أحدث المقالات

الدين بين التعدد والتعددية

الشيخ عبد الله جوادي آملي

{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(1).

ليس الصراط المستقيم متعدّداً، فسبيل الله واحد، ورسول الله(ص) لا طريق له سوى الصراط الإلهي. قال تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ}؛ أي اتّبعوا هذا السبيل، وذروا ما سواه من السُّبل أيّاً كانت؛ لأنّها مزاحمة لهذا الصراط المستقيم، ولا تؤدّي إلى هذا السبيل.

فالتعبير القرآني يأمرنا بالسير على الصراط المستقيم، وينهانا عن سلوك أيّ سبيل سواه؛ لأنّ السبل الأخرى تبعدنا عنه {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ}(2). وتتفرّق بنا عنه {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}. والنبيّ الأكرم – أيضاً – يأمرنا أن نسلك سبيله الذي جاء به عن الله، وأن ندع السُبل الأخرى؛ لأنّها تبعدنا عن سبيل الله.

وقد يقال: لقد وردت عبارة "الصراط المستقيم" في القرآن الكريم بصيغة النكرة؛ وفي ذلك دلالة على التعدّد.

إلاّ أنّ هذا الاستدلال ليس صحيحاً، ففي سورة فاتحة الكتاب علّمنا الله تعالى أن ندعوه هكذا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وأعقبه بوصف مميِّز لهذا الصراط، فقال عزوجل: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}( 3). ثمّ وضّح المقصود من "الذين أنعم عليهم" فقال: {وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ}(4). ومَن هم هؤلاء الذين أنعم الله عليهم؟ أردف: {مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}. فطريق الأنبياء والصدِّيقين والشهداء والصالحين واحد، وإذا كان هناك اختلافات في الشريعة والمنهاج، فكلّها أجزاء صراط واحد وليست طرقاً أُخرى في قباله.

وإنّ للأنبياء جميعاً صراطاً واحداً، وليس لكلّ نبيّ صراط، وكلّ الصيغ النكرة من (صُرط) تنتهي إلى "الصراط" الواحد المعرّف، إذ ليس هناك أكثر من صراط؛ ولذلك قال تعالى: {أوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِه}(5)، حيث يذكر الله تعالى أسماء بعض الأنبياء ثمّ يقول: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِه}. فلست – يا محمّد – بتابع لنوح وإبراهيم وسائر الأنبياء الإبراهيميّين، بل هذا هو الطريق الذي أرشدناهم إليه، ونأمرك أنت أيضاً أن تسلك الطريق نفسه "فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ"، أي إنّ الدين الذي أتيناهم إياه، هو نفسه آتيناك إياه، فما من صراط مستقيم وصحيح إلاّ هذا الصراط الواحد، اتّبعه الأنبياء جميعاً، و الشرائع كلّها.

قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}(6). فما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى وصّيناك به، ومن ثمّ فلا يُوجَد أكثر من صراط مستقيم، بل هو هذا الصراط الواحد المعرّف المعلوم المعهود الذي عليه النبيّون والصدِّيقون والشهداء والصالحون جميعاً، وما سوى هذا الصراط الواحد الحقّ {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْض}(7). لا حقيقة غارقة في الحقيقة.

إذاً، لا يوجد في النظام التشريعي والعقائدي أكثر من صراط، وليس الأمر كما يقولون من أنّه لا التشيّع حقّ ولا التسنّن؛ لأنّه لابدّ من وجود حقّ في نهاية المطاف، ولا يصحّ أنّ الأشعري والمعتزلي كليهما على  الحقّ المحض بأن يكون ذاك صادقاً في دعواه، وهذا أيضاً، ويكون ذلك على الصراط وهذا كذلك!!

عندما تلا رسول الله (ص) قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}(8) كان الأصحاب جالسين بحضرته، فخط خطّاً مستقيماً كبيراً وإلى جانبه خطوطاً فرعية أُخرى ثمّ التفت إليهم وقال: أتدرون ما هذه الخطوط؟ قالوا: "الله ورسوله أعلم". فأوضح لهم أنّ السبيل الذي جاء به هو الخط الكبير، وأمّا الخطوط الأخرى التي خطّها على الجانبين فهي تعبّر عن السُبل الأخرى.

وها هو الرسول (صلى الله عليه وآله) يقول كما حكى عنه القرآن: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلاَل مُبِين}(9)، أي إمّا أن يكون الحقّ معنا أو معكم، ولا يمكن أن يكون كلانا على الحقّ رغم اختلافنا. حتّى الموحِّدين قال الله تعالى عنهم إنّهم {لاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} وإنّ عليهم أن {يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَد وَهُمْ صَاغِرُونَ}(10)؛ وذلك لأنّ شريعة موسى وشريعة عيسى (عليهما السلام) كانتا حقّاً في عصريهما، ولكن هاتين الشريعتين أنفسهما لم تعودا حقّاً بعد نزول القرآن وحضوره وظهوره بين الناس، فالدين الحقّ هو القرآن وحده، فإذا:

أوّلاً: ينبغي أن يتمّ الفصل بين موضوع الصراط المستقيم في النظام التكويني والصراط المستقيم في النظام التشريعي بصورة كاملة.

ثانياً: يجب أن يُعلم أنّ المعذورية لا تعني الكون على الصراط المستقيم، فكثير من الناس معذورون ولا يدخلون النار؛ كالمستضعفين من الكفّار، بيدَ أنّ عدم الدخول إلى جهنّم أمر، والكون على صراط مستقيم أمرٌ آخر. إنّ الله تعالى لا يُدخل الأمم والأفراد الذين لم يسمعوا بالإسلام النارَ. فهل سيكون مصير الشاكّ الباحث الذي مات وهو يبحث عن الحقيقة إلى النار؟ وهل يذهب المجانين وأولاد الكفّار إلى النار؟

قد يبقى [أحد أتباع بعض المذاهب] غير قادر على التفحّص [عن صحة مذهبه] ولا يكون مصيره إلى النار، بيدَ أنّ عدم المصير إلى النار لا يعني كونه على الصراط المستقيم.

تبقى مسألة أُخرى وهي موارد تداخل الحقيقة وتحوّلها إلى "ظُلُمَات بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْض" وكيف السبيل في مثل هذه الحالات؟

عندما خطّ النبيّ (ص) الخطوط وأوضح للأصحاب أنّ الخط الكبير العام هو سبيله الواجب الاتّباع، وأنّ الخطوط المتفرّقة الأخرى سُبل الآخرين، ونهاهم عن اتّباعها، قال أيضاً: >ستفترق أُمّتي من بعدي اثنتين وسبعين فرقة إحداها ناجية والباقون في ضلال<؛ أي أنّ واحدة منها فقط تمثِّل الحقيقة أمّا الباقون فأساطير وأوهام. إن كانوا معذورين لا يعذَّبون بالنار، وإن لم يكونوا معذورين، فعذابهم على قدر معذوريّتهم. أمّا أن يقول المرء: (إنّ رحمة الله سبقت غضبه، فأين هدايته إذن؟) فنقول في جوابه: أجل، حتّى أولئك الذين يحترقون لا يخلدون في العذاب بل احتراقهم وعذابهم محدود.

ولو ترقّينا أكثر لرأينا أنّ أكثر الناس هم من المشمولين بالرحمة؛ فقد يُعذَّب شخص عشر سنوات أو عشرة ملايين سنة، لكن ما هي قيمة العشرة ملايين سنة بالنسبة إلى الأبد؟ المخلَّد هو الكافر العنود اللجوج الجحود، أمّا البقيّة فليسوا بمخلَّدين، أوَ كلّ كافر مخلّد في النار؟ إلاّ أن يكون ممّن داس الحقّ عالماً عامداً وأصرَّ عليه. وهل كلّ هؤلاء الملايين الذين يُعتقون في شهر رمضان عند كلّ إفطار وفي ليالي الجُمع وفي نهاية شهر رمضان المبارك إلاّ من هؤلاء الجهنّميّين؟

فتبيّن أنّ رحمته تعالى غير محدودة وأنّ من يبقى مخلّداً في النار قياساً إلى أولئك الذين يُعتقون لأبد الآباد قليل جدّاً. ففئة قليلة تخلّد في النار أمّا الخارجون منها فهم من المشمولين بالرحمة الإلهية وهم كثر. ولو قمنا بعملية إحصاء في كلّ العالم وكان بحثنا على أساس الخلود لرأينا أنّ الرحمة هي الغالبة، وأنّ الأكثر مشمولون بالرحمة الإلهية وخارجون يوماً من النار؛ غاية الأمر أنّه لا يمكن تحمّل حتّى يوم واحد من العذاب.

كان الكلام فيما سبق في النظام التشريعي والعقيدي، أمّا في النظام التكويني فلا يضلّ أحد ولا يزلّ عن الصراط المستقيم وليس ثمّة زيغ وضلال في النظام التكويني؛ لأنّه ما من موجود إلاّ وزمامه بيد الله، والله يقوده على صراط مستقيم. فكلّ الطرق في نظام التكوين صراط مستقيم، والصراط التكويني المستقيم لا يدع أحداً ينحرف عن جادّته، فالحيّة والعقرب والطاووس وكلّ الخلائق على صراط مستقيم.

في النظام التكويني، ينتهي الكل إلى الله، غاية الأمر أنّ بعضاً يلاقي الله بصفة الرحمن، والرحيم، والستّار، والغفّار، والحنّان، والمنّان، وبعضاً، يلاقيه بصفة المنتقم، والقهّار وشديد البطش. هذا هو الصراط المستقيم التكويني؛ ولذلك لا ينحرف عنه حتّى أولئك الذين يدخلون جهنّم، كما الذين يدخلون الجنّة؛ لأنّه ليس في النظام التكويني إلاّ الصراط المستقيم ولا توجد سُبل أُخرى معوجّة أو منحرفة وضالّة.

أمّا في الصراط المستقيم التشريعي أي العقائد والمذاهب والأديان، فينبغي أن نحدد ثلاث مراحل:

الأولى: مرحلة الدين نفسه؛ أي القرآن والعترة وهما عصارة الدين.

الثانية: مرحلة الدراسات الدينية الخاصة بعلماء الدين من الفقهاء، والأصوليّين، والمفسِّرين، والفلاسفة، والمتكلِّمين.

الثالثة: مرحلة الدراسات المعرفية للدين، وهي التي يعنى بها الباحثون في المذاهب الدينيّة وهل كونها كلّها على صراط مستقيم أم الجميع مخطئون أم بعض مخطئ وبعض مُصيب؟ وفي هذه المرحلة لا نعود شيعة ولا سنّة، بحيث يكون السؤال هل كلاهما على صراط مستقيم أم لا؟ إنّ الدراسة هنا لا تدور في نطاق المجتمع الديني ولا تتمّ من خلال مقاييسه.

يواجه الإسلام المراحل الثلاث كلّها بروح منفتحة. عن المرحلة الأولى يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(11). بل يذهب أبعد من ذلك عندما يرفع شعار السلام العالمي مع كلّ موحِّدي العالم ويقول لهم: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَة سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ}(12). في هذه المرحلة حيث  لايكون الإنسان مسلماً ولا مسيحيّاً ولا يهوديّاً ولا زردشتيّاً، بل هو إنسان وحسب؛ هنا أيضاً يوصي الإسلام بالسلام العالمي والتعايش السلمي. أيّ لمجرّد كونك إنساناً يمكنك أن تحظى بالتعايش السلمي وتتمتّع بحياة تتّسم بالسلم والقسط، يقول تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمْ اللهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(13). الآية تأمرنا – نحن المؤمنين جميعا ًـ أن نتعامل بالبرّ والقسط مع كلّ إنسان سواء كان مسلماً أو مشركاً، شيوعيّاً أو وثنيّاً، أو من أيّ دين ونحلة، ما لم يسع للقضاء على الإسلام ويعمل ضدّ مصلحة الإسلام والمسلمين.

لم تقل لنا الآية: لا تقاتلوا الذين لم يقاتلوكم ولا تطردوهم أو تخرجوهم أو تضادّوهم وتضايقوهم، ولم تقل كذلك: لا تبالوا بهم ولا يكونن لكم معهم أيّ موقف أو شعور بالمسؤولية، بل قالت: تعاملوا معهم بالبرّ والقسط أي بالمحبّة والعطف والرأفة والعدل. وختمت الآية {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(14). وأن هذا يعني أن النظام الإسلامي يضمن كرامة الإنسان حتى لو كان كافراً، وعلى المسلمين أن يكونوا عطوفين معه، فيقضوا حاجته إن كان معسراً.

تُحدّثنا سورة "هل أتى" أنّ الإمام عليّاً وفاطمة الزهراء والحسن والحسين(ع) أوفوا بنذر لهم وصاموا يوماً من أيّام الحجاز الحارّة، ولكن عندما حلّ موعد الإفطار وكانت الزهراء(ع) قد أعدّت قرصاً بيدها لإفطارهم، حضرهم أسير وطرق عليهم الباب يسألهم الطعام؛ فقدّموا له ذلك القرص! وهنا نسأل: مَن كان أسيراً في المدينة آنذاك؟ اُنظر إلى تعامل الإسلام عبر سلوك عليّ وأُسرته مع غير المسلمين! يبقى هو وأولاده جياعاً ليقدِّموا إفطارهم لمشرك، وينزل بحقّهم قرآن يخلِّد موقفهم الكريم هذا.

وفي كتاب الغارات – المؤلَّف قبل نهج البلاغة بزهاء مئة سنة – أنّ أمير المؤمنين(ع) كان مارّاً فرأى شيخاً مكفوفاً يسأل الناس. قال الإمام: ما هذا؟ أجابوا: مسيحي أعمى. لم يرضَ الإمام بذلك؛ لأنّهم استثمروه عندما كان شابّاً ثمّ تركوه الآن إذ كبر يسأل الناس وقال لهم: (انفقوا له من بيت المال) أي لا ينبغي حتّى لمسيحي أن يسأل الناس في حكومة عليّ عليه السلام.

أيُ تحمّل وتسامح وتساهل ومداراة أكثر من هذا؟ إلاّ أنّ تحمّل الآخر وعدم طرده شيء، والإفتاء بأنّ الجميع على صراط مستقيم مسألة أُخرى. صحيح أنّه يجب تحمّل الجميع، وإذا كان لدى أحد إشكال فينبغي أن يُجاب عليه. لقد كان الإمام الصادق (عليه السلام) يحاجج الكفّار ويحاورهم ويتحمّلهم، لكن محاورة الكافر وتحمّله مرحلة، والإفتاء بأنّه ضالّ وكافر مرحلة أُخرى. فالإمام الصادق (عليه السلام) نفسه، الذي كان يستقبل الكافر عند الحرم ويتباحث معه كان يقول عنه إنّه كافر.

نقول: أجل، ينبغي أن يتحاور المختلفان في العقيدة بحبّ ومودّة واحترام، ولكن لابدّ في آخر الأمر ونهاية المطاف أن يكون أحدهما على حقّ والآخر على باطل.

ولا يمكن لباحث في علم الأديان أن يقول: لا الشيعة على حقّ ولا السنّة، أو أنّ كليهما على صراط مستقيم. إنّه يمكنه كحدّ أعلى أن يقول: (إمّا هذا حقّ أو ذاك، أنا لا أدري ولست في موقف إصدار الحكم). هنا على الباحث المعرفي أن يقول بمنتهى الصراحة: >لا أعرف. إذا أردتم الحكم فلنبحث بحثاً كلاميّاً لنرى مع مَنْ سيكون الحقّ).

والذين هم على صراط مستقيم لهم طرق ومقاطع مختلفة إلى الصراط المستقيم هي الخطوط الفرعية المنتهية إلى هذا الصراط وقد تكون متعدّدة فالسُبل تتعدّد، أمّا الصراط المستقيم فلا يمكن أن يكون إلاّ واحداً. ولئن قيل: إنّ الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق فلأن كلّ الذين على صراط التوحيد، وكلّ من استدلّ بآية من الآيات التكوينية – سواء الأنفسية أو الآفاقية – كلاًّ يتحرّك في مقطع من مقاطع الصراط المستقيم الواحد. لكن أيّ طريق آخر فرض إزاء هذا الصراط المستقيم الواحد، فهو طريق منحرف وزائغ. هذا ظاهر آيات القرآن الكريم.

أمّا التحمّل، فلا يعدّ دليلاً على أنّ الجميع ينطقون بالحقّ، أو أنّ الحقّ موجود لدى الجميع. التحمّل من أجل أن يكون {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ}(15). ولتكون الحجّة بالغة. إذن فتحمّل أفكار الآخرين شيء جيّد وقد فُصِّل في المراحل الثلاث.

بناءً على هذا، لا يحقّ للباحثين المعرفيّين(ابستمولوجيك) أن يستنتجوا من أبحاثهم نتائج فقهية أو كلامية؛ لأنّهم يبحثون في تاريخ ومجريات العقائد الدينية وعلماء الدين وليس في المسائل الدينية نفسها. فهم لا يبحثون مثلاً أنه في هل يجب أن يكون الإمام معصوماً أو لا؟ إنّ عليهم تقديم التقارير والإخبار عمّا لدى كلّ فريق وحسب. ومن ثمّ فإنّ على الأشخاص الذين يعملون في المرحلة الثالثة (ذوي البحوث المعرفية) أن يستحضروا دائماً أنّ طائفة أُخرى تليهم – في المرحلة الرابعة – وهي تراقبهم في عملهم لئلاّ يخرجوا من نطاق البحوث المعرفية ولا يخلطوا المسائل ويُداخلوها بعضها مع بعض.

إذا قال أحد: لا التشيّع يمثِّل الإسلام الخالص ولا التسنّن، لا فقه المالكية صحيح ولا فقه الجعفرية، لا الزيدية يقولون الحقّ الصراح ولا الوهابية؛ لأنّ الحقّ الخالص لا يوجد عند أيّ أحد.. فهو مدّع بلا دليل، إذ ما هو المبنى الذي استند إليه في إطلاق مقولاته؟

إنّ على من يقول: لا يوجد الإسلام الأصيل عند أيّ شخص أو فريق، أن يقدِّم المنطق والأساس الذي اعتمده في دعواه!

ولو قال أحد: ليس ثمّة أيّ فهم مقدّس، ولا يمثِّل أي فهم حجّة، وليس أيّ فهم مطلقاً وخالصاً، فإنّ كلامه هذا هو من الأقسام التي تعرف في المغالطة بـ (جمع المسائل في مسألة واحدة). إنّ البحث بالجملة والسؤال بالجملة والجواب بالجملة من أقسام المغالطة، حيث يتمّ خلط عدّة مسائل في مكان واحد.

لقد أفتى الشيخ الرئيس وشيخ الإشراق كلاهما بوجوب دراسة قسم البرهان في المنطق على طلاّب العلوم الدينية وعدا ذلك من الفرائض، ليكونوا على بيِّنة من أمرهم ويميِّزوا المواقع التي يحصل لهم فيها اليقين عن غيرها ويعرفوا شروط اليقين. لتحاشي المغالطة ينبغي تجنّب >جمع المسائل في مسألة واحدة< لأنّه لا وجود لمجموع المسألة أصلاً لنقول عنه إنّه حقّ أو باطل، بل يجب أن نتناول المسائل مسألة مسألة ونخضعها للتقويم قبل إصدار الأحكام. إنّ من يقول: >لا فهمَ صحيح< يجانب الصواب ولا يرتكز إلى أيّ أساس معرفيّ.

قد يرى ذو رأي أنّ في مسألةٍ ما عشرة أقوال مثلاً ويقول: إن أصحاب هذه الأقوال كلّهم أجلاّء ومن أهل الجنّة، بيدَ أنّ أيّاً من هذه الأقوال ليس حجّة ولا معتبراً لدينا، وعلينا أن ننظر بأنفسنا ونفهم ما نقول؛ وهذا منطق من هو في المرحلة الثانية من المراحل المشار إليها، لكنه لا يعني إعطاء الحقّ لمن هو في المرحلة الثالثة (أي المعرفي) أن يقول: "إذن، لا قول من هذه الأقوال مقدّس ولا حجّة"؛ لأنّه لا يخلو الحال من أحد أمرين، ولا يمكن أن يكون القول الواحد صحيحاً وغير صحيحاً في الوقت نفسه، أو أن لا يكون صحيحاً وغير صحيح في آن؛ لأنّ في ذلك ارتفاعاً للنقيضين وهو محال؛ إذ مهما قلنا فلا بدّ في نهاية المطاف أن يكون أحدهما حقّاً والآخر باطلاً. وليست هذه الأقوال بمجموعها قولاً واحداً ليقال إنّ شيئاً من الحقّ لدى المالكي وشيئاً منه لدى الجعفري، وبعضاً لدى السنّة وآخر لدى الشيعة!

بناءً على هذا، فإنّ الجالس خارج بوّابة هذه العلوم لا يحقّ له أن يقول: "لا فهم مقدّساً" وإذا قال ذلك، فهذا يعني أنّه لا منطقَ له. بل عليه أن يقول: كلّ فهم طابق الدين فهو حقّ ومقدّس، وكلّ فهم لم يطابقه فليس حجّة ولا مقدّساً. أمّا كون أيّها مطابقاً فالمدّعون كثر، ولا ينبغي للباحث المعرفي إطلاق القول إنّه لا بحث مقدّساً ولا فهم خالصاً ولا استنباط حجّة، بل إنّ من الفهم ما هو حقّ وخالص وصادق وأصيل. أجل، لا مراء في أنّه لابدّ من أن يتمّ إثبات ذلك.

يقول بعض الباحثين: بما أنّ الحقّ الخالص لا يوجد عند أيّ أحد، إذن، الطرق المستقيمة متعدّدة ومختلفة، وكلّ مذهب فهو خليط من الحقّ والباطل.

نقول في الجواب: حسناً، إذا كان المدعى أنّه لا وجود للحقّ الخالص في أيّ مكان وعند أيّ أحد، وأنّ الحقّ مخلوط بالباطل ومشوب به دائماً، فإنّ على صاحب هذا الادّعاء أن يستنتج عدم وجود الصراط المستقيم أصلاً، لا أن تكون عندنا طرق مستقيمة ومتعدّدة.

قالوا: إنّه لا يوجد الحقّ الخالص في العالم أساساً، وقالوا أيضاً: إنّ الأديان حقّ ودين الله هو الحقّ الخالص وليس أفهام الناس. وقالوا: إذ لم يُعثر في الدُّنيا على شيء خالص فلا يمكن التوصّل إلى الدين الخالص أيضاً؛ لأنّ الحقّ مشوب بالباطل دائماً. واستشهدوا بقوله تعالى: {أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً}(16).

ونقول في جوابهم: هذا تحميل على الآية؛ لأنّه يجب معرفة محور التشبيه من الآية نفسها. ولمّا كانت الآية قد شبّهت الفيض الإلهي بالسيل فهل التشبيه بالسيل من جهة الاختلاط بالطين والعوالق الأخرى أم من حيث التخريب وهدم الدور الذي يلازم السيل عادةً؟

نقول: إنّ جهة التشبيه بيّنتها الآية نفسها وهو احتمال الزبد، فكما أنّ السيل يحتمل زبداً رابياً، فكذلك فيض الله.

ولا ندري كيف قالوا باختلاط العوالق بالفيض الإلهي تشبيهاً لاختلاط الطين بالسيل؟ ومن أين جاؤوا بذلك؟ ولم يكن مراد الآية ذلك، بل ما صرّحتْ به من احتمال الزبد.

المسألة الأخرى التي أشارت إليها الآية هي أنّ هذا الزبد يزول سريعاً ولا يمكث طويلاً {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً}(17) أي أنّه لا حاجة لزوال الزبد الذي يعلو الماء إلى أيّ عامل سوى السيل نفسه، ولا حاجة لتهيئة العوامل الخارجية لإزالة الزبد بل يزيله الماء نفسه؛ لأنّه شيء فارغ وتافه محتوى، فلا حاجة بنا لبذل أيّ جهد لإزالة هذا الزبد من على سطح الماء أو ننزل ملائكة من السماء.

إذن يتبيّن أنّ هذا التشبيه بين الفيض الإلهي والسيل إنّما هو من حيث احتمال الزبد وزواله وليس من جهة اختلاطه بالشوائب والرواسب. فليس مدار التشبيه أنّ فيض الله يشبه السيل من كلّ الجهات فيجلب معه التخريب والدمار أيضاً، وأنّى لهم الاستنتاج بأنّ فيه رواسب كالسيل أيضاً.

وفي ذهاب الزبد مسألة أُخرى حَرية بالتأمّل. هنا يضرب الله مثلاً صناعياً في مقابل ذلك المثل الطبيعي، فإنّ الناس ولغرض الحصول على صور مختلفة من الذهب يقومون بصهره وتذويبه، فتعلو سطحه رغوة وزبد سرعان ما يزول ويبقى الذهب الخالص تُصاغ به المجوهرات، ولا يقال: إنّ في ثنايا تلك الأوعية التي صهر بها الذهب بقيت رواسب وشوائب ورغوات ما تزال؛ لأنّها كانت عالقة بالذهب. فإنّ الحقّ وإن اختلط بالباطل مؤقّتاً إلاّ أنّ الباطل زائل ولا يبقى إلاّ الحقّ.

ثمّ يدعونا الله تعالى إلى الخلوص والإخلاص، يقول: {أَلاَ للهِِ الدِّينُ الْخَالِصُ}(18). فوصف الدين الإلهي أنّه خالص. إنّ الدين المنزل خالص، ومرسله أرسله بالحقّ، ومن أُنزل إليه تلقّاه بالحقّ. فلم يكن شوب وعدم خلوص لا في الإلقاء ولا في التلقّي؛ قال تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}(19).

فلم يرافقه الباطل إذاً؛ لأنّ القائل قال حقّاً، والمنزِل أنزل حقّاً، والمتلقّي تلقّى حقّاً، فهؤلاء هم أُمناء الوحي. وهكذا كان الدين خالصاً ويدعونا إلى الإخلاص في الدين، فإن لم يكن الدين الخالص ممكناً لما كلّفنا به.

الآية الثانية في سورة الزمر تقول: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ}، والآية الثالثة في سورة الزمر هي {أَلاَ للهِِ الدِّينُ الْخَالِصُ}، والآية الحادية عشرة في السورة نفسها تقول: {قُلْ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ الدِين} فالبحث ليس في الله تعالى وهو الحقيقة المطلقة التي لم يعرفها ولن يعرفها أحد؛ لأنّ الأفهام نفسها قاصرة عنه. وإنّ ما نعرفه عن الله تعالى قليل جدّاً لا يُقارن بما لا نعرفه عنه جلّ وعلا، بل ما يعرفه إنسان كامل عن الله تعالى لا يقاس بما لا يعرفه عنه.

إلاّ أنّ هذه الآيات المباركة في سورة الزمر تدعونا إلى الإخلاص في الدين، الأمر الذي يكشف أنّ لدينا ديناً خالصاً وأنّ دركه ليس محالاً بل هو ميسور أيضاً، كما تخبرنا سورة البقرة عن فئة طوت هذا الطريق ووصلت إلى المقصد سمّتهم الـ ؟مخلِصين له الدين؟. أمّا الذين سبقوا في بلوغ المقدس، فقد عُبِّر عنهم بالمخلَصين، وهم أعلى درجة من المخلِصين، وقد أطلق القرآن الكريم تلك الصفة على الخواص من الأنبياء.

البيان الآخر الذي قد يُستشهد به أحياناً هو الخطبة الخمسون من نهج البلاغة حيث يقول الإمام عليّ(ع): (ولو أنّ الحقّ خلُص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه..). بهذا أيضاً استدلّوا عدم وجود الحق محضاً صافياً إلا الباطل كذلك!

هذا في حين أنّ هذه الخطبة نفسها تُخبر في مطلعها أنّ ما أتى به الإسلام هو الحقّ المحض وإنّما كان >بدء وقوع الفتن أهواء تتبع وأحكام تُبتدع يُخالف فيها كتاب الله ويتولّى عليها رجال رجالاً< فكان أهل النكراء والشيطنة يمزجون الحقّ بالباطل ويتبعهم المخدوعون بعد ذلك.

ويوم خرج الإمام عليّ(ع) للمبارزة في معركة خيبر قال رسول الله(ص): خرج الحقّ كلّه للباطل كلّه، والإسلام كلّه في وجه الكفر كلّه.

إذاً، لم يثبت لحدّ الآن أنّ كلّ المذاهب تُمسك ببعض الحقّ وبعض الباطل، وأنّ الحقّ المحض لا يوجد عند أيّ أحد. فلا تلك الآية أشارت إلى ذلك، ولا هذا الحديث قال إنّ الحقّ مختلط بالباطل دوماً.

أمّا بشأن التجربة الدينية، فينبغي أن يكون واضحاً لدى الجميع أنّه وفيما يتعلّق بالله والإحاطة بذاته المقدّسة، لم يدّع أحد أنّه يمكنه الحصول على الحقّ الخالص، فهناك الإطلاق والتناهي، ولا يدرك الحقَّ المحض أحد إلاّ الله، وهذا الموضوع خارج عن بحثنا.

أمّا حكم الله فيمكن تشخيصه لأنّه {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَىِّ}(20).  وبعد التشخيص يمكن الإيمان به، ثمّ العمل به بعد ذلك.

يقول الخطاب القرآني {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَىِّ} ويُعلم من هذا أنّ الحقّ ليس مختلطاً بالباطل دوماً، فالمعصوم مصون من آفات القوالب البشرية والتصرّف في الوحي؛ لأنّه يتلقّى عين ما أرسله الحقّ من دون أن يكون له من نفسه قالبٌ وإطارٌ خاصّ يصبّه فيه أو يضيفه له من عنده بعد ذلك فيحدّده، بل هو يجد الحقّ المحض ويتلقّى ذلك الحقّ المحض نفسه. يقول تعالى عن نبيّه الكريم: {مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}(21)، ولا يصحّ أن يقال بشأن المعصوم إنّ لطباعه وأصوله العرقية وحدوده الجغرافية وطبيعة قومه ومجتمعه ولغته وزمانه دوراً في صناعة قالبٍ أو إطارٍ للنصّ بحيث تكون لغة النصّ وقالبه من النبيّ نفسه – والعياذ بالله – أو أن تكون لطباعه مدخلية فيه، بأن يخبره الوحي مثلاً عن وجود نساء في الجنّة ولكن حيث إنّه (ص) يعيش في الجزيرة العربية فهو يصوّرهن بصورة الحور العين بحواجب دقيقة وعيون سود، ولو كان يعيش في الغرب لقال إنّهنّ شقراوات زرق العيون! كلاّ ليس الأمر كذلك، فالنبيّ (ص) ليس عارفاً عادياً.

إنّ عبارة {لا ينطق عن الهوى} تعني أنّ كلّ ما ينطق به هو من الوحي، غاية الأمر لمّا كان الله تعالى عالماً بأنّ أهل الحجاز مأنوسون بالحور من النساء، فقد عبّر عن نساء الجنّة بحور العين من دون أن يكون للنبيّ (ص) دخل فيه بأن يكون القالب منه، أو أن يأتي هو بالظرف ويتلقّى المظروف، بل إنّ الله تعالى أعطاه الظرف والمظروف معاً، وهو – سبحانه – الذي وعده بـ {جنّات تجري من تحتها الأنهار} وأخبره عن وجود الحور العين والولدان المخلّدين في تلك الجنّات.

ولكنّه قال بعد ذلك: {فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاَْنفُسُ وَتَلَذُّ الاَْعْيُنُ}(22) ممّا يعني أنّ التعبير الأوّل كان رعاية لحال مخاطبيه المباشرين؛ أي العرب، ولذلك لم يرد في القرآن ذكر لماء الورد لأنّ العرب لم يعرفوه، ولكنّه أخبرهم أنّ كلّ ما تشتهيه أنفسهم موجود في الجنّة، ومن ضمنها هذه الأمور التي ذكرها في الطليعة؛ لانّه كان يبتغي أن يتحدّث الله لهؤلاء الناس بصورة يفهمونها، ولذلك لم يذكر لهم الموز وماء الورد وأمثالهما.

فالصحيح أنّ الله تعالى هو الذي نوّر القلب المطهّر للنبيّ الأكرم(ص) بهذه الكلمات ولا نقول إنّه أعطاه هذه المعارف تاركاً له صناعة القوالب اللفظية التي يراها مناسبة، أو أن تكون هذه القوالب والألفاظ والعبارات عند النبي من قبل أو صاغها بعد ذلك. كلاّ ليس الأمر كذلك.

نخلص ممّا مرّ أنّ البحث في الله وكنهه أمرٌ آخر، والتجارب الدينية تصحّ بالنسبة لغير المعصومين، أمّا مع المعصومين فليست تجارب.

إنّ القوم لا يكتفون بالقول إنّ الأفهام غير خالصة ولا يوجد فهم خالص وصحيح، بل يقولون إنّ الدين ليس خالصاً؛ لأنّ هناك من يقول إنّ القرآن – والعياذ بالله – محرَّف ومغيَّر، كما أنّ السنّة غير نقيّة؛ لأنّ سلسلة من الروايات المجعولة قد وجدت إليها سبيلاً، أو أنّ بعض هذه الروايات صدرت على سبيل التقيّة، ومن ثمّ لا وجود للدين الخالص!!

للردّ على هذه الإثارة نقول: قد اتّفق الفريقان أنّ النبيّ(ص) قال بحجّية هذا القرآن الموجود بين الدفّتين نفسه، وبحجّية سنّته القطعية الصدور. ولم يقل أحد بطروّ الزيادة والنقيصة في محاور القرآن الأصلية ولا في السنّة القطعية الصادرة عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله. نعم، هناك بابان رواهما الكليني (رحمه الله) وآخرون لا علاقة لكلّ منهما بالآخر، وإن كان كلّ منهما حقّاً في محلّه.

إذا لم تكن رواية معارضة برواية أُخرى ولكن كانت مخالفة للخطّ العام الأصلي للقرآن، فهي زخرف ولا اعتبار لها بل تضرب عرض الجدار.

أمّا البابان اللّذان رواهما الكليني ولا علاقة لأحدهما بالآخر فأحدهما يرتبط بالنصوص العلاجية والآخر بحجّية أصل الرواية. ومن لا علم له بالخطوط العامّة للقرآن الكريم فليس محدِّثاً، وكلّ حديث لابدّ من عرضه على القرآن أوّلاً فإن طابقه كان حجّة وإلاّ فلا.

ولا يكون فهم القرآن متناقضاً؛ لأنّ الله تعالى وصف القرآن نفسه بأنّه "نور"، وإذا كان نوراً و{تِبْيَاناً لِكُلِّ شَىْء}(23). فلابدّ أن يكون بنفسه بيِّناً، وكلّ من كان سليم النفس، فهو قادر على فهم القرآن في خطوطه العامّة والخطّ الأصلي الحاكم عليه، أمّا النقاط الدقيقة والبطون والزوايا والأضلاع العميقة الغور في القرآن فلا يفهمها كل أحد.

من جهة أُخرى قدّم الرسول(ص) سنّته القطعية عبر عترته الطاهرة إلى جانب القرآن الكريم وأمر بضرورة التمسّك بهما وأخبر أنّهما باقيان ومتلازمان ولن يفترقا حتّى القيامة وأنّهما يقودان كلّ متعطّش للعلوم والمعارف الصافية حتّى يردا به على حوض الكوثر.

إنّ الطريق لعرض الأفكار والمذاهب المختلفة على القرآن والسنّة القطعية مفتوح، غاية الأمر أنّ ذلك يتطلّب سنين متمادية من الدرس والتحقيق، وهذا أمر صعب ولكنّه ليس محالاً.

إذن فقد بلغتنا السنّة القطعية أيضاً وإن لم تبلغنا بضع روايات ترتبط بالزوايا الفرعية، وإلاّ لو لم تصلنا السنّة القطعية والخطّ العام لما كان عندنا معيار. ومن دون المعيار لا يمكن تقييم الأشياء؛ فمن دون معيار السنّة وميزانها بماذا كنّا سنزن الأشياء؟!

نستنتج ممّا تقدّم أنّ التمسّك بالقرآن والسنّة ممكن، وإلاّ لما اُمرنا به، وحيث أُمرنا به فهو ممكن. وقد وقع التكليف من المولى بالفعل، كما وقع الامتثال من لدن بعض المكلَّفين أيضاً.

لقد نقل المرحوم الكليني بعض هذه الروايات في كتاب الكافي وهي ناظرة إلى التفسير بالرأي. هذا أوّلاً، وثانياً: ليس كلّ ما نقله الكليني في الكافي يمثِّل رأيه وفتواه في المسألة.

إنّ المرحوم الكليني لم يُفتِ بكلّ ما نقله في كتاب "الكافي". فالكليني وآخرون ليسوا من القائلين بتحريف القرآن، والدليل على ذلك عبارات الشيخ الطوسي (قدس سره) في مقدّمة كتاب "التبيان".

ومن أراد أن يدرس المذهب الشيعي ويعرفه حقّاً فعليه أن ينظر لما قاله محقّقو الشيعة الأوائل. يقول الشيخ الطوسي (رحمه الله) في مقدّمة "التبيان": ودعوى زيادة القرآن ونقيصته لا تحتاج إلى نقاش، فإنّ [سلامة القرآن من كلّ تحريف أو زيادة أو نقصان] من المسائل الإجماعية؛ إذ لم يقل أحد بإضافة شيء إلى القرآن ولم نجد مسلماً يقول بنقيصته، وإن وُجدت بعض الروايات في هذا المجال فهي إمّا من خبر الواحد، وهو ليس بحجّة، أو أنّها ناظرة إلى التحريف في المعنى والتفسير بالرأي، ولم تكن هذه الدعوى قضية يوليها الباحثون أهمّية تذكر.

إذاً، فمجرّد نقل الكليني (قده) لرواية في الكافي لا يدلّ على أنه يتبنى مضمونها ويفتي به. هل كتب الكليني رسالة في تحريف القرآن؟ حتّى المحدّث النوري (قدس سره) كان بصدد إثبات صيانة القرآن من التحريف، وقد كتب ذلك مقدّمة ونفى فيها تحريف القرآن والتلاعب به نفياً قاطعاً وصريحاً.

وإلاّ فهل يمكن لكتاب محرّف ومزوّر – والعياذ بالله – أن يكون معياراً لنا. إذا كان القرآن ميزاناً مختلاًّ، فكيف سيكون ميزاناً موثوقاً معتمداً عليه؟!

المسألة الأخرى التي ذُكرت هي أنّ الدين ليس كاملاً؛ وذلك لأنّ النبيّ(ص) قد توفّي ولما يكمل الدين. ومن ثمّ لا يمكن لأحد أن يتوصّل إلى الدين الخالص. فلو كان النبيّ (ص) قد عمّر أطول ممّا عمّر لنزلت آيات وسور أكثر ولكان الدين بالضروة أكمل، وحيث إنّ النبيّ (ص) لم يعش أكثر من ثلاث وستين سنة فهذا يعني أنّ القرآن لم يبلغ تمامه وأنّ الدين بقي ناقصاً. هذا الكلام هو الآخر لا يستقيم مع البرهان العقلي والدليل النقلي معاً.

الدليل العقلي يثبّت النبوّة العامّة ويقول إنّ الإنسان لا يمكن أن يُترك من دون الوحي، وإنّه أينما وجد الإنسان محتاجاً نزل الوحي لسدّ حاجته عن طريق السماء، إذا كان الإنسان قادراً على استنباط الفروع من تلك القوانين العامّة بالاجتهاد الذي يتوفر عليه.

ينبغي أن تصل الأصول العامّة إلى حدّ النصاب ليكون الوصول إلى القوانين الأخرى المرتهنة بفهم المجتهدين ميسوراً، فمن هذه القواعد والأصول والاٌسس يتمّ استنباط تلك الأحكام. فإن لم تكن تلك القواعد والاٌسس بالغة حدّ النصاب لطوّل الله سبحانه في عمر نبيّه حتّى تكتمل وتبلغ ذلك الحدّ، ولم يكن هذا بالأمر العزيز على الله، وهو الذي مدّ في عمر نوح أكثر من تسعة قرون، أو أنّه لم يجعله خاتم الأنبياء ولأرسل نبيّاً آخر ليكمل الأصول والقواعد المتبقّية.

ولكن حيث لم يحدث أي من هذين الأمرين، فيتبيّن إذاً أنّ تلك القوانين والاُصول الضرورية التي لابدّ منها للمجتمعات البشرية قد بلغت حدّ النصاب ثمّ قام المجتهدون بعد ذلك باستنباط سائر الأحكام بالاستمداد من القرآن الكريم والسنّة القطعية. هذا هو الدليل الكلامي.

أمّا الدليل النقلي فيقول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}(24). ظاهر هذه الآية الكريمة أنّ الدين قد بلغ حدّ الكمال وأنّ النعمة الإلهية قد تمّت، ولم يبق شيء بعد ذلك ضروري للبشر لم يقله الوحي، فما كان ضروريّاً نطق به الوحي، والبقية تركت للمجتهدين يمكنهم أن يستنبطوها بمعونة الروايات ويبيّنوها للناس. وهكذا يتّفق ظاهر {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} مع ما نهض البرهان العقلي ببيانه، فما أفتى به العقل أيّده النصّ.

إذاً، لا يصحّ أن يقال: لو كان النبيّ حيّاً لصار الدين أكمل ممّا هو عليه؛ لأنّه يجاب: نعم، لو مُدّ في عمر الرسول الكريم (ص) أكثر لاستفاد منه تلامذته لطائف ودقائق أُخرى وزوايا ومطالب جديدة، ولكن لا دور لها في بلوغ حدّ النصاب الضروري للدين وهي ما يمكن أن نطلق عليها "نوافل المعارف" لا "فرائض المعارف"، ولكن لا ينبغي للدين أن يبيِّن جميع الفروع وقد منحنا الله سبحانه العقل الذي هو منبع ثرّ للدين، أرفدنا بالنقل أيضاً على أساس {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الذي هو النبع الثرّ الآخر.

هو ذا العقل وذاك النقل حجّتان إلهيتان ومنبعان لا ينضبان للدين. وكلّ ما أفاضه هذان النبعان فهو الدين.

إذن منبع الدين إمّا العقل أو النقل. النقل هو القرآن والسنّة وهي تُكشف إمّا بخبر الواحد أو الإجماع أو الشهرة.

 

الهوامش:

(1) سورة المائدة: الآية 153.

(2) سورة يونس: الآية 32.

(3) سورة الفاتحة: الآيات 6و7.

(4) سورة النساء: الآية 69.

(5) سورة الأنعام: الآية 90.

(6) سورة الشورى: الآية 13.

(7) سورة النور: الآية 40.

(8) سورة الأنعام: الآية 153.

(9) سورة سبأ: الآية 24.

(10) سورة التوبة: الآية  29.

(11) سورة الحجرات: الآية  10.

(12) سورة آل عمران: الآية 46.

(3[1]) سورة الممتحنة: الآية 8.

(4[1]) سورة الممتحنة: الآية 8.

(5[1]) الأعراف: الآية164.

(6[1]) سورة الرعد: الآية 17.

(7[1]) سورة الرعد: الآية 17.

(8[1]) سورة الزمر: الآية 3.

(9[1]) سورة الإسراء: الآية 105.

(20) سورة البقرة: الآية 256.

(21) سورة النجم: الآية 3 و 4.

(22) سورة الزخرف: الآية 71.

(23) سورة النحل: الآية 89.

(24) سورة المائدة: الآية 3.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً