتى في داخل المذهب الواحد، في تحديد ما هو المعتبر في السنة من غيره.

المحور الرابع: أقوال الأئمة^، نظير: كلمات الإمام علي وآل علي، كما هو الحال بالنسبة لكتاب «نهج البلاغة». ورغم أن المشاكل في هذا المحور لا تقل عن المحور الثالث، إلا أن فترة كتابته الزمنية أقصر، وقد تطرقت إليه عقبات جادة أيضاً، حيث ظهر بالتدريج أناس عمدوا؛ إما بحسن نيّة أو بسوء نيّة، إلى الترويج لأفكارهم بعد نسبتها إلى الأئمة^، وقد عرفوا فيما بعد بالغلاة، وهم الذين رفعوا الأئمة إلى مستوى التأليه؛ والمفوِّضة، وهم الذين قالوا بأن الله قد فوّض بعض الأمور إلى الأئمة^. ورغم وقوف العلماء في وجههم إلا أنهم تمكنوا من الاستيلاء على مقاليد الأمور في بعض المقاطع الزمنية. وقد أحدثوا قرابة قرنٍ من الزمن بعض المسائل الجادة والهامة على المستوى الكمي دون الكيفي. وإن للأحاديث التي لفَّقوها ظاهراً مقبولاً ومقنعاً للغاية، وقد أبدعوا في مجال العقائد أكثر مما أبدعوا في سائر المجالات الأخرى، وأفادوا بعض المسائل التي كانت تعد غلوّاً في حينها، إلا أنها لم تعد تصنف في دائرة الغلو في الوقت الحاضر. وقد قال بعض الرجاليين: إن عقائد الغلاة التي صدعوا بها في القرنين الثاني والثالث أخذت تتحول شيئاً فشيئاً، حتى غدت في القرن العاشر من أمتن العقائد. وذكر الشيخ الصدوق ــ أحد مؤلفي الكتب الروائية الأربعة ــ معيارين للغلو. والملفت أن هذين المعيارين أصبحا حالياً من بديهيات العقائد الشيعية. ومن جهة أخرى فإن كتابة كتب الحديث المذهبية إنما ظهرت بعد هيمنة هذه التيارات الفكرية، أي بعد سيطرة الغلاة وتغلغلهم في الأوساط الشيعية.

وعليه لا يبقى أمامنا من خيار سوى القيام بعملية جراحية معقَّدة وحساسة للغاية، شبيهة بالعمليات الجراحية التي يجريها الأطباء على المخّ والأعصاب. وخلافاً لما يبحث تاريخياً حول التشيع العلوي والصفوي، وهو ما قام به العلامة المجلسي في القرنين العاشر والحادي عشر، فإن كل ما حدث إنما كان في القرون الخمسة الأولى.

ماذا يعني التشيع؟ ــــــ

بعد هذه المقدمات نصل إلى هذا السؤال: ما هو التشيع؟ إن التشيع لغةً لا يحمل معنىً إيجابياً أو سلبياً. وقد استعملت هذه المفردة حتى في عهد النبي‘. وسنبحث في استعمالها لغة، ونذكر موارد استعمالها في القرآن، حيث وردت على شكل المضاف والمضاف إليه. كما وردت في غير الإضافة. واستعملت كذلك مفردة، واستعملت بصيغة الجمع.

أما معنى التشيع لغةً فهو: مصدر من باب التفعل، ويعني الاستهلاك في الشيء. فمثلاً: قولك: (تشيع في الشيء) يعني (ذاب فيه).

ومن ناحية أخرى فإن مفردة الشيعة تستعمل في معنيين:

الأول: الجماعة من الناس. والثاني: الأتباع والأنصار. فالشيعة تعني الجماعة. والتشيع يعني الانقسام إلى فرق. وعند الإضافة يطلق على المعنى الثاني، من قبيل: شيعة آل أبي سفيان، وشيعة علي. وكما ترون فإنها لا تشعر بمدح أو ذم.

وقد استعمل لفظ الشيعة في القرآن في كلا المعنيين. قال تعالى: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإٍبْرَاهِيمَ}. وهذه الآية تحمل في متنها أجمل استعمال للشيعة في القرآن، فقد ورد في سورة الصافات قوله تعالى: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي العَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُؤْمِنِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ * وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإٍبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}. ومحل الشاهد من هذه الآيات قوله: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإٍبْرَاهِيمَ} بمعنى أنه من أتباعه. وهناك استعمال آخر للشيعة في سورة مريم، حيث قال تعالى: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً}، أي من كل فرقة. وعليه فقد استعملت مفردة الشيعة بمعنى الأتباع، وبمعنى الفرقة والجماعة.

كما استعملت هذه المفردة في سورة القصص أيضاً. وإن المعنى الذي استعملت فيه قريب من بحثنا، فحينما كان نبي الله موسى× يتجوّل في المدينة شاهد أحد أبناء بني إسرائيل يتعرض للضرب من قبل رجل من الأقباط، فطلب الإسرائيلي العون من موسى على القبطي، فهبّ موسى لنجدته، قال تعالى: {وَدَخَلَ المَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ}.

وأول مرة استعملت فيه كلمة التشيع كانت في عهد النبي‘ دون أن نعلم أن استعمالها كان بصيغة العَلم أو الاسم العام. فقد استعمل النبي هذه الكلمة مضافة إلى اسم علي×، حيث قال: «إن شيعة علي هم الفائزون». ولم تستعمل في غير هذه الصيغة. وحتى في نهج البلاغة، في الخطبة 218، حيث سئل الإمام علي في حرب الجمل عن ملابسات الحدث، بدأ الإمام بشرح الأوضاع، وقال في ضمن ما قال: «ووثبوا على شيعتي».

وأول من عرف بوصفه من شيعة علي أربعة أشخاص، هم: سلمان الفارسي؛ وأبو ذر الغفاري؛ والمقداد بن الأسود؛ وعمار بن ياسر، حيث ذهبوا إلى أن قيادة المسلمين بعد النبي حقٌّ لعلي، وتكلموا في ذلك، ودافعوا عن مواقفهم.

وأهم صفة للإمام علي× أكد عليها هؤلاء النفر في ما ذهبوا إليه هي أفضليته على سائر الصحابة. ويمكن اعتبار هذه المسألة البارقة الأولى التي ميّزت هذه الفرقة من غيرها. ثم تلا هؤلاء في المراحل التالية رجال، مثل: كميل بن زياد؛ ومالك الأشتر النخعي؛ وأبي أيوب الأنصاري؛ وأبي حمزة الثمالي؛ وزرارة بن أعين؛ ومحمد بن مسلم؛ وهشام بن الحكم، حيث كانوا من خلَّص أصحاب الأئمة، ومن العلماء والمؤلفين، وقد صنفوا كتباً في الحديث، وهي تواجه نفس المشكلة التي ذكرناها بالنسبة للسنة النبوية وسنة الأئمة.

ويبدو أن أهم مسألة ينبغي علينا مواصلتها في بحثنا هذا التحقيق في خصائص الإمام علي×، التي تحتم علينا البقاء على تشيُّعنا له.

التشيع التاريخي ــــــ

يمكن الرجوع إلى بعض الكتب واعتبارها ابتدائية للحصول على معلومات حول التشيع. ونذكر لذلك مثلاً: مدخل التشيع في «دائرة المعارف الشيعية»، وهي موسوعة لم تكتمل بعد، إلا أن مدخل حرف (التاء) قد اكتمل، وهو يشتمل على مدخل مهم بشأن التشيع. وقد جاء في الأسطر الأولى منه: «التشيع يعني الاعتقاد بخلافة علي بن أبي طالب للنبي بلا فصل». وكما نرى فإن هذا من أهم خصائص التشيع. ثم ورد بعد ذلك مباشرة: «والقول بعصمة الأئمة الاثني عشر، ونصب الإمام علي في غدير خم». وهكذا يستمر الكلام في المسائل الأخرى. وربما أمكن العثور على خصائص أخرى للتشيع من خلال البحث في بطون الكتب التاريخية، إلا أن الشيء الذي لا يمكن إنكاره هو أن التشيع يعني اتّباع علي بن أبي طالب، وما وجده الشيعة الأوائل في علي× من كونه خليفة النبي‘ بلا فصل. إلا أننا حينما نعيد قراءة تلك الواقعة ربما لا نعير اهتماماً لخلافته المباشرة، وإنما نتساءل عن سبب أفضلية الإمام علي على سائر أصحاب النبي، فما هي خصائص علي التي جعلت سلمان ــ وهو الصحابي المحنك ــ تابعاً له؟ وهكذا نقول بشأن أبي ذر. ولم يعد البحث عن الخلافة المباشرة يحظى بتلك الأهمية التاريخية. وإن للشيخ المطهري كلاماً بهذا المضمون في كتابه «الإمامة والقيادة»، حيث قال: «قبل ألف وأربعمائة سنة حدث نزاع بين المسلمين حول من يخلف النبي، وهذا ما يحصل عادة حينما يتوفى عظيم، فيحدث بعده النزاع حول من يخلفه، وهو على كل حال نزاع تاريخي». فهل وضعنا لأنفسنا اسماً بخصوص هذا النزاع التاريخي؟ وما الذي يتعّين علينا فعله في الوقت الراهن؟

وفي الحقيقة إن (خلافة علي للنبي مباشرة)، وإن كانت فارقاً وسمة تاريخية للتشيع، إلا أنها لم تعد حالياً فارقاً بين التشيع والتسنُّن. والذي يتعين علينا في الظرف الراهن هو دراسة ما نعده الفارق الأهم، وهو ما لمسه الشيعة الأوائل، وهم الأشخاص الأربعة المتقدِّمون، في علي بن أبي طالب×؟

وقبل كل شيء سنبحث في المميزات التاريخية للتشيع، أو مميزات التشيع التاريخية، وهي المميزات التي حملها التشيع طوال التاريخ، وأهمها: الاعتقاد بوجود أئمة يحملون الخصائص التالية، عدا النبوة: 1ـ العلم بالغيب. 2ـ العصمة. 3ـ التنصيب من قبل الله. 4ـ الغيبة.

إنّ الاعتقاد بهذه الأمور الأربعة يختلف عما يعتقده سائر المسلمين اختلافاً كاملاً، حيث إن سائر المسلمين لا يثبتون هذه الأمور لغير الأنبياء (علماً أن الأمر الرابع ليس له مصداق بين الأنبياء أيضاً).

كما ذكرت خصائص اعتقادية أخرى، كالاعتقاد بالبداء، والرجعة، وغيرهما. وهناك اختلافات في بعض الأحكام الفقهية، إلا أن هذه الاختلافات موجودة حتى في المذاهب الفقهية عند الطائفة السنية أيضاً. وعليه لا تبدو هذه الخلافات ذات أهمية، ولذلك نبقى نحن وتلك المميزات التاريخية الأربعة.

قراءات مختلفة عن التشيع ــــــ

هل يمكن التأمل والتفكير في هذه المميزات؟ وهل يمكن البقاء على التشيع دون إعطاء هذه الخصائص الأربعة ذلك الثقل الذي كان يراه القدماء؟ لإيضاح الفكرة نقول: لقد مّرت الماركسية في سيرها التاريخي بأدوار تاريخية مختلفة، فالماركسية التي كانت سائدة قبل سبعين سنة تختلف عن الماركسية التي هيمنت قبل خمسين سنة أو عشرين سنة اختلافاً كبيراً، حتى يفرض هذا التساؤل نفسه: إذا كان (إنجلس) و(لينين) ماركسيين فهل يمكن اعتبار (ماركوزة) ماركسياً؟ وهل يمكن اعتبار (آلتوسر) ماركسياً؟ فماهي مقومات الماركسية؟ في السابق كانت المادية التاريخية والمادية الديالكتيكية وبعض العلاقات الاقتصادية الخاصة تعّد من مقومات الماركسية، بينما أعيد النظر حالياً في جميع هذه الأسس، فهناك حالياً ماركسية لا تؤمن بالمادية الديالكيتكية، وبعد مّدة ظهرت ماركسية لا تؤمن بالمادية التاريخية. وقال زعيمها بأن الماركسيين الأوائل لم يقرأوا مؤلَّفات ماركس العقائدية، والتي كتبها باللغة الألمانية، ففي الوقت الذي ذاع فيه أمر الماركسيين على المستوى العالمي لم تكن مؤلفات ماركس  قد نشرت، ولذا فنحن نقدم قراءة أخرى عن الماركسية. وها أنتم تشاهدون في هذا المعتقد ظهور (هابرماس)، الذي لا يشبه (ستالين) أو (إنجلس) بحال من الأحوال. وقد قال أحد الكتّاب: إن (بوبر)، الذي ألَّف كتاب (المجتمع المنفتح ومناوئوه)، لم يقرأ المؤلفات الماركسية، وإن ما قام بنقده لا يمتّ للماركسية بصلة. ونفس هذا الكلام ينسحب حالياً على المذاهب والأديان، ففي المسيحية يقال: من هو الكاثوليكي؟ ومن هو المسيحي؟ وسنحصل على هذا الجواب: هو المؤمن بالمسيح. ونقول: يمكن لهذا الإيمان والاعتقاد أن يكون مختلفاً من الناحية الكيفية.

نقول: إن التشيع يعني الإيمان بعلي والاعتقاد برؤيته عن الرسالة النبوية، وهي الرؤية التي بلغتنا على صورتها التاريخية، عبر آراء العلماء المتقدمين. ويحق لي شخصياً أن أفهم علياً على النحو الذي أراه. فمثلاً: لو بحثنا في تفكير العلماء الشيعة لوجدنا أن خصائص الإمام علي لم تكن بأجمعها واضحة عند الشيخ الصدوق كما ينبغي. وإنما كان الواضح منها عنده ما يتفق ومعلوماته. وليس لديّ دليل على أن تشيع الصدوق كان أقوى من تشيُّعي. ولو أحدثنا مقارنة بينه وبين الشيخ المفيد لوجدنا أن الشيخ المفيد قد انتقد الشيخ الصدوق، ولكنه بدوره قد قرأ الإمام علي والأدبيات العلوية على النحو الذي يساعده عليه فهمه. وعلى طول التاريخ نصل إلى علماء آخرين، حيث نصل إلى عصر العلامة المجلسي، ثم العلامة الطباطبائي، وإلى عصرنا الحاضر، أي إنه لا توجد هناك مشكلة إذا تحدث شخص عن ذاتيات التشيع ومقوماته، كي نقول له: من أين أتيت بهذه المقوِّمات؟ وإذا تحدث عن أصول الدين نسأله: من أين أتيت بهذه الأصول؟ فليست هناك آية تحدد هذه الأصول. وإن أقصى ما يمكننا إثباته أن المسلم هو الذي يؤمن بالمبدأ والمعاد عن طريق محمد بن عبد الله‘. والشيعي هو الذي يؤمن بالمبدأ والمعاد والنبي‘ بالرواية العلوية. وأما ما هي مقومات التشيع؟ فهذا ما ينبغي بحثه بدقة.

فإذا ثبت بعد التحقيق أن أركان التشيع لم تكن كما تم التصوير لها على طول التاريخ، أو لم تكن بعض الأحكام والاعتقادات بتلك القيمة، فعندها لا يحق لشخص أن يحصر التشيع بما قاله العلماء المتقدِّمون. وإذا أمكنني إثبات قراءتي عن التشيع، وتوثيقها قرآنياً وعقلياً ونبوياً وعلوياً، كان ذلك كافياً. كما يحق لي أن أقول بأن بعض ما نشاهده من القراءات التاريخية ليس له سند قرآني ولا عقلي ولا نبوي ولا علوي.

هناك كتاب مفيدٌ لدراسة التشيع التاريخي دراسة تمهيدية، وعنوانه: «گوهر مراد»، وهو من تأليف الملا عبد الرزاق اللاهيجي، من علماء القرن الحادي عشر، وهو مصدر معتبر بحث التشيع بصورة عقلانية.

والكتاب الآخر هو «تجريد الاعتقاد»، للخواجة نصير الدين الطوسي، وقد كان هذا الكتاب من أكثر الكتب التي تم شرحها والتهميش عليها في العالم الإسلامي.

وطبعاً فإن المشكلة الأساسية في بحثنا تكمن في القرون الثلاثة الأولى. ففي القرن الأول نفتقر إلى النصوص المدوّنة، حيث لم تتوفر هذه النصوص إلا في القرن الثالث وأواخر القرن الثاني، ولذلك نواجه عقبة قلّة النصوص في هذه القرون الثلاثة.

  إذاً من الممكن أن تكون هناك قراءتان للتشيع. كما هناك في الإسلام قراءتان: الأولى: القراءة التقليدية للتشيع؛ والثانية: القراءة المستنيرة والمجدِّدة للتشيع.

وربما يتساءل شخص: هل يجوز لنا أن نكوّن قراءة جديدة عن التشيع؟ وإذا كان من الواجب أن نستأذن بهذا الشأن فمن الذي يتعين علينا استئذانه؟ ربما إذا طلبنا الإذن من أصحاب القراءة الأولى لا يسمحون لنا بذلك. كما أن القراءة الثانية لم تدوّن في كتاب، وهنا تكمن المشكلة. وربما كانت محاضراتنا هذه بداية ولادة القراءة الثانية. وطبعاً ظهرت بعض الجهود في القرن الأخير في هذا المجال، ونذكر منها جهود الدكتور علي شريعتي الذي كانت له أبحاث في ما يتعلق ببعض الموضوعات  المذهبية، ولكن رغم قوتها يبدو أنها لم تكن متجذرة. ونحن حالياً نحتاج إلى إعادة تأسيسية في قراءة التشيع.

 

معنى التشيع اصطلاحاً ـــــ

تقدم الكلام حول معنى التشيع لغة، وأما اصطلاحاً فهناك في الأقل ثلاثة معانٍ اصطلاحية للتشيع، مستعملة في القرون الأولى، فلا بد لنا من البحث عن المراد لنا، ولا بد من لفت الأنظار إلى أن ما أقوله موثَّق ومذكور في الكتب العقائدية على النحو التالي:

المعنى الأول: حبّ علي وحبّ آل علي، والذي تعود ملاكاته إلى حبّ علي ليس إلا. وعلى هذا المعنى يدخل أكثر المسلمين في دائرة التشيع، باستثناء النواصب، الذين اتخذوا من بغض علي منهجاً لهم، وكان معاوية يغدق عليهم الأموال كي يشتموا علياً على رؤوس المنابر. وأما غالبية أهل السنة فيحبون علي بن أبي طالب×، وإن الشافعية مثلاً هم من أكثر أهل السنة إظهاراً لهذا الحب.

المعنى الثاني: إن الشيعة هم الذين يفضِّلون علياً على عثمان وأبي بكر، دون أن يكون هناك كلام حول العصمة، وعلم الغيب، والمراتب التي تفوق المستوى البشري، وأمثال ذلك، وإنما هي مجرد أفضلية علمية. وقد ذهب أكثر علماء الرجال من أهل السنة إلى اعتبار الذين يتحلون بهذه الصفة من الشيعة، وقد نبذوهم على أساس ذلك. وقد كانت غالبية المعتزلة في بغداد على هذه العقيدة، حيث يرون علياً أفضل الصحابة، دون القول بعصمته، وعلمه للغيب أو كونه منصوباً من قبل الله.

المعنى الثالث: اعتبار علي وأولاده، أو أهل بيت النبي، خلفاء له، وثبوت جميع صفات النبي لهم، باستثناء نزول الوحي الرسالي. وهذا المعنى الاصطلاحي الثالث عبارة أخرى عن استمرار النبوة من دون وحي.

ويبدو من خلال الالتفات إلى هذه المصطلحات الثلاثة أن المراد منها حالياً في وصف التشيع الراهن هو المعنى الثالث، دون الأول والثاني. ومن هنا أخذ الشيعة يشكلون الأقلية في عصرنا، بينما غالبية المسلمين هم من السنة. فإن كانوا يحبون علياً ــ وهم كذلك ــ فهم شيعة بحسب المصطلح الأول، بل وقد يفضِّلون علياً على من سواه، كما هو مذهب ابن أبي الحديد المعتزلي شارح نهج البلاغة، ولكنه رغم ذلك لا يدخل في دائرة التشيع بحسب المصطلح الثالث.

مقولة استمرار النبوة من دون وحي ـــــ

وبعد هذه المقدمة فإننا سنعني بالتشيع معناه بحسب المصطلح الثالث، وباختصار فإن الشيعة هم: (القائلون باستمرار النبوة مع انقطاع الوحي). والسؤال المهم: ما هو الشيء الذي يجب أن يستمر حتى بعد رحيل النبي؟ يقال: إن النبي قد أقام ديناً وأرسى دعائمه، ولا بد من المحافظة على هذا الدين، وقد كان هذا المحافظ في زمن الوحي يتمثل في شخص النبي‘، وأما بعد رحيله وانقطاع الوحي فلا يمكن إهمال  هذا الدين، وإنما تقع مسؤولية المحافظة عليه على عاتق رجال آخرين يحملون صفة الإمام. ولا بد أن يكون هؤلاء الأئمة مثل النبي في العصمة من الذنب والخطأ، فلا يذنبون ولا يخطئون ـ وهناك فرق بين الذنب والخطأ، فالذنب يعني المعصية وارتكاب ما يخالف أمر الله، في حين أن الخطأ يعني التكلم بما يخالف الحقيقة والواقع، وإن الكثير من الأخطاء لا يمكن عدّها من الذنوب، إلا أن هؤلاء الأئمة معصومون في كلا الأمرين ـ ولازم ذلك أنهم يتمتعون بعلم فوق العلوم الاكتسابية التي يتعلمها الناس في المدارس وعلى يد المعلمين، أي أن علمهم علم إلهامي ولدني أو غيبي. والخصوصية الثالثة التي تثبت للأئمة هي حصولهم على هذين الكمالين بجهودهم الذاتية، وأن الله قد وهبها لهم نتيجة استحقاقهم لها، وليس محاباة لهم دون غيرهم وعلى نحو اعتباطي. وطبعاً إن كلّ ما عندنا إنما هو من عند الله، ولكن يقال: إننا لا نستطيع معرفة هؤلاء الأئمة، وإنما لا بد من تعيينهم من قبل الله، وعليه فالمسألة ليست مسألة استفتاء يسمح لنا فيه أن نختار شخصاً لإحراز عنوان الإمامة، فلابد من تنصيب هؤلاء الأئمة من قبل الله تعالى، والنبي يتولى مهمّة الكشف عن هذا النصب وإعلام المسلمين بما اختاره الله لهم، وليس على المسلمين سوى الإذعان والطاعة رجاء حصول الثواب. وهذه الخصائص الثلاثة لا تموت برحيل النبي، وإنما تبقى مستمرّة.

والخصيصة الرابعة هي السؤال القائل: إلى متى يستمر هؤلاء الأئمة في مهمتهم في حفظ الدين وبيانه وشرحه؟ فقد يُشكل بأننا إذا كنا حالياً في غنىً عن الإمام فلماذا وجب أن يكون هناك إمام بمجرّد رحيل النبي؟ والجواب: إننا نعيش في الوقت الحاضر حالة برزخيّة، يكون فيها الإمام حاضراً غائباً، وبذلك يتحقق مفهوم الغيبة، فالإمام حيّ موجود، ولكننا لا ندرك حضوره، وإننا ننتفع من وجوده غائباً كما ننتفع من نور الشمس إذا حجبها السحاب. وبذلك يعد مفهوم الغيبة الخصوصية الأساسيّة الرابعة في التشيّع التقليدي.

ولابد من الالتفات إلى أن الشيعة يعتبرون كلام الإمام حجة. ولذلك يعدّ كتاب (الحجة) في «الكافي» ــ الذي يعتبر من أهم المصادر الروائية لدى الشيعة ــ الكتاب الرابع بعد كتاب (العقل والجهل)، و(فضل العلم)، و(التوحيد). وإن المباحث التمهيديّة في هذا الكتاب تدور حول النبوة، وتدور غالبية بحوثه حول الإمامة. كما يصنف التشيّع النبي والإمام تحت مفهوم (الحجّة). كما يستعمل لفظ (الحجّة) في المنطق بمعنى الاستدلال، فالحجة تعني الوثيقة الدينية التي لا يمكن التشكيك فيها. والشيعة يعتقدون أن الحجة ثلاثة أمور: الله تعالى الذي لا يكلمنا مباشرة، وإنما يتحدّث معنا عن طريق الرسول؛ والحجّتان الأخريان هما: النبي؛ والإمام.

السؤال المهم في القرن الأول الهجري ــــــ

لا شك في ظهور رجالٍ بعد رحيل النبي عرفوا بتشيعهم، وقد كانوا يقدّرون بحوالي خمسين رجلاً من أبرز الصحابة. وقد تحدّثت بعض الكتب التي رصدت ثورة الإمام الحسين أن جماعة من الشيعة لجأت إلى دار سليمان بن صرد الخزاعي، مما يؤكد استعمال مفردة التشيع آنذاك، أي في عام خمسين أو ستين للهجرة النبوية، دون استعمالها مضافةً أو مضافاً إليها. كما استعملت هذه المفردة في كتاب الإمام الحسن الذي بعثه إلى معاوية بن أبي سفيان. وهناك من قتل بسبب تشيّعه، وذلك في عهد معاوية والذين جاؤوا بعده من الخلفاء. وسؤالي المهم في ما يتعلق بالقرن الأول: هل المميّزات التي ذكرت للتشيّع في القرن الثالث والرابع فما بعد كانت موجودة في القرن الأول أيضاً؟ وهل كان سلمان وأبو ذر الغفاري يعتقدان بالتشيّع الذي يحمل بصمات القرن الثالث والرابع؟ هذا ما سنبحثه في ما بعد.

إن الخصائص التي تذكر للإمام في العصر الحاضر لم ترِدْ في أيّ سند بعد رحيل النبي‘، وقبل العام الهجري الحادي عشر. فلحسن الحظ أن التاريخ حفظ لنا جميع تفاصيل حادثة السقيفة، والأدلة التي ساقها المهاجرون والأنصار، وما قاله عليّ بعد سماع هذه الاحتجاجات. وجاء بعض منها في كتاب «نهج البلاغة»، وذكر شطر منها في الكتب التاريخية. وجاء في أول الكتب التاريخيّة المتوفرة لدينا التساؤل عمّا إذا كان يجب أن يكون عليّاً هو الخليفة بعد رسول الله أو غيره؟ وأما لماذا يجب أن يكون الخليفة هو علي؟ فتساق لذلك أدلة، من قبيل: كونه من ذوي القربى، أو أنه من بني هاشم. ويتنازع المهاجرون والأنصار؛ فيقول المهاجرون: نحن من قريش، وحينما يبلغ علياً ذلك يقول: إذا كان الأمر كذلك فنحن من بني هاشم، ولم يحتجّ بكونه منصوباً من قبل الله تعالى، أو أنه يعلم الغيب. وقال بعد أن استخلف: لا تكون بيعتي سرّاً وليلاً، ودون بيعة الناس. في حين يقول الشيعة التقليديون بشأن هذه الحقائق: إن الإمام قد جارى الناس، ولم يصرّح بالحقيقة، سالكاً طريقة الجدل. كما ركز الإمام الحسن في نزاعه مع معاوية على مؤاخذته على نقض البيعة. وقال الإمام الحسين: «إني أحقّ منكم بهذا الأمر»، يعني أمر الخلافة والولاية والزعامة، دون بحث التنصيب أو العصمة أو علم الغيب، بل هو بحث الاستحقاق. وقد طفح كتاب «نهج البلاغة» بذكر هذا الاستحقاق.

لقد بحثت في بعض المصادر القديمة والأصيلة، وربما لم تكن هذه النصوص مفيدة لغير المختصين، بيد أن الموارد التي أذكرها موثقة تماماً. فمثلاً: ذكر المسعودي، وهو مؤرخ شيعي، في كتاب الوصيّة، «أن علياً أقام ومن معه من شيعته في منزله». وجاء في «مقتل أبي مخنف»، وهو من أقدم الكتب التي أُلِّفت في مقتل الإمام الحسين×، حيث كتب في بداية القرن الثاني للهجرة، وقد اعتمده الطبري في تاريخه: «اجتمعت الشيعة في دار سليمان بن صرد الخزاعي»، الأمر الذي يعني استعمال هذه المفردة في تلك الفترة أيضاً. وجاء في كتاب «فرق الشيعة»، للنوبختي، وهو من أقدم الكتب في الفرق: «إن أول الفرق الشيعية هي فرقة علي بن أبي طالب، وكانت تسمّى بالشيعة على عهد النبي». وقد تقدم أنّ عبارة (شيعة علي) كانت تستعمل في عهد النبي، ولكنها كانت تستعمل مضافة أبداً. كما عرّف أبو موسى الأشعريّ الشيعة في كتابه «مقالات الإسلاميين» قائلاً: «لأنهم شايعوا علياً». وقال الشهرستاني في كتاب «الملل والنحل»، وهو من مصادر القرن السادس: «إن الشيعة هم الذين قالوا بإمامته وخلافته نصباً ووصية». وبذلك نلاحظ أن المسألة أخذت تشتدّ في القرن السادس، فبعد أن كانت في القرون الأولى عامة أخذت في القرون التالية تضاف إليها مثل هذه القيود.

إن الذين عرفوا بالتشيع في عهد النبي‘ كانوا خمسين رجلاً من أبرز الصحابة، وكان منهم واحد وعشرون رجلاً من بني هاشم، وتسعة وعشرون رجلاً من غيرهم، وكانوا من الشهرة بحيث لا يمكن القول معه بأن التشيع من صنع الفرس أو الزرادشتية.

وهنا أذكر بعض الأمثلة من النصوص التي تحدثت عن الخلافة بعد النبي. فقد جاء في كتاب «الإمامة والسياسية»، لابن قتيبة الدينوري، والذي هو من أقدم الكتب التي رصدت أحداث صدر الإسلام في ما يتعلق بالخلاف الشيعي السني: «إن علياً قال: «أنا أحق بهذا الأمر منكم» و«أنتم أولى بالبيعة لي»، و«أخذتم هذا الأمر من الأنصار»، و«احتججتم عليهم بالقرابة»، و«تأخذه منا أهل البيت غصباً»، و«نحن أحقّ بهذا الأمر منكم»، ثم يذكر لهم خصائصه قائلاً: «فينا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المتدبر لأمر الرعية، الدافع عنهم الأمور السيئة، القاضي بينهم بالسوّية».

وقد قيل هذا الكلام في صفر من العام الحادي عشر للهجرة، وهو من أقدم الكلمات التي نقلت عن الإمام علي.

وقد نقلت مسألة الخلافة في الخطبة السابعة والستين من نهج البلاغة، فحينما بلغت أحداث السقيفة مسامع الإمام علي، وهو منشغل بتجهيز النبي، قال، بعد أن سمع احتجاج المهاجرين: فماذا قالت الأنصار؟ قالوا: «إنهم قالوا: منا أمير، ومنكم أمير»، فقال الإمام: ولماذا لم تقبل قريش منهم ذلك؟ قالوا: «احتجوا بأنهم شجرة الرسول»، وأنهم من قريش، وإن إحدى شروط الإمام والخليفة أن يكون من قريش، فقال الإمام علي×: «احتجوا بالشجرة، وأضاعوا الثمرة»، وقد كان أهل بيته هم الثمرة. كما نقل في الحكمة رقم مئة وتسعين بيتان من الشعر عن أمير المؤمنين حول مسألة الشورى وسقيفة بني ساعدة، وجاء فيهما:

فإن  كــــنت  بالشورى  ملكت أمورهم
وإن  كـنت بالقربى حجبت خصيمهم
فكيف  بهذا والمشير ون غُيَّبُ
فغيرك أولى بالنبي وأقربُ

كما ورد هذا المعنى في الخطبة الثالثة والخطبة الثانية والستين. ومن جملة الأمور التي يذكرها في الخطبة الثانية، وهي خطبة معروفة، دليل على قبول الخلافة، حيث يقول: «لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها». فالدليل الذي يذكره لقبول الخلافة دليل علمي وديني.

ومن الكلمات البارزة التي يمكن العثور عليها في خطب الإمام علي، وتوافق التشيع التقليدي، ما ورد في الخطبة الثانية من نهج البلاغة، حيث يقول: «لا يقاس بآل محمد من هذه الأمة أحد، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة». وفي بقية مواطن نهج البلاغة بدلاً من أن يقول الإمام علي: إنه معصوم نجده يقول: «لست في نفسي بفوق أن أخطئ». وهي على الطرف النقيض من العقيدة التي تحاول إثبات القداسة لهذه الوجودات.

إذاً يمكنني، مثل: مالك الأشتر وكميل وحجر، أن أقول بأن علياً أحق من غيره في هداية الأمة الإسلامية. وليس من الضروري في هذا الصدد أن أقيم قبّة على مرقد الإمام علي بن أبي طالب×. إلا أن هذا كان طبيعياً في المناخ الثقافي الذي عاشه الشيعة المتقدمون. ولو كنت مكانهم لقمت بنفس فعلهم. فلم يكن بإمكانهم أن يتصوّروا تجمع كل هذه الكمالات في شخص، ومع ذلك تكون هذه الكمالات اكتسابية. بل إن التشيع التقليدي يقول: ليس لهذه الكمالات من تفسير إلا كونها ناشئة عن مصدر أول باسم (الحجة)، وأنتم تريدون العيش في عالم يعتبر فيه القول أهم من القائل. وأنا في هذا الإطار لا أريد أن أقول بأنهم كانوا يخطئون، فإنهم لم يكونوا ليخطئوا في المسائل الدينية، وليست هناك من أهمية في غير المسائل الدينية. وحتى بالنسبة إلى النبي، فإذا أراد النبي زيارة أحد الصحابة فأخطأ الطريق المؤدي إلى داره لم يضرّ ذلك بنبوته. ومن جهة أخرى هناك من لا يرتكب معصية، ويكون طاهراً وتقياً، من دون أن تكون هناك ضرورة إلى القول بارتباطهم الغيبي؛ فإن هذا بحاجة إلى دليل قرآني. فكما أن إثبات النبوة بحاجة إلى معجزة كذلك هو استمرارها. وهناك أمرٌ مهم آخر في هذا المجال، وهو أننا نواجه طائفتين من الروايات: روايات ينقلها أهل السنة، تقول: عندما ندخل الجنة نجد مكتوباً على بابها: «محمد بن عبد الله رسول الله، ثم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب»؛ ولدينا روايات أخرى تقول: «كتب على باب الجنة اسم النبي، ثم الإمام علي بن أبي طالب، ثم الحسن بن علي، وهكذا…). والملفت أنه بعد ذلك بقليل، وفي القرن الثاني، وبعد رحيل الإمام الباقر ينقسم أتباعه إلى عدّة فرق. وفي زمن الإمام السابع تعرض مسألة جعفر الكذّاب. وهكذا بعد رحيل كل إمام يطرح هذا التساؤل حول من يخلفه. حتى انقسمت الشيعة إلى سبعين فرقة تقريباً، مثل: الفطحية، والكيسانية، وغيرهما. وكل فرقة تذهب إلى إمامة من تراه. فلا بد من التفكير في تلك الروايات بشكل أكثر. وفي هذا المجال نذكر نصاً من القرن الخامس عن الشيخ الطوسي في كتاب «عقائد الجعفرية»، وهي رسالة مختصرة ذكر في بدايتها أسماء الأئمة الاثني عشر، ثم قال في المسألة التالية، وهي المسألة ثمانية وثلاثون: «يجب أن يكون المعصومون مطهرين من الذنوب كلها، صغيرة وكبيرة، عمداً وسهواً، ومن السهو في الأقوال والأفعال»؛ لأنهم لو لم يكونوا كذلك لسقطوا من أعين الناس، وكيف يمكن للمذنب أن يهدي الضالّ، وليس هناك معصوم سوى الأئمة الاثني عشر، فتثبت إمامتهم.

هل كان تفكير الشيعة المتقدمين كتفكيرنا في الإمامة؟ ــــــ

تعتبر الإمامة حجر الزاوية في فهم التشيع للإسلام. والسؤال: هل كان تفكير الشيعة في هذا الأصل على وتيرة واحدة أو أنه تعرض لبعض التغيرات عبر العصور، خصوصاً في القرون الخمسة الأولى؟ يقوم الافتراض في تحقيقنا هذا على أن التحوّل الجاد في أصل الإمامة قد حدث ابتداءً من القرن الثالث إلى القرن الخامس، بمعنى أنه ظهر منذ بدايات القرن الثاني فهم للإمامة يمنحها مزايا تفوق الطبيعة البشرية. وهذه الطريقة من الفهم، وإن كانت منبوذة من قبل الأئمة وعلماء الشيعة، إلا أنها واصلت حياتها كقراءة موجودة، ثم بدأت في عصر الغيبة تطرح بجدية أكثر، بحيث بدأت تنافس القراءة الغالبة التي كانت تنظر إلى الإمامة كرؤية بشرية. وفي القرن الثالث والرابع نجد هذه القراءة التي تعطي الإمامة هالة فوق الطبيعة تتخذ من الكوفة مستقراً لها، ولكنها لم تستطيع منافسة التيار الغالب الذي كان مستقراً في قم آنذاك. بيد أنه في نهاية القرن الرابع وبداية القرن الخامس تهاوى الاتجاه البشري للإمامة، بعد عقلنة الاتجاه الذي يعطي للإمامة طبيعة فوق المستوى البشري، والذي اتخذ من بغداد مقراً له، حتى تحولت هذه الرؤية إلى ركن رئيس في التفكير الشيعي، وأما الاتجاه البشري فقد انهار واختفى تماماً.

  ولم يبلغنا شيءٌ من مؤلّفات العلماء الذين كانوا ينزعون إلى الاتجاه البشري. وإن جميع المصادر الشيعية الموجودة حالياً قد كتبت بأقلام الذين يذهبون إلى الاتجاه الذي يرى للأئمة طبيعة تفوق البشر. إلا أن آثار النزاع الفكري العقائدي بين مدرسة الكوفة ومدرسة قم، وكذلك بعض الآراء الأولى، ظهرت في مؤلّفات خصومهم. كما يمكن العثور على الكثير من آراء كلا المدرسيتين في الكتب الرجالية والكلامية والفقهية آنذاك. وقد بقيت الكثير من آراء الاتجاه البشري في إطار أحاديث متعددة في الكتب الروائية، وقد نقلت أحياناً على نحو حيادي، وغالباً بشكل ناقد ومستشكل، ولكنها تثبت أولاً: اختلاف رؤية الشيعة الأوائل للإمامة عن الرؤية المتأخرة في الكثير من جوانبها. وثانياً: إن تلك الرؤية الأولى كانت هي السائدة حتى القرن الخامس، وخاصة في القرنين الثالث والرابع.

الإمامة بين البشرية والمافوق بشرية ــــــ

ومهما كان فإن هذا الفهم المختلف لا يمكن إنكاره، أي أن الشيعة، وأهم علمائهم على وجه الخصوص، كانت لهم قراءة مختلفة في القرن الثالث والرابع، ولم يروا للإمامة طبيعة تفوق المستوى البشري، وإنما يرون الإمام كسائر البشر على التفصيل التالي: غالباً ما كان النزاع الفكري والاعتقادي في القرون الأولى يتركز بين المتكلمين والأصوليين من جهة وأهل الحديث والحشوية والأخباريين من جهة أخرى. وهو يشكل مجرد جانب من هذا النزاع الذي يدعو إلى التأمل. وهناك جوانب أخرى لهذا النزاع قلما حظيت بالاهتمام. إن محور النزاع بين مدرسة الكوفة وقم يكمن في (طريقة فهم الإمامة). وقد كانت أداة كلا المدرستين في القرن الثالث هي الأحاديث المنقولة عن الأئمة^. فهناك مجموعة تنقل روايات في فضائل الأئمة تفوق الطبيعة البشريّة، في حين تذهب المجموعة الأخرى إلى إنكار وثاقة أو صحة تلك الروايات. إن أصحاب الرؤية التي تثبت للأئمة خصائص تفوق المستوى البشري يصنّفون المنكرين والناقدين في عداد (المقصّرة)؛ وذلك لتقصيرهم في معرفة حقوق الأئمة وأبعادهم الوجودية، كما أن المنكرين والناقدين يصنّفون الجماعة الأولى في عداد (المفوّضة)، حيث إنهم يفوضون شؤون الله تعالى إلى الأئمة من أهل البيت^. وقد كان التساؤل في تلك الفترة يبحث عن خط الاعتدال في ما يتعلق بالاعتقاد بالأئمة. وقد عمد المتكلمون الشيعة في بغداد ــ الذين يعود لهم الفضل الأكبر في تكوين الفكر الشيعي وصياغة هويته ــ إلى التخفيف من غلواء المدرسة الكوفية، وعدّلت من تفكير بعض المنتسبين إليها ممّن اتّهم بالتفويض، بينما أعلنت حرباً شعواء لا هوادة فيها ضد المحدّثين من المنتسبين إلى مدرسة قم، وتمكنوا من رفع لواء الفكر الشيعي؛ استناداً إلى جهودهم العلمية التي أبرزتهم كخطٍّ شيعي معتدل، رغم كونها شديدة القرب من مدرسة الكوفة في ما يتعلق بالإمامة؛ حيث تشترك كلا المدرستين في إعطاء الأئمة خصائص تفوق المستوى الطبيعي.

  وعليه فإن فكرة الغلو والتفويض، التي حاربها الأئمة في القرنين الأول والثاني، أخذت تنتعش في النصف الثاني من القرن الثاني، من خلال ترميم نفسها، والابتعاد عن الإفراط في الغلو والتفويض (بمعنى منح الأئمة صفات إلهية أو تأليههم)، وتغلغلت شيئاً فشيئاً في الفكر الشيعي في قالب الاعتقاد بفضائل الأئمة التي تفوق المستوى البشري، حتى سيطر هذا التيار (الغلو والتفويض المعتدل) على الفكر الشيعي في القرن الخامس سيطرة مطلقة. فما كان يعدّ في يوم غلواً وتفويضاً أضحى حالياً من صلب المذهب، فهل نكون مخطئين إذا أسمينا هذا التطور استحالة، أي استحالة مقومات المذهب في أهم أصوله الاعتقادية؟ ولربما سُمّي هذا التطور تكاملاً.

لو أننا أخذنا أصل الإمامة في قرونها الأخيرة أمكن القول بأن خصائص الأئمة التي تفوق المستوى البشري قد أصبحت من ذاتيات المذهب، ولا يمكن إعطاء أية قراءة أخرى عن هذا المذهب. وأما إذا أخذنا التشيع من حيث تكوينه التاريخي ــ خاصة في ما يتعلق بمعارفه في القرون الخمسة الأولى ــ فسوف لا يكون بإمكاننا إبداء قراءة أخرى عن الإمامة فحسب، بل وسنتمكن من تحقيقها أيضاً، بل ويجب فوق ذلك الإعلان عن غلبة هذا الفكر في القرنين الأولين، وهيمنته على التفكير الشيعي. وعلى أية حال فإن هذه القراءة المختلفة عن التشيع حقيقة تاريخية ثابتة لا سبيل إلى إنكارها مهما كان تفكيرنا حالياً بعد مضي اثني عشر قرناً على طريقة تفكيرنا حول الإمامة.

  يمكن طرح هذه التساؤلات بشأن هذه القراءة الشيعية المنسية حول الإمامة، وهي: كيف يتمّ بيان الإمامة في هذه القراءة؟ وما هي مقوماتها؟ وما هي أدلتها من القرآن الكريم والسنة الشريفة والعقل؟ وهل كان الأئمة يثبتون لأنفسهم هذه الصفات؟ وما هي مقومات الإمامة من وجهة نظر الأئمة^؟ وأيّ فهم كان يحمله الخُلَّص من أصحاب الأئمة وحوارييهم؟ فهل كانوا يرون لهم صفات بشرية أم أنهم يرونهم فوق مستوى البشر؟ ومن هم العلماء  (ونقصد بالعلماء هنا الأعم من المختصين في علم الحديث أو التفسير أو الكلام أو الفقه) الذين كانوا يثبتون الصفات البشرية للأئمة وينفون عنهم ما سواها؟ ولماذا لم تصل إلينا مؤلّفات هؤلاء العلماء الذين يثبتون الصفات البشرية للأئمة، رغم وصول مؤلّفات التيار الذي يخالفهم؟ وهل كان ذلك وليد أسباب طبيعية أم لا؟ وما هي الأسباب التي أدت إلى غياب القراءة البشرية عن الإمامة؟ وبكلمة واحدة: إذا رجعنا إلى النصوص الدينية المعتبرة من القرآن وسنة النبي والعقل وتعاليم الأئمة أنفسهم فهل نجدها تؤيد القراءة البشرية أم غيرها؟

إن هذا المقال ليس في صدد الإجابة عن جميع هذه التساؤلات (وإن كانت الإجابة عن جميع هذه التساؤلات من جملة المشاريع التي أنوي القيام بها إن شاء الله تعالى)، وخاصة في ما يتعلق بالسؤال الخطير الذي ذكرناه في الختام، بل هو خطوة تمهيدية للوصول إلى نتيجة متواضعة مفادها:  (وجود قراءة بشرية عن الإمامة في القرون الأولى، وقد كانت هذه القراءة هي القراءة الشيعية الرسمية طوال قرنين في الأقل).

ولكن هذا المقال ــ الذي هو مقدمة لتحقيق أوسع ــ يسعى إلى الإجابة عن الأسئلة التالية:

الأول: ما هي القرائن والشواهد المعتبرة التي يمكن العثور عليها في الكتب الشيعية المعتبرة لإثبات القراءة البشرية عن الأئمة^؟

الثاني: هل يمكن التعريف بعلماء الشيعة، سواء كانوا من المتكلمين أو الفقهاء أو الرواة أو المفسرين، وخاصة من أصحاب الأئمة^، ممن كان يؤمن بمثل هذه القراءة عن الإمامة؟

الثالث: ما هي مقومات الإمامة في هذه القراءة الشيعية؟

ونسعى من خلال تقرير توصيفي تحليلي إلى الكشف عن تيار في تاريخ الفكر الشيعي ظلّ محتجباً تحت طبقة كثيفة من الغبار الذي تراكم فوقه لألف عام، وذلك من خلال تقديم شواهد معتبرة للتخفيف شيئاً ما من غرابة هذه القراءة، عسى أن نحظى بدعم القارئ الكريم، من خلال اقتراحاته وانتقاداته، نظراً إلى صعوبة الطريق ووعورة المسالك.

  1ــ الشواهد والقرائن على بشرية الإمامة ــــــ

  ونكتفي في هذا المجال بذكر ثلاثة أدلة وشواهد صريحة ومهمة عن أشهر العلماء الشيعة، أحدهم: رجالي، والثاني: أصولي، والثالث: من الفقهاء، من القرن العاشر والحادي عشر والرابع عشر. وإن جميع هؤلاء العلماء الثلاثة لم يؤمنوا بالاتجاه البشري في صفات الأئمة، إلا أنهم أنصفوا في بحوثهم العلمية، وأذعنوا بالوجود القوي والحضور الرائد للشيعة الذين يذهبون إلى الاتجاه المذكور في القرون الأولى، بوصفهم الممثلين الرسميين للتشيع آنذاك. وليست هذه الشواهد مجهولة أو مغمورة؛ والدليل على ذلك نقلها من قبل العلماء المتأخرين، واستنادهم إليها، وإن كانوا قلما يهتمون بلوازمها الاعتقادية المهمة. وسنبدأ بذكر الشواهد عن العلماء المتأخرين:

أ ـ العلامة المامقاني والتحوّل في ضروريات المذهب ــــــ

  الشاهد الأول: كتاب «تنقيح المقال في معرفة علم الرجال»، وهو عبارة عن موسوعة رجالية شيعية مفصّلة، من تأليف العلامة الشيخ عبد الله المامقاني (1351هـ). ويشتمل هذا الكتاب على أحوال جميع رواة الأحاديث الشيعية، أعم من كونهم من صحابة النبي الأكرم‘ أو الأئمة الأطهار^ ورواة الحديث إلى القرن الرابع([iii]).  وقد مهّد لهذا الكتاب بمقدمة تفصيلية حول القواعد الرجالية، وذكر في الفائدة الخامسة والعشرين من هذه المقدمة بحثاً مهماً حول موضوع اتهام بعض رواة الحديث بالغلو من قبل بعض الأصحاب. وخلص إلى نتيجة مفادها عدم صحة هذه التهمة بحق أكثر المتهمين، حيث قال: «إن أكثر ما يعدّ اليوم من ضروريات المذهب في أوصاف الأئمة^كان القول به معدوداً في السابق من الغلو»([iv]).

  وقد استند المامقاني في تحقيقه حول المتهمين بالغلو إلى هذه الحقيقة في ما يتعلق بعشرين مورداً في الأقل وبشكل مستقل([v]).

  ونبّه إلى الاختلاف الجذري حول العقائد الشيعية في السابق والحاضر، وقال في ما يتعلق ببعض الأشخاص واتهامهم بإثبات فضائل غير طبيعية للأئمة^: «إن هذا النوع من الفضائل يعّد حالياً من بديهيات وضروريات العقيدة الشيعية في العصر الحاضر»([vi]).

وهناك في هذه القاعدة التي يؤكد عليها المامقاني نقاط جديرة بالاهتمام:

الأولى: المراد من (العهد السابق) أو (سالف الزمان) الوارد في عبارة المامقاني؛ بقرينة تاريخ صدور الاتهام بالغلو، أواسط القرن الخامس على أبعد التقادير([vii]).

الثانية: بالالتفات إلى المستندات الواردة في الاتهام بالغلو يتضح أن المراد من الغلو هو إثبات الصفات التي تفوق الطبيعة البشرية للأئمة^ في ما لا يدخل طبعاً في التصرّف الاستقلالي في التكوين والتشريع، وإنما هي مجّرد فضائل خارقة للطبيعة، وأمور تفوّض إليهم بإذن الله تعالى (مما أسميناه غلوّاً وتفويضاً معتدلاً)؛ إذ من الواضح أن الذين يذهبون إلى المنهج المفرط في الغلو والتفويض خارجون عن ربقة الإسلام بإجماع المسلمين قاطبة.

الثالثة: إن الاختلاف في صفات الأئمة بين الأصحاب والعلماء كان شديداً في القرون الخمسة الأولى، حتى أن بعضهم كان يتهم البعض الآخر بالغلو والتفويض. وبعبارة أخرى: كان المتّهمون يعتقدون باتصاف الأئمة بفضائل تفوق الطبيعة، في حين ينكر من يتّهم توفّر مثل هذه الصفات في الأئمة^.

  الرابعة: إن عبارة: «إن أكثر ما يُعدّ اليوم من ضروريات المذهب في أوصاف الأئمة…» دليل على هيمنة هذا النوع من التفكير على الذهنية الشيعية في العقود العشرة الأخيرة. وتقابلها عبارة: «إن العهد السابق كان يعدّ القول بهذه الأمور غلواً». وهذه العبارة تدل في المقابل أيضاً على سيادة الفكر الذي تبنّاه منكرو الفضائل غير الطبيعية للأئمة، وهيمنة الاتجاه الذي يثبت فضائل بشرية في بيان وصف الأئمة في القرون الخمسة الأولى.

  الخامسة: لقد تعرّضت ضروريات المذهب خلال هذه القرون العشرة الأخيرة إلى تحوّلات جادّة. ولم يكن التغيّر الحادث في الأمور الفرعية والعملية هيّناً، بل كان في صلب المباحث الاعتقادية، وذلك في الأمور التي تُعدّ من (ضروريات المذهب)، وليس في ضرورة واحدة أو ضرورتين، بل شمل التغيير (أكثر ضروريات المذهب). وسنشير في هذا المقال إلى فهرسة موثَّقة عن هذه الضروريات في المذهب في ما يتعلق بصفات الأئمة المتنازع فيها بين التيارين الشيعيين المبحوثين هنا.

  ونستنتج من هذه القاعدة أن بعض ضروريات المذهب تخضع للتغيّرات على طول التاريخ، فما كان يعدّ في وقتٍ ما ضرورياً لا يعد ضرورياً في وقتٍ آخر، بل ويعتبر الاعتقاد به قبيحاً ومنكراً وغلوّاً. كما أن هذا التحول التاريخي يثبت أن ما يعدّ ضرورياً ليس ذاتياً في المذهب، وإنما هو من نتاج بنات أفكار علماء ذلك المذهب أو المتكلمين والفقهاء فيه، وإنه يقوم على فهم بشري، ولا يستند إلى العلم الربوبي بالضرورة. ورغم ذلك نجد أن الإيمان بهذه الضروريات أو إنكارها يعدّ معياراً وميزاناً للثبات على المذهب أو الردّة عنه. فنجد بعض المجدّدين قد اتهموا بالخروج عن المذهب؛ استناداً إلى مثل هذه الضروريات، في حين عدّت هذه الضروريات نفسها في وقتٍ آخر بدعة في المذهب، وصار الأتباع إلى نبذها {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}.

  السادسة: إن المحقق المامقاني نفسه لم يكن محسوباً على التيار المؤمن ببشرية صفات الأئمة، وإنما هو ينتمي إلى التيار الآخر، إلا أنه من خلال القاعدة الرجالية الآنفة يؤكد على وجود تيار قوي كان يعتقد ببشرية صفات الأئمة، وكان هذا التيار سائداً في القرون الأولى بين الأصحاب وعلماء الشيعة.

يتبع…

 ______________________________

(*) أستاذ جامعي وكاتب إيراني معروف، متخصِّص في الفلسفة، والفكر السياسي، وله كتابات عديدة فيهما، ومنها: نظريات الدولة في الفقه الشيعي، الحكومة الولائية، و…

([i]) لقد عمد الشيخ محسن كديور في محاضراته المتسلسلة إلى تسليط الأضواء على التشيّع من مختلف الزوايا، ويُعدّ موضوع (لماذا التشيّع؟ أيّ تشيّع؟) في هذا السياق المحاضرة الأولى من سلسلة المحاضرات التي أُلقيت في شهر رمضان المبارك في حسينيّة الإرشاد في طهران. ثمّ ألقى محاضرتين أخريين تحت عنوان: (إعادة قراءة التشيّع). بعد أسبوع واحد، في الكليّة الفنيّة في جامعة طهران، بمناسبة ذكرى يوم عاشوراء، والذي صادف يوم (19/بهمن/1384 هـ ش). كما ألقى محاضرة أخرى تحت عنوان: (إعادة قراءة الإمامة في ضوء الثورة الحسينيّة)، في حسينيّة الإرشاد، وقد اشتملت على جميع المطالب التي تضمنتها المحاضرات المتقدّمة، ولكن بتفصيل أكثر. وبعد برهةٍ وجيزة اختار مدينة تبريز لتكون محطته التالية لإلقاء محاضرته بعنوان: (التشيّع الحسيني)، كجوابٍ عن سؤالٍ يقول: في أيّ أمر يتعيّن علينا الاقتداء بالحسين×؟ وفي نهاية المطاف ظهرت مجموعة من هذه المطالب، التي اشتملت عليها المحاضرات المتقدّمة. في مقال تفصيلي تحت عنوان: (قراءة منسية في إعادة دراسة نظريّة العلماء الأبرار، الرؤية الأولى للإسلام الشيعي وأصل الإمامة) في العدد الثالث من مجلة (مدرسة) الفصليّة، بتاريخ أرديبهشت من عام 1385 هـ ش. ورغم أنّ محاضرة محاضرات وكتابات الشيخ كديور، وردود الأفعال، وقاً لتسلسل انتشارها، ونضعها بأجمعها بين يدي القارئ الكريم ليقف على دقائق المسائل بشكل تفصيلي. (وقد سعينا لدمج أكثر هذه النتاجات ضمن هذا المقال الموحّد ـ التحرير).

([ii]) إن هذا الجزء من كلامه ناظر إلى البحث الذي ألقاه الدكتور سروش حول (التشيع وتحدي الديمقراطية)، في شهر تير من عام 1384هـ ش، للتفصيل أكثر راجع: (آيينه أنديشه)، العدد الثاني.

([iii]) الذريعة إلى تصانيف الشيعة 4: 467.

([iv]) تنقيح المقال، المقدّمة 1: 211 ـ 212.

(3) استفيدت هذه القاعدة ضمن ترجمة أحوال هؤلاء الرواة: أحمد بن علي أبو العباس الرازي (1: 69)، جعفر بن محمد بن مالك بن عيسى الفرازي (1: 226 ـ 225)، جعفر بن محمد بن المفضل (1: 226)، أبو عبد الله حسين بن شاذويه (1: 331)، حسين بن يزيد بن نوفليه (1: 349)، خيبري بن علي الطحان الكوفي (1: 404)، داود بن قاسم بن إسحاق، (1: 414 ـ 412)، عبد الله بن عبد الرحمن الأصم (2: 196)، عبد الله بن قاسم (2: 202)، أبو جعفر محمد بن أورمة القمي (2: 83)، محمد بن بحر الرهني (2: 86)، أبو عبد الله محمد بن سليمان الديلمي (3: 122)، محمد بن سنان (3: 123)، محمد بن فرات الأحنف (3: 170)، محمد بن فضيل بن كثير (3: 173)، أبو جعفر محمد بن موسى بن عيسى (3: 193)، المعلى بن خنيس (3: 232)، المفضل بن عمر (3: 242)، موسى بن سعدان الحناط (3: 256)، سفر بن صباح القمي (3: 268).

(4) ومن بينهم في التراجم: محمد بن سنان، ومحمد بن سليمان الديلمي، وعبد الله بن عبد الرحمن الأصم البصري، وأبو جعفر محمد بن أورمة القمي، وجعفر بن محمد بن مالك بن عيسى الفرازي.

([vii]) ابن الغضائري (450هـ).

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً