أحدث المقالات
تحديد المصطلح والمفهوم
ليس هناك أي إبهامٍ في المدلول اللغوي لمصطلح البلورالية (بلوراليسم)؛ فـ PLURAL تعني الكثرة والجمع، والبلورالية تعنـي القبول بهذه الكثرة والتعدد.
إن الاصطلاح المعروف للبلورالية مستمدٌّ من الثقافة الغربية، فقد كان متداولاً في البداية في العرف الكنسي، بحيث إنهم كانوا يطلقون كلمة البلورالية بحق ذاك الشخص الذي يمتلك عدة مناصب كنسية.
بيد أن هذا الاصطلاح قد اكتسب مدلولاً معاصراً آخر في الميدان الثقافي وصار يعني في المجال الفكري والديني ضرورة تقبّل العقائد والمناهج المختلفة. فبعد اتساع مجال الارتباط بين المجتمعات المختلفة لا سيّما بعد الحروب الدينية والمذهبية الشديدة (أعم من الحروب الصليبية بين المسيحيين والمسلمين والحروب بين أتباع المذاهب المسيحية أنفسهم والتي ما تزال مستمرةً حتى اليوم بين الكـاثوليك والبروتستانت سيما في أيرلندا التي تمثل نموذجاً بارزاً في هذا الإطار في الفترة الأخيرة) وبعد الآثار السيئة جداً التي خلّفتها هذه الحروب، بعد كلّ ذلك تعزّز الاعتقاد بضرورة الاعتراف بالمذاهب الأخرى والدخول في مرحلة السلم معها، وبأن حصول الانسجام بين المذاهب والمدارس الفكرية المتعددة يصب في مصلحة المجتمع كلّه، فهذه الحروب فرضت تقبل المصالحة بين الأديان وذلك بهدف – لا أقل – تخفيف الأرضية الباعثة على اندلاعها واشتعالها.
معاني التعدّدية الدينية
من الواضح انه لا يوجد تعريفٌ كاملٌ وجامعٌ للخصوصيات المتّفق عليها للتعددية يمكن أخذه هنا، إلا أننا سوف ندرس ثلاثة أنواعٍ من الاستخدامات لهذا المصطلح وهي:
المعنى الأوّل:
1 – المداراة والتعايش السلمي الهادف إلى الحيلولة دون وقوع الحروب والخصومات، وبعبارةٍ أخرى إنّ التعدّد والكثرة يجري قبولهما هنا كواقعيّةٍ اجتماعية؛ إذ إنه ليس في صالح المجتمع أن يعمل كل طرفٍ على إلغاء الآخر بل المطلوب هو أن يكون هناك نوعٌ من التعايش دون صيرورة الجميع شيئاً واحداً.
إن هذا النوع من التعددية لا يعني بالضرورة أننا نقول بالكثرة في عالم الحقيقة، بل الكثرة هنا إنما هي على مستوى الواقع الاجتماعي والتي لا تنافي اعتقاد كل فئةٍ بأنّها على الحق، أي أن كل فئةٍ تعتبر نفسها من الناحية النظرية على حقٍّ فيما الآخرون على باطل، أما من الناحية العملية فإنها رغم ذلك تنسجم مع الآخرين.
هذا هو أحد معاني التعددية الذي يمكن أن يكون له حضورٌ في مجالات عديدة.
فعلى المستوى السياسي من الممكن أن تكون هناك أحزابٌ متعددةٌ تؤمن بمبادىء إعتقادية مختلفة وتدافع عنها إلا أن هذه الأحزاب لا توقع الخصام فيما بينها؛ فمثلاً بعد الحصول على أكثرية الآراء يقوم ـ عملياً ـ حزبٌ أو ائتلاف أحزابٍ بتشكيل الحكومة، وهذا هو تقبل وتحمّل الآخرين على الصعيدين السياسي والاجتماعي. إلا أن الاعتقاد النظري لكل فريقٍ بتصوّراته ومبانيه الفكرية ما يزال ـ مع ذلك ـ قائماً، بل حتى الصراع في دائرة الكتب والنشريات ومجالس البحث والمناظرات هو الآخر ما يزال موجوداً، فكلّ شخصٍ يدافع عن اتجاهه ويصرّح بأنّ النظريات الأخرى غير صحيحةٍ بنظره، إلا أنّه في مقام المعاشرة الاجتماعية والسياسية يبدي تعاوناً مع الآخرين.
وهكذا الحال في إطار الأديان والمذاهب فإن الفرقتين الدينيتين أو المذهبيتين في عين الوقت الذي تختلف فيه توجهاتهما الخاصة تقومان باحترام بعضهما البعض وتتجنبان عملياً أي نوعٍ من المواجهة والتخاصم؛ فمثلاً الشيعة والسنّة في العالم الإسلامي لابد لهما من العيش في أجواءٍ من المداراة والأخويّة، نعم هناك من يعتقد بأنّ أتباع المذهب الآخر لا بد أن يزالوا من على خارطة الوجود، ومثل هذه التوجّهات كان لها وجودٌ في الماضي وما يزال لها وجود اليوم أيضاً بدرجةٍ أو بأخرى في بعض المناطق، فهناك التعصب الشديد الذي يرى أن المذاهب الأخرى خارجةٌ عن الإسلام كلياً ويعتبر أن أتباع هذه المذاهب هم مشركون وينسب إلى أكثرية المسلمين ـ وبكل بساطةٍ ـ الشرك والكفر والإلحاد، إلاّ أنّه وفي مقابل ذلك هناك من يرى أن المذاهب الأخرى يمكن قبولها وهذا هو التعايش، أي أنه يمكن أن تمارس الحياة الإسلامية مع هؤلاء، وذلك مع اعتقاد كلّ إنسانٍ بأنّ نظره هو الصحيح فيما رؤى الآخرين ليست كذلك، ومع ذلك فهناك نوعٌ من التعايش الأخوي في المجال العملي.
هذا هو أحد مفاهيم التعددية وهو من وجهة نظرنا مقبولٌ تماماً وهو مورد قبول الإسلام أيضاً.
إننا نقبل بهذه التعددية بين فرقتين من مذهبٍ واحدٍ أو مذهبين من دينٍ واحدٍ أو بين دينين إلهيين؛ فمثلاً أتباع الإسلام والمسيحية واليهودية ليس هناك من تصادمٍ مباشرٍ بينهم بل أنهم يتعايشون بكل احترامٍ وأدبٍ في ظل حياةٍ مسالمةٍ، فهم يتباحثون ويتناظرون فيما بينهم وهم مع ذلك متقاربون متجاورون وهناك تلاقي بينهم وتجارة. وعلى كلٍّ فهذا النوع من التعددية لا ربط له بالفكر والنظر.
إذا فسّر أحدٌ التعددية بهذا الشكل فإن هذا المعنى موجودٌ في الإسلام، فهناك تأكيدٌ في القرآن الكريم وفي سيرة النبي (ص) وأهل بيته (ع) على العلاقات بين الفرق الإسلامية المختلفة. إنّ شعارنا هو وحدة الشيعة والسنة، وهذا الموضوع مطروحٌ منذ زمن الأئمة (ع) فقد كان يجري تشجيع الشيعة وأهل السنة على المشاركة في الصلاة وتشييع الجنائز وسائر الأمور الأخرى التي تقوم بها كل فرقة؛ وكذلك تشجيعهم على الذهاب لعيادة مرضى بعضهم؛ وإذا كانوا قادرين على المساعدة فليفعلوا، وأمثال هذه النصائح والتوجيهات التي كان لها وجودٌ ـ ومنذ صدر الإسلام ـ بين الفرق الإسلامية المختلفة وكذلك بين الأديان المختلفة أيضاً.
إنّ لدينا آياتٍ كثيرةٍ في هذا المجال ناصّةٍ على أنه "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم" إن الله لا ينهاكم عن الارتباط مع هؤلاء، أي فليكن لكم معهم روابط صداقةٍ وإحسانٍ، وكذلك من الضروري أن يكون سلوككم معهم سلوكاً عادلاً. إن هناك آياتٍ صريحةٍ بهذا الخصوص ولسنا بحاجةٍ إلى الآيات المتشابهة والتي يوجد خلافٌ في تفسيرها. وعلى أي حال فهذا الأمر يعدّ من قطعيات الإسلام وليس هناك من شكٍّ بين العلماء المسلمين ـ سواءٌ الشيعة أو السنة ـ على أن الإسلام يوافق على تعايش سلمي مع أهل الكتاب. من الطبيعي أن هناك تمايزاتٍ ناشئةٍ عن قبول أهل الكتاب بذلك، إذ إنهم يعملون طبق قوانينهم، أما المسائل المشتركة والعلاقات المتبادلة فهناك حلولٌ أخرى لها؛ فهل يدفعون الضرائب الإسلامية أو لا؟ إن المسلمين يدفعون هذه الضرائب طبقاً لوظائفهم الشرعية ويقدّمون الخمس والزكاة بنية القربة، إلا أنه ماذا يفعل أولئك الذين لا يشعرون بأن الخمس والزكاة من وظائفهم الشرعية؟ لقد طرح فيما يتعلق بهم تأدية الجزية، وهذه مباحث مختلفة يجري طرحها في الفقه والحقوق، إلا انه وعلى كل حال فقد جرت الموافقة على وجود تعايشٍ سلميٍّ بين عدة أديانٍ إلى جنب بعضها البعض.
يستند أولئك الذين يطرحون موضوع التعددية إلى شواهد من هذا القبيل، ولعلهم يقولون بأن الإسلام قد قبِل اليهود والنصارى، فهم يعتمدون على هذه الآيات نفسها بيد أنهم مع ذلك يخرجون بنتائج مغايرة، فهم يستنتجون مثلاً المعنى الثاني أو الثالث للتعددية في حين أن تلك المعاني لها وضعها الخاص الآخر والذي سنبحث فيه إن شاء الله تعالى.
المعنى الثاني
2 – إن هناك ديناً واحداً جاء من الله تعالى إلا أن له مظاهر متعددة؛ فالمسيحية واليهودية والإسلام ـ بالمعنى الخاص له ـ وكل الأديان ما هي إلا مظاهر لحقيقةٍ واحدةٍ؛ فالاختلاف ليس قائماً في جوهر الأديان وإنما هو في فهم الدين، فهناك من فهم ذاك الأمر الإلهي بصورةٍ خاصّةٍ فصاروا يهوداً، وهناك مجموعةٌ أخرى فهمت بشكلٍ آخر وأصبحت مسيحية، فيما فهمه جماعةٌ آخرون بشكلٍ ثالثٍ وأصبحوا على ضوء ذلك مسلمين، فالحقيقة واحدة هنا، أما الحقيقة العارية فليست بيد أحد، وإنما يقوم كلّ شخصٍ بإدراك مظهرٍ من مظاهر هذه الحقيقة الأمر الذي يكون من وجهة نظره صحيحاً.
إنّ البحث في الصحة والبطلان ليس له معنى من الأساس، فعلينا أن لا نقول بأن هذا المذهب صحيحٌ وذاك باطلٌ أو أن هذا الدين صحيحٌ وذاك باطلٌ، فهذه الأبحاث ليس لها مكانٌ أصلاً، وذلك لأن كلّ شخصٍ يحصل على إدراكٍ لهذه الحقيقة طبقاً لذهنيته وظروفه الخاصة.
هذا الكلام خطأ طبعاً؛ وإلا فلماذا تعرّض الأنبياء لأتباع الديانات السابقة؟ فهذا القرآن الكريم يتكلّم عن المسيحية مثلاً ويقول: "كبرت كلمةً تخرج من أفواههم" أي إنّ هذا الكلام الذي تقولونه من أن الله له ولدٌ هو كلامٌ خاطىء جداً وهو افتراءٌ عظيم، أو "تكاد السماوات يتفطّرن" (من مثل هذا الكلام)، إن هذا تعرّض للأديان الأخرى، فما هو العمل مع ذلك؟ لقد هيئ أصحاب هذا التفسير للتعددية جواباً لهذا الأمر، غايته أنهم قد لا يرون صلاحاً في التصريح فيتكلّمون عن طريق المواربة وأحيانا تكون هناك ظروفٌ تجعلهم يتكلّمون بصراحة.
إن جوابهم هو أن ما بأيدينا ليس كله كلمةً كلمةً من الوحي الإلهي، فإنّ النبي ـ أيّ نبيٍّ ـ يتلقّى الوحي وفقاً لذهنيته الخاصة، ومن الممكن أن يكون قد حصل عنده اشتباهٌ في هذا الأمر بحيث لا يكون الله تعالى قد قاله ومع ذلك فالنبي قد تلقاه على هذه الشاكلة. إذاً فحتى الأنبياء أنفسهم من الممكن أن يكون قد حصل لهم اشتباهٌ في فهم هذه الحقيقة، وأساساً ليس هناك ما يضمن صحّة فهمهم، فهم بشرٌ أيضاً وفهمهم هو فهمٌ بشريٌّ ومرهونٌ بظروفهم الذهنية الخاصة، وهذه الظروف والشروط مرتبطةٌ بمعارفهم التي حصّلوها عن طريق العلوم الأخرى.
وعليه فالمعرفة الدينية ـ حتى معرفة الأنبياء ـ تابعةٌ للمعارف العلمية، السياسية، الاجتماعية، وللقيم الحاكمة على المجتمع؛ فإن مجموع هذه الأمور هو الذي يولّد فهم الإنسان، وبناءً عليه تأخذ التعددية لنفسها هنا معنى آخر، فان الظاهر منها هو أن هناك اعترافاً بوجود حقيقةٍ واحدةٍ وثابتةٍ إلا أن عمق المسألة هو في عدم قدرة أي إنسانٍ ـ حتى النبي ـ العثورَ على هذه الحقيقة، فحتى الأنبياء ليس لديهم إمكانات ذلك، وبالتالي فالحقيقة لله تعالى فقط.
وفقاً لما تقدّم يطرح التساؤل التالي نفسه وهو أنه كيف نثبت الله تعالى نفسه؟ فهل مثل هذا الشيء يقبل الإثبات أم لا؟ وكيف يمكن إيجاد الرابطة معه؟ أساساً هل يمكن أو لا؟ إن ذلك بحثٌ آخر والظاهر أنه لا جواب له.
لنفرض أن الله تعالى موجودٌ وأنّ الوحي عبارةٌ عن أمرٍ واقعيٍّ إلا أنه على أي حال فانهما خارجان عن متناول أيدينا ولا يدخلان في دائرة معارفنا، فإن الشيء الذي يقع بأيدينا إنما هو حصيلة استنتاجات الأنبياء أنفسهم فحسب، فعلى المستوى الإسلامي مثلاً يمكن القول بأنه ما أكثر الاستنتاجات التي خرج بها نبي الإسلام (ص) من الوحي قبل 1400 سنة، والتي كانت تابعةً لمعارفه الطبيعية، المادّية، الاجتماعية، ولقيم زمانه التي كان يرجع إليها، إلا أن العلوم اليوم قد أبدت تطوراً، ففيزياء اليوم متفاوتةٌ تفاوتاً كبيراً مع فيزياء الأمس، وعلم الفلك اليوم صار يمتلك نظرةً أكثر واقعيةً من علم الفلك القديم، وبناء عليه يمكننا نحن أن نفهم بشكلٍ أفضل بكثيرٍ مما فهمه الأنبياء أنفسهم.
وعلى أي حال فإن ما يستحصله الإنسان حتى الأنبياء لا يمكن أن يحوز على الصحة والضمانة المطلقة، فليس هناك حقيقةٌ إلهيةٌ ثابتةٌ، وهذه الحقيقة ليست في متناول يد أحد، والشيء الذي يقع تحت تسلّطنا إنما هو مجموعةٌ من الأفهام المختلفة التي لا يمكن أن ندعي وبصورةٍ قاطعةٍ ما هو الصحيح أو الأفضل منها. نعم يمكن ترجيح فهمٍ على فهمٍ آخر من خلال مجموعةٍ من القرائن، فمثلاً ـ مع الأخذ بعين الاعتبار التطوّر الواسع للعلوم المعاصرة ـ يمكننا القول بأن فهمنا أفضل من فهم القدماء، لكن في النهاية كلّ إنسانٍ لديه فهمٌ خاصٌّ عن دينه، فأتباع المسيحية واليهودية والإسلام كل واحدٍ لديه فهمٌ خاص به، ولا يمكننا أن نجعل واحداً من هذه الأفهام أرجح من الآخر، فليس هناك صراطٌ مستقيمٌ واحدٌ، وإنما طرقٌ مستقيمةٌ ومختلفةٌ كلٌّ منها يمكن اعتباره صحيحاً، وبعبارة أخرى تؤثر الظروف (كالظروف العلمية الحاكمة على المجتمع، الأوضاع المادية، المحيط الاجتماعي) في إيجاد فهمٍ لدى فردٍ ما بحيث يعتبره صحيحاً فيما ينفي وجود طريقٍ آخر.
هذه التعددية تعني القبول بعدة أشكالٍ للفهم وعدة أنواعٍ للاستنتاج وعدة أنماط أيضاً للمعرفة بحقيقةٍ واحدةٍ، حتى لو كانت متضادّةً مع بعضها البعض.
طبعاً "الحقيقة الواحدة" ليست سوى مجرّد فرضٍ نفرضه نحن هنا، وإلا فمـا نقولـه من الحقيقـة الواحـدة إنما يمثل الحـد الأعلى من فهمنا نحن، وهو فهم خاص بنا ولعله ليس صحيحاً أيضاً. إذا كان هناك مثل هذه الحقيقة الواحدة فهي ليست في متناول أيدينا والشيء الذي في متناولنا إنما هو الأفهام المختلفة والتي لا ترجيح بينها. وبناءً عليه فلا بد من قبول الجميع، وتصحيحه، وتجنّب الحديث عن فهمٍ خاطىء.
ووفقاً لذلك لا يحق لنا القول بأن المسلمين يفكّرون بشكلٍ أصحّ من المسيحيين أو العكس، وأساساً ليس هناك فيما نحن فيه معنى للجيد وغير الجيد، الصدق وعدم الصدق، وليس ثمة دليل على ترجيحٍ واحدٍ على آخر، أو التعصّب والحديث عن ضرورة صيرورة الآخرين مثلنا وأن يفكّروا على طريقتنا.
وهكذا الحال داخل دائرة الدين الواحد أيضاً فلا ترجيح لمذهبٍ على آخر، كما لا يوجد دليلٌ على اعتبار هذا الاستنتاج مقدّماً على ذاك أو هذا المسلك مرجّحاً على الآخر.
المعنى الثالث
3 – ليس هناك من حقيقةٍ واحدةٍ؛ أي أنه ليس هناك حقيقة واحدة حتى بالشكل المتقدم المفروض لها، بل الحقائق نفسها متعدّدة وكثيرة.
لقد كان التفسير الثاني المتقدّم يفترض وجود حقيقةٍ واحدةٍ ـ باسم الإسلام ـ مقبولةٍ ومعترفٍ بها عند الله تعالى على أنّها الحق، غايته أنها ليست في متناول أيدينا، ولهذا يمكن القول بأن كل ما يفهمه أي شخص هو حق. أما الرؤية الثالثة هنا فهي رؤيةٌ مختلفة؛ إذ تقول بأنه أساساً ليس هناك ـ حتى باطناً وواقعاً ـ حقيقة واحدة بل الحقائق كثيرة.
يختزن هذا النوع من التعددية إشكالاتٌ أكثر؛ إذ إننا نواجه هنا تناقضاً، فلا يمكن القول بأن الوجود والعدم، الصدق والكذب، متجامعين، كما لا يمكن القول بأن الصدق صدقٌ والكذب صدقٌ أيضاً، وهكذا لا يمكن القول بأن التوحيد صحيحٌ والشرك صحيحٌ أيضاً وأنّهما مترافقان في الحقيقة.
إن التعددية من النوع الثالث مستهجنة وغير مستساغة أبداً وهي أكثر إثارةً للتعجب من النوع الثاني لها، فإنها تقول بان كلا القولين في الواقع صحيحان، وهذا النوع من التعددية مذمومٌ جداً إذ إنه يذهب إلى أن العقائد المتناقضة كلّها حقيقية ومعتبرة حتى مع قطع النظر عن اختلاف أفهامنا.
الصيغة المعدّلة للمعنى الثالث للتعددية
نعم هناك شكلٌ معدلٌ لهذا النوع من التعددية يمكن اعتباره بمثابة نوعٍ رابعٍ لها، إلا وهو أن الحقيقة عبارةٌ عن مجموعةٍ من الأجزاء والعناصر التي يمكن العثور على واحدٍ منها في كلّ دينٍ من الأديان، ومن هنا فالحقيقة ليست أمراً وحدانيّاً متعلّقاً بموضوعٍ واحدٍ، وبالتالي فليس لدينا دين جامع، وإنما مجموعة من الأديان تشتمل على حقيقةٍ واحدةٍ بحيث إنّ كلّ واحدٍ منها يشتمل على بعضٍ من هذه الحقيقة؛ ففي الإسلام يمكن العثور على قسمٍ من هذه الحقيقة فقط، ويمكن العثور على قسمٍ آخر في المسيحية، وعلى قسمٍ ثالثٍ في اليهودية، ورابعٍ في عبادة الأصنام. وباختصار ليس هناك أي دينٍ يمكن أن يكون جامعاً للحقائق كلّها وخالصاً من الباطل كلّه، وكذلك لعله ليس هناك أي دينٍ لا يمتلك أي سهمٍ من الحقيقة.
هذه التعددية تعني أنه يمكن العثور على قسمٍ من الحقيقة في دينٍ ما؛ ومن هنا فلا يمكن للمسلم ولا لأي شخصٍ آخر أن يقول بأن ديني قد وصل إلى الحقيقة كلّها. هذه هي الصيغة المعدّلة لنظرية التعددية ذات النوع الثالث.
حسناً، في النظرية الثالثة كانوا يقولون بالنسبة لقضيةٍ واحدةٍ (ذات موضوعٍ ومحمولٍ واحدٍ) مثل "الله واحد" أو "الله متعدّد" يقولون بأن الاثنين صحيحان، فالله واحدٌ قضيةٌ حقيقيةٌ، وكذلك الله غير واحدٍ أيضاً قضيةٌ حقيقيةٌ!! فهل من الممكن أن يكون هناك من يعتقد بمثل هذا الكلام؟! أو أن القائل به في الحقيقة ليس إلا الشكاكون.
إن الشكّاكية ناشئةٌ عن رؤيةٍ معرفيةٍ لهؤلاء الأفراد الذين يقولون بأن التناقض غير محال أساساً. لقد بينتُ بأن هذه النظرية تعد من النظريات القبيحة؛ لأن الفهم العام للبشر ـ وكل العقلاء والسالمين ـ لا يمكنه القبول بمثل هذا الكلام، فإن هذه التعددية تستلزم التناقض، إلا انه وعلى أية حال هناك أفرادٌ عديدون من البشر وعلى مرّ التاريخ كانوا يعيشون في أجواءٍ من هذا القبيل، فهناك عل سبيل المثال من ظهر وقال بأنه ليس هناك وجود أصلاً (غورغياس)، وإذا كان موجوداً فهو غير قابل للمعرفة، وعلى تقدير كونه قابلاً للمعرفة فهو غير قابلٍ للتعريف للآخرين. هذه الكلمات أطلقها شخص (يعتبر ويسمّى فيلسوفاً)، وقد طرحت في الكتب الفلسفية، ومن الطبيعي أن مثل هذا الشخص الذي يرى أن الوجود لا واقعية له، وأنّه من الأساس غير قابلٍ للمعرفة سوف يذهب ـ وبكل بساطةٍ ـ إلى القول بإمكانية التناقض.
لقد تقدّم أنه لا توجد لدينا أية مشكلةٍ مع المعنى الأوّل للتعددية، فقد قبل الإسلام التعايش السلمي مع الأديان الإلهية (دون الشرك)، بل يمكن وفي ظروفٍ معينةٍ توقيع معاهدة تعايشٍ سلميٍّ بين المجتمع الإسلامي والمجتمع المشرك، بحيث انه ما دام الطرف الآخر غير متخلّفٍ عن هذا التعاقد فان رعايته من طرف المسلمين تكون واجبةً، وهذه مسألةٌ مذكورةٌ في أحكام العلاقات الدولية للإسلام، كما كان الحال في ذاك التعاقد الذي كان حاصلاً بين المسلمين والمشركين في صدر الإسلام إلا أن المشركين قاموا بخيانته.
إن الإسلام يقول بأنه مادام الطرف الآخر ملتزماً بتعهّداته فعلى المسلمين أن لا يخلّوا بهذه التعهدات. إذاً فالتعايش السلمي مع الأديان الإلهية وحتى المشركين موجودٌ في الفقه الإسلامي، وحتى في داخل الحكومة الإسلامية (اليوم) هناك في الجملة نوعٌ من التعددية المعترَف بها بين الأديان الإلهية، إنّنا نحن المسلمين نعرف ونخبُر الفرق والمسالك المختلفة في المذهب الواحد وأيضاً الفتاوى المختلفة داخل المسلك الواحد، وهو أمرٌ ليس جديداً علينا.
هذا هو المعنى الأول للتعددية القابل للتأييد.
أما المعنى الثاني للتعدّدية والذي يمنح عدة نظرياتٍ في عرض بعضها البعض الاعتبارَ والقيمةَ، فيمكن قبوله بشكله الساذج (ولو أن البعض ليس مائلاً لسماع ذلك)؛ وذلك لأننا في ديننا نملك مجموعةً من الضروريات والقطعيات التي إذا أنكرها شخصٌ ما فإنه يكون خارجاً عن الدين، وإذا قبلها فإننا نحسبه مندرجاً في سلك المتدينين، إلا انه وبغض النظر عن هذه المحكمات والضروريات فان لدينا اختلافاً في بعض المسائل الجزئية؛ فمثلاً في الفقه الشيعي هناك نظرياتٌ فقهيةٌ مختلفةٌ داخل إطارٍ معين، فالذي يخرج عن هذا الإطار يكون خارجاً عن مذهب الشيعة، أي أننا لا نعتبره شيعياً من الناحية النظرية، كما هو الحال في إنكار شخصٍ ما أصلاً من أصول الإسلام فإننا لا نعتبره مسلماً، إلا أنه توجد داخل أطر القضايا المحكمة للمذهب مجموعةٌ من المسائل تعدّ نظريةً (غير بديهية)، أي إنه بالرغم من أن كلّ الشيعة يؤمنون بالأئمة الاثني عشر، إلا أن هناك افتراقاً في فتاوى الواحد منهم عن الآخر، فمثلاً الفقيهان اللذان بالرغم من انهما يتحرّكان في داخل الإطار الديني يوجد بينهما اختلافاً في وجهات النظر في مسألة فقهية، ففقيه يقول بأن ما وصل إليه هو الصحيح فيما الأنظار الأخرى باطلة والآخر كذلك، إلا أن نظرهما لا يتجاوز حدود الظن، تماماً كالكثير جداً من المسائل الفقهية والتي هي في الأصل ظنية، ولهذا يمكن أن يكون لفقيهٍ واحدٍ عدة فتاوى في أزمنةٍ مختلفةٍ، فهو يفتي اليوم بشيءٍ إلا أنه في السنة القادمة ونظراً لتواجهه مع دليلٍ جديدٍ يقوم بتغيير فتواه، أو أن يتعرّض مرجعٌ معينٌ للوفاة فيأتي مرجعٌ آخر تخالف فتاواه فتاوى من قبله.
هنا نحن نقول بأن الاثنين معذوران، ولا ندّعي بأن الحقيقة ملك طرفٍ من الطرفين ـ أي طرفٍ كان ـ وأنّها تُجانب الطرفَ الآخر، فمثلا ظنّي هو أن صلاة الجمعة واجب تخييري في حين أن ظنّ الآخر هو أنها واجب تعييني، (وطبعاً لا نريد هنا أن نستخدم اصطلاح التصويب، إذ انه اصطلاحٌ خاصٌّ ذا معاني متعددة…) إلا أننا على أي حال نقبل برأي كلا الفقيهين في المسألة الواحدة، ولا يدّعي أي منهما بأن فتواه حتماً هي عين الواقع. نعم من الممكن أن تكون فتوى ذاك الطرف هي الصحيحة، إلا انه حيث كانت فتواي على هذا فعلي العمل بها.
إنّ هذا الوضع موجودٌ في نطاقٍ محدودٍ من الأحكام الظنية، وهو مطروحٌ في بعض المسائل الاعتقادية أيضاً وليس منحصراً بالمسائل الفقهية، فمثلاً على مستوى الاعتقادات الجزئية لنفرض أن سؤال الليلة الأولى في القبر يكون لأي بدن؟ هل للبدن الجسماني أو البدن المثالي أو الروح؟ إن هذه الاعتقادات نظرية، وهناك اختلافاتٌ فيها بدرجةٍ من الدرجات. وهنا أيضاً لا يدّعي أحدٌ بأنّني وصلت إلى الحقيقة قطعاً فيما الرؤى الأخرى كلّها باطلة.
إذا أراد شخصٌ أن يعبّر عن ذلك بأنّه نوع من أنواع التعددية فليس لدينا – ولا هناك – أية مشكلةٍ ما دام غير متجاوزٍ حدودَ المسلّمات الدينية والمذهبية، أي أنه يمكن أن يكون هناك اختلافٌ في وجهات النظر في نطاقٍ محدّدٍ من المسائل النظرية، إلا أن ذلك لا يعني أن الجميع صحيحٌ.
لقد كانت التعددية من النوع الثاني تعني أيضاً أن الاختلافات الحاصلة في المعرفة الدينية ليست قابلةً أصلاً ومطلقاً للمحاكمة، وهذا باطل حتماً؛ أي انه لا معنى للقول بأن الحقيقة غير ممكنة التناول بالنسبة للبشر إلى الدرجة التي لا يمكننا القول فيها بأن التوحيد حقٌّ أو الشرك؟ ليس هناك من شكٍّ في أن هذا النوع من التعددية باطل؛ إذ إن ذلك من قطعيّات الإسلام وضروريات القرآن الكريم.
والحصيلة هي أنّنا لا نقبل التعددية إلا في إطار المسائل الظنية التي لا يوجد طريقٌ للقطع بها ولا تتوفّر غير الأدلة الظنية لها لا مطلقاً، أما التعددية التي تعني الشكّاكية فإن البحث حولها يتطلّب تحليلاً آخر، إذ ما هي جذور هذه التعددية؟ وما هي أسبابها التاريخية؟ لماذا ظهرت وإلى أين توصل؟ إن هذا ما يستدعي بحثاً مفصلاً ومنفصلاً عما نحن فيه.
ترجع هذه التعددية إلى الاختلافات التي وقعت بين الكنيسة والنظريات التجريبية منذ زمن غاليلو وكوبرنيكوس، فقد كان البحث متداولاً في تلك الفترة حول مسألة التعارض بين الديانة المسيحية وبين العلم، وهذا الوضع ليس موجوداً في الإسلام على الإطلاق، وأساساً نحن لسنا بحاجةٍ إلى طرح مثل هذه المواضيع.
في الحقيقة تعبّر التعددية بهذا المعنى عن مفهومٍ مستوردٍ، فالمسألة هي أن بعض الأشخاص في الغرب وفي أوروبا شعروا بالحاجة إلى طرح هذه المسائل لأجل حلّ التعارضات التي كانت قائمةً بين العلم والكنيسة، وقد أدّى بهم ذلك إلى أفكارٍ من هذا القبيل؛ فقد قالوا مثلاً بأنه لا توجد معارف يقينية فيما يتعلّق بالمسائل الدينية، ولا توجد هناك أي مرجّحاتٍ بين هذه المعارف، وحيث إنهم كانوا مضطرين إلى حلّ هذا المشكل الاجتماعي صاروا مجبرين للتوصّل إلى نتائج من هذا القبيل، أما المسلمون فأي مشكلةٍ من هذا القبيل واجهوا حتى يكونوا مضطرين للتوصل إلى نتائج من هذا النوع؟ إذاً بالنسبة لنا لم تكن لدينا أي دوافع تجرّنا إلى مثل هذه التعددية، إذ لم نواجه مثل هذا التعارض ولم يكن مطروحاً في أوساطنا.
التعددية بالمعنى الثالث باطلةٌ مطلقاً وغير قابلةٍ للقبول؛ فنحن نحكم بمقتضى العقل ـ بالنسبة إلى أي قضيةٍ من القضايا ـ فنقول بأن وجهها الإيجابي هو الصحيح أو وجهها السلبي، أما القول بأن إيجابها صحيحٌ وكذلك سلبها فإنّ هذا غير معقول ويعبّر عن تناقض، وبالتالي فهو بديهي البطلان.
يمثّل الإسلام حصيلة الأديان كافةً، وهذه الأديان تعبّر عن مقدمةٍ وتهيئةٍ له. إننا نرى الإسلام كاملاً وجامعاً؛ فنصوصنا القرآنية تتحدّث عن ذلك، وهذا الأمر يمثل حصيلة فهم كافّة علماء الشيعة والسنة وكافة الفرق الإسلامية على مرّ التاريخ. لقد دعي أهل الكتاب إلى الإسلام وإلى إطاعة الرسول (ص)، كما جرى توبيخهم على عدم قبولهم ذلك، إذا كنتم ترون نبي الإسلام حقاً فلماذا لا تنضمّون تحت لوائه؟ إن هناك مثل هذه الآيات الصريحة في القرآن الكريم.
إذاً التعددية بالمعنى الثالث والرابع غير قابلةٍ للقبول، ومن وجهة نظرنا فإن الإسلام هو الدين الواجد لكافة الحقائق الدينية، نعم من الممكن أن تكون بقية الأديان محتويةً على قسمٍ من الحقيقة، ففي اليهودية هناك حقيقةٌ معينةٌ، وكذلك الحال في المسيحية، إلا أن ذلك مخصوصٌ بما لا يكون فيه تعارضٌ مع الإسلام.
وبعبارةٍ أخرى فتلك الحقائق موجودةٌ أيضاً في الإسلام إلا أن الجامعية إنما هي فيه، أمّا بقيّة الأديان فمن الطبيعي أنها تحوز على قسمٍ من الحقيقة، وإلا لما بقيت، وأساساً بقاء أي دينٍ أو توجّهٍ إنّما هو لاشتماله على قسمٍ وجزءٍ من الحقيقة، وإلا فإذا كان بطلاناً محضاً فانه لن يكون له وجودٌ أصلاً. نعم نحن نوافق على هذا المعنى وهو أن في بقية الأديان قسطاً من الحقيقة، لكن لا بحيث إن أي دينٍ إنما يشتمل على قسم من الحقيقة فقط لا كلها، فإن الدين الإسلامي جامعٌ لكافة الحقائق الدينية، وإذا قبل إنسانٌ ما هذا الدين فإنّ إيمانه هذا يكون مقبولاً، وإلا ـ فإذا أنكر الحقيقة ـ فإنه لن يكون مقبولاً عند الله تعالى.
من الطبيعي أن البحث في الموضوع من وجهةٍ دينيةٍ خارجيةٍ لا بد فيه ـ بدايةً ـ من السؤال عن أنه ما هو ملاك تشخيص الحقيقة؟ وما هو الذي نعتبره ملاكاً للأفضلية حتى نرى أين يتمركز الدين فيه؟ هذه المسألة شئنا أم أبينا ترجع إلى علم المعرفة من قبيل ما هو معيار الحقانية والبطلان؟ ومن ثم نبحث في أن هذا المعيار موجودٌ في الإسلام أو لا؟
في البداية لا بد لنا أن نعرف إجمالاً بأننا نواجه نطاقاً محدوداً جداً من المسائل الظنية، إذ إن هناك مقداراً كبيراً من اليقينيات في الإسلام بحيث انه إذا أراد شخصٌ أن يصل إليها أمكنه ذلك ولن يكون عنده نقصٌ على هذا الصعيد، اللهم إلا إذا لم تكن هناك إرادة للبحث والاهتمام، وإلا فإذا كانت هناك إرادة جادّة لمعرفة الإسلام فإن المسائل القطعية ليست بالقليلة.
إننا نملك الآلاف من المسائل القطعية حتى في الإطار الجزئي؛ افرضوا أن المسائل التي طرحها فقهاؤنا حول صلاة الصبح تصل إلى ألفي مسألة، إذا رجعنا إليها سنرى أن الاختلاف قد وقع بينهم في حدود خمسين مسألةٍ فقط والبقية كلّها كانت مورد اتفاق، وإذا أردنا أن نحسب هذه النسبة سنلاحظ أنه في مجال الأحكام الفقهية هناك نسبة مئوية قليلة وقعت مورد الاختلاف، وليست القضية هي أننا لا يمكننا الوصول إلى اليقينيات.
وبناءً على ذلك ـ وإذا أردنا أن نتكلّم بإنصاف ـ يمكننا القول بأن التكثّر واختلاف وجهات النظر يمكن قبولهما في إطار بعض المطالب الدينية التي لا دليل يقيني عليها، لا أنه بالرغم من وجود الدليل الشرعي في موردٍ ما فإن هناك قابليةً للتفاسير المتضادة والافهام والاستنتاجات المختلفة… إن المسألة ليست كذلك.
إننا نملك الكثير من الأدلة القطعية التي كما هي من ناحية السند قطعية وليس هناك مجال للخدشة فيها، هي أيضاً من ناحية الدلالة واضحة، ولا يمكن لأي إنسانٍ عاقلٍ ومنصفٍ أن يشكّ فيها، وعمليـاً لا يوجد اختلافٌ بين المسلمين على موارد من هذا القبيل.
فإذاً الاعتقاد بالطرق المستقيمة بالمعنى الثالث والرابع لا يمكن قبوله بوجه من الوجوه، وقد ذكر المفسّرون أيضاً أن الصراط المستقيم إنما هو الجادة الأصلية والوحيدة والتي تثبت بالقطعيات، وهناك حالاتٌ توجد فيها طرقٌ جزئيةٌ متعدّدةٌ لا تضرّ بأصل الدين وأصل الشريعة وهي مذكورةٌ بعنوان (السبل) وتقع جميعها داخل ذاك الصراط الواحد المستقيم، هنا يمكن أن تحصل اختلافاتٌ في وجهات النظر، إلا أن القبول بهذه الطرق الفرعية لا يعني وجود الطرق المتعدّدة المتناقضة.
"وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل"، لقد تم أخذ صراطٍ واحدٍ بعين الاعتبار فيما تمّ ذكر السبل بطريق التعدّد، نعم في إطار "الصراط المستقيم" هناك سبلٌ متعددةٌ يمكن قبولها في الجملة، "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا".
وبناءً عليه فالسبل مرتبطةٌ بالمسائل الفرعية، أما الصراط المستقيم فهو واحدٌ ولا يتقبّل التناقض والتعدّد.
 
Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً