أحدث المقالات




الرجال العظام لا يتكرّرون

د. إبراهيم بيضون

كان في مقتبل العمر، ودون عشرينه فقط، حين صعد المنبر ينافس كبار شعراء المرحلة، ويفاجئ الجميع بقصيدة من لون آخر ومعدن مختلف. كان ذلك في مطالع خمسينيات القرن الماضي، خلال الاحتفال التأبيني للعلامة الكبير السيد محسن الأمين، وقد استوحى من المناسبة أفكاراً للمستقبل الذي بدا أنه يتفاعل في الهواجس المبكّرة لهذا المعمّم الوسيم، الواعد، الصاعد إلى دور استثنائي رهصت به قصيدة السيد، فكان مما قال:

قلمٌ تفجّر بالحياة

وبالصواعق والرعود

يرمي بها المستعمرين

وكلّ طاغية عنيد

وتصيب من بركانه

ناراً على أفق الركود

لعل في هذه الأبيات المستلة من قصيدة طويلة، ما ينبئ عما يروج في الوعي التاريخي للسيد الشاب، من روح التمرد على الواقع، والثورة على الظلم، واستشراف التغيير في الأمة الخامدة، والتي ما انفك يسكنها الماضي، متكئة على أمجادها الغابرة، مادة يلوكها الشعراء والكتاب، والخابطون في السياسة، وقد التبست عليهم جميعاً معالم الطريق.

ماذا بعد؟ والسؤال الصعب بانتظارك، لأن مثل هذه القامة العملاقة، ليست قراءتها سهلة المنال… وعليك أن تحرق المراحل للحاق بها، فلا تكاد تبلغ محطة، حتى تستثيرك أخرى أكثر غواية، ولكنك في النهاية تنكفئ مرهقاً، وقد نأى بعيداً عنك في فضائه اللانهائي. فيرتج عليك التذكر في هذا المقام، وأنت من شهود عصره، وكنت قريباً منه. تواكب تألقه وحركة صعوده إلى المرجعية، إلى جرأته في الاجتهاد المؤسس على العقل، إلى العمق الإنساني في وجدانه الرهيف.

ثمة أشياء خاصة بي، لا يمكن أن يطويها النسيان، وهي مما أتباهى به وتسطع في ذاكراتي المتخمة بشؤون وشجون.

ذات يوم، فاجأني قوله: «يجب أن تكتب عن الحسين»… أعاد ذلك مراراً، حتى شعرت بأن وصيته فريضة لا بد من القيام بها، فكان كتابي: «ثورة الحسين حدثاً وإشكاليات»، وهو نفحة منه، ومن سلالة فكره التجديدي الذي اهتديت به. وكيف أنسى التكريم الذي شرفني به، وحفر عميقاً في مشاعري، وكان أعز ما لقيته في مسيرتي العلمية؟ كيف أنسى هذا المرشد، المتحدر من بيت عريق في العلم، حيث درجت في مدرسته التي كانت لي منارة أضاءت أمامي ظلمة الطريق، وفتحت أمامي أبواباً لم أكن لأطأها من دونها؟
في قراءتك للسيد الجليل، عليك أن تبحر في عالمه المتنوع، شاعراً، فقيهاً، خطيباً، مرجعاًوفي موازاة ذلك ممانعاً في عقيدته، رائداً في المقاومة التي نفث فيها من روحه وعقله وكان من روادها الأوائل، وانتصاراتها، أيضاً، معقودة له، كما للأبطال المجاهدين، وجلهم ينتمون إلى مدرسته.

كانت «النبعة» المحطة الأولى في لبنان، حيث البشر يتكدسون في بؤر البؤس، والفقر يتغضن في وجوههم المتعبة من كدح الأيام الثقيلة وجد في هؤلاء تربة خصبة لحركته النهضوية التي اتخذت فرادتها في اتجاهات عدة: خطب الجمعة، ودروس في الدين والتربية والسياسة والاجتماع، إلى الحوزة الأولى خارج مراكز العلم المألوفة في العراق وإيران. وحين توقفت التجربة تحت ضغط الحرب العبثية والتهجير القسري، انبثقت بوتيرة أكثر ثورية في «بئر العبد». وتحريضه على المقاومة والانحياز إلى الفقراء والمقهورين، استمرا مادة خطابه. وكان في الوقت متسع دائماً لمسائل الدين، ليخوض تحدياً في عقلنة المفاهيم، وتصويب ما رسب من أفكار خاطئة في النفوس… وفي كل المواقف، كان خطابه الإسلامي، كما الوطني، وحدوياً، بعيداً عن الفئوية والمذهبية والطائفية، كما كان نقدياً استنهاضياً على المستوى العربي، وعدائياً ضد الاستكبار العالمي… وفلسطين دائماً المحور والفلك وبيت القصيد.

هكذا السيد الثائر، كان دائماً في دائرة الخطر، ينجو بالصدفة من شباك المتآمرين الذين استهدفوه مراراً، وبعناية إلهية نجا من عملية مروعة، بعدما أصبح مقلقاً للأعداء الكبار. فلم يأبه لذلك، بل اتخذ منه جرعة للصمود، مؤمناً بأن الحياة تنتهي حين يأتي أوانها. وقد بات حينذاك أكثر مناعة وأشد تصميماً على المضي في خياراته، ما أكسبه احترام الأعداء أو الذين ينتمون إلى دول معادية، فكانوا يتقصدون زياراته، مقدّرين دوره التاريخي ومواقفه الحاسمة في مقارعة الطغيان، كما ظل مجلسه مزدحماً حتى من غير المتفقين في السياسة معه، يستلهمون منه الحكمة وسداد الرأي.

ولكن، من أين كان السيد المستغرق في الشؤون العامة، يجد حيزاً لشؤونه الخاصة؟ متى كان يكتب، أو يتسلل إليه الوحي لمراودة الشعر؟ وكيف استطاع أن ينجز تلك المؤلفات الغزيرة؟ وأخيراً، وهو السؤال الأصعب: كيف أنجز موسوعته القرآنية التي نبّعت على الثلاثين من المجلدات؟ وهي موسوعة فريدة، صاغها بفكر مستنير ولغة أنيقة، ما يشد القارئ إليها من أولى صفحاتها، فلا يصطدم بركام الروايات الجافة، أو ترهقه الشروحات المعقدة.

إنه سماحة آية الله السيد محمد حسين فضل الله، من يملك هذه الطاقات التي تفجرت أبحاثاً ومشاريع وإنجازات لا ينهض بها سوى الاستثنائيين الذين وهبوا حياتهم للقضايا الكبيرة… يرحل، فيغيب تاريخ معه، عصر بكامله كان من صانعيه يخفت ضوؤه البهي. فكيف يمكن أن نبدأ عصراً جديداً من دونه؟ فالرجال العظام لا يتكررون، وإن جاد الزمان ـ وقلما يجود ـ بأشباه لهم، فلا يعرف هو متى يحدث ذلك.

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً