أحدث المقالات

التنوير الثقافي

مقارنة بين أشكاله

تأليف: د. محمد جواد لاريجاني

ترجمة : نوال خليل

 

مقدّمة:

يمكن الحديث عن التنوير الثقافي ودراساته عبر أطر ثلاثة:

1 – التنوير الثقافي في الغرب.

2 – التنوير الثقافي في الإسلام.

3 – التنوير الثقافي الإصطناعي.

وسوف نبدأ بحثنا بالتعرّض للتنوير الثقافي في الغرب.

 

التنوير الثقافي في الغرب:

مصطلح التنوير الثقافي واحد من المصطلحات التي ظهرت في الغرب، ولهذا يلزم أن يُعرف جيداً في بيئته الغربية.

ولد التنوير الثقافي الغربي في خضمّ سير تاريخي محدّد ومعلوم وفي مهد تحولات سياسية – اجتماعية وفكرية خاصّة. وتقع معرفة هذه الظروف التاريخية والتحوّلات السياسية على درجة عالية من الأهمية، لكن ما سأتناول بحثه هنا هو النواحي الإيجابية والسلبية للتنوير الثقافي في الغرب.

أعتقد أنّ التنوير الثقافي في بيئتـه الغربية كان مصاحَباً بقيم في غاية الأهمية، إضافة إلى سلسلة من الإنحرافات.

القيمة الاُولى المهمّة في التنوير الثقافي، كانت الفرار من التعصّب صوب إظهار أفضل للحقيقة، وفي الواقع كان هذا هو الأساس الجوهري لحركة التنوير الثقافي في الغرب.

كمثال: كان العالِم في المجتمع الغربي خلال القرون الوسطى ضمن دائرة المعارف والعلوم، يتعصّب لتلك النظريات والآراء الموجودة في الكتب الدراسية وللقوانين العلمية السائدة آنذاك، بدلاً من أن يكون ساعياً وراء إظهار الحقيقة.

بدايةً بدأ التنوير الثقافي ضمن الدائرة العلمية، حيث جاء أشخاص من أمثال غاليلو وكوپرنيكوس، وقالوا: (نحن نريد أن نفهم كيف تتحرّك الأرض؟)، (لا يعنينا، ماذا قال القدماء، نحن نريد أن نعلم هل توجد للدم حركة في الجسم أم لا؟).

هذه القضية على درجة عالية من الأهمية، إذ إنّها تمثّل النـزوع نحو الحقّ ونحو الواقعية. والأمر نفسه يؤدّي إلى أن تتكامل العلوم.

كانت الكنيسة في القرون الوسطى مؤسّسة وليست مدرسة، أمّا نحن في الإسلام فلا يوجد لدينا ما يعادل أو يشبه الكنيسة، إنّما هناك حوزات علمية أكاديمية؛ تعدّ مكاناً لتربية (العالِم). أمّا الكنيسة فلا علاقة لها بالعلم، إنما تمثّل مجرّد مؤسّسة، وقد فرضت هذه المؤسّسة نفسها على الحياة العامّة للناس في القرون الوسطى، فكانت تصدر منها أفعال غريبة وأعمال غير منصفة.

جاء المتنوّرون ليناقشوا شرعيّة هذه السلطة الكنسيّة، فأثاروا سلسلة من التساؤلات، منها: من أين ثبت الحقّ في مثل هذه السلطة والحكم؟! أنتم الذين تتسلّطون علينا، وتقولون: إنّنا نحن الحكام، وتنصّبون لنا الحاكم، ما هو دليلكم على صحّة ما تدّعونه وتقولونه؟!).

لقد كان الجواب: (إنّ الله هو مَن أمر بذلك).

ومن ثم سأل المتنوّرون ثانيةً: (إنّما قال الله: إنّ ذلك الذي يجوز أن يكون حاكماً هو من يعرف طريقه – أي طريق الله – بنحو أفضل، فلماذا فرضت نفسك أنت أيها الكنسي؟!).

ثم انتقلوا بعدها إلى المجادلة في بناء السلطة على أساس عقلي، وهذه الحركة بدورها حركة مهمّة وحسنة، إذ كان معناها رفض الحكومات الفاقدة للاُسس المبنائية.

نعم، من الممكن أن يكون المتنوّرون قد اشتبهوا في تحديد أيٍّ من الأسس العقلية هو الأفضل؛ إلاّ أنّ نفس فتح الأفق هذا يعدّ بذاته أمراً بالغ الأهمية.

إنّ المشكلة الكبرى للتنوير الثقافي في الغرب تتمثّل في أنّه ظلّ – ولعدّة مئات من السنين – يبني أرضيةً للفكر الإلحادي للبشر، وهذا في الحقيقة هو المحذور العظيم للتنوير الغربي.

لقد أرادت حرجة التنوير الثقافي في الغرب خلاص الإنسان نفسَه من شرّ الخرافات، فابتلت بخرافة أكبر وأعظم. لكن وعلى أي حال، تكامل هذا التنوير، ليجلب معه – أيضاً – نقاطاً إيجابية ومسائل قيّمة جدّاً.

 

التنوير الثقافي في الإسلام:

طبقاً للقواعد والأصول، لا ينبغي قراءة التنوير الثقافي قراءة سلبية، وإنّما يجب أن ينظر فيما حمله الفكر الاسلامي من أفكار حوله.

وبرأيي، مفهوم (البصيرة) الذي ورد على لسان القرآن والسنّة الشريفة أفضل أساس لتعريف الأنموذج السليم للتنوير الثقافي.

إنّ الإنسان المتنوّر هو الإنسان البصير، وفي الغرب لم يكن المقصود من الإنسان المتنوّر رجل الدين، بالطبع تعدّ البصيرة أمراً ضرورياً له، إلاّ أنّ البصيرة لا تنحصر برجل الدين، فكثيراً ما يكون الشخص فقيهاً لكنه يفتقد البصيرة، فيما ينعكس الأمر أحياناً أخرى، فيغدو من الممكن أن يتحوّل خياط سُرُج الدواب بصيراً.

إنّ البصيرة ومصاديقها المتعدّدة – والتي ورد الحديث عنها في النصوص الإسلامية – مسألة في غاية الأهميّة. ويجب على الذين يعيشون هاجس الحرص على الإسلام الأصيل أن يحيوا مفهوم البصيرة ضمن قراءة مكثّفة وعميقة؛ فالمتنوّر هو الإنسان البصير حقاً.

ويعدّ التحلّي بالعقل أحد أركان البصيرة، فقد تعرّضت نصوص الأئمة المعصومين Gلمسألة العقل والجهل. وعلامة العقل أن يعرف المرء ما ينفعه وما يضرّه، فيعمل بموجب معرفته تلك، أمّا الذي لا عقل له، فهو الذي لا يعلم ما ينفعه وما يضرّه.

وقد ورد في الحديث: أنّ الله عندما خلق العقل قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبَر، مما يعني التبعية للحقّ، وأن المعيار يمكن في النفع والضرّ.

استطراداً، يعتبر امتلاك الفرد موازين عقلائية تتحكّم بسلوكه، ملاك التنوير الثقافي في الأنموذج الغربي، إلاّ أنّ النفع والضر هناك – أي في الغرب – محصوران في إطار الحياة المادية.

فالمتنور الإسلامي – إذن – هو البصير الذي يعمل طبق الأسس العقلية الدقيقة، والخصائص التي يمكن أن تُذكر للمتنوّر المسلم (الإنسان البصير) تتلخّص بما يلي:

1 – النـزوع نحو الحقّ.

2 – التسليم مقابل الحقّ.

3 – النـزوع نحو العقل والتعقّل.

4 – الشجاعة العالية.

5 – السعي الحثيث.

إنّ صـورة التنوير الثقافي هذه هي صورة إسلامية بالكامل، ولها جذورها في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، إضافةً إلى نماذج تاريخية كثيرة في تاريخ الإسلام. نحن  بوصفنا مسلمين نعتزّ بها جدّاً.

إنّ مفهوم البصيرة مفهوم غنيّ، إلى الحدّ الذي يمكنه في الحقيقة أن يروي ظمأ مجتمعنا المسلم وشبابنا المثقف والمتعلّم، فيجعله يشعر بأنّه المتنوّر الذي يمتلك المزايا الإيجابية للمتنوّر الغربي جميعها كما يخلو من عيوبه وانحرافاته.

إنّ التنوير الثقافي يمتلك جاذبية ومحفّزات خاصّة في أوساط شبابنا المثقف والمتعلّم.

إنّ شبابنا يحبّون أن يعتبروا في عداد المتنورين، وكتّابنا أيضاً يحبون أن يحسبوا في عدادهم، هذا أمر واقع.

ما المشكلة في أن نُظهر أنموذجاً للتنوير الثقافي يتطابق والأسس والموازين الإسلامية، وفي الوقت الذي يحوي في أحشائه ميزات التنوير الثقافي الغربي الإيجابية برمّتها، يكون مبرأ ً عن عيوبه، في اعتقادي أنّ مفهوم البصيرة يمكن أن يكون أفضل قاعدة وأساس للتنوير الثقافي الإسلامي.

إنّ في ما يقوم به المتنورون المؤيدون للغرب، حيث يبحثون عن الأنموذج في تاريخ الإسلام، لكفاية في بيان تفوّق المتنوّر الإسلامي بالمعنى الواقعي للكلمة، قياساً بالمتنوّر الغربي، إنّهم يصفون – على سبيل المثال – أبا ذر بالموّحد الاشتراكي، مع أنّه لو تعاملنا مع التاريخ بحق لوجب القول: إنّ الإشتراكية هي (أبا ذرّية).

 

مقارنة بين المتنوّر الإسلامي والمتنوّر الغربي:

ظهر التنوير الثقافي الغربي إثر السعي وراء إيجاد الحقيقة، لكنّه ضلّ الطريق. وبدلاً من أن يقوم – لفهم الحقيقة – بتنحية الخرافات جانباً – حيث كان المجتمع الغربي قد وقع تحت تأثير الكثير من خرافات الكنيسة – ودرك الحقائق المتعلّقة بوجود الإنسان، أبعد هذه المباحث كلّها وطرحها جانباً، دون أن يدنو منها بوصفها (محظورات).

لذا، فالمتنور الغربي ليس إنساناً معادياً للدين عن برهنة بنسبة التسعين في المئة، بل إنّه شخص يقول: إنني غير مطمئن لمدى صحّة الدين، ومعنى أنّه غير مطمئن هو أنّه لا يريد من الأساس أن يمتلك مثل هذا الاطمئنان، لا أنّه قد ذهب وبحث، إنّه من البدتية غير مستعدّ كي يلج مباحث المبدأ والمعاد وحقيقة الإنسان. فهذه تعد محظورات بالنسبة إليه.

إنّه يأتي ليرد إلى الموضوع – مثل ماركس – ويبحثه، ومن ثم ليقول في النهاية بأنّ الدين مقولة غير مرضية وغير مستساغة، ومن الممكن أن يتمّ البحث مع مثل هذا النوع من الأفراد. إلاّ أنّ تسعين في المئة من المتنوّرين الغربيين لا يخوضون أساساً في مثل هذه المباحث، ويقولون إنّهم لا يرون لها أية فائدة أو قيمة.

أمّا المتنور المسلم البصير، فإنّه يردُ هذه المباحث بإقدام، المتنوّر الإسلامي لا محظورات لديه، فهو يسأل نفسه:

       أين أصل ومبدأ الوجود؟

       لماذا لا يجب عليّ أن أخوض في بحث هذه المسألة المهمّة؟

       هل هناك وجود للمعاد؟ وهل هناك من صراط؟

فالمتنور المسلّم يخوض في بحث مثل هذه القضايا، ويصل فيها إلى نتائج جيدة.

إنّ التنوير الثقافي الغربي مفهوم تكامل بشكل طبيعي في أحضان بيئته الغربية، ونحن في الإسلام نستطيع – بنحو طبيعي – أن نحصل على أنموذج أفضل بدرجات من المثيل الغربي، أنموذج غير مممنتج، بل هو الأفضل والأكمل والأكثر عقلائية، إنه الأفضل من مثيله الغربي من النواحي جميعها.

 

التنوير الثقافي المصطنع:

 ثمّة نوع آخر من التنوير الثقافي، برز في مجتمعنا على صورة تلقيح اصطناعي، أي صورة شيء قشري ومجرّد مظهر خاوي، بمعنى أنّ أفراداً ظهروا، ولكي يتّصفوا بالمظهر الخارجي للتنوير الثقافي، نظروا إلى المتنوّر الغربي فرأوه يضع الدين جانباً ويبعده عن محور اهتماماته، فشرعوا هم أيضاً بنفي الدين، دون أن يعلموا بأنّ المتنور الغربي إنّما قام بهذا الفعل بغية الفرار من الخرافات، أمّا المتنور المصطنع فإنّه – ولأجل اكتساب مظهر فقط – يرمي بنفسه في مستنقع الخرافات.

فالمتنور الغـربي يرفض الكنيسة، لكن هذا المتنوّر يرفض الإسلام! ولذا فهما متفاوتان جدّاً فيما بينهما، وسأعرض مثالاً كي يتّضح التفاوت الذي ذكرته بنحو جليّ.

خلال العهد الذي كانت الكنيسة فيه حاكمة، كانت الجامعات الغربية تفتح المجال أمام طلابها للدراسة في ثلاثة فروع تعليمية فقط، وهي لاهوت الكنيسة الرومانية، والقانون الروماني، إضافة إلى الطب، ولم تكن الكنيسة لتسمح بتدريس أي فرع آخر؛ لا الرياضيات، ولا الفلك، ولا الفيزياء، ولا الفلسفة، لكن انظروا في المقابل إلى الحوزات العلمية الإسلامية، كم تعتني وتهتمّ حتى اليوم بهذه العلوم؟

لقد امتلك كبار علمائنا المسلمين مدارس للتعليم على الدوام، أمّا المتنوّر الغربي فكان مضطرّاً للتصادم مع الكنيسة كي يعلّم علومه الرياضية، أمّا الوضع في المدارس الإسلامية فلم يكن على مثل هذه الصورة في أي وقت من الأوقات.

فالخواجه نصير الدين الطوسي إذا كان يعدّ شخصية مهمّة وعظيمة بالنسبة إلينا، فهذا يعود إلى أنّ أحد إنجازاته القيّمة كانت في مجال علم الرياضيات؛ وكذلك الحال بالنسبة إلى الفارابي والخيّام والخوارزمي وغيرهم، كان علماؤنا العظام يعتزّون بأنّهم شكّلوا حوزات ومدارس لتعليم هذه العلوم وتطويرها، وكانوا يشجّعون الناس على الانخراط فيها، على ضوء هذا يتّضح أنّ الآفاق مختلفة تماماً.

إذن، فالمتنوّر المصطنع متنوّر قشري، إنسان كسول، أمّي، متظاهر وبلا هوية إلى أبعد الحدود.

والملفت هنا أنّ هذا النوع من التنوير الثقافي لا ينتمي أيضاً إلى أنموذج التنوير الثقافي الغربي ولا يرتبط به؛ ذلك لأنّه يفتقد لأي ميزة من مزاياه.

التنوير الثقافي المصطنع صنف مستورد، مقلّد، ويفتقد للهوية بنحو تامّ، لا هو بالدين يرتبط، كما لا يتّصل بأنموذج التنوير الثقافي الغربي. وعلامته أيضاً معاداة الدين ومخالفته.

لقد نما هذا النوع من التنوير الثقافي وتكامل بسهولة في أحضان أحطّ الأنظمة الحاكمة، ولم يكن يعاني من مشكلة معها، لكنّه لم يتمكن أبداً من أن يتعايش مع الإسلام، ويوجد لنفسه موطئ قدم.

فقد تلبّس بالشيوعية تارة، واليوم تلبّس بلباس الليبرالية؛ والأمر عينه يشير إلى عدم تجذّر هذا النوع من التنوير الثقافي، فتوجّهه ومظهره الوحيد مخالفة الدين ومعاداته.

وبالطبع، يوجد فرع من هذا التنوير المصطنع طرح تحت عنوان التنوير الديني، لكنّه مدينٌ كثيراً إلى اللامتدينين، وهكذا صار الدين في ظلّ هذا النوع من التنوير مسحوقاً ومطروداً عن ساحة الحياة الاجتماعية، وأصبح بالكامل مجرد قراءة شخصية.

وقد انجز هذا العمل – سحق الدين وطرده – لغرض التوافق بين هكذا دين (الدين المنفصل عن الحياة الاجتماعية) وبين ذوقيات ذلك التنوير المصطنع نفسه، وعلى أي حال، فإنّ أياً منهما – التنوير الثقافي المصطنع والتنوير الثقافي الديني – لا يعتبر مصداقاً للتنوير الثقافي الإسلامي الذي عرّفناه سابقاً.

 

مقارنة بين التنوير الثقافي الغربي والتنوير المصطنع:

عندما بدأ التنوير الثقافي في الغرب، بالإضافة إلى أنّه كان يتّسم بصفة الواقعية، ويسعى وراء الحداثة والحرية، كان يحمل أيضاً هاجس العدالة، ولهذا كانت بعض كلمات جون جاك روسو (John Jack Roussou) أعمق وأقوى من كلمات ماركس، خصوصاً عندما يكون الحديث عن العلاقة بالفقراء، كما أنّ جون ستيوارت ميل يصنّف في عداد راديكاليّ عصره، وقد أدّى هاجس العدالة هذا إلى ظهور تيارين داخل أنموذج التنوير الثقافي الغربي لا زالا موجودين إلى يومنا هذا، وهما:

1 – المتنوّرون الذين يعتقدون أنّ الشخص ما لم يكن مؤيداً للعدالة فهو ليس بمتنوّر، وبتعبير آخر: ما لم يعش هاجس الفقراء والمظلومين وأولئك الذين يتعرّضون للاضطهاد وهضم الحقوق، فليس بمتنوّر.

2 – المتنورون الذين يعتقدون أنّه ليس ضرورياً – طبقاً للأصول والقواعد – أن يحمل التنوير الثقافي إلى هذا الحدّ هاجس الاهتمام بالفقراء، بل عليه أن يعيش هاجس الحداثة وسائر الأبعاد المختلفة للتجربة الإنسانية، ولهذا نرى أنّ بعض المتنوّرين يعيش في مستوى عالٍ من البذخ والرفاهية، فيما يصرّ البعض الآخر على التواجد بين الناس في الأحياء والشوارع الفقيرة للمدينة.

هذه الحيرة وهذه الإزدواجية موجودة في قلب أمريكا أيضاً.

إنّ هذه الهواجس وهذه الحيرة تعدّ من الاُمور الأصيلة والأساسية في الغرب وبين المتنوّرين الغربيين، لكن عندما تريد أن تظهر بشكل اصطناعي ومجرّد مظهر وصورة قشرية في مكان آخر فإنّها ستفقد الجذور.

المتنوّر المزيف المؤيّد للماركسية والعدالة يعيش في حالة من البذخ والرفاهية وهو يطلق – مع ذلك – شعار العدالة؛ وهذا بنفسه علامة عدم التجذّر والواقعية والأصالة.

إنّ هذا المتنوّر لا يمتلك حتى خطاباً حديثاً، لانّه غارق في التقليد من رأسه وحتى أخمص قدميه، فعلى سبيل المثال يعدّ صادق هدايت أحد أنبياء المتنورين المختلقين، لكن في الحقيقة ما هو النفع من ورائه؟ إنّ إنساناً كان كالأمراء وعاش في رفاهية كاملة، وامتلك علاقات حكومية واسعة جداً، وحيثما تواجد كان البلاط الملكي يوصي السفير الإيراني بالذهاب لرؤيته، كيف لم يكن هذا المتنوّر مستاءً ومنـزعجاً مع أنه يعيش في قلب البلاط؟!

إنّ (العدمية) أو (النهلسية) [Nilhilisim] التي يتحدّث عنها صادق هدايت لم تكن ضمن هاجس العدالة، بحيث يتشاءم عندما يرى فقدانها، بل لقد انتفخ وتورّم من الإفراط؛ لأنّ الناس الذين يصلون إلى الخواء والفساد إنّما يصلون إلى ذلك عن أحد طريقين:

أحدهما: طريق الإفراط والفراغ من المضمون (الفكري والروحي).

والآخر: جرّاء الحساسية المفرطة حيال العدالة، ورؤية الظلم منتشراً في كلّ مكان فيصاب باليأس.

فعن أي طريق وصل صادق هدايت إلى الخواء؟

في الحقيقة لقد صدئ من كثرة ما أكل وشرب، وانتفخ واهترأ، لقد كان تمثالاً للانحطاط والفساد، حيث يخجل المرء من أن يشيع وقائع سيرة حياته.

هذا هو نبيّ التنوير الإيراني الزائف، ومن المؤسف أنّنا نرى في مجال الأدب أشخاصاً على شاكلته يتناولهم طلابنا الجامعيون مواضيعَ لرسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه.

هؤلاء هم هدايا التنوير الثقافي المزيّف في إيران، ولكن على المتنوّر المسلم أن يقف في مواجهتهم بصلابة، فمسيرة التنوير الثقافي المصطنع تريد أن تصنع منهم محظورات مقدّسة.

إنّ الأشخاص الذين ينادون بأنّه ينبغي علينا أن نمحو التحجّر والتقديس الأعمى، لا يقومون – أنفسهم – بمحو التحجّر والتقديس الأعمى لمثل هذه الجراثيم التي لا أساس لها ولا جذور، بل وعلى العكس من ذلك نجدهم يصنعون منها أصناماً.

إنني أعتقد أن المتنوّر المسلم لا يجب أبداً أن يتعامل مع هذا النوع من التنوير الثقافي بمنطق الاحتياط، لأنّنا هنا نسأل: وهل يحتاطون هم في الهجوم على المقدّسات الإسلامية؟!

سوف أنقل هنا بقصد إيضاح الأمور، أنموذجاً صغيراً من هذا النوع من التنوير الثقافي، بل حتى أنني لأشعر بتأثّرٍ شديد جرّاء نقل هذا الأنموذج.

إنّ رضا براهيني هو من هذه الشاكلة من المتنورين المزيفين، إنّه شخص كان يكتب مقالات في أحطّ المجلات الغربية على الإطلاق، في مجلة فاضحة تحمل إسم: Play Boy.

في الواقع، إنّ أحط مجموعة في ثقافتنا وتاريخنا هم هذا النوع من المتنورين.

 

تحدّيات التنوير الثقافي الإسلامي مع التنوير الزائف

يمكن لطبيعة تحدّيات التنوير الثقافي الإسلامي حيال التنوير الثقافي المصطنع أن تكون من جهات مختلفة، إلاّ أنّني سوف أعرض لجهتين فقط: الأولى: أولئك الذين يفسّرون الدين وفق قراءات شخصية، ولا يرون أبداً قراءة عامّة له. إنّنا مع هذا النمط من الأفراد نستطيع أن نخوض في بحـث فلسفي، كما يمكننا أن نطرح البحث بالاستناد إلى القرآن وكلام الرسول الاكرم(ص). لأن خطابهم هذا لا يمتلك أساساً، ومرتكزاً عقلياً ولا قرآنياً ولا روائياً.

وفي الواقع، يقوم التنوير الثقافي المزيّف في هذا الاتجاه أيضاً بتقليد الغرب. ومن الممكن بسهولة توضيح منشأ كلامهم، وأنّه من أي شخص في الغرب قد صدر؟ وأنّه من هو حقيقةً صاحب الشكّ المعرفي الأبيستمولوجي هذا؟ وأنّ هذا البرهان الفلاني ما هو منشأه؟

الثانية: مسألة ارتباط هؤلاء المتنورين بالشرق والغرب، فعلى المتنوّر المسلم فضح هذا الخط الفكريّ الفاسد وبشجاعة، فيما يتعلّق بهذه المسألة، لماذا ينبغي أن يكون هذا الأمر مخفيّاً؟

إنّ هؤلاء الأشخاص إذا كانوا قد أكلوا وشربوا على مائدة الاستعمار، وكان لهم مكانة وشأن في المحافل الماسونية وغيرها.. فلماذا لا يجب أن يتضح هذا الأمر وأن يعلم الناس به؟!

وعلـى كل تقدير، لقد سخّرت القوى السياسية الغربية رأسمالاً كبيراً لاستثماره في مثل هذا النوع من التنوير في إيران، وهم يقدّمون الحماية والدعم لهؤلاء المتنوّرين ويشجعونهم.

إنّ واجب المتنوّر المسلم وتكليفه يتمثّل في حفظ سراج الدين مضاءً داخل المجتمع في جميع الأحوال، فكلّما كنّا أكثر بصيرة فيما يتعلّق بديننا استطعنا أن نسدّ الطريق أمام هذه الانحرافات.

عن مجلة نصوص معاصرة – العدد الأول

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً