أحدث المقالات







 

نقلاً عن موقع الرسول الأكرم(ص)، مجلة الحياة الطيبة العدد – الحادي عشر

د. عبدالحسين خسروبناه

تعـريب: مــاجد علي

تحوّل التواصل  بين الحضارات والتعاطي في ما بينها إلى باعث أملى على المراكز العلميّة في إيران التعرّف على الاتجاهات الدينية الأوروبية، بحيث لمس المعنيون نوعاً من التنافر بين تلك الاتجاهات وفكرهم الديني، ما دفع إلى تبلور حسّاسيات جديدة. ويمكن القول على نحو عام: إن المفكرين الذين ساهموا في هذا المشهد انقسموا إلى قسمين:

الأوّل: عكف بعضهم على نقل تلك الأفكار، والاشتغال بتبيينها وإشاعتها. وفي صدد التحدّي الذي برز بين نمط الفكر الديني والمعطيات الوافدة؛ عمد هؤلاء إلى التوفيق بين المعرفة الدينية، والمعارف الوافدة، وتشييد ضرب من المصالحة بين الاثنين.

الثاني: يتألّف من مفكرين دفعتهم الحميّة والمسؤوليَّة إلى إدراك الأصول والأفكار الوافدة على نحو صحيح، بغية الحفاظ على المعارف الدينية، والدفاع عن حريم الشريعة. ثمّ بادر هذا الفريق إلى حماية النصوص الإلهية، والمنافحة عن حريم الدين من خلال الارتكاز على ملاكات منطقية وضوابط عقلانية، وذلك بدلاً من الانجرار إلى موقف انفعالي، يقوم على أساس ردّ الفعل والتضحية بالشريعة الإلهيّة؛ دفاعاً عن الطريقة الأوروبية.

على أنّ ذلك كلّه لايتنافى مع تكامل الفكر الديني، حتى ليمكن القول: إن العصر الأخير هو عصر يعبّر في آن واحد عن تفتح الأفكار وتجدّدها وازدهارها، كما يعبّر عن اختلاف الآراء واحتدامها.

من زاوية أخرى، ربما أمكن القول بانبثاق ثلاثة مسارات أساسية، إزاء هذه التحديات والمعارك الكلامية والمعرفية والدينية، هي:

1- مسار التغرُّب.

2 – مسار المواجهة المتطرفة للغرب.

3 – مسار التجديد الإسلامي؛ حيث يضم هذا المسار في سياقه أشكالاً متنوعة تعبّر عن اتجاهات مختلفة تلفيقية وأصيلة.

النقطة الأساسية التي يجدر أن يلتفت إليها كل مفكّر يعيش مسؤولية الموقف؛ هي أن التشوّهات والعيوب والنواقص التي شابت البحث الديني في هذه الديار، ما هي في حقيقتها إلاّ من تداعيات الغرب، مثلها في ذلك مثل ما سواها من التحوّلات التي برزت في خلال القرون الأخيرة. هذه التحوّلات التي ترافقت مع عصر النهضة بعامة وعصر التنوير  (enlightenment) بخاصة، وكانت بدورها معلولة للتغييرات الأساسية التي طرأت على النظام المعرفي للغربيين،. وكان من بين تداعياتها بروز مذاهب، مثل الليبرالية والعلمانية والتعدّدية، ونِحل أُخر على هذا الصعيد.

وما ينبغي التنبّه إليه بدءاً، هو: هل تنطوي عملية نفوذ هذه التداعيات إلى مجتمعنا، وإشاعتها فيه – مقطوعة عن السياق الطبيعي الذي نشأت فيه ـ؛ على تفسير منطقي ومعقول؟ ثم هل يعي مُشيعو قضايا، كالتعددية الدينية([1])، طبيعة التبعات النظرية والعملية التي تلحق مجتمعنا إثر ذلك؟

هذه هي في الحقيقة النقطة المهمة التي ينبغي التفكير بها. وإلاّ ما هي الرسالة التي تحملها إلى البشرية وإلى المسلمين، تلك الدعوة إلى تجاوز الفارق الموجود بين العقائد والأديان التوحيدية، وبين الاتجاهات والنِحَل المتضمنة لنوع من الشرك؟ والأهمّ من ذلك، هل يبقى ثمة معنى – مع نفوذ هذه الدعوة – للكفر والإيمان، والحلال والحرام، والطاعة والعصيان، والعقاب والثواب، والجنة والنار ومئات المفاهيم الدينية الأخرى؟

 

المنهج

التعدّدية الدينية (Religious pluralism):  هي مذهب يضحِّي بالأصالة لحساب الكثرة. على أنّ هذه الفكرة نفسها توزّعت إلى اتجاهات مختلفة، مثل التعددية الأخلاقية، والسياسية، والاجتماعية، والدينية.

الأسئلة الأساسية التي تواجهنا في التعددية الدينية، هي: هل أنَّ جميع الأديان والعقائد على حقّ؟ لا ريب أنّ فرضية الانحصارية(exdusirism)  هي أوّل ما يواجهه المفكّر في بادئ تعاطيه مع جميع الأديان. فكلّ دين من الأديان يعتقد أن السعادة والحقّ منحصران في عقائده وحسب، وهو إلى ذلك ينزع هاتين الخصلتين عن سائر الاتجاهات والأديان.

السؤال الآخر الذي يدخل في عداد الأسئلة المهمة التي تثيرها أطروحة التعددية الدينية، هو: هل طريق السعادة والحقيقة واحدٌ أم متعدد؟

يمكن الإجابة عن هذا السؤال من زاويتين:

الأولى: انطلاقاً من رؤية تُعنى باتجاهات مختلفة.

الثانية: انطلاقاً من المنظور الديني نفسه، وبالرجوع إلى الآيات والروايات.

ما يعنى  هذا البحث به هو الزاوية الثانية؛ إذ يسعى لأن يتناول المسألة ويجيب عنها، انطلاقاً من الموقف الديني، وما يفرزه على هذا الصعيد. على أنَّ هذا الاختيار لم يأت جزافاً، بل تم تبنّيه بتوصية القرآن، الذي يسجّل: ﴿فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً﴾([2]).

ربما يمكن القول: إنَّ الجوّ القرآني والمناخ الذي يشيع في رواياتنا يعارضان التعددية الدينية وفق المنظار الذي سنعرض له.

تحركت مقولة تكثر الأديان عبر عدد من الأطر والاتجاهات، هي:

الاتجاه الأول:

ويعنى بتبادل الآراء والحوار بين الأديان، مع ممثلين كـ " نينان سمارت" (Ninan Smart)، وويلفرد كنتويل-سميث(Wilfred cantwell-smith) .

ويتسع هذا الإطار لضروب ثلاثة من التفسير، هي:

التفسير الأوّل: أن يبادر المتدينون إلى دراسة أصول جميع الأديان بمنهج عقلي وأسلوب منطقي. كما ينبغي لهم الإصغاء إلى الأديان كافة، والتعاطي معها على أساس ضوابط معرفية ومنطقية، حتى يحظوا بإصابة الدين الصحيح.

يسجّل القرآن الكريم موافقته الكاملة على هذا الاتجاه، وهذا كلام الحق (سبحانه) يصدح بصراحة: ﴿فبشّر عباد الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب﴾([3]). كما يذمّ القرآن المشركين في موضع آخر لاتّباعهم آباءهم، وينكر عليهم ذلك: ﴿وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون﴾([4]).

وربما يمكن حمل الآيات التي أوصت بالتعقّل والتدبّر والتفكّر، على أصول الأديان أيضاً. كمثال لهذه الآيات، قوله (سبحانه): ﴿لعلّكم تعقلون﴾([5])، وقوله: ﴿لقوم يعقلون﴾([6])، وقوله: ﴿ويجعل الله الرجس على الذين لا يعقلون﴾([7])، وقوله: ﴿إنّ شرّ الدواب عند الله الصمّ البكم الذين لا يعقلون﴾([8]).

ومن البديهي عدم إمكان التعاطي مع جميع المقولات الدينية من خلال المعايير البشرية؛ بحيث يُصار إلى إثباتها، أو إبطالها من خلال هذه المعايير. فبعض هذه المقولات خارج عن دائرة إثباتنا وإبطالنا. وهذه القضايا تأتي من حيث المنزلة بعد الأصول، وتلي من حيث المرتبة المبادئ الأساسية.

التفسير الثاني: أن يصار إلى تبادل وجهات النظر والحوار بين الأديان من زاوية نفسية واجتماعية. ومعنى ذلك أن يبادر المتدينون، والملتزمون من أديان مختلفة إلى الحوار بهدف ترسيخ التقارب القلبي والألفة الباطنية انطلاقاً من الهموم المشتركة وسعة الصدر. ثمّ يتحرك هؤلاء لإيجاد التدابير الكفيلة بإزالة التوترات الاجتماعية من خلال التسامح، حتى ولو لم يصلوا مطلقاً إلى نتائج واحدة على الصعيد المعرفي.

لقد خلّف المفكرون المسلمون، والقادة الدينيون، وبخاصة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) مطالب عميقة في مضمار المناظرة، وكيفية ممارسة الاحتجاج، تحوّلت في مدرستهم – وبعض المدارس – إلى علم علّموه تلامذتهم وربّوهم عليه. فمن تعاليم الإسلام وآدابه على هذا الصعيد سعة الصدر، والأخلاق الحسنة، وترك التعرّض للخصم بالإساءة والشتيمة، وتحمّل الآخر والصبر عليه، واحترام أصول المخالفين، وعقائدهم، وحرمة الجدل والمراء.

في سياق ردّه على فهم الشيخ الصدوق لروايةٍ نهت عن الجدل، بادر الشيخ المفيد في رسالة "تصحيح اعتقادات الإمامية" إلى تقسيم الجدل إلى ضربين: أحدهما بالحق، والآخر بالباطل، ثمّ ذكر أنَّ ما كان منه بالحقّ مأمور به ومرغّب فيه، حثّ عليه القرآن وأيّده الأئمة، مستدّلاً في إثبات دعواه بالآيات: ﴿وجادلهم بالتي هي أحسن"([9])، و﴿ولاتجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن﴾([10])، ﴿قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا﴾([11]) والآية الكريمة: ﴿ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربّه﴾([12])([13]).

ماهو مزجور عن استعماله في الثقافة الإسلامية، وما نهت عنه معطيات الدين الإسلامي هما المراء والجدال بالقبيح وبغير الأحسن، حتى عدَّ النبي (صلّى الله عليه وآله) تركهما واجباً وشرطاً لبلوغ "حقيقة الإيمان"، والحصول على المراتب العالية في الجنة. كما ذهب علماء الأخلاق من جهتهم إلى أن هذه الصفات الرذيلة هي من آفات اللسان([14]).

أمّا معنى الجدال بغير الأحسن، فهو إلباس الحق بالباطل، أو الباطل بالحق، كما الإصرار على الباطل الصريح.

لقد مضت السيرة العملية للمعصومين على الحوار والجدال بالتي هي أحسن. من ذلك ما حصل للإمام علي(ع) في حرب صفين، حين نهض إليه شيخ عربي وسأله عن القضاء والقدر، فما كان من الإمام أمير المؤمنين إلاّ أن أجاب بوضوح وسعة صدر وتفصيل، حتى بلغ من سرور الشيخ وفرحته بجواب الإمام أنه نهض وأنشد أبياتاً من الشعر في مدحه والثناء عليه. وفي لجّة حرب الجمل بادر رجل إلى سؤال الإمام أمير المؤمنين عن بعض مسائل التوحيد، فما كان من الأصحاب إلاّ أن لاموه، بيد أنّ الإمام قال لهم: "دعوه"، ثمّ أجاب عن سؤال السائل بأناة ورحابة صدر.

وفي سياق احتجاجات الإمام الصادق(ع) كان يحصل أحياناً، أن يشعر الملاحدة والزنادقة بشيء من التبرّم والضيق أثناء مناظرة أصحاب الإمام، لما يبدر من الأصحاب أثناء المناظرة والحوار مما يسيء هؤلاء، فكانوا ينبّهون أصحاب الإمام، إلى أنّهم يُلقُون على الإمام عند لقائهم به ما لديهم من شكوك وأسئلة وشبهات؛ فيجيب عنها بصبر، وانفتاح، وسعة صدر من دون أن يبدي تبرّماً ولا ضجراً.

لاشك في أن رحابة الصدر، وتحمّل الآخر، والإصغاء إلى كلام الخصم، والشعور بالرفق هي من أهمّ شروط الحوار في الإسلام، وأكثرها منطقية. بيد أن ما يبعث على الأسف أن هذه الخصائص للحوار لم تأخذ موقعها اللائق في مجتمعنا بعد، ما أدّى إلى أنّ يتبدل الجدال بالتي هي أحسن إلى مراء وجدال قبيح.

ثَمَّ نقطة أخرى حيال الحوار والمناظرة والجدل مستمدّة من القرآن، تتمثل بتركيزه على ضرورة أن يستند الجدال إلى المعرفة، ويقوم على أساس العلم. فلا يُصار إلى الجدال، ويتمّ التوجّه نحو المناظرة إلاّ بعد تحقق البينة، وقيام العلم وكشف الحق. على أنه من الضرورة بمكان أن نقف على بعض الآيات القرآنية التي تتصل بالجدل، وتتحدّث عن أسلوب البحث والمناظرة منها هذه الآيات:

1 – قوله (سبحانه): ﴿ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عدواً بغير علم﴾([15]).

2 – قوله (سبحانه): ﴿ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد﴾([16]).

3 – قوله (سبحانه): ﴿وجادَلوا بالباطل ليُدحضوا به الحق﴾([17]).

4 – قوله (سبحانه): ﴿يجادلونك في الحقّ بعد ما تبيّن﴾([18]).

5 – قوله (سبحانه): ﴿ياأهل الكتاب لم تَلبسون الحقّ بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون﴾([19]).

6 – قوله (سبحانه): ﴿فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم﴾([20]).

7 – قوله (سبحانه): ﴿ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون﴾([21]).

التفسير الثالث: ويشمل الإطار الذي ينطلق فيه الحوار بين الأديان على أساس الشكّ في المعتقدات الدينية الذاتية. ومن الواضح أن هذا التفسير وهو ينطلق من مثل هذا التصوّر المسبق يؤدّي إلى تصدّع الحوار واخترام النظام الذي يقوم عليه، ويصادر موضوعه من الأساس، فضلاً عن عدم اتّساقه مع معطيات مذهب أهل البيت. فعن الإمام أمير المؤمنين في الاستقامة على الدين وحفظه، قوله (عليه السلام):

1 – "أفضل السعادة استقامة الدين"([22]).

2 – "حفظ الدين ثمرة المعرفة ورأس الحكمة"([23]).

3 – "حصّنوا الدين بالدنيا ولا تحصّنوا الدنيا بالدين"([24]).

4 – "ثمرة الدين قوة اليقين"([25]).

5 – "الإيمان شجرة أصلها اليقين"([26]).

6 – "ما آمن بالله من سكن الشكّ قلبه"([27]).

 

الاتجاه الثاني

أن تتبلور التعددية الدينية من طريق النسبية، وتتكون من خلال الشك المعرفي. فهذا الاتجاه ينظر إلى الظواهر الثقافية، والأفكار، والرؤى الدينية والأخلاقية؛ بوصفها في معرض التحوّل التأريخي. أو أنه يؤمن بتمايز غير قابل للحلّ بين "الواقع في نفسه" و"الواقع كما يبدو لنا"، ليؤول في نهاية المطاف إلى التورّط بضرب من النسبية والشك.

لقد نهض جان هيك، بتفصيلات هذه النظرية التي تقوم على أساس الإطار الفلسفي الكانطي (نسبة إلى كانط). بيدَ أنّ هذه النظرية ليست عاجزة عن تفسير نظرية "الصُرط المستقيمة"([28]) وتوجيهها وحسب، وإنّما تضع التفسيرات الدينية كافة في دائرة "الصُرط غير المستقيمة"، وتعدّ المعارف بأجمعها غير صحيحة.

إن نظرة عامة إلى آيات القرآن توضّح بجلاء أنّ الله (سبحانه) لا يرضى مطلقاً عن الاعتقاد بالنسبيّة والشك المعرفي. ولهذا ما برح القرآن يستخدم مصطلح "البيّنات" بإزاء دعاوى المشكّكين وذرائعهم، بما يدلّ عليه المصطلح من آيات واضحات، الأمر الذي يعني إمكان بلوغ الحقيقة.

ويمكن الإطلالة على المشهد القرآني على هذا الصعيد من خلال ثلاث زوايا، هي:

أ – الآيات التي تندّد بالمشكّكين، مثل:

1 – قوله (سبحانه): ﴿بل ادّارك علمهم في الآخرة بل هم في شكّ منها بل هم منها عمون﴾([29]).

2 – قوله (سبحانه): ﴿ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه فلولا كلمة سبقت من ربّك لقُضِي بينهم وإنّهم لفي شكّ منه مريب﴾([30]).

ب – الآيات التي تذمّ الشكّ في موارد خاصة بعينها، كما في قوله (سبحانه): ﴿وإذا قيل إنّ وعد الله حق والساعة لاريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلاّ ظنّاً وما نحن بمستيقنين﴾([31]).

ج – الآيات التي تصف أدلّة الرسل بـ "البيّنات"، وتصف شكّ الشاكّين بأنّه لا وجه له، كما في قوله (سبحانه): ﴿ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلاّ الله جاءتهم رسلهم بالبيّنات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنّا كفرنا بما أرسلتم به وإنّا لفي شكّ ممّا تدعوننا إليه مريب. قالت رسلهم أفي الله شكّ فاطر السماوات والأرض…﴾([32]).

 

الاتجاه الثالث

ويتمثّل في أن ترتكز التكثرية الدينية على أساس المبادئ الجديدة للهرمنيوطيقا. حيث يظن أصحاب هذا الاتجاه أنّ النصوص الدينية صامتة وخالية من المعنى، وحين تكون العبارات خالية من الحمولة فارغة من المعاني، بحيث تضحى كالأفواه المفتوحة والبطون الخالية على النحو الذي تترك نظريات كل عصر من العصور تأثيراتها على "لغة الدين"؛ حين يكون الأمر كذلك، فمن الطبيعي ألاّ يكون من الممكن تحصيل المعطى المعرفي من "نصوص الدين"، الأمر الذي يؤدي بدوره أن تتحوّل كل معرفة للدين إلى معرفة شخصية بالكامل([33]).

وهذا الاتجاه مرفوض هو الآخر؛ إذ تعترضه مجموعة من الإشكالات. وسوف أكتفي في هذا المقال بنقد اتجاهات التعدّدية الدينية انطلاقاً من رؤية دينية محضة، بالإشارة إلى عدد من الآيات والروايات التي تعارض هذا المرتكز، أو الأصل في "الهرمنيوطيقا" وتفسير النصّ على نحو صريح، كما هو الحال في:

1 – قوله (سبحانه): ﴿وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط﴾([34]). فالقرآن إذاً ميزان للقيام بالقسط. فلو كان لكل إنسان فهمه ومعطاه الخاص من القرآن (بخاصّة إذا كان ذلك على الأساس الذي يقول بصمت الشريعة)؛ فلن يكون هناك معيار للتمييز بين "العدل" و"الظلم" في القرآن. وهذا ما يتعارض بالكامل مع الآية المذكورة.

2 – قوله (سبحانه): ﴿ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء﴾([35]).

3 – قوله (سبحانه): ﴿وتلك حدود الله يبيّنها لقوم يعلمون﴾([36]).

4 – قوله (سبحانه): ﴿لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ﴾([37]).

5 – في خطبة من خطب "نهج البلاغة" يقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في أوصاف القرآن: ﴿ثمّ أنزل عليه الكتاب نوراً لا تُطفأ مصابيحه، وسراجاً لايخبو توقّده، وبحراً لايُدرَك قعره، ومنهاجاً لايضلّ نهجه، وشعاعاً لايُظلِم ضوءه، وفرقاناً لا يُخمد برهانه، وتبياناً لاتهدم أركانه﴾([38]).

6 – قول الإمام أميرالمؤمنين: "إنا لم نحكّم الرجال وإنما حكّمنا القرآن"([39]).

7 – قوله (عليه السلام) في وصف القرآن: "ألا إن فيه علم ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم ما بينكم"([40]).

8 – من كلام له (عليه السلام) في صفة القرآن عند أهله: "فهو بينهم شاهد صادق، وصامت ناطق"([41]).

9 – من كلام له (عليه السلام) في وصف القرآن: "فالقرآن آمر زاجر، وصامت ناطق"([42]).

 

الاتجاه الرابع

ويشير إلى أكثر الاتجاهات تطرفاً في المذهب التكثري، في ما ذهب إليه من أن جميع الأديان السماوية "حق"، من دون أي فرق على الإطلاق بين الإسلام والمسيحية واليهودية. بل ربما تجاوز هذه التخوم؛ ليشمل في مداه جميع الأديان السماوية وغير السماوية كالبوذية والهندوكية، حتى المذاهب الإلحادية كالماركسية، بوصفها مبادئ تضمن "السعادة"، وتنطوي على "الحقانية"، ومن ثم فهي معترف بها جميعاً على حد سواء.

في ضوء هذه الرؤية لا يمكن تصوّر أي فارق معرفي، أو غائي بين الأديان في ما بينها، وبينها وبين الاتجاهات والمذاهب البشرية. ومن الواضح أن هذا الاتجاه في المذهب التكثري يستبطن أزمة منطقية وعقلية صريحة، ناشئة عن دعوته إلى اجتماع النقيضين والضدّين؛ فالإنسان بإيمانه بأحقّية "التوحيد في الإسلام" و"التثليث في المسيحية" و"ألوهية براهما وبوذا" ينزلق إلى ضرب من التناقض الصريح والواضح.

على أنّ الأهم من ذلك هو أن الرؤية الدينية تعارض هذا المنحى، وتتكاتف الآيات والروايات على نفيه بصراحة كاملة. فمن الآيات والروايات التي تعارض هذا الاتجاه في التعددية:

1 – ثَمّة آيات كثيرة في القرآن تتحدث عن "الصراط"، بعضها يصفه بـ "المستقيم" أو "السويّ". كما يتحدث بعضها الآخر عن ضرب خاص من "الصراط" بإضافته إلى "ربي" و"ربّك" و"العزيز" و"الحميد" أو بإضافته إلى "ياء المتكلم"، بحيث تعدّه هذا هو الصراط وما سواه طرقاً منحرفة.

على هذا لا يمكن التعاطي مع "الصراط" على أنّه نكرة وهو يختص بهذه الأوصاف، ومع ما نشهده من إضافته إلى مجموع هذه المصطلحات والصفات، ومن ثم لا يصحّ استنتاج نظرية "الصُرط المستقيمة" وعدّ الطرق المتعددة في الأديان مسيراً واحداً يوصل إلى السعادة والحقيقة، ثمّ نسبة هذه النظرية بعد ذلك إلى القرآن، خاصة مع ملاحظة "ألف ولام" التعريف التي اقترنت بهذه الكلمة في القرآن ودلالتها على الحصر، كما في قوله (سبحانه): ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾([43]). وكذلك الأوصاف التي نعت بها هذا الصراط، كما في قوله (سبحانه): ﴿وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه﴾([44])، وقوله: ﴿فاتّبعني أهدك صراطاً سوياً﴾([45])، وقوله: ﴿ويهدي إلى صراط العزيز الحميد﴾([46]).

2 – من الروايات ما يقسّم الإسلام [أي إسلام الناس] إلى إسلام "مقبول" وآخر "مردود ومرفوض"، كما أن فيها ما لا يعدّ بعض ضروب الانتماء إلى الإسلام جزءاً من الصراط المستقيم، بل لا يصيب هذا البعض من الإسلام إلاّ اسمه دون محتواه؛ كما في نصوص أئمة أهل البيت عليهم السلام. من ذلك:

أ- الحديث النبوي الذي يرتبط بعبد الله بن أبي أمية أخ أم سلمة زوج النبي (صلّى الله عليه وآله). فقد بادر عبدالله أخته في يوم من الأيام [يوم فتح مكّة] بالقول: ياأختي إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد قبل إسلام الناس كلّهم وردّ إسلامي؟  فلما دخل النبي على أم سلمة سألته عن الأمر، فقال في جوابها: "يا أم سلمة إن أخاك كذّبني تكذيباً لم يكذّبني أحد من الناس"([47]).

ب – عن النبي (صلّى الله عليه وآله) قوله: "سيأتي على أمّتي زمان لايبقى من القرآن إلاّ رسمه، ولا من الإسلام إلاّ  اسمه"([48]).

3 – هناك عدد كبير من الآيات والروايات تلزم بالدعوة إلى الإسلام، وتعدّ ذلك فريضة واجبة. وهذه الدعوة تشمل اليهود والمسيحيين أيضاً. فلو كانت الأديان بأجمعها تعبّر عن صُرط السعادة والحقيقة، فستغدو الدعوة إلى دين بعينه لغواً.

من ذلك:

أ – ما جاء عن ابن عباس في تفسير قوله (سبحانه): ﴿وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله﴾ من أنّها نزلت بشأن دعوة النبي لليهود كي يسلموا، بيدَ أنهم امتنعوا، وقالوا في الجواب: ﴿بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا﴾([49]).

ب – ما جاء في السيرة من أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعث علياً (عليه السلام) إلى اليمن لكي يدعو الناس إلى الإسلام([50]). ومن الواضح أن الدعوة إلى الإسلام تستلزم منع قبول بقية الأديان.

ج – عندما حصلت واقعة المباهلة، وما كشفت عنه من وجود اختلافات عقيدية بين النبي ومسيحيي نجران؛ بادر النبي (صلى الله عليه وآله) إلى دعوة رئيس الفريق المسيحي إلى القبول بالإسلام([51]).

د – قال الإمام (عليه السلام) في تفسير قوله (سبحانه): ﴿بئس مااشتروا به أنفسهم﴾: ذمّ الله اليهود وعاب فعلهم في كفرهم بمحمد (صلى الله عليه وآله)… إلى أن قال: "والغضب الثاني حين سلط عليهم سيوف محمد وآله وأصحابه وأمته حتى ذلّلهم بها، فإمّا دخلوا في الإسلام طائعين وإمّا أدّوا الجزية صاغرين داخرين"([52]).

4 – من هو السعيد ومن هو الشقي؟ من والى عليّاً (عليه السلام) وأولاد علي وأحبّهم فهو السعيد، وإلاّ فهو من أهل الشقاء، والروايات في هذا الباب كثيرة جداً، منها:

أ – قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): "إن السعيد كلّ السعيد، حقّ السعيد من أحبّ علياً في حياته وبعد موته، وإنّ الشقي من أبغض علياً في حياته وبعد وفاته"([53]).

ب – وفي الحديث الشريف: "فالسعيد من اتبعنا، والشقيّ من عادانا وخالفنا"([54]).

د – في الحديث الشريف: "سعادة الرجل في إحراز دينه والعمل لآخرته"([55]).

هـ – لقد توفّرت الروايات التي تحدثت عن بيان "الدين الحقّ" على أمور مهمة، حين عبّرت عن هذا الدين بالإسلام والقرآن والولاية، كما في:

أ – جاء في تفسير قوله (سبحانه): ﴿هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق﴾([56]): "الولاية هي دين الحق"([57]).

ب – عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: سألت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن مسائل… إلى أن قال: قلت: وما الحقّ؟ قال: "الإسلام والقرآن والولاية إذا انتهت إليك"([58]).

ج – عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: "إنّ الحنيفية هي الإسلام"([59]). من جهته كتب الراغب الإصفهاني في "المفردات" في تفسير "حنيف": "الحنف هو ميل عن الضلال إلى الاستقامة… والحنيف هو المائل إلى ذلك… وتحنّف فلان أي تحرّى طريق الاستقامة"([60]).

د – وجّه عبدالله بن سلام من زعماء اليهود أسئلة إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، منها: فأخبرني كم دين لربّ العالمين؟ فأجاب النبي (صلّى الله عليه وآله): "دين واحد، والله تعالى واحد لا شريك له"([61]).

وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: جاءني جبرئيل فقال لي: "ياأحمد، الإسلام عشرة أسهم، وقد خاب من لا سهم له فيها، أوّلها شهادة لا إله إلاّ الله، والثانية الصلاة، والثالثة الزكاة، والرابعة الصيام، والخامسة الحج، والسادسة الجهاد، والسابعة الأمر بالمعروف، والثامنة النهي عن المنكر، والتاسعة الجماعة، والعاشرة الطاعة"([62]).

الآن وقد استبان لنا أن اختلاف الأنبياء لم يكن في الأصول (وإن كانت الشرائع مختلفة إلى حد ما)، فمن الواضح أن الاختلاف الحاضر هو نتيجة عدول أتباع بقية الأديان، وحنفهم عن الدين الإلهي الواحد؛ أي عن الإسلام. فليس لهؤلاء نصيب من هذه الأسهم العشرة، وقد اختاروا بأنفسهم الخيبة والخسران.

6 – ثَمَّ روايات أخرجت بعض الطوائف والفرق عن الإسلام. وهذه تدل صراحة على عدم اتّساقها مع مذهب التعددية الدينية، كما هو الحال في:

أ – قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): "إن أبي حدّثني عن أبيه، عن جدّه (عليه السلام) أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، قال: صنفان من أمتي لانصيب لهما في الإسلام: الغلاة والقدرية"([63]).

ب – عن الإمام علي الرضا (عليه السلام) عن آبائه، قال: "قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) صنفان من أمّتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية"([64]).

7ـ عمد صنف من الروايات،  إلى إبطال مناهج بعض المذاهب. من ذلك مبادرة أئمة الشيعة (عليهم السلام) في ذمّ منهج القياس عند بعض مذاهب أهل السنة، كما في الحديث الشريف: "أوّل من قاس إبليس، لم يبن دين الإسلام على القياس"([65]).

8 – يواجه الأموات في البرزخ أسئلة خاصة عن الله والنبي والإمام، وفي حال توقفهم عن الإجابة تفتح لهم أبواب إلى جهنم، الأمر الذي يشير إلى وحدة "الصراط المستقيم" وانحصار "السعادة والهداية" في مسار بعينه([66]).

9ـ هناك عدد من الآيات والروايات تسجّل اعتراضها على بعض عقائد اليهود والمسيحيين وأعمالهم، وتحكم عليها بالباطل صراحة. من ذلك:

أ – قوله (سبحانه): ﴿وقالت اليهود يد الله مغلولة غُلّت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان﴾([67]).

ب – قوله (سبحانه): ﴿وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذّبكم بذنوبكم﴾([68]).

ج – قوله (سبحانه): ﴿ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملّتهم قل إنّ هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير﴾([69]).

د – قوله (سبحانه): ﴿وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنّى يؤفكون﴾([70]).

هـ – قوله (سبحانه): ﴿اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلاّ ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلاّ هو سبحانه عمّا يشركون يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلاّ أن يتم نوره ولو كره الكافرون﴾([71]).

و- قوله (سبحانه): ﴿وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه مالهم به من علم إلاّ اتباع الظن وما قتلوه يقينا﴾([72]).

ز – قوله (سبحانه): ﴿يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلاّ الحق إنّما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم إنّما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً﴾([73]).

ح – قوله (سبحانه): ﴿يسألك أهل الكتاب أن تنزّل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك قالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البيّنات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطاناً مبيناً﴾([74]).

ط – قوله (سبحانه): ﴿ودّت طائفة من أهل الكتاب لو يضلّونكم وما يضلّون إلاّ أنفسهم وما يشعرون. يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون. يا أهل الكتاب لِمَ تَلبسون الحقّ بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون. وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون﴾([75]).

ي – قوله (سبحانه): ﴿ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنّه منهم. إنّ الله لا يهدي القوم الظالمين﴾([76]).

ك – قوله (سبحانه): ﴿لقد كفر الذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة وما من إله إلاّ إله واحد وإن لم ينتهوا عمّا يقولون ليمسنّ الذين كفروا منهم عذاب أليم﴾([77]).

10ـ ثَمَّة عدد من الآيات والروايات أخبر عن ظهور الدين الإسلامي وغلبته على بقية الأديان، كما في الأمثلة التالية:

 أ – لقد جاء عن الأئمة تفسيرهم للآية الكريمة: ﴿ليظهره على الدين كلّه﴾ ما نصّه: "يظهره على جميع الأديان عند قيام القائم"([78]) وذلك في إشارة إلى انتصار الإمام المهدي، وظهور أمره على الأديان والاتجاهات والمبادئ والمذاهب كافة.

ب – ورد في الحديث القدسي، قوله جلّ جلاله: "حق عليّ أن أظهر دينك على الأديان حتى لا يبقى في شرق الأرض وغربها دين إلاّ دينك…"([79]).

ج – عن ابن بكير، قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن قوله: "وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً"([80])، قال: "أنزلت في القائم (عليه السلام) إذا خرج باليهود، والنصارى، والصابئين، والزنادقة، وأهل الردّة، والكفار في شرق الأرض وغربها، فعرض عليهم الإسلام فمن أسلم طوعاً أمره بالصلاة والزكاة وما يؤمر به المسلم ويجب عليه، ومن لم يُسلم ضرب عنقه حتى لا يبقى في المشارق والمغارب أحد إلاّ وحّد الله"([81]).

11ـ عالمية الدين الإسلامي: هل الإسلام دين إقليمي وقومي يختص بفئة، أو جماعة خاصة؟ وهل تقتصر رسالة هذا الدين على عصر النبي وحده أم أنه أبديّ يشمل جميع العصور إلى القيامة، وهو دعوة عالمية شاملة تضمّ في صفوفها جميع الأفراد والجماعات وكل الأعراق والأجناس والأقوام؟ لاشكّ في أنّ كل مسلم يؤمن بأن الإسلام دين عالمي وأبديّ، ويعتقد أن إيمانه هذا من ضروريات الدين.

ثم بالإضافة إلى إجماع المسلمين، هناك براهين عقلية وأدلّة نقليّة وشواهد تأريخية تسند عالمية هذا الدين وأبديته وتثبتهما. فمن حيث آيات القرآن تواجهنا المجموعات الآتية:

المجموعة الأولى: الآيات التي تصف القرآن بأنه هادٍ للناس كافة في جميع العصور والأزمان، كما في الآية (185) من سورة البقرة، والآية(28) من سورة التكوير.

المجموعة الثانية: الآيات التي تخاطب الإنسانية جمعاء، وهي تستخدم صيغاً في الخطاب، مثل: ﴿يا أيها الناس﴾ و﴿يا بني آدم﴾ كما في الآيات(168) من سورة البقرة، و(174) من سورة النساء، و(108) من سورة يونس، و(135) من سورة الأعراف وعشرات غيرها. فلو كانت دعوة الإسلام مختصّة بقوم، أو عنصر أو عرق خاص، لما كان ثَمَّة معنى لهذا الخطاب العام، بل كان ينبغي للخطاب أن يتّجه إلى القوم أو العرق المفترض دون غيره.

 

المجموعة الثالثة: الآيات التي تشهد صراحة بعمومية رسالة النبي (صلّى الله عليه وآله) وشمولها للجميع، كما في الآيات (28) من سورة سبأ، و(1) من سورة الفرقان، و(19) من سورة الأنعام.

المجموعة الرابعة: الآيات التي تخاطب أهل الكتاب.

المجموعة الخامسة: الآيات التي لها دلالة على أحقية الإسلام، وتخبر عن ظهوره على الأديان كافة، كما في الآيات (33) من سورة التوبة، و(82) من سورة الفتح، و(9) من سورة الصف.

إذا ما أذعنا لحقيقة عالمية الإسلام، وأحقية هذا الدين، وآمنّا بظهوره على الأديان كافة، فلا يمكن أن نقبل حينئذ بأن بقية الأديان والاتجاهات تمثل هي الأخرى "صُرطاً مستقيمة" لنيل الحقيقة وبلوغ السعادة، وفق ما تدّعيه التعددية الدينية. فإذا ما استنبطنا الحصر الموجود في أحقية الدين الإسلامي بالقياس إلى الأديان الأخرى أيضاً؛ بحيث يعبّر كل من الإسلام والأديان الأخرى عن هذا الحصر على حد سواء، فستكون نتيجة الإيمان بالتعددية وتبديل المجتمعات إلى مجتمعات تعددية، ليس نزع الطابع الإيديولوجي عن المجتمعات الدينية فحسب، بل ستغدو هذه المجتمعات في الواقع غير دينية أيضاً. مردّ ذلك أن كل من آمن بدين خاص وبالتعددية أيضاً، يكون في الحقيقة قد أنكر ومنذ البدء انحصارية دينه في التعبير عن الحق، وإنكار جزء الدين يستلزم إنكار الدين كله.

فيما يلي إشارة إلى بعض الآيات التي تومئ إلى عالمية الإسلام وشموله:

أ- قوله (سبحانه): ﴿تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً﴾([82]).

ب – قوله (سبحانه): ﴿وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين﴾([83]).

ج – قوله (سبحانه): ﴿وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ﴾([84]).

د – قوله (سبحانه): ﴿وأرسلناك للناس رسولاً وكفى بالله شهيداً﴾([85]).

هـ – قوله (سبحانه): ﴿قل يا أيّها الناس إنّي رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلاّ هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأميّ الذي يؤمن بالله وكلماته واتبِعوه لعلكم تهتدون"([86]).

و- قوله (سبحانه): ﴿وما أرسلناك إلاّ كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾([87]).

ز – لقد أعلن النبي (صلّى الله عليه وآله) منذ أوّل البعثة أن الإسلام دين عالمي؛ جاء للناس عامة. فعند نزول قوله (سبحانه): ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾([88]) جمع النبي أهله وذوي قرابته، وقال وهو يخطب فيهم: "إنّ الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلاّ هو إنّي رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس عامة"([89]).

ح – بادر النبي في مطلع البعثة إلى إرسال الكتب والرسائل إلى ملوك البلدان وقادتها، كما فعل مع قيصر الروم، وملك فارس، وحاكم مصر، والحبشة، ورؤساء القبائل العربية التي كان لها نوع من الاستقلال السياسي. ولقد كان العنصر المشترك في هذه البعوث والرسائل هي دعوة هؤلاء إلى الإسلام، ومن ثم لو لم يكن الإسلام ديناً عالمياً؛ لما كان ثمّة معنى لهذه الدعوة، ولما استعمل النبي في كتبه هذه جُملاً مثل: "فإنّي أنا رسول الله إلى الناس كافة"([90])، مع ما تتضمنه من دلالة على شمول الإسلام وعالميته.

ط – تتّجه الخطابات القرآنية عامة إلى الناس كافة، وهي ليست مما يختصّ بجماعة، أو قوم ما، وصفة العموم في هذه الخطابات هي بنفسها دليل جلّي على عمومية الإسلام وامتداده وشموله وعالميته. فخطابات مثل: "ياأيها الناس"، و: "ياأيها الذين آمنوا"، وعناوين مثل: "يا أهل الكتاب" هي بنفسها أدلّة على عالمية الإسلام.

ي – تحمل أحكام الإسلام وتعاليمه عنواناً عاماً، وهي خالية من صفات العرقيّة الخاصة، والانتماء المحدّد، وهذه الخصلة في قوانين الإسلام، هي دليل آخر على شمولية رسالة النبي وعالمية الإسلام. من الأمثلة القرآنية على ذلك، قوله (سبحانه): ﴿ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا﴾([91])، وقوله (سبحانه): ﴿ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين﴾([92]).

21ـ يوجد عدد من الآيات يؤكّد "الاستقامة على الدين" وعدم الجنوح نحو الأديان الأخرى. والخطاب في هذا النمط من الآيات، هو: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾. على هذا يخرج اليهود والنصارى من دائرة أهل الإيمان بالنبي (ص)، ليأتي الأمر القرآني ناهياً المؤمنين عن تولّي هؤلاء والإعراض عن دينهم، كما في الأمثلة التالية:

أ – قوله (سبحانه): ﴿يا أيّها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم إنّ الله لا يهدي القوم الظالمين﴾([93]).

ب – قوله (سبحانه): ﴿يا أيّها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتّخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين﴾([94]).

ج – قوله (سبحانه): ﴿يا أيّها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين﴾([95]).

31ـ ندب عدد من الآيات القرآنية إلى إطاعة أوامر رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وعدّ تكذيبه تكذيباً للأنبياء الماضين، وأن مخالفيه "خالدون في النار". ما يترتّب على مدلول هذه الآيات هو أنّ كل إنسان يكذّب نبيّ الإسلام، وينأى عن إطاعة أوامره، لا يكون من أهل السعادة، ولو كان ملتزماً بدين آخر غير الإسلام. وهذا ما يتعارض بالكامل مع التعددية الدينية.

 

من الآيات التي تومئ لهذه الحقيقة:

أ- قوله (سبحانه): ﴿فإن كذّبوك فقد كُذّب رسل من قبلك جاؤوا بالبيّنات والزبر والكتاب المنير﴾([96]).

ب- قوله (سبحانه): ﴿من يعص الله ورسوله ويتعدّ حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذابٌ مهين﴾([97]).

ج- قوله (سبحانه): ﴿ياأيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾([98]).

د- قوله (سبحانه): ﴿ألم يعلموا أنّه من يُحادد الله ورسوله فإنّ له نار جهنّم خالداً فيها ذلك الخزي العظيم﴾([99]).

هـ- قوله(سبحانه): ﴿والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾([100]).

41ـ ثَمَّ روايات تحدّد المفلحين ومن يستحقّ الجنة، وتبين مواصفات هؤلاء وخصائصهم. ينبغي التعاطي مع هذه الروايات على نحو جمعي، وفي هذا السياق ستتمّ الإشارة إلى مجموعة من الروايات التي ذكرها الشيخ الصدوق، في أوّل كتابه "التوحيد" وأدرجها تحت بابٍ بعنوان: "باب ثواب الموحّدين والعارفين". فهذه الروايات تشير في مدلولها الجمعي إلى أنّ السعادة والفلاح والجنّة هي من نصيب جماعة تتصف بمواصفات خاصة. وهذه النتيجة التي تخلص إليها الروايات تتنافى تماماً مع المذهب التعدّدي ومبدأ التكثريّة الدينية.

 

من هذه الروايات:

1 – في الحديث النبوي الشريف: "من مات ولا يشرك بالله شيئاً أحسن أو أساء دخل الجنة"([101]).

2 – عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: "إنّ الله تبارك وتعالى حرّم أجساد الموحّدين على النار"([102]).

3 – في الحديث النبوي الشريف، عن جبرائيل: "يا محمّد، طوبى لمن قال من أمّتك: لا إله إلاّ الله وحده وحده وحده"([103]).

4 – في الحديث النبوي الشريف، عن جبرائيل: "يا محمّد، طوبى لمن قال من أمّتك: لا إله إلاّ الله وحده مخلصاً"([104]).

5 – في النبوي الشريف: "إنّ "لا إله إلاّ الله" كلمة عظيمة كريمة على الله عزّ وجلّ، من قالها مخلصاً استوجب الجنة، ومن قالها كاذباً عصمت ماله ودمه، وكان مصيره إلى النار"([105]).

6 – في الحديث المشهور عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام): "لا إله إلاّ الله حصني فمن دخل حصني أمِن من عذابي، ولكن بشروطها، وأنا من شروطها"([106]).

51ـ هناك من الآيات ما يدلّ على حصر "الحقّ" في الإسلام وحده، وأنّ أتباع بقية الأديان لا نصيب لهم سوى الخسران المبين، كما في قوله (سبحانه): ﴿ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين﴾([107]). يكتب الشهيد مرتضى مطهري في توضيح هذه الآية: "لو قيل إنّ المقصود من الإسلام ليس ديننا بالخصوص، بل المنظور هو "التسليم لله"، فسيكون الجواب: طبيعي إنّ الإسلام هو التسليم، ودين الإسلام هو دين التسليم. بيد أنّ لحقيقة "التسليم" صيغة تتبدى بها في كل عصر، والصيغة التي يتجلّى بها التسليم في هذا العصر هي الدين القيّم الذي جاء به خاتم النبيين، ومن ثمّ فإنّ هذه الصيغة تنطبق بالضرورة على الإسلام وحسب.

بعبارة أخرى: إنّ لازم التسليم لله، هو قبول أوامره والاستجابة لها، ومن الواضح أنّه ينبغي العمل بآخر صيغة للأمر الإلهي، والصيغة الأخيرة في الأمر الإلهي، ليست شيئاً آخر غير ما جاء به آخر الرسل وخاتمهم"([108]).

 

شبهات أنصار التعددية الدينية

بإزاء هذه الأدلّة المكثّفة على إبطال "التعدّدية الدينية" ما برح أنصار هذا المذهب يثيرون الشبهات، حتى أنّ عدداً من هذه الشبهات تُنسب إلى بعض المفاهيم الدينية، وتُربط بمجموعة من الآيات والروايات أيضاً. وفيما يلي نستعرض عدداً من هذه الشبهات مع نقدها وبيان جوابها:

1 – يقول أحد التعدديين: "إذا كانت الأقليّة الشيعية إلإثنا عشرية هي وحدها المهتدية، وإذا كان اليهود يذهبون إلى أنّ الأقلية اليهودية التي تتكوّن من أثني عشر مليون يهودي هي وحدها على خط الهداية، وإنّ بقية البشر ضلاّل وكفّار، فمتى تتحقق الهداية الإلهية، ومن الذي رفل بنعمة الهداية العامة؟ أيمكن أن نصدّق أن شرذمة من العصاة والغاصبين استطاعت أن تختطف دين النبي بمجرّد أن أغمض عينيه، وودّع هذه الدنيا؛ بحيث حرموا عامة المسلمين من فيض الهداية، وصادروا جميع ما بذله النبي من جهود"؟([109]).

الجواب: "الهداية الإلهية" على ضربين تكوينية وتشريعية: أمّا الهداية التكوينية التي تشمل الوجود وتمتدّ لتستوعب الموجودات برمّتها، والكائنات الحيّة كافّة، وجميع البشر، فهي ترتبط بالأمور "غير الاختيارية". بمعنى أنّها لا تندرج في نطاق "إرادة الموجودات". على سبيل المثال، فإن النمو الطبيعي للموجودات يعدّ من سنخ الهداية التكوينية. أمّا الهداية التشريعية، فهي سنخ هداية، يهبها الله إلى البشر من طريق الأنبياء والرسل، وهي بمعنى إراءة الطريق، وتشمل البشرية جمعاء. في هذا النمط من الهداية تلعب الإرادة الإنسانية والاختيار البشري دوراً مهماً. فإذا ما أراد الإنسان أن يصل من الهداية التي معناها "إراءة الطريق" إلى الهداية التي معناها "الإيصال إلى المطلوب"؛ أي إذا ما ابتغى الوصول من الهداية التشريعية إلى التكوينية، فينبغي له العمل بجميع الأوامر الإلهية باختياره وحسن إرادته.

فالله يهب المؤمنين الذين يتوفّرون على الهداية بمعنى "إراءة الطريق" [الهداية التشريعية] ضرباً من الهداية التكوينية التي تعني "الإيصال إلى المطلوب"، في مراحل السير الأعلى. فالهداية التشريعية إذاً، هي أنّ الله (سبحانه) يضع بين يدي الإنسان القانون الذي يهبه السعادة، ويبني وعيه من خلال الأمر بالفضائل والنهي عن الرذائل، لكي ينتخب الطريق باختياره، ويبلغ الغاية التي يشاء، وهو يملك الحرية في أن يلتزم ذلك السبيل وأن يعصي ويجنف عنه.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ بعض الناس هم من "المستضعفين" و"المرجين لأمر الله". والمستضعفون الذين يندرجون تحت عنوان "الجاهل القاصر" في موقفهم من الحقيقة والسعادة، هم من المرجين لأمر الله، فهو بحكمته (سبحانه) إمّا أن يعذّبهم أو يعفو عنهم. يقول (سبحانه): ﴿وآخرون مرجون لأمر الله، إمّا يعذبهم وإمّا يتوب عليهم والله عليمٌ حكيم﴾([110]).

لكن ينبغي الانتباه إلى أنّه لا يمكن إطلاق وصف "المستضعف" على أيّ كان. فقد جاء في النصوص الروائية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) قولهم: ﴿من عرف اختلاف الناس فليس بمستضعف﴾ أو قولهم: ﴿الضعيف من لم ترفع إليه حجّة، ولم يعرف اختلاف الناس، فإذا عرف الاختلاف ليس بمستضعف﴾([111]).

أمّا النص القرآني، فهو يتحدث عن "الاستضعاف" على النحو التالي: ﴿إنّ الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا: فيم كنتم قالوا: كنّا مستضعفين في الأرض، قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنّم وساءت مصيراً﴾([112]).

2 – احتجّ بعضهم لإثبات فلاح أهل الكتاب وحقّانيّتهم بالآية الكريمة التالية: ﴿وإن من أهل الكتاب إلاّ ليؤمنّن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً﴾([113]). لقد ذكر المفسرون كالطبري والعلاّمة الطباطبائي ثلاثة وجوه في تفسير الآية تحكي ثلاثة أقوال في معناها، هي:

القول الأول: لا يبقى أحد من أهل الكتاب من اليهود والنصارى إلاّ ويؤمن بالمسيح(ع) قبل موته، إذا أنزله الله إلى الأرض وقت خروج الإمام المهدي(عج) في آخر الزمان لقتل الدجّال. هذا التفسير ينسب إلى ابن عباس، وأبي مالك، والحسن، وقتادة وغيرهم.

القول الثاني: ما من أحد من أهل الكتاب يخرج من دار الدنيا وتزول عنه الحُجُب، إلاّ ويؤمن بعيسى قبل موته إيماناً واقعياً، ولكن لا ينفعه الإيمان حينئذ.

القول الثالث: هو ما ذهب إليه الطبري ويتنافى مع ظاهر الآية، وفحواه: أنّ الرجل من أهل الكتاب يؤمن بالنبي محمد (صلّى الله عليه وآله) قبل موته…

ثُمّ إذا كان كاتب مقال "الصُرط المستقيمة" يرغب في هداية أكثر الناس، ويبدي حرصاً على هذا الأمر، فلماذا تراه لايعبأ من موقعه كمسلم متحرّق، ولا يهتمّ للآيات القرآنية التي تحكي فسق أكثر الناس وجهلهم؟ ومنها هذه الآيات:

أ- قوله (سبحانه): ﴿ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون﴾([114]).

ب- قوله (سبحانه): ﴿وما يؤمن أكثرهم بالله إلاّ وهم مشركون﴾([115]).

ج- قوله (سبحانه): ﴿ما خلقناهما إلاّ بالحقّ ولكنّ أكثرهم لا يعلمون﴾([116]).

د- قوله (سبحانه): ﴿قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين﴾([117]).

هـ- قوله (سبحانه): ﴿يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون﴾([118]).

و- قوله (سبحانه): ﴿إنّ في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين﴾([119]).

ز- قوله (سبحانه): ﴿لأملأنّ جهنّم من الجِنّة والناس أجمعين﴾([120]).

ح- قوله(سبحانه): ﴿ولقد ذرأنا لجهنّم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها﴾([121]).

3 – تنطلق الشبهة الثالثة من واقع الفقه الإسلامي، واعترافه بأهل الكتاب، حيث أجاز هذا الفقه لهؤلاء النهوض بأداء مراسمهم الدينية، وأباح لهم الالتزام بآدابهم الخاصة.

يلحظ في الجواب أنّ اعتراف الفقه الإسلامي بهذا الدور جاء من باب إرفاق الإسلام بأهل الكتاب وإحسانه إليهم، وليس فيه دلالة على أنّ هذه الأديان هي التي تعبّر عن "الحق" وعن خط "السعادة" حاضراً.

أجل، يسجّل الإسلام أنّ الديانتين اليهودية والمسيحية الأصيلتين كانتا على الحق، وأنّ المؤمنين بهما من السعداء. إلاّ أنّ هاتين الديانتين قد تغيرتا بعد ذلك، أضف إلى ذلك أنّهما نسختا بالإسلام. ومن الآيات التي تتحدّث صراحة عن التحريف الذي طال الديانات الكتابية، قوله (سبحانه): ﴿فويلٌ للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثمّ يقولون هذا من عند الله﴾([122]).

4 – تومئ بعض الآيات في القرآن إلى أنّ معيار السعادة هي عناصر ثلاثة فحسب، تتمثل بالإيمان بالله، والإيمان بالقيامة والعمل الصالح، ومن ثمّ لا يدخل في هذا المعيار ضرورة اتّباع دين سماويّ، أو الانتماء إلى دين خاص. من هذه الآيات، قوله (سبحانه): ﴿إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾([123]).

حين لا يكون الانتماء إلى دين خاص والتعبّد به شرطاً لبلوغ السعادة والوصول إلى الكمال، فستكون الأديان بأجمعها سواء، في تأمين السعادة. وإذا ما تمّ الإيمان بدين سماوي على هذا الصعيد، فذلك من باب أنّ هذا الدين يتوفّر على العناصر الثلاثة للسعادة لا غير!

لقد أثيرت هذه الشبهة في البدء من قبل المستشرقين، لكنها سرعان ما شاعت بين صفوف المتغرّبين. أمّا جواب هذا الوهم الناشئ عنها، فيمكن إجماله بالنقاط التالية:

أولاً: إنّ الإيمان بالله يستلزم أموراً منها الإيمان برسل الله وأنبيائه، والإيمان بمضمون الوحي الإلهي ومحتواه والعمل. وإلا فالشيطان يؤمن بالله وبالبعث والقيامة، ومع ذلك عُدّ كافراً. والإيمان بما أنزل الله يعني الإيمان بالقرآن ودين الإسلام، وجميع ما ينطوي عليه هذا الدين من أوامر: كالصلاة والصوم والحجّ والجهاد وغير ذلك.

ثانياً: تربط الآية في تتمتها "الإيمان" بـ "العمل الصالح" وتجعلهما توأمين يفضيان إلى السعادة. وملاك تشخيص العمل الصالح هو "العقل" في مضمار المستقلات العقلية، و"الشريعة" في غير تلك الموارد.

ثالثاً: صرف الانتحال الشكلي لعناوين الإسلام، واليهودية، والمسيحية لا يستوجب السعادة، وإنّما ينبغي الإيمان الحقيقي بالله وبيوم القيامة، والعمل بلوازم هذا الإيمان.

رابعاً: يوجد عدد كبير من الآيات في القرآن يؤاخذ اليهود والنصارى، بسبب عدم إيمانهم بنبوّة نبيّ الإسلام، وعدم التزامهم بأوامر الإسلام، بل حكمت بعض هذه الآيات بالبطلان على بعض عقائدهم هؤلاء بالباطل، كما هو الحال في قوله (سبحانه): ﴿وقالوا اتّخذ الرحمن ولداً. لقد جئتم شيئاً إدّاً. تكاد السّماوات يتفطّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّاً. أن دعوا للرحمن ولداً﴾([124]).

 

النتيجة

1- لا تعني التكثريّة الدينية مطلقاً أحقّية جميع الأديان، والإسلام يرفضها رفضاً باتاً، وإن كان الإسلام يمنح حقّ الحياة الاجتماعية لأهل الكتاب، ويسمح لهم بمزاولة حياتهم في نطاق قوانين الإسلام وأحكامه على هذا الصعيد.

2- إنّ ممارسات من قبيل حوار الأديان، وإبداء الانفتاح وسعة الصدر، والجدال بالتي هي أحسن، ومزاولة البحث والحوار من خلال العلم والمعرفة، والحرص المبذول لتقريب المذاهب والأديان، وتحقيق الانسجام فيما بينها لمواجهة ضروب الشرك والكفر، هي بأجمعها ظواهر مَرْضِيَّة وممدوحة من وجهة النظر الدينية الإسلامية.

3- لسعادة الأفراد وشقاوتهم مراتب ودرجات، وهي ترتبط بالكامل بالإيمان الواقعي، والعمل الصالح. فمن يفتقر إلى الإيمان بالله، والبعث، والقيامة، واليوم الآخر هو من أهل النار، وإن كانت فعاله الصالحة تخفف عنه العذاب. أمّا من يجترح الأعمال الرذيلة من المؤمنين، ويرتكب الموبقات فسيبتلي بنار جهنّم؛ وإن كان مآله إلى الجنة.

4- من يريد بلوغ الحقائق، ولا يرغب في أن تختلط الحقائق المنبثقة عن كتابه الديني بـ"الباطل"، ومن يرغب في سعادة الآخرة، وفي أن لا يصيبه شيء من العذاب الإلهي؛ ينبغي له أن يؤمن بالله والآخرة، ورسالة الرُسل إيماناً حقيقياً، فيقوم بالأعمال الصالحة، ويلتزم بالأوامر الإلهية الإخيرة. وعليه بنحو أدقّ الالتزام بما جاء عن النبيّ والأئمة الأطهار، وأن يؤدّي هذه الالتزامات بقصد القربة.

بلحاظ هذه النقطة، ربما أمكن القول: إنّ أكثر الناس هم من أهل العذاب، لكن لا يمكن القول إن الأكثرية مخلّدة في النار، خاصة مع ملاحظة مسألة "الاستضعاف" التي مرّت لها الإشارة فيما سلف.

وفي نهاية المطاف ثَمّ وصية أرفعها إلى المفكرين الدينيين وهي: أن لا تكون مواقفهم الفكرية مستوحاةً من ضغط الواقع، كما يحصل في الغرب مع كثير من الظواهر التي ترفضها نصوصهم الدينية، ولكنهم ما يلبثون يشرعونها خشية الاتهام بالرجعية والتأخر.

وهذا العمل هو في الواقع إلى استلهام معايير حسن الأفعال وقبحها من الواقع الاجتماعي، بدلاً من استمدادها من نصوصهم الدينية المقدسة.

 

الهوامش:

([1]) يهدف الكاتب في مقاله هذا إلى معالجة الجانب السلبي من التعددية ألا وهو الإيمان بتساوي الأديان كلها وعدم إمكان معرفة الحق من الباطل منها. (المحرر)

([2]) سورة النساء: 59.

([3])سورة الزمر: 17-18.

([4])  سورة البقرة:170.

([5]) سورة البقرة: 73.

([6]) سورة البقرة: 164

([7]) سورة يونس: 100.

([8])  سورة الأنفال: 22.

([9])  سورة النحل: 521.

([10])سورة العنكبوت: 64.

([11])  سورة هود:23.

([12])سورة البقرة: 258.

([13]) الشيخ المفيد، مجموعة مؤلفاته، ج5، ص 69.

([14])المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء، ج5، ص 8 – 207؛ إحياء علوم الدين، ج3، ص8 ـ116؛ بحار الأنوار،ج2، باب ماجاء في تجويز المجادلة والمخاصمة، ص 125ـ 140.

([15])سورة الأنعام: 108.

([16])سورة الحج:3.

([17])سورة غافر:5.

([18])سورة الأنفال:6.

([19])سورة آل عمران:71.

([20])  سورة آل عمران:61.

([21])سورة آل عمران:66.

([22]) غرر الحكم، ج1، ص 85.

([23]) المصدر نفسه، ج1، ص 383 .

([24]) المصدر نفسه، ج1، ص 383.

([25]) تصنيف غرر الحكم، ص 86.

([26]) المصدر نفسه، ص 87.

([27]) المصدر نفسه، ص87.

([28]) الصرط جمع صراط ، ويتضمن هذا التعبير إشارة إلى مقالة لعبد الكريم سروش، بعنوان: "صراطهاى مستقيم"(المحرر).

([29])  سورة النمل:66.

([30])  سورة فصلت: 45.

([31])  سورة الجاثية:32.

([32])  سورة إبراهيم: 9-10

([33])  قبض وبسط تئوريك شريعت ]نظرية تكامل المعرفة الدينية[، ص 167-294، 8 – 296 بالفارسية. كذلك: هرمنوتيك كتاب وسنت ]هرمنيوطيقا الكتاب والسنة[، مجتهد شبستري، ص 16-32.

([34]) سورة الحديد: 25.

([35]) سورة النحل: 89.

([36]) سورة البقرة: 230.

([37])سورة البقرة: 256.

([38]) نهج البلاغة، طبعة صبحي الصالح، الخطبة 198، ص 315.

([39]) م.ن.، الخطبة 521، ص 182.

([40]) م.ن.، الخطبة 158، ص 223.

([41]) م.ن.، الخطبة 147، 206.

([42]) م.ن.، الخطبة 183، 265.

([43])  سورة الفاتحة: 6.

([44])سورة الأنعام: 153.

([45])  سورة مريم: 43.

([46])  سورة سبأ: 6.

([47]) بحار الأنوار، ج21، ص 114، ح8.

([48]) م.ن.، ج18، ص 146، ح7.

([49]) أنظر: م.ن.، ج9، ص 69.

([50]) أنظر: م.ن.، ج1، ص36.

([51]) أنظر: م.ن.، ج21، ص341.

([52]) م.ن.، ج9، ص 182، ح10.

([53]) م.ن.، ج27، ص 74.

([54]) م.ن.، ج46، ص 306، ح1.

([55]) ميزان الحكمة، ج4، ص 464.

([56]) سورة التوبة: 33.

([57]) بحار الأنوار، ج35، ص 397، ح6.

([58]) م.ن.، ج25، ص208، ح20.

([59]) م.ن.، ج3، ص 281، ح21.

([60]) الراغب الأصفهاني، مفردات الراغب، ص133.

([61]) بحار الأنوار، ج9، ص 133، ح20.

([62]) م.ن.، ج6، ص109، ح2، بشيء من الاختصار في بعض الألفاظ.

([63]) م.ن.، ج5، ص 8، ح9.

([64]) م.ن.، ج5، ص118، ح 52.

([65]) م.ن.، ج2، ص 288، ح2.

([66]) أنظر: م.ن.، ج6، أبواب البرزخ ومساءلة القبر.

([67])  سورة المائدة: 64.

([68]) سورة المائدة: 18.

([69])  سورة البقرة: 120.

([70])  سورة التوبة: 30.

([71])  سورة التوبة: 31-32.

([72])  سورة النساء: 157.

([73])  سورة النساء: 171.

([74])  سورة النساء:153.

([75])  سورة آل عمران: الآيات 69-72.

([76])  سورة المائدة: 51.

([77]) سورة المائدة: 73.

([78]) بحار الأنوار، ج24، ص 336، ح59.

([79]) م . ن.

([80]) آل عمران: 38.

([81]) بحار الآنوار، ج52، ص340، ح90.

([82])  سورة الفرقان: 1.

([83])سورة الأنبياء: 107.

([84])  سورة الأنعام: 19.

([85]) سورة النساء: 79.

([86])  سورة الأعراف: 158.

([87])  سورة سبأ: 28.

([88]) سورة الشعراء: 214.

([89]) أنظر: الكامل لإبن الأثير، ج2، 61.

([90]) أنظر: الأحمدي ميانجي، مكاتيب الرسول، ج1، ص 90.

([91])  سورة آل عمران:97.

([92])  سورة لقمان: 6.

([93])  سورة المائدة: 51.

([94])  سورة المائدة: 57.

([95])  سورة المائدة: 54.

([96])  سورة آل عمران: 184.

([97])  سورة النساء: 14.

([98])  سورة النساء: 59.

([99])  سورة التوبة: 63.

([100])  سورة البقرة: 39.

([101]) الشيخ الصدوق، التوحيد، ص 190، باب 1، ح5.

([102]) المصدر نفسه، ص20، ح7.

([103]) المصدر نفسه، ص21، ح10.

([104]) المصدر نفسه، ص21، ح11.

([105])المصدر نفسه، ص 23، ح18.

([106]) المصدر نفسه، ص25، ح3.

([107])  سورة آل عمران: 85.

([108]) مرتضى مطهري، العدل الإلهي، الطبقة الفارسية، ص 300.

([109]) عبد الكريم سروش، مقالة "طراطهاي مستقيم" (الصرط المستقيمة) مجلة كيهان، العدد    .

([110])  سورة التوبة: 106.

([111]) حق اليقين، ص188.

([112])  سورة النساء: 96.

([113])  سورة النساء: 159.

([114])  سورة آل عمران: 110.

([115])  سورة يوسف: 106.

([116])  سورة الدخان: 39.

([117])  سورة الروم: 42.

([118])  سورة النحل: 83.

([119])  سورة الشعراء: 8.

([120])  سورة السجدة: 13.

([121])  سورة الأعراف: 179.

([122])  سورة البقرة: 79.

([123])  سورة البقرة: 62.

([124])  سورة مريم: 79.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً