أحدث المقالات

الخطاب الإسلامي واقع وإشكاليات

حوار مع الشيخ حيدر حب الله والشيخ سعيد النوري

ولد الواقع المعاصر الكثير من المساءلات للخطابات الأيديولوجية المُنادية بتخليص العالم وإيصاله إلى بر السلام، والخطاب الإسلامي بصفته أحد الخطابات الأكثر حضوراً وفعالية، وأحد أبرز البدائل المؤهَلة للخطابات المُتحررة والأكثر شعبية من بينها، أًوردت عليه الكثير من الإشكالات والمُساءلات، لابد له من الوقوف عليها ومناقشتها.  وفي ظل هذا الجو تُقدم شبكة الغدير حوارها مع سماحة الشيخ سعيد ميرزا النوري الرئيس السابقة لجمعية التوعية الإسلامية بمملكة البحرين وطالب العلوم الإسلامية بالحوزة العلمية  بمدينة قم المقدسة بإيران ، وسماحة الشيخ حيدر حب الله أستاذ الحوزة العلمية والمسئول في مرفأ الكلمة بمدينة قم ورئيس تحرير مجلتي المنهاج ونصوص معاصرة

المحور الأول:

–  مقدمة تعريفية للخطاب الإسلامي

الغدير: بداية الشيخين الفاضلين ، حرصاً على أن لا يتم تحميل حديثنا فوق طاقته، وحتى يكون القارئ أكثر التصاقا بمقصودكما، كيف تعرفان الخطاب الإسلامي؟

النوري:  يمكن أن نقول أن الخطاب بصورة عامة هو مجموع آليات التفكير والتواصل المعرفي، فلكل مجتمع ولكل مذهب فكري طريقة في التفكير وآليات الطرح المعرفي وآليات التواصل مع الآخرين، مجموع هذه الآليات سواء في جانب الطرح و التفكير أو في جانب التواصل مع الآخرين، مجموعها نستطيع أن نسميها بالخطاب؛ وعندما ننسب هذا الخطاب للإسلام ونقول "الخطاب الإسلامي" فإننا نتكلم عن مستويين مختلفين، فيمكن أن نتكلم عن الخطاب الإسلامي في مستوى المصادر الإسلامية الأصلية وهي الكتاب والسنة، فنقول أن القرآن الكريم لديه "خطاب قرآني"، بمعنى آليات واستراتيجيات وأساليب في التفكير والتواصل، ويمكن أن ندرس النصوص النبوية الشريفة ونصوص المعصومين عليهم السلام لنحاول أن نستنتج الاستراتيجيات والسياسات العامة في طرح الأفكار والتواصل مع الآخرين، هذا هو المستوى الأول، وأعتقد أنه هو الأجدر بتسميته بـ"الخطاب الإسلامي"، ويمكن في المستوى الآخر أن نطلق عنوان "الخطاب الإسلامي" على تلك الاستراتيجيات والسياسات والآليات التي يوظفها المنتمون للإسلام من العلماء والكتاب والمفكرين الإسلاميين في طرحهم للأفكار الإسلامية والتواصل المعرفي.

وبطبيعة الحال فإن الخطاب الإسلامي المعصوم من المستوى الأول هو المرجعية والمعيار الذي يحاول الخطاب الإسلامي من المستوى الثاني أن يقترب منه ويتطابق معه، ومن هنا فإن الخطاب الإسلامي للإسلاميين ليس خطاباً معصوماً، ويمكن أن يكون فيه ثغرات ونقص، وهو يقاس ويُقيم بمستوى قربه من الخطاب الإسلامي الأصلي والمعصوم، وهنا نقطة مهمة وهي أننا كملتزمين بالإسلام لا يضرنا كثيراً على مستوى حقانية الإسلام أن يكون هناك قصورٌ في "الخطاب الإسلامي" من المستوى الثاني، فأنا كإسلامي لا يُضعف من إيماني بحقانية الإسلام أن يكون هناك قصور في خطابي وأعترف به، لأن الانتماء الحقيقي والأساس هو لـ"الخطاب الإسلامي المعصوم"، لأنه هو معيار المرجعية، وهو معيار الانتماء، وهو معيار الحقانية، وهو معيار الصواب والخطأ، مع ملاحظة أن الخطاب الإسلامي من المستوى الثاني الذي يصوغه العلماء والمفكرون الإسلاميون قريب من الخطاب الإسلامي من المستوى الأول.

حب الله: تحمل كلمة الخطاب في طياتها التباساً مفهومياً لدى بعضهم، إنها لا تعني الأسلوب البياني كما كانت تعنيه في الثقافة اليونانية المنطقية، بل تعني لغة الثقافة، والمقصود بلغة الثقافة المعنى الفلسفي المعاصر للغة، أي تلك النظم الفكرية المتجلّية في نظام التعبير، من هنا يغدو الخطاب تعبيراً آخر عن جملة عناصر أبرزها:

1-   نظام المعرفة الذي تقوم اللغة عليه، ففي الألسنيات المعاصرة يعتقد تيارٌ أن اللغة هي مركز المعركة الفكرية، وأن ما يُحكى عن وجود معركة خارج أسوار اللغة أمر لا واقع له، لا نريد تبني هذه المقولة لكن نريد القول: إن اللغة نظام من الجينات يحتوي في داخله تمام خصائص الكائن الفكري، ومعنى ذلك أنّ نصّك اللغوي يستوعب بنية تفكيرك، فإصلاح خطابك يعني إصلاحاً لبنية التفكير، لا مجرّد تغيير في التفنن البلاغي.

2-  توليفة المقولات الرئيسة في الفكر، وأعني بذلك أن مجموعة الأفكار التي يحملها أيّ إنسان تمثل تركيباً بنائياً، له شكله الخاص وترتيبه المحدّد، فأنت عندما تريد بناء بيت فإن طريقة وضعك لأحجاره تترك أثراً في التكوين العام له، هكذا الحال تماماً في الفكر، إن ترتيبك للأفكار والنظريات يلعب دوراً في رسم الخارطة العامة النهائية لفكرك وخطابك، ومحصّل هذا الكلام أن رسم أولويات الفكر وإعادة ترتيب الأفكار ضمن أولوياتها من شأنه أن يبلور خطابك على نسق جديد.

دعني أعطي هذا المثال، ثمة فريق اليوم في ساحتنا الإسلامية يعتقد أن الأولويات الفكرية تكمن في الدفاع العقدي عن المذهب الإمامي، وثمة فريق آخر يرى أن الأولويات هذه تتركّز في إصلاح الخلل الداخلي، لاحظ كيف تترتّب الأفكار داخل كلّ نسق، وأيّ فكرة تغدو أولويةً تمثل أعمدة البيت وأيّها يمثل جداراً فرعياً، إن هذا الاختلاف في ترتيب الأفكار على أساس الأولويات، يمايز الخطاب ويكوّنه في الوقت عينه.

3-  الأهداف التي يسعى لها الخطاب، لاحظوا خطاب الإخوان المسلمين في القرن العشرين، كان يريد الوصول إلى السلطة، كان يهدف الإمساك بزمام الأمور لإجراء تغيير في بنية المجتمع، لاحظوا أيضاً الإسلام الثوري الشيعي، مقولة الإمام الخميني المشهورة في البدء أولاً بإسقاط الشاه ثم إجراء الإصلاحات الأخرى، إن طبيعة تحديد الأهداف تُمايز الخطاب وتكوّنه، أليس هذا الخطاب مختلفاً في بنيته عن ذاك الخطاب الذي يرفض الإسلام السياسي، ولا يستهدف الوصول إلى السلطة؟ إن الخطاب الذي يريد أن يصل بالدين إلى السلطة يختلف عن ذاك الخطاب المطلبي الذي يهدف تمرير أوضاع الشيعة هنا أو هناك، إن الأهداف ذات دور بليغ في تكوين الخطاب الإسلامي.

4-  ونتيجة مجموعة العناصر السالفة وغيرها يحدث التحوّل الشكلاني في الخطاب، تلاحظ مثلاً تبلور مجموعة المصطلحات الجديدة المتمايزة عن النسق التعبيري القديم، ليس ذلك رغبة في تغيير كلمة أو تبديل جملة أو تركيب، بل نتيجاً طبيعياً وتلقائياً لتغير بنية الخطاب الفكرية، لهذا يلاحظ على بعض المشاريع الإصلاحية داخل الحوزات العلمية أنها ركّزت على تبديل لغة العلوم الإسلامية دون مشروع تحتي يقوم على تعديل في بعض مفترقات الفكر في منظومة العلوم هذه، إن الإصلاح اللغوي البحت لا يدوم، بل ربما يولد مشوّهاً، ولعلّه لهذا لم نشهد له نجاحاً باهراً في الحياة العلمية الدينية الحوزوية، رغم مرور أكثر من نصف قرن عليه، إن هذا الموضوع حساس جداً.

دعني أقدم مثالاً، بعض الناس ينـزعجون من المصطلحات الجديدة في الثقافة، ويرون عبثيتها، يجب الإقرار بأن هناك تورّماً في المصطلح في الثقافة العربية المعاصرة، وهناك اختيال لدى المثقف لا يعبّر إلا عن وهم زائف، لكن في المقابل إن تحوّل المصطلحات ـ من حيث المبدأ ـ ليس سوى مظهر خارجي لحدوث تحوّل في بنية الخطاب الفكري نفسه، إن الفكر الجديد يضيق باللغة القديمة لهذا يعمد إلى تكوين مصطلح، وعلم الفلسفة شاهد على ذلك. إذن، الخطاب مجموعة من نظم المعرفة، وأنساقها، وأولوياتها، وأهدافها، ولغتها .

أمّا سمة الإسلامية في الخطاب فأعتقد أنها باتت واضحةً الآن، إن الخطاب الذي يعتمد المصادر الدينية الإسلامية ويراعي أساسيات الدين، ويرسم أولوياته على أساس القيم والمعايير الدينية، ويعطي المفاهيم الإسلامية موقعاً رئيسياً في نظام الأفكار، هو ذاك الخطاب الإسلامي الذي نتحدّث عنه فعلاً.

نعم، هناك موضوع يتصل بشكل الخطاب، وهو هل يتقوّم الخطاب الإسلامي باللغة النصّية، تلك اللغة التي اعتمدها القرآن والحديث الشريف؟ إذا استبدلت في خطابي كلمة "التقوى" أو "واعظ من نفسه" بكلمة "الضمير"، هل أكون قد ارتكبت خطأ في الخطاب يقوم على تنافي اللغة الشكلية مع لغة المصادر الدينية الرئيسة؟ هذا الموضوع طرح في التراث الإسلامي، حصل نقاش مع الفلاسفة ـ مثلاً ـ في توقيفية الأسماء والصفات الإلهية، هل يمكن أن أقول عن الله: إنه واجب وجود، هل أسمّيه الذات المقدسة الإلهية؟ انقسم المسلمون إزاء هذا الموضوع وموضوعات أخرى على صلة أيضاً، هناك من يقول اليوم: تعالوا نغيّر كلمة البداء التي سبّبت لنا مشكلة مع أهل السنّة في التباسها المفهومي .

ربما يكون الصواب في المحافظة قدر الإمكان على لغة النص الديني، فهذا يزيد بالتأكيد من الارتباط بمصادر الدين الرئيسة، لكن هذا لا يعني انحباساً داخل اللغة الموروثة، والسبب في ذلك أن اللغة القرآنية والحديثية، تنقسم إلى شطرين أساسيين: فمن جهة هي نوع من التماشي مع لغة ذلك الزمان، استدعتها طبيعة الفعل التغييري الآني، ومن جهة هي صنع للمصطلح بغية تحويل الثقافة السائدة، عبر تحويل نظمها الفكرية الاصطلاحية، هذه المقولة أستعيرها من الدكتور نصر حامد أبو زيد، لا أريد تبنّي موقفه هنا، لكن الفكرة من حيث مبدئها سليمة، فالقرآن استخدم لغة العرب عينها للتواصل معهم بما تحمله هذه اللغة من ثقافة، لكنه في الوقت عينه أحدث تحوّلاً في اللغة، فأعاد إنتاجها بإنتاج مصطلح جديد مخزن بالضخّ المفهومي الديني الجديد، وبهذا استطاع الإمساك بالعقل العربي آنذاك لإعادة إنتاجه .

من هنا، يجب المحافظة على اللغة التي صنعها النص الديني الرئيس، لا تلك التي تماشى معها، وهذا ما يتطلّب جهداً مضاعفاً لتمييز هذين القسمين، وربما نوفق ـ بهذا السبيل ـ بين اللغة الجديدة ولغة التراث الديني .

الغدير: ولكن سماحة الشيخ الكثير من ممارسي الخطاب يدعون "إسلامية خطابهم" وانتماءهم للخطاب الإسلامي من المستوى الأول، في حين تتعارض آراءهم مع محددات صريحة في الخطاب الأول، فما هو المعيار الدقيق في تحديد انتماء المفكر من المستوى الثاني للخطاب الإسلامي ؟

النوري: المفكر الإسلامي هو ذلك المفكر الذي يلتزم بمصادر الفكر الإسلامي الأصلية، هناك مفكرون لا تمثل مصادر الفكر الإسلامي لهم شيئاً ذا بال، وهؤلاء لا يمكن نسبتهم إلى الإسلام، فهو يمكن أن يأخذ خطابه من الفكر الليبرالي، أو الفكر القومي، أو الفكر اليساري، أو من أي مصدرٍ آخر، وربما تلتقي هذه الأفكار في بعض جوانبها من المصادر الإسلامية، ولكن ما يعنيه هو المصادر غير الإسلامية، هذا لا يمكن أن نطلق عليه مفكر إسلامي؛ وهناك مفكرون يأخذون من المصادر الإسلامية بعض الأفكار وبعض الآليات ولكنهم يأخذون من بعض المصادر الغير إسلامية أيضاً أفكاراً وآليات أخرى، مما قد يصادر المصادر الإسلامية، وهؤلاء أيضاً لا يمكن أن نُطلق عليهم مفكرون إسلاميون، إذاً فالمفكر والمثقف الإسلامي هو ذلك المثقف والمفكر الذي يأخذ قيمه وأفكاره وآلياته من مصادر الفكر الإسلامي، وهو إذا استقى من المصادر الفكرية الأخرى أفكاراً معينة، فإنها تكون متناسبة ومنسجمة مع الأُطُر العامة للفكر الإسلامي.

الغدير: ولكن – استطراداً – سماحة الشيخ من المعروف أن الخطاب الإسلامي يُمارس على عدة أوجه وفي أكثر من مكان، فمثلاً يمارس في خطب الجمعة ومن فوق المنبر وفي المحاضرات، كما أنه يُمارس من منطلقات مختلفة إلى حد ما، فمثلا يمارسه المتشددون ويمارسه المتعقلون، ويمارسه السنة ويمارسه الشيعة، ومن المعروف أن لكل حالة خصوصياتها وربما طبيعة جمهورها الذي يفرض درجة من الهبوط أو الارتفاع في مستوى الحديث، فهل تعتقدون أن معيار الحكم على هذه المصاديق المتعددة يتم بنفس الموازين؟

حب الله: أعتقد أنكم في هذا السؤال تفسّرون الخطاب بمعنى الأدوات اللسانية للتواصل، أي الخطاب التواصلي، على أية حال، بالنسبة إلى سؤالكم هذا أعتقد أن من الخطأ الحكم على أنواع الخطاب التواصلي بمعايير واحدة مطلقاً، فهناك خطاب للنخبة له خصوصياته وسماته التي تميّزه عن خطاب غيرهم، هناك خطاب لعموم الناس، وهناك خطاب لعلماء الدين أنفسهم.. لا يمكن التعامل بآلية واحدة، وإن كانت هناك مشتركات، وفي هذا الصدد يمكن التركيز على نقاط:

أولاً: وعي المخاطب ، فواحدة من مشكلات الخطاب الإسلامي التواصلي في بعض مواقعه أنه لا يعرف أولئك الذين يخاطبهم، خذ عنصر  الشباب مثلاً تجد أن الكثيرين لا يفهمون الشاب من موقعه وفي ظرفه، ويريدون أن يتعاملوا معه منفصلاً عن عنصره الشبابي، هكذا الحال في خطاب بعض النخب، فبعض العلماء يظن أن الإتيان برواية صحيحة السند يمكنه أن يحسم موقفاً ما في حوار مع بعض الشرائح النخبوية، والحال أن معايير تصويب الأفكار وتخطئتها عند هذه النخبة لا تمتّ بأيّ صلة إلى مثل هذا المعيار الروائي، الذي يملك مرجعيته في داخل مناخ فكري خاص، حتى لو اعتبرناه في النهاية صائباً من حيث الحقيقة ونفس الأمر .

ثانياً: يواجه الخطاب الإسلامي في بعض أشكاله معضلة النخبوية المفرطة، سيما في الأوساط الثقافية الجديدة، ليست النخبوية عاراً، لكن الاستغراق فيها من جانب تيار بأكمله يمكنه أن يعيق قدرة التواصل مع القواعد الشعبية، فتيار التحديث الإسلامي عانى في بعض أشكاله من هذه المشكلة، ولذلك خسر مواقعه على المستوى الجماهيري، واستلمت الأمور ـ بدلاً عنه ـ تيارات يقع هو على خصام معها.

من الضروري أن تكون لدينا فئة قادرة على ممارسة حضور فاعل في أوساط النخبة، فهذا يعزز الموقع الإسلامي، ويبعث في أوساط الشباب شعوراً بالأمان الثقافي، لكن قطع جسور التواصل لصالح خطاب بالغ النخبوية لا يخدم على المدى البعيد المشروع الإسلامي، ففي القرن العشرين نادى فريق فاعل من العلماء من بينهم الشهيدين الصدر والمطهري بالانفلات النسبي من اللغة الحوزوية النخبوية، وخلع لغة أكثر قدرةً على التواصل على خطابنا الديني، والذي نشاهده اليوم أن فريقاً داخل المؤسسة الدينية ما زال مصرّاً على اللغة الأولى، فيما تورّط الفريق الذي خرج عنها في تبني لغة نخبوية من جانب آخر، مما أفقد الطرفين قدرة التأثير، لصالح طرف وسط لسنا متفائلين من هيمنته على الخطاب الديني اليوم.

ثالثاً: وفي سياق تعدّد ألوان الخطاب يفترض بالفرقاء الإسلاميين أن يحترموا ضرورات خطاب كل فريق، فعلى الفقهاء والمختصّين بالفقه الإسلامي أن يحترموا خطاب قراء العزاء وأن لا يمارسوا احتقاراً له، نعم، لهم الحق في النقد والتقويم، وعلى المتصدّين للشأن الثقافي المعاصر أن لا يقزّموا خطاب التراثيين المختصّين بدراسة الموروث، والعكس هو الصحيح أيضاً، على الذين يعملون وسط خطاب شيعي داخلي أن يحترموا لغة الذي يتواصل مع الآخر، والعكس صحيح كذلك، إن هذه الأطياف والألوان من الخطاب يفترض أن يكمل بعضُها بعضَها الآخر، لا أن يقع التناحر داخلها، مع حق كلّ طرف في ممارسة نقد علمي لأيّ نوع من أنواع الخطاب الإسلامي، شريطة أن يكون أميناً وخلوقاً.

هذا إذا أردتم من السؤال لغة الخطاب اللسانية، أما إذا أردتم معيار تصويب المضمون، فهذا بحث آخر يتصل بموضوع تعدد القراءات الدينية، وكيف أحكم على قراءة أنها دينية وعلى الأخرى بأنها غير دينية؟ وقد فهمت منكم النحو الأول فيما أظن؛ لهذا أترك الحديث عن النحو الثاني .

 

المحور الثاني:

– شبهات وردود حول الخطاب الإسلامي

الغدير: الاختزال والنقد التشويهي للآخر، ويمكن تلخيص هذه الشبهة في العبارات التالية: يعتمد الخطاب الإسلامي في نقده للآخر على الاختزال، فهو يختزل المدارس الفكرية والفلسفية، والمذاهب السياسية والاجتماعية والنظريات الاقتصادية إلى صور مشوهة و تعاريف سطحية مبتسرة، فالماركسية إلحاد، و الداروينية حيوانية الإنسان، والفرويدية وحل الجنس، وبذلك يغفل الخطاب الإسلامي كل الإفرازات الإيجابية لهذه المذاهب والتوجهات، فيأتي نقد الخطاب الإسلامي لها نقداً مشوهاً، لا تربطه مع واقع هذه المذاهب صلة.

النوري: من خلال تأمل التفاصيل المُثارة في السؤال، يُفهم أن الخطاب المقصود هو الخطاب الإسلامي في مستواه الثاني، وليس الخطاب الإسلامي الأصلي،وهناك عدة نقاط من خلالها أحب أن أجيب على السؤال:

1- ذكرت في إجابة السؤال الأول بأن الإسلاميين ليسوا معصومين، ونحن نقيس مستوى صحة وخطأ خطابهم من خلال مقارنته بالخطاب الإسلامي الأصلي، فهو المعيار، فربما يكون هناك بعض الإسلاميين – وهذا شيء اعتيادي وطبيعي جداً- اختزاليين، تشويهيين، إقصائيين، ويمكن أن نسوق هذا القطار الطويل من الإتهامات، وهذا لا يمثل مشكلة، ولكن السؤال المهم، هل أن المفكرين الأساسيين الذين يعوّل عليهم في التنظير للخطاب والفكر الإسلامي هم بهذه الدرجة وبهذا المستوى؟  أنا أقول الجواب لا، عندما ندرس نموذج كنموذج السيد الصدر قدس الله نفسه، فسوف نجد أن الشيوعيين أو بعضهم يعترف بهذه الحقيقة، أننا كنا نفهم الفكر الشيوعي من الأمانة والموضوعية والدقة والعمق الذي يطرح به السيد الصدر الفكر الشيوعي؛ الشيخ المطهري رحمة الله عليه كما يُشتَهَر ويُنقل عنه، كان لديه اطلاع واسع على الفكر الغربي، وكان شخصيةً حواريةً من الدرجة الأولى، إلى درجة أنه في جامعة طهران يُنقل عنه أنه كان ينتقد المسئولين أنكم لماذا تأتون بشخصية مثلاً غير شيوعية تطرح الفكر الشيوعي، وكان يطلب منهم أن يأتوا بمفكر أو كاتب شيوعي ليُقدم بنفسه الفكر الشيوعي، السيد الإمام الخميني رحمة الله عليه عندما حاور غورباتشوف والفكر الشيوعي وأرسل رسالة وشكل وفداً من العلماء ليذهبوا ليحاوروا، السيد الطباطبائي رحمة الله عليه الذي كان يُحاوِر المستشرقين ويحاور الفلاسفة الغربيين، اليوم هناك جامعات وهناك معاهد علمية إسلامية تُخصِِصُ وقتاً كبيراً للحوارات وللإطلاع على الثقافات الأخرى، ولذلك أقول قضية مهمة، أن مبدأ الانفتاح والحوار و الصدق والأمانة والموضوعية في نقل أفكار الآخرين وفي دراستها هو مبدأ أساسي في صُلب تكوين الفكر الإسلامي في تجلياته النموذجية، و ينطلق هذا المبدأ من مبدأ قرآني في الخطاب القرآني الأصلي.

2- أعتقد بأن محاولة التركيز على نماذج فكرية تنتسب للإسلام، لا تمثل المفكرين الأساسيين للإسلام، أو الحملة الأساسيين للفكر الإسلامي، أنا أعتقد هذا فيه كثير من الأُحادية في النظرة، أن ننظر إلى الجانب السئ، ونتناسى الصورة الناصعة البيضاء التي تمثل في اعتقادي قمة النموذجية في الفكر الإسلامي .

النوري: "المشكلة الأساسية أنه يُؤطر نفسه بإطار الإسلام، يقول أنا مفكر إسلامي، ثم نجده صراحةً يُصادم ثوابت واضحة وصريحة من الإسلام بتبريرات واهية".

3- في بعض الأحيان يلجأ المفكرون الإسلاميون لطرح ثوابت الإسلام، وهذا يكون في الحالات التي تدّعي فيها شخصية إنتماءها للإسلام، ولكنها في نفس الوقت تنتهك صراحةً ثوابت صريحة من الإسلام، هنا يختلف الأمر، ولذلك الشيخ المطهري مثلاً كان يرد على الفرق أو التيارات التي تدّعي انتماءها للإسلام، وفي نفس الوقت تنتهك قطعيات وثوابت من الإسلام، في مثل هذه الحالة يكفي ردها بإيضاح ثوابت الإسلام، وهذا لا يُسمى اختزالية، وإنما هذا يدخل في إطار الصدق مع النفس، يعني أي شخصية أي اتجاه يمكن منذ البداية أنه ليس تياراً إسلامياً، فيطرح ما يشاء، ونكون معه في حريةٍ تامة، وأما إذا أطّر نفسه بإطار الإسلام، فيجب أن يلتزم بثوابت الإسلام الأصلية والصريحة، وهذا ما يحدث بالنسبة لبعض التيارات، مشكلتنا مع أركون كمثال بسيط، ما هي المشكلة الأساسية مع أركون، ليست مشكلتنا الأساسية مع أركون أنه يُصادم الثوابت الإسلامية، المشكلة الأساسية أنه يُؤطر نفسه بإطار الإسلام، يقول أنا مفكر إسلامي، ثم نجده صراحةً يُصادم ثوابت واضحة وصريحة من الإسلام بتبريرات واهية، فإننا لا نستطيع أن نقبل منه هذا الكلام، هذا نوع من الإزدواجية، والإزدواجية غير المقبولة على مستوى الأفكار، هذا أحياناً ما يجعل مفكرينا الإسلاميين، يحملون شيئاً من الغضب على بعض التيارات وبعض الشخصيات التي تريد أن تجمع بين شيئين لا يمكن أن يُجمع بينهما، أن يرفع مفكر اليافطة الإسلامية و يصادم بدهيات الإسلام، ويحاول أن يبشر بأطروحة تصادم الإسلام في الصميم باسم الإسلام، هذا ما لا يُمكن قبوله، وأنا أعتقد أيّ اتجاه وأيّ مذهب فكري لا يمكن أن يقبل من أيّ شخصية مثل هذه الحركة الفكرية، وأما أن يكون هذا المفكر يطرح فكراً يطرح مبادئاً خارج إطار الإسلام، ونتفق معه أن هذه الأفكار هي خارج إطار الإسلام، فإننا يُمكن أن نذهب معه إلى اللانهاية، نتكلم عن كل الأمور؛ وأنا أؤصل لهذه المسألة بسلوك الإمام الصادق عليه السلام، وأئمتنا عليهم السلام، حيث أنهم كانوا يُحاورون الملاحدة والدهريين والزنادقة، وكل التيارات الفكرية بمنتهى الحرية، ولكن عندما تظهر شخصية مبتدعة من داخل الصف الذي يدعي التشيع مثلاً، كانوا يأمرون بالصرامة والشدة معه كالغلاة مثلاً، حيث أن الإمام الصادق ما كان يتعامل معهم بالحوار، يمكن أن يحاورهم و يبين لهم شبهتهم، إذا أصروا عليها تبدأ الشدة معهم، لأن هذا موقف لا أخلاقي، نتحول من الموقف الفكري إلى موقف لا أخلاقي، وهي أنك في الحقيقة تتعامل بحالة من النفاق و الازدواجية مع أطروحة سماوية مقدسة، وتحاول أن تزعم الانتماء لها وفي نفس الوقت تضربها من الخلف، فهناك فرق بين عالم الأفكار الواسع، وبين إطار العقيدة الذي لا يُمكن للإنسان أن ينسب له ما يشاء من أفكار.

4- الإسلام العظيم له رؤية كونية، وله رؤية للإنسان، ورؤية للحياة، ورؤية للإله، ورؤية للكون، ورؤية للمجتمع، وكل البناء الفكري للإسلام يقوم على مجموع هذه الرؤى، الرؤية الكونية أو فلسفة الكون في الإسلام، وفي أحيانٍ كثيرة تكون بعض الأفكار عظيمة جداً على مستوى الإبداع وعلى مستوى التحليل، ولكنها تقوم على رؤى فكرية وكونية باطلة، وأضرب مثالاً على ذلك بالنظريات النفسية للطبيب السويدي الكبير فرويد، والذي يعتبر مؤسس التحليل النفسي، ولديه أفكار إبداعية كبير جداً، عقل مبدع وكبير، لا أحد يشك في ذلك، وله إسهامات كبيرة على مستوى النظريات النفسية، ولكن على مستوى الرؤية الإسلامية فإن هذه الضخامة الفكرية من السهل إسلامياً اكتشاف الخلل الموجود في هذه النظريات، باعتبار أن هناك أمور واضحة وثابتة في الفكر الإسلامية قدمها القرآن الكريم، يمكن من خلالها اكتشاف الخلل الموجود وهي الأرضية القيمية التي تقوم عليها هذه النظرية، وهكذا بالنسبة للنظريات الشيوعية التي تقوم في أساسها على الإلحاد، والإلحاد قضية بدهية في الفكر القرآني والإسلامي، هذا ما يجعل بعض المفكرين الإسلاميين في نقدهم لهذه الأفكار، لا يذهبون بعيداً معها، ربما يعترفون بضخامتها بعمقها بقدرتها التحليلية والإبداعية، ولكنهم بالنهاية يعلمون أن الأساس الأولي الذي تقوم عليه أساس باطل، وهذا ما يجعلهم أحياناً يختصرون الرؤية النقدية لهذه الأفكار في أسسها الأولى لسببين، السبب الأول هو أن لديهم مرجعية إلهية معصومة تطرح لهم مبادئ أساسية تمثل معياراً في وجهة نظرهم لصحة الأفكار الأخرى، أما السبب الثاني فهو أن النظريات في ضخامتها وتشعبها وعظمتها إذا كانت تنطلق من أًسسٍ غير سليمة، فإنها بالنتيجة تصل إلى نتائج غير سليمة في أغلب الأحيان، فلهذين السببين قد تجد الكثير من المفكرين الإسلاميين يكتفون بنقد الماركسية من خلال إلحادها، بنقد الرأسمالية من خلال ماديتها، وهكذا بالنسبة للنظريات الأخرى، ولكن مع ذلك الشهيد الصدر رحمة الله عليه، لم يكن يتبع هذا الأسلوب، وإنما كان يذهب مع الأفكار في تشعبها، ويحاول أن ينتقدها في أُسسها وينتقدها في ذاتها أيضاً، ولذلك الشهيد  رحمة الله عليه انتقد الاقتصاد الماركسي في ذاته كما انتقده في أًسسه الأخلاقية.

حب الله: من وجهة نظري ـ كمراقب ـ أوافق على وجود حالة من هذا النوع في خطابنا الإسلامي، وإن لم تكن عامة، ولعلّ لهذه الظاهرة أسبابها :

أولاً: الانفعال المنطلق من الحس الديني، وهو واحد من مشاكل الخطاب التواصلي، المتديّنون حساسون جداً إزاء الفكر الذي يرونه مناهضاً للدين، المؤمن بالله والملتزم بدينه إنسان مخلص، يريد أن يعمر الأرض بدين الله سبحانه، فهو مخلص لوظيفته هذه، عاشق لدينه، وليس مجرّد إنسان مصلحي يريد أن يحقق هدفاً آنياً، هذا العشق للدين وهذا التحرّق عليه، وهذا الحب العميق للمسألة الدينية، كثيراً ما يطغى على المتدين، فيخلق فيه حساسية رد الفعل العنيف، إنه يشعر بجرح جرّاء الرأي الآخر، تماماً كموضوع العرض والشرف، هذا الجرح لا يسمح له أحياناً بالتأمل والهدوء والبرودة.

حب الله: " لقد سبق أن اتهم الإمام الخميني بالماركسية، وأنه يتعامل مع السفارة السوفياتية في بغداد، لكن التاريخ عصف بمثل هذا التفسير وجعله في مهبّ الرياح "

لكن مع التقدير الكامل للدوافع النفسية والخُلقية لهذه الظاهرة إلا أنها يجب أن ترشّد، وهذا تماماً ما فعله القرآن مع رسول الله، إنه يقول: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}، ويقول: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِين} ويقول:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} ويقول: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء}هذه الآيات الكريمة تريد أن تؤكّد مبدءاً في الدعوة إلى الله، وتبليغ دينه، يتلخص في أن العامل في السلك التبشيري لا يفترض به أن يشعر بالإحباط أو اليأس أو الاكتئاب أو رد الفعل العنيف إذا لم يستجب الآخرون له، إن المطلوب منه القيام بوظيفته الدينية الدعوية، وعليه أن يسعى جاهداً لخلق الروح الدينية في أنفس العباد، لكن الفشل أو عدم تجاوب الآخرين وضلالهم، لا يفترض به أن يخلق داخله ردّ فعل سلبي، بل عليه أن يهدّء من روعه، وأن ينظر إلى الأمور من منظار القيام بالواجب، أما النتائج فإنها قد تتحقق وقد لا تتحقق، لكنه يهدف لتحققها.

بعض الناس يتصوّر أن الذي يكون بارد الأعصاب إزاء المسألة الدينية والأفكار الضالّة هو إنسان لا ديني، أو ليس عنده حسّ ديني متحرّق، ليس هذا التفسير ـ من وجهة نظري على الأقل ـ صحيحاً دائماً، بل علينا تعديله داخل المؤسّسة الدينية من جهة، وفي أوساط المتدينين من جهة أخرى.

ثانياً: تطبيق منطق المؤامرة، وهي نتيجة تلقائية للعامل الأول، ثمّة في ساحتنا الإسلامية من يفسّر كل الأحداث وفق منطق المؤامرة، ويذهب إلى أن كل ما يختلف هو معه في الرأي إنما هو من صنع الغرب أو الوهابية أو إسرائيل أو ..

ليس من شك في وجود مؤامرات كبيرة تحيط بنا، وليس من شك في أن الملفّ الثقافي واحد من أعقد أنواع هذه المؤامرات، وتاريخ القرنين الماضيين شاهد صارخ لا ينبغي المكابرة فيه، لكن في المقابل هل يصحّ التعميم هنا؟ لقد سبق أن اتهم الإمام الخميني بالماركسية، وأنه يتعامل مع السفارة السوفياتية في بغداد، لكن التاريخ عصف بمثل هذا التفسير وجعله في مهبّ الرياح، ثمّة من تحدّث عن مؤامرة كبيرة في تجربة السيد محسن الأمين ضدّ التشيّع، وبعد أن مات الرجل وترك أعماله وآثاره الفكرية تبدّلت الأمور.

ما  نهدفه الإشارة إلى أنه بحجم ما عندنا من شواهد على وجود مؤامرات ثقافية بحجم ما عندنا من شواهد أيضاً على عدم وجودها في أحيان كثيرة، إن الإصرار على منطق المؤامرة، أو منطق الأغراض الشخصية الدنيئة، واتهام بعض الناس بأنه يحبّ الشهرة؛ ولذلك قال ما قال، لا يدرّ علينا نفعاً، حتى لو صدق في بعض حالاته، بل يعيق قدرتنا على التواصل مع الآخر، ويعدم فينا حسّ التعاون مع التيارات التي نختلف معها، ويقدّمها لنا مشوّهةً بالرذيلة.

ثالثاً: النـزعة الدوغمائية التي يعاني منها الفكر الديني في بعض أشكاله المعاصرة، هذه النـزعة التي تحسم الفكر لصالح طرف وتقطع احتمالات نجاح الآخرين إلى الأبد لا يمكنها إلا أن تنتج تشويهاً له، هذا موضوع حسّاس جداً.

هناك وجهة نظر تعتقد أن الإطاحة بالدوغمة الدينية تؤدي إلى انهيار الحصانة الإيمانية، وتفكّك الاعتقاد الديني، قد لا يختلف الإنسان كثيراً مع هذا الرأي، نعم هذا صحيح إلى حدّ كبير، لكن ترشيد مشروع الإطاحة بالدوغمة لا يُعدَم هو الآخر فرص النجاح؛ للحيلولة دون ارتدادات عكسية على الدين وتديّن الناس، وهذا ما يحتاج الحديث حوله إلى مجال أكبر يتخذ طابعاً فلسفياً.

رابعاً: ثمّة مشكلة موجودة عند كثير من الأطراف الثقافية والفكرية في ساحتنا اليوم، ولا يقتصر حضورها عند التيار الإسلامي في بعض أطيافه، وهي مشكلة عدم فهم الآخر من ظرفه وبعقليته، ومن مصادره ومناخاته، فعادةً ما يُقرأ الآخر بعقل نقدي، أي أنك تفكّر بنقده وأنت تقرأ كتابه، ولا تنتظر أن تتمّ قراءة الكتاب، ثم تعيد تقييم فكرته من جديد، بل بعضهم لا يتوقع منذ الصفحات الأولى لقراءة الكتاب أن يكون فيه حقٌّ أساساً، ويمكن أن نسمّي هذه الحالة: غياب قراءة الآخر من داخله، أي من المطلوب تمثّل الآخر، وفرض أنفسنا مكانه، لنقوم ـ بعد ذلك ـ بقراءة أفكاره، فهذا هو السبيل الأفضل لفهمها، ثم بعد ذلك تأتي مرحلة النقد والتفنيد أو الدعم والـتأييد وما شابه ذلك.

وإذا أردنا أن نعبّر بلغةٍ أخلاقية، يمكن القول: إن هناك حالةً من غياب حسّ الإنصاف في فهم الآخرين، وتشكيل صور نمطية عنهم لسنا مستعدّين أبداً لتغييرها، طبعاً الحديث هنا عن فهم الآخر لا عن تقبّل أفكاره أو نقدها، فهذه مرحلة لاحقة.

ومن هنا تأتي ضرورة الرجوع إلى مصادر الآخر الأمّ، وإلى جذور أفكاره، وأن لا نكتفي لفهمه بمصادر نقده فحسب، أو نتعرّف عليه على لسان خصومه فقط، بل نقرأ ما يقول، ثمّ نطالع ما يقوله خصمه، ثم بعد ذلك نقوم بعملية محاسبة؛ لكي نتخذ موقفاً موضوعياً.

أعتقد أن هذا هو السبيل الأفضل والأكثر موضوعية وأخلاقيةً في التعامل مع الآخرين .

الغدير: خطاب تحشيدي وعائم، ويمكن تلخيص هذه الشبهة في العبارات التالية: يقوم الخطاب الإسلامي باستخدام القيم والإرث التاريخي بما يخدم مصلحته كحزب أو كمعارضة أو كدولة … الخ، وذلك عن طريق تحشيد الآيات والروايات التي تتناسب مع ظرفه، فتراه ينادي بصلح الإمام الحسن "ع" إذا كان الخيار السلمي يخدمه، وينادي بثورة الإمام الحسين "ع" إذا كان الخيار الثوري يخدمه، وهكذا فإنك ترى من يبيح دماء حتى الأبرياء وهو يتكلم بلسان الخطاب الإسلامي، ومن يقبل بأن يصافح المحتلين وهو يتكلم بخطاب إسلامي، وبناء على ذلك فإن الخطاب الإسلامي إذاً خطاب عائم، ليس له محددات تحكم مسيرته، لأنه من الممكن أن يُستغل تحت أي ظرف بما يتناسب ورغبات المُستغِل. ما هو تعليقكم ؟

النوري: الإشكال المذكور إشكال مهم ووارد على بعض الاتجاهات الإسلامية، ويمكن أن نقول بأننا لا يمكن أن نعمم هذه الإشكالية على جميع العلماء وجميع الاتجاهات، وأعتقد بأن هناك بعض الاتجاهات الإسلامية تنطبق عليها الشبهة المذكورة، بمعنى أن هناك اتجاهات إسلامية – وأعتقد أن الإشكالية بصورة خاصة تتركز في الجانب السياسي- يجمعها إطار واحد وهو إطار اللامنهجية في العمل السياسي، بمعنى أنها ترفع شعار أًسميه شعار لكل حادثٍ حديث، فلكل حدث سياسي تحليله الخاص به، وتشخيصه الخاص به الذي لا يرتبط بتحليل حدث آخر، ولذلك تجد هذه الاتجاهات مصابة بكثير من التناقض والتضارب والازدواجية، فأعتقد أنها تفقد الكثير من الحالة المبدئية في مواقفها وفي تشخيصها وفي علاقاتها بسبب أنها تُشخص المصلحة الموضوعية الذاتية في كل موقفٍ بما يعنيه هذا الموقف، بدون ملاحظة أسسٍ منهجيةٍ عامة تحكم السلوك السياسي والاجتماعي، وفي مثل هذه الاتجاهات هناك مشكلتين أساسيتين، مشكلة أخلاقية إذ ربما يكون لديها قصور في جانب الإرادة والجانب الأخلاقي، ومشكلة فكرية حيث أنها في الحقيقة لديها قصور في وعي الإسلام؛ ولكن هناك اتجاهات إسلامية أخرى – وأخص بالذكر النهج السياسي للإمام الخميني رحمة الله عليه، وهو العنوان الأبرز والأكبر- لديها مبدئية ومنهجية في العمل السياسي والاجتماعي والثقافي، بمعنى أنها تؤمن أن الأطروحة الإسلامية، وأن سنن التاريخ، تقدم مبادئ وثوابت سياسية واجتماعية، مجموعها يصاغ في منهجية للعمل السياسي، تحكم مجمل المواقف ومجمل الأحداث، وينبغي الالتزام بها، ولذلك تجد حالة من الانتظام والتواصلية و التراتبية  في مواقفها وفي سلوكها السياسي، ولن تجد هناك تناقضات جوهرية في مواقفها في الأحداث المختلفة، وهذا فعلاً ما أعتقد شخصياً بأنه ينسجم مع الإسلام كأطروحة للحياة، تطرح منهجية سياسية واجتماعية وثقافية فيها متحرك ولكن فيها ثابت يجب الالتزام به، وأعتقد بأن هذه الإشكالات التي طرحت لا ترد على الاتجاهات من القسم الثاني، ولكنها ترد بصورة واضحة على الاتجاهات من القسم الأول، فمواقف الأئمة عليهم السلام، مواقف الإمام الحسن عليه السلام والإمام الحسين عليه السلام لم تكن مواقف ذاتية، بمعنى أن الإمام الحسن عليه السلام كان يميل في ذاته إلى المهادنة فهادن، وان الإمام الحسين عليه السلام كان يميل في ذاته للثورة فثار، وإنما هي مواقف موضوعية، وعندما ندرس التاريخ ونُشخِص الظروف المختلفة بين الإمامين عليهما السلام، سوف نقتنع قناعة تامة، أن هذين الموقفين ينبعان من اختلاف في الواقع الموضوعي.

الغدير: ما تريدون أن تصلون إليه سماحة الشيخ هو أن الاتجاهات المنهجية كاتجاه الإمام الخميني، اتجاهات مبنية على نظرة موضوعية لحياة أهل البيت عليهم السلام . . .

النوري: نعم… بينما الاتجاهات غير المنهجية ضمن الإطار الإسلامي، هي إما اتجاهات ترتبط بالأئمة ارتباطاً غيبياً، بمعنى أنها لا تؤمن بموضوعية السلوك المعصوم، ولكنها ترتكز على قاعدة غيبية السلوك المعصوم، بمعنى أن الإمام عليه السلام يتلقى أوامر غيبية من الله بالعمل بغض النظر عن الظروف، وبالتالي فهم لا يعتبرون أنفسهم معنيين بتحليل الظروف الموضوعية، وتجد لديهم رؤية تجزيئية لسلوك الأئمة عليهم السلام، وبالتالي ليس من الواضح لديهم منهجية العمل السياسي أو الاجتماعي أو حتى الثقافي ربما، فتجدهم اليوم يلتزمون بالتقية، وفي يوم آخر لهم موقف مختلف؛ وهناك اتجاهات أخرى أعتقد أن غلبة الحس المادي لديها يجعلها تنظر للمصالح المادية المتغيرة أكثر من نظرها للمبادئ القيمية، وربما لا تؤمن بوجود مبادئ قيمية في العمل السياسي، وإنما العمل السياسي هو فن الممكن، وفن المصالح الآنية.

الغدير: العزلة والخوف من الآخر ورفض التعايش معه: ويمكن تلخيص هذه الإشكالية في العبارة التالية، وهي أن الخوف من تفاعل الثقافات واختلاط الحضارات من أهم مميزات الخطاب الإسلامي المعاصر، والإسلاميون عادة يدافعون عن الإسلام تحت شعار "ذاتية الإسلام أمام المذاهب والعقائد"، ولكن حرص الإسلاميين على المحافظة على المذاهب والعقائد تصل إلى درجة القطيعة المعرفية مع العالم، ومحاربة كل المنجزات الفكرية والحضارية. فما هو ردكم على هذه الإشكالية.

حب الله: من حق الإسلاميين أن يتذوّقوا خصوصيتهم، ومن حق كلّ المسلمين ذلك، فإحساس الخصوصية إحساس فطري بين البشر، ليس الحديث فيه حديثاً في وهم، لاحظوا في خضم أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، كيف تحوّل خطاب الشباب الأميركي، قالوا: إنهم شعروا بأميركيّتهم الآن، وأحسّوا بمواطنيتهم، هذا شيء طبيعي لكي تحمي نفسك، فلا يجدر تحميل الإسلاميين أكثر مما يتحمّلون". من الضروري فصل الغرب الاستعماري عن الغرب الحضاري، وهذه أكبر معضلة واجهها الإسلامي في القرن العشرين. "

الموضوع ليس موضوع الخصوصية في عصر العولمة الرهيب الذي نعيشه، إنما هو موضوع تحديد العناصر التي تمثل الخصوصية، وتلك التي تمثل المشترك مع الآخر، ما هي خصوصيّة المسلم؟ وما هي ذاتيات العربي؟ أمرٌ ما زال هناك جدل فيه.

يوجد رأيان اليوم في الساحة الفكرية حول هذا الموضوع:

الأول: رأي يقول: إن الغرب له خصوصياته، وعندنا خصوصيات، وأن علينا أن نأخذ من الغرب ما ينسجم مع خصوصياتنا، وما تقبله ديانتنا، فنرجع إلى أصول ديننا ونرى ماذا يوافق الغرب منها وما هو الذي يخالف؟ بعدها نمارس عملية انتقاء لحفظ هذه الخصوصيات، وتفريعاً على هذا الرأي وجدنا من يقول: نحن نأخذ من الغرب علوم التقانة والتجربيات، لكننا غير مضطرّين لأخذ الإنسانيات منهم، ما دام ديننا قد أعطانا صورةً أخرى عن الإنسان والحياة.

الثاني: رأي آخر يعتقد أنه لا يمكن القيام بتجزئة المشهد الغربي، فهذا المشهد له أساسيات واحدة في خطوطه العريضة، فإمّا أن تقبله أو ترفضه.

لن نعطي رأياً بين هذين فعلاً، لكن يعنينا أن نعرف أن من الضروري فصل الغرب الاستعماري عن الغرب الحضاري، وهذه أكبر معضلة واجهها الإسلامي في القرن العشرين، فغارودي يقول: إن الغرب زيّف العلوم حتى التجربية لمصالح في مواجهة المدّ الشيوعي، وأن الكثير من هذه النظريات العلمية التي يُحكى عنها لا واقع لها، وإنما هي مجرّد حرب إعلامية؛ لأن بعض النظريات العلمية كانت تطعن في صميم الفكر الماركسي، ألا يمكن أن يحدث مثل هذا الشيء مع الإنسانيات في مواجهة الفكر الإسلامي؟ ألا يمكن أن تلعب المخابرات الغربية لعبتها في الترويج لنظريات في الإنسانيات مثل علوم النفس والفلسفة والتربية والاجتماع وغيرها؛ لكي تحرج الفكر الإسلامي وتكشف خواءه، نظرية مثل نظرية فرويد من شأن الحركة الإعلامية لها أن تحرج الإسلاميين في عشرات الأفكار التي تبنوها في الأخلاق والاجتماع والأسرة، بل والسياسة.

قد لا تكون هناك دراسات عند الإسلاميين مستقلّة في هذا الموضوع، لكنهم عايشوه بالتأكيد، ولو عبر طريق آخر وهو: عدم القدرة على التمييز بين الفكر الغربي بوصفه حصيلة جهد بشري كبير في العلوم المختلفة، استمرّ على الأقل ستة قرون، وبين الوجه الاستعماري الغربي، فإذا أردت أن أتبنّى اليوم النـزعة التاريخانية في تفسير النص، يمكن أن يقول لي شخص: إن هذه النظرية تخدم الغرب وتدمّر خصوصياتنا؛ لأنها تطيح بمئات النصوص الدينية وتحيل التراث إلى مهزلة، سوف تسقط قداسته، سوف تبدد موروثنا، أين نحن؟! أين الذات ؟!

كيف يمكن للباحث الإسلامي أن يجمع بين حفظ موقع الأمّة الإسلامية أمام الغرب ونشر أفكار من هذا النوع؟ هل المطلوب تأخير الحديث حول هذه الموضوعات إلى حين تصفية حساباتنا السياسية والعسكرية مع الغرب، أم نشرع من الآن بها رغم ما فيها من إحراجات؟

ربما يكمن أحد وجوه الحلّ في تغيير قواعد اللعبة، ومعنى ذلك أنك تارةً تجعل قواعد اللعبة قائمةً على أن تصل إلى هدفك بأي طريقة ممكنة، حتى ولو بقتل اللاعبين الآخرين في ساحة المباراة، وأخرى تغيّر قواعد اللعبة، فتمنع عن عشرات الوسائل، مما يعطيك إحساساً بأن الوصول إلى الهدف له هذه الطريق فقط، ومن ثم لا تشعر بمشكلة عندما تخسر مع تطبيق اللاعبين القواعد عينها، أخمّن أن بعضنا يرى أن الهدف يجب أن يتحقق بأي طريقة، دون أن يحترم أساسيات في العمل، ولو أنه أحترمها للعب ضدّ الغرب مع وجودها أساساً من أساسيات اللعبة، علينا أن نعرف أن فشل العالم العربي اليوم تعود بعض أسبابه إلى تأخير الزعماء العرب مشروع الإصلاح الداخلي بحجة الملف الفلسطيني، فلا نحن – بعد نصف قرن – أصلحنا الداخل ولا حرّرنا فلسطين، هذا درس يستحقّ الوقوف عنده كثيراً، حتى لا تستنسخه حرفياً الحركة الإسلامية.

 

المحور الثالث:

– فاعلية  الخطاب الإسلامي

الغدير: في اعتقادكم هل أن الخطاب الإسلامي يستطيع أن يؤثر في العالم ويدعوه نحو تبني منهجه، وهو حتى الآن لم يستطع أن يوقف نزيف مشاكله الداخلية ؟

النوري: أعتقد الخطاب الإسلامي في مستوياته النموذجية لم يعطى حقه من الدراسة، والخطاب الإسلامي للسيد الإمام الخميني، وللسيد الطباطبائي، وللسيد الصدر، وللشيخ المطهري، وغيرهم من المفكرين، هو خطاب عالمي، وقادر على منافسة الخطابات الأخرى، وقادر على التأثير الإيجابي على المستوى العالمي، ولكن الخطاب الإسلامي النموذجي المتكامل الراقي الرصين، عانى من كثير من الحصار والتضليل والتشويه، وتم إبراز خطابات أخرى تنتسب إلى الإسلام ولكنها تعاني من الكثير من القصور والكثير من الخلل، بل أنها في كثير من الأحيان لا تمت للإسلام برابطة عميقة وحقيقية، اليوم يتم التعامل مع الكثير من خطابات المفكرين العلمانيين على أنها خطابات إسلامية، فهناك في الحقيقة تيارات فكرية تعاني من قصور حقيقي في فهمها للإسلام، كخطاب طالبان، وخطاب القاعدة، والخطاب السلفي، الذي يعاني فعلاً من كثير من القصور؛ وهناك الخطاب المتميع، المتغرب، الذي ينتسب للإسلام ولكنه يعاني من ضعف كبير في أصالته الإسلامية، أيضاً يتم إبرازه كخطاب إسلامي، كخطاب أركون مثلاً، أو نصر حامد أبو زيد، وغيرهم؛ وأما الخطاب الإسلامي الحقيقي، الذي هو الأقرب لأصالة الإسلام وتكامله وتوازنه ووسطيته، يتم حصاره وتشويهه وإخفاءه، وبالتالي أعتقد أننا في هذه المرحلة، يجب أن نعيد التواصل مع خطاب مفكرينا العمالقة الكبار، وحتى على مستوى السني كخطاب الشيخ حسن البنا مثلاً، وخطاب الكثير من المفكرين السنة، هناك خطاب إسلامي يمثل أصالة الإسلام، وحركية الإسلام، هذا الخطاب لو تمت دراسته، وفهم آلياته، واستراتيجيته، في التنظيم الفكري والتواصل الاجتماعي، وتم إنصافه في جوانب القوة الكبيرة والمهمة التي يكتنفها، فأعتقد أنه خطاب يمكن فعلاً أن يؤثر في رؤية الكثيرين للإسلام .

النوري: "الخطاب الإسلامي للسيد الإمام الخميني، وللسيد الطباطبائي، وللسيد الصدر، وللشيخ المطهري، وغيرهم من المفكرين، هو خطاب عالمي، وقادر على منافسة الخطابات الأخرى".

حب الله: يعاني الخطاب الإسلامي اليوم من مشاكل، وقد تجاوز الكثير منها والحمد لله، لكن قد لا يكون قادراً على التأثير الفاعل في العالم اليوم، فنحن لا نساوي في معايير الثقافة العالمية شيئاً، نحن فكرياً على الساحة العالمية لا حضور لنا، نعم لنا حضور سياسي وجهادي ممتاز، لكننا لا نملك على الصعيد العالمي – أي خارج النطاق الإسلامي – حضوراً فاعلاً في الصنع الثقافي، أين هم مفكّرونا اليوم في الجامعات والمحافل الفكرية والثقافية في أوروبا أو في أمريكا أو في شرق آسيا؟ إن ما كتبه العرب حول العولمة مثلاً يساوي – كما قيل – اثنين في المائة مما كتبه الغرب، ماذا كتبنا حتى الساعة حول الفكر التربوي الإسلامي على سبيل المثال؟ أين هي نظرياتنا اليوم؟ طبعاً هذا لا يضعف صواب النظرية فالحق لا يغدو باطلاً بحساب الأقلية والأكثرية، لكننا نتحدّث عن النشاط الفكري والحضور، أنت الآن على مستوى العالم العربي، أحسب لي كم عدد علماء الدين الشيعة المتصدّين للشأن الثقافي بحيث يعدّون من رجال الطبقة المثقفة الأولى الحاضرة في المشهد الفكري العربي والمؤثرة فيه؟ هذه حقائق، لا يجب إنكار الحقيقة للتعويض عن أنفسنا وإشعارها بالسعادة، إنها مسؤولية كبيرة على عاتق علماء الدين والمثقفين الدينيين، متى يجب عليهم أن ينهضوا؟ وكيف؟

طبعاً، هناك أسباب كثيرة لهذا الوضع، منها الحصار المفروض على الإسلاميين في العالم العربي وفي الخارج، ومنها أزمات في داخل الخطاب نفسه، تجعله بوضعه الحالي أعجز عن أن يواصل سيره، دعنا نشبّبه بالأسد الجريح، هذا الأسد الذي جاء مع مفكرين مميزين كالإمام الخميني والسيد الصدر والمطهري وغيرهم، وسبب جرحه أن الحياة تتطوّر والعلوم تتقدّم والجيل اللاحق يغلب عليه الركود، نعم أشيد هنا ببعض الجهود في الساحة الإيرانية، وهي جهود تستحقّ كل تقدير واحترام، وتبعث على الفخر والاعتزاز رغم كلّ المعوقات.

الغدير: ما هو مدى تأثير الخطاب الإسلامي على مستوى العالم، من حيث التأثير في مجرياته ؟

حب الله: أعتقد أن الجواب عن هذا السؤال بات واضحاً ممّا تحدثنا عنه قبل قليل، فعلى الصعيد العام – سياسياً وجهادياً – نحن حاضرون، وأقوياء، أمّا على الصعد الثقافية فلنا حضور في بعض المواقع وانحسار في مواقع أخرى، حضورنا يتركزّ بشكل أكبر على الخطاب الثقافي الجماهيري، وهذا أمر جيد جداً، فليس خطاب النخب لوحده مفيداً، لكن من الضروري أن يكون لنا خطابنا النخبوي الفاعل، وهذا لا يتمّ بالشكل الذي يؤمل إلا عبر تكوين كادر ثقافي قوي، يدرس العلوم الإسلامية التراثية بقوة وحزم، كما يدرس المعطيات الإنسانية الجديدة، ويواكب أحداث العالم الثقافية، ليس بمعنى الاطلاع العام، بل بمعنى التخصّص في المجالات، بعض العلماء في الجمهورية الإسلامية الإيرانية ومنذ حوالي الخمسة عشر عاماً أسّس لجيلٍ من العلماء الفاعلين في الساحة الثقافية، وهذا الجيل الآن حاضر بقوّة في الحياة الثقافية الإيرانية، لا يمكن لأحد أن يقول عنه: إنه غير مطّلع على الثقافة بمعناها التخصّصي، هذا الفريق أُرسل عدد كبير منه إلى الغرب؛ لكي يتخصّص هناك في الفكر الغربي، من داخلهم، من جامعاتهم، أتقن هذا الجيل اللغات الغربية، وقرأ الغرب من مصادره، كان حضور هذا الجيل مميزاً، هذا ما نريده ـ بل وأكثر ـ في ساحتنا الإسلامية العربية الشيعية بالخصوص.

في حوزة النجف كان العلماء رقماً صعباً في الحياة الأدبية، أين علماء الدين اليوم في هذا المضمار؟ لماذا الإحجام بعض الشيء عن أن يكون علماء الدين رجال أدب كبار في العالم العربي، وهم قادرون بحكم اختصاصاتهم على ذلك؟ أين هي المجالس الأدبية الراقية؟ لقد كان العلماء مهيمنين على الحياة الأدبية فترةً طويلة، لا نريد الهيمنة إنما الحضور الفاعل، هذا الحضور باهت اليوم، ولا نقول منعدم، فالحمد لله هناك مهتمون بهذه الجوانب المشار إليها.

مشكلة أخرى على هذا الصعيد، أن الفريق الذي يملك من الإسلاميين  مكانةً فكرية مرموقة لا يجري إحضاره – على المستوى الإعلامي – ساحة الفعل الثقافي، فيبقى منـزوياً في دوائر المتديّنين، ولا يظهر فكره وعطاؤه إلى الملأ عامّة، وسبب ذلك وجود ضعف في جهاز الإعلام الفكري والثقافي عندنا.

 

الهوامش:

([1]) فاطر آيه، 8

(2) الشعراء ،3

(3) الكهف ، 6

(4) البقرة 272

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً