أحدث المقالات
مقدمة

الأسرة أساس المجتمع، وأهم لبنة من لبناته؛ لأنّه يتكوّن من مجموعة من الأسر والتي ترتبط ببعضها البعض، ويكون المجتمع قوياً متماسكاً إذا كانت الأسرة كذلك، أما إذا كانت ضعيفةً غير متماسكة، وغير قائمة على أساس قوي متين، وبذلك فإنها تكون منحلّة، فإن المجتمع بدوره يتدهور وينحل، بل وينهار، ولا تكون له قائمة، ولا يكون للدولة وجود مستمر.

لقد عنى القرآن الكريم بترابط الأسرة وتأكيد المودة والرحمة بين أفرادها، فأورد في محكم آياته أنّ الناس جميعاً أصلهم واحد، خلقهم الله سبحانه وتعالى من ذكر وأثنى، وأكّد على أهميّة رباط الأسرة المتين في قوله تعالى: >يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أَتْقَاكُمْ<، حيث تدلّنا هذه الآية الكريمة على أن الزواج هو أصل الأسرة، فما خلق الله الذكر والأنثى إلا للزواج، والذي به تتكوّن، وفي ظلّه تنمو وتقوى وتزدهر فيقوى بها المجتمع والأمة([1]).

والاصل في النساء الحرمة، كما أن الأصل في الغريزة الجنسية المحافظة، فقد قال رسول الله 2: «احتفظ بمنيّك فإنه عصب الحياة»، إلا عن طريق واحد لا ثاني له، والذي يُسمح فيه للغريزة الجنسية أن تنطلق وتتحرك، هذا الطريق هو الزواج الشرعي، وكلّ ما عداه محرّم شرعاً، ليس في الإسلام فقط ولكن في جميع الأديان وقد جعل له عقاب مغلّظ، الرجم للمحصن (المتزوج) والجلد لغيره، وقد بيّن القرآن الكريم هذا الطريق وحدّده؛ فقال سبحانه وتعالى: >وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أو مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ< (المؤمنون: 4 ــ 7).

الزواج عهدٌ وميثاق غليظ، وعقد، لكنه دون سائرالعقود والعهود، فقد ميّزه الإسلام عن سائر العقود، حيث اشترط فيه أركاناً وشروطاً، لا توجد في غيره من العقود، كما لا يقاس عليها في أيّ عقد من العقود، من أجل ذلك كان ميثاقاً غليظاً([2])، قال تعالى: >وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا< (النساء: 20).

ولا توجد كلمة (ميثاق) في القرآن الكريم، وحيث يأمر الله عباده بتوحيده وعبادته، والعمل بأحكامه، من أجل ذلك ألحق الله سبحانه وتعالى عقد الزواج بالعبادات، لا بالمعاملات كسائر العقود، مثل البيع، الرهن، الهبة، والدين، وغيرها من العقود المسمّاة وغير المسماة في الشريعة الإسلامية.

وقد وصف القرآن الكريم العلاقة بين الزوجين، أدقّ وصف فقال: >هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ< (البقرة: 17). ثم ذكر الله أنّ ثمرة هذا الرباط المقدّس المحاط بكلّ هذه الأركان والشروط، هي البنين والأحفاد([3])؛ ليعمروا الأرض وليعبدوا الله سبحانه وتعالى فقال: >وَالله جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ< (النحل: 72)؛ ولذلك أخذت العلاقة الزوجية حظاً وافراً من الأحكام، فقد عنى بها القرآن الكريم أيّما عناية، فجاءت آياته مبينةً أحكامها، وداعية إلى المحافظة عليها، والتمسّك بها، كما جاءت السنّة النبوية المطهّرة مفسّرةً وموضحة لكل ما يتعلّق بأحكام العلاقة الزوجية، وهناك العديد من الأحاديث النبوية الشارحة لأركان وشروط عقد الزواج، وحقوق كلّ من الزوجين، وقد رفع القرآن الكريم الزواج إلى درجة الآيات المعجزات؛ فقال تعالى: >مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً< (الروم: 31).

وقد جرى عمل المسلمين دائماً على إخضاع عقد الزواج وما ينشأ عنه من حقوق، وما يترتب عليه من التزامات، لأحكام الشريعة الإسلامية جملة وتفصيلاً، لذلك كان اهتمام المشرّعين من مختلف الأنظمة القانونية بهذا العقد، وبالقوانين الخاصّة بالأسرة، والتي يطلق عليها: قوانين الأحوال الشخصية؛ لشدّة اتصالها بحياة الإنسان([4]).

والزواج الصحيح في نظر الإسلام، ليس له إلا وجهٌ واحد، إذ هو علاقة شرعيّة تقوم بين رجل وامرأة، بعد أن تتوافر فيها وتتحقق لها تمام الأركان والشروط التي نصّت عليها الشريعة الإسلامية، من إيجاب وقبول وصدق وعلانية وشهادة عدل، وولاية وكفاءة إلى غير ذلك من الشروط والأركان التي يتعيّن توافرها من أجل قيام هذه الرابطة المقدّسة بصورةٍ شرعية، وتنتج آثارها([5]).

المبحث الأول: الزواج في الشريعة الإسلامية

أولاً: تعريف الزواج([6])

يطلق عليه لفظ (زواج)، كما يطلق عليه أيضاً لفظ (نكاح)، واللفظ الأول ذكر في القرآن الكريم كما ذكر في السنّة، وهو اللفظ الدارج بين الناس. أما لفظ (نكاح) فهو لفظ شائع بين السادة الفقهاء في الشريعة الإسلامية، وقد ورد اللفظان في آيات القرآن الكريم بمعنى واحد.

والزواج لغةً، بمعنى الاقتران، وقد جاء في القرآن الكريم بهذا المعنى؛ فقال تعالى: >وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ< (الدخان: 45)، أي قرنّاهم بحور عين، والعامّة يطلقون عليه أحياناً: عقد القران، كما يكتب في دعاوى الزواج، أما اللفظ الشائع فهو (الكتاب) رمزاً لتقديسه.

أمّا النكاح لغةً، فمعناه الوطء، وقال بعض: الضم، وقد جاءت كلمة (النكاح) في السنّة النبوية الشريفة بمعنى الاتصال الجنسي، قال رسول الله 2: «بل للرجل من امرأته الحائض كل شيء إلا النكاح».

تعريف عقد الزواج عند الفقهاء([7])

عرّف الحنفية الزواج بأنه «عقد وضع لتملّك المتعة بالأنثى قصداً»، والمقصود بتملك المتعة هو إباحة استمتاع الرجل بالمرأة، وعرّفه بعضهم بأنه: «عقد يتضمن إباحة وطء بلفظ إنكاح أو تزويج»، كما عُرف بأنه: «عقد حلّ تمتع بأنثى غير محرم بصيغة»، وعرف بـ: «عقد يفيد ملك المتعة قصداً»([8]).

ثانياً: حكمة الزواج([9])

لم يشرّع الله سبحانه وتعالى الزواج إلا لحكمة يعلمها، يغيب عن علمنا القاصر بعضها، وندرك بعضها الآخر، ومن حكمه: 1 ــ بقاء النوع الإنساني على الصورة الكاملة. 2 ــ التحصين للزوجين من الوقوع في الرذيلة (الزنا). 3 ــ الترويح عن النفس، وتحصيل المؤانسة بمجالسة المرأة (الزوجة) والنظر إليها، وملاعبتها، ومداعبتها، وهذا يؤدي إلى راحة القلب، وتقويته على العبادة؛ فالمرأة خلقت من الرجل فجُعل همّها فيه. 4 ــ فراغ عقل وقلب الرجل من تدبير شؤون المنزل، والتكفل بأشكال الطبخ والكنس، والفرش، وتنظيف الأواني، والملابس، وتهيئة أسباب المعيشة حتى يتفرّغ لعمارة الأرض، فإذا كان الرجال يبنون المصانع، فإن المرأة هي التي تبني الرجال. 5 ــ مجاهدة النفس وترويضها على أن تراعي وتتولّى مصالح غيرها، وأن تقوم بحقوق الزوجة والأولاد، وأن تُحسن تربيتهم، ومسوؤلية الرجل عن البقية مسؤولية عظيمة الشأن، فقد قال رسول الله 2: «إن هناك ذنوباً لا يكفرها صلاة وصوم إنما يكفرها السعي على العمل».

ثالثاً: الترغيب في الزواج([10])

لقد رغبنا الله سبحانه وتعالى؛ فقال في الحث عليه في صيغة الأمر: >وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ< (النور: 32)، وقال: >فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ< (البقرة: 232)، والعضل بمعنى: المنع؛ فقد نهانا سبحانه وتعالى عن منع النساء من الزواج إن أردنا تحصّنا، أي زواجاً، وقال تعالى في مدح الرسل: >وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً< (الرعد: 38)، وذلك في معرض الامتنان عليهم، وقال تعالى عن أوليائه: >وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ< (الفرقان: 74).

أمّا السنّة النبوية الشريفة، فقد وردت أحاديث كثيرة عن رسول الله 2 يرغّبنا ويحضّنا فيها بل يأمرنا بالزواج، ومن هذه الأحاديث قوله 2: «النكاح من سنّتي فمن رغب عن سنّتي فقد رغب عني»، أخرجه أبو يعلى في سنده من حديث ابن عباس بسندٍ حسن، وقال: «النكاح سنّتي، فمن أحبّ فطرتي فليستنّ بسنتي»، أخرجه أبو بكر بن مردويه في تفسيره من حديث ابن عمر، وقال أيضاً: «تنكاحوا تكاثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة وحتى بالسقط»، رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي سعيد بسندٍ ضعيف، وقال أيضاً: «من ترك التزويج مخافة العيلة فليس منّا»، أخرجه ابن ماجة من حديث السيدة عائشة، وفيه ذمّ لعلة الامتناع عن الزواج لا لأصل الترك، وقال: «من كان ذا طول فليتزوّج»، وقال: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوّج؛ فإنه أحصن للفرج وأغضّ للبصر»، متفق عليه من حديث ابن مسعود.

رابعاً: فوائد الزواج([11])

من أهمّ فوائد الزواج ما يلي:

الفائدة الأولى([12]): الولد، وهو الأصل وله وضع النكاح، وما يترتب عليه من موافقة محبة الله بالسعي في تحصيل الولد لإبقاء جنس الإنسان وطلب محبّة رسول الله2 من تكثير مباهاته، وكذلك طلب التبرّك بدعاء الولد الصالح بعد الوفاة والشفاعة بموت الولد الصغير إذا مات قبله، كما قال رسول الله 2: «إن الطفل يجرّ بأبوبيه إلى الجنة»، وقال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له».

الفائدة الثانية([13]): التحصّن من الشيطان، ورفع غوائل الشهوة وغضّ البصر، وحفظ الفرج، فقد قال رسول الله 2: «من نكح فقد حصن نصف دينه، فليتق الله في الشطر الآخر».

الفائدة الثالثة: ترويح النفس وإيناسها بالمجالسة والنظر والمداعبة والملاعبة مع المرأة (الزوجة) وراحة القلب وتقويته على عمل العبادة.

الفائدة الرابعة: تفريغ القلب من تدبير المنزل والتكفّل بشغل المطبخ، والكنس والفرش.

الفائدة الخامسة: مجاهدة النفس ورياضها بالرعاية والولاية والقيام بحقوق الأهل والصبر على أخلاقهنّ، واحتمال الأذى منهنّ، والسعي في إصلاحهنّ وإرشادهن إلى طريق الدين والاجتهاد، وكسب الحلال وتربية الأولاد.

خامساً: أركان عقد الزواج([14])

اختلف الفقهاء في تحديد أركان عقد الزواج، بل اختلفوا أيضاً في معنى الركن؛ فعرّفه بعضٌ بأنه: (جزء من حقيقة الشيء)، كما عرّفه بعض آخر بـ(الجانب الأقوى للشيء)، ومن التعريفات أيضاً: (ما تتوقّف عليه حقيقة الشيء)، (ما كان جزءاً من ماهية الشيء) و (ما لا توجد الحقيقة الشرعية بدونه).

لم يتفق العلماء على أركان عقد الزواج؛ فالحنفية وبعض الحنابلة يرون أن عقد الزواج له ركنٌ واحد فقط، وهو الصيغة أي الإيجاب والقبول، وبعض الحنابلة يرون ذلك أيضاً، أما الشافعية فيرون أن أركان عقد الزواج خمسة هي: الصيغة، الزوج، الزوجة، الولي، والشاهدان، بينما يرى المالكية أن أركان عقد الزواج ثلاثة هي: الصيغة، المحل (الزوج والزوجة) والولي.

وحتى الفقهاء الذين اتفقوا على تحديد أركان عقد الزواج، اختلفوا في تعيّنها؛ حيث يجعل الشافعية الشاهدين ركناً مع الولي والصيغة والزوج والزوجة، بينما يجعل المالكية الصداق ركناً خامساً مع الولي، والصيغة، والزوج والزوجة.

وتعميماً للفائدة المرجوة، نتكلم عن كلّ أركان عقد الزواج، حتى التي اختلف الفقهاء في تحديدها، ويرجع اختلافهم في ذلك إلى أنهم يختلفون في الأمور التي لابدّ منها فيه، ولذلك فقد وجدنا المالكية والشافعية والحنابلة يعدّون الولي مما لابدّ منه في عقد الزواج فضلاً عن كونه مما يتوقف عليه حقيقة الشيء، لذلك فهم يعدّونه ركناً في العقد، وخالفهم في ذلك الحنفية؛ فلا يرون الولي ركناً؛ لأنه يجوز عندهم أن تتولّى المرأة عقد الزواج لنفسها وغيرها.

ومن أسباب اختلافهم في تحديد أركان عقد الزواج أيضاً، أنه قد يكون لبعض الأمور التي ليست جزءاً من حقيقة الشيء أهميّة خاصة بالنسبة لهذا الشيء، حتى تصبح ــ نظراً لأهميتها ــ كالجزء من هذا الشيء؛ فيسمّيها بعض الفقهاء ركناً مجازاً، مع أنها ليست في الحقيقة كذلك؛ لأنها خارجة عن حقيقة الشيء، وذلك مثل الشاهدين، فالحنفية وغيرهم يعدّونهما شرطاً من شروط عقد الزواج، لكنّ الشافعية ــ أو معظمهم ــ يعدونهما ركناً من أركانه؛ لأن للشاهدين أهمية خاصة بالنسبة للعقد.

ونتحدث بعدُ عن أركان عقد الزواج، كل ركن على حدة.

الركن الأول: الصيغة([15])، وقد عرّفها الفقهاء بأنها: (لفظ يدلّ على التأبيد مدى الحياة، كأنكحت أو ملكت، وبعت كذلك، ووهبت بتسمية صداق)، وتتمّ بالإيجاب والقبول، وهما اللفظان الصادران من طرفي العقد على الوجه المخصوص، وأكثر الفقهاء يعتبرون ما يصدر عن وليّ الزوجة إيجاباً وما يصدر من الزوج قبولاً، سواء تقدّم هذا أو ذاك، ووجود الإيجاب والقبول في عقد الزواج متفق عليه بين الفقهاء؛ وذلك لأن الزواج عقدٌ كسائر العقود لابدّ فيه من إيجاب وقبول، لكن العبرة في العقود بالمعاني لا بالألفاظ والمباني، والفقهاء متفقون على صحّة الزواج إذا وقع بلفظ النكاح والتزويج وما اشتقّ منهما، والرأي الراجح أنه لم يرد حصرٌ للألفاظ التي يصحّ بها عقد الزواج في النصوص الشرعية.

أمّا شروط الصيغة، فهي التأبيد ــ عدم التأقيت ــ كأن يقول الزوج: زوّجني ابنتك ثلاثة أشهر، وإذا كان الزواج مؤقتاً فلا يصحّ عند المذاهب الأربعة؛ لأنّ هذا هو زواج المتعة المتفق عندهم على حرمته، فقد كان هذا الزواج مباحاً في بداية الإسلام، لكنّه نسخ في حديث رسول الله 2 الذي قال فيه: «حرّمت عليكم زواج المتعة، وأكل لحم الحمر الأهلية»، وخالفت في ذلك الإمامية فأحلّته.

الركن الثاني: المحل (الزوجة، الزوج)([16])، والمقصود بمحلّ العقد هنا، الزوج والزوجة، فبعض الفقهاء اعتبر الزوج ركناً والزوجة ركناً آخر، وقد اشترط الفقهاء في كلّ منهما ــ الزوج والزوجة ــ شروطاً معينة هي: 1 ــ الإسلام. 2 ــ البلوغ. 3 ــ العقل، فضلاً عن خلوّهما من الموانع الشرعية مثل الرضاعة، كما جاء في حديث رسول الله 2: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب»، أو أن يكونا من ذوي الأرحام المحرّم الزواج منهم مثل: الأخت، والأمّ، والعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت، كما جاء في الآية 23 من سورة النساء صريحاً.

الركن الثالث: الولاية([17])، وتعني ــ لغةً ــ النصرة، أما معناها الفقهي، فهي سلطة يقرّرها الشرع لشخص، يكون لصاحبها بمقتضاها القدرة على إنشاء العقود والتصرفات النافذة، دون أن تتوقف على إجازة أحد.

وتنقسم الولاية في الفقه الإسلامي إلى قسمين:

الأول: الولاية القاصرة، وهي السلطة التي يقرّرها الشرعُ للشخص على نفسه.

الثاني: الولاية المتعدّية أو التامة، وهي السلطة التي يقرّرها الشرع للشخص على غيره، فينفذ بمقتضاها قوله على الغير، سواء رضى أم أبى، وتنقسم هذه الولاية إلى قسمين هما:

1 ــ الولاية العامة: وهي ما كان سبب إثباتها سبباً عاماً، كالولاية الثابتة لرئيس الدولة على أفراد الشعب، وولاية القضاء والشهادة.

2 ــ الولاية الخاصة: وهي التي تنشأ عن سبب خاص وليس عاماً، وهي بدورها تنقسم أيضاً إلى قسمين هما:

أ ــ الولاية المالية: وهي السلطة المقرّرة للشخص والتي يكون بمقتضاها لصاحبها القدرة على إنشاء العقود المالية الخاصّة بالغير النافذة دون توقّف على أحد.

ب ــ الولاية على النفس: وهي السلطة المقرّرة للشخص والتي يكون بمقتضاها لصاحبها القدرة على إنشاء عقد الزواج الخاصّ بالغير نافذاً، دون توقف على إجازة من أحد، وهي بدورها تنقسم إلى قسمين، وهي المعنية بالبحث هنا، وهما:

1 ــ ولاية إجبار واستبداد (أي انفراد بالأمر)، وهي التي ينفرد فيها الشخص بإنشاء عقد الزواج دون مشاركة الولي عليه في ذلك، كالولاية الثابتة للأب على ابنته البكر غير البالغة أو البالغة.

2 ــ ولاية شركة واختيار: وهي التي يكون لصاحبها الحقّ في أن يتولّى عقد الزواج بعد الاشتراك مع المرأة في اختيار الزوج، كالولاية الثابتة للأب مع ابنته الثيّب.

وجمهور الفقهاء يرون أن الولي ركنٌ من أركان عقد الزواج، فلا يصحّ الزواج بعبارة المرأة، إلا أنّ بعض الفقهاء يرون خلاف ذلك، منهم أبو حنيفة، ولكن المتفق عليه عدم جواز عقد الزواج إلا بولي؛ طبقاً لحديث رسول الله 2 الذي قال عن أبي مدس: «لا نكاح إلا بولي وشاهدين عدل»، كما رواه الخمسة إلا النسائي، وقال أيضاً: «لا نكاح إلا بولي وشاهدين عدل، وما كان من نكاح غير ذلك فهو باطل»، رواه ابن حبّان في صحيحه، وقال أيضاً: عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة، أن النبي2 قال: «أيّما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحلّ من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له»، رواه الخمسة إلا النسائي.

ولذلك؛ حرّم جمهور فقهاء أهل السنّة الزواج بدون ولي، نذكر منهم، عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، والسيدة عائشة، وعبدالله بن مسعود، وأبو هريرة، حتى أن ابن المنذر قال: إنه لا يعرف عن أحد من الصحابة عمل أو قال بخلاف ذلك، وقال بذلك أيضاً، سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وخامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبدالعزيز، وجابر بن زيد، والإمام الثوري، وابن أبي ليلى، والشافعي، وابن حنبل، والإمام مالك في رواية أشهب عنه.

أدلّة عدم شرعية تزويج المرأة نفسها

وقد استدلّوا على ذلك من:

أولاً: القرآن الكريم، قال تعالى: >إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إذا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ< (البقرة: 232)، والعضل يعني المنع، فهذه الآية الكريمة تدلّ على أن الزواج لا يصحّ بعبارة المرأة، وذلك لأنّ الأمر موجّه إلى الرجال، وليس للنساء، والمرأة التي نزلت فيها هذه الآية كانت ثيّباً، ولو كان يجوز لها أن تعقد زواجها لزوّجت نفسها، ولما كان هناك داع إلى نهي الأولياء عن عضل، أي منع النساء من الزواج.

وقد نزلت هذه الآية الكريمة بسبب معقل بن يسار، وكان قد زوّج أخته من رجل، فطلّقها، ثم بعد انقضاء عدّتها مدةً، جاء يخطبها من أخيها معقل، فقال له معقل: زوّجتك، وأفرشتك، وأكرمتك، فطلّقتها، ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعد إليك أبداً، وكان الرجل لا بأس به، وكانت المرأة تحبّ أن ترجع إليه، فأنزل الله هذه الآية، فقال معقل لرسول الله: الآن أفعل يا رسول الله، ثم زوّجها إيّاه.

ثانياً: قوله تعالى: >فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ< (النساء: 25)، أي تزوّجوهن بإذن أوليائهنّ، وقال تعالى: >أَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ< (النور: 32)، فلو كان للنساء ولايةٌ على أنفسهنّ لكان التكليف يتوجّه إليهن، كما في سائر التصرّفات الخاصّة بهنّ، كما في قوله تعالى: >وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ< (البقرة: 227)، وقوله عزوجل أيضاً: >قُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ< (النور: 31)، فلو كان أولياؤهن بالنسبة إليهنّ كالأجانب، فلا يتوجّه التكليف إليهم بشيء مما يختصّ بزواجهنّ، كما لم يتوجّه التكليف إلى الأولياء فيما يتعلّق بالتصرفات التي تجوز للنساء، مثل البيع، والشراء، والإجارة، والرهن، والهبة، وغير ذلك من التصرّفات التي يجوز للمرأة أن تستقلّ بها.

أمّا أدلّة عدم شرعية الزواج دون الولي من السنّة النبوية المطهرة فكثيرة، نذكر منها، قوله 2: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل، وما كان من نكاح غير ذلك فهو باطل»، رواه ابن حبان في صحيحه، وقال: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل»، رواه الخمسة إلا النسائي، وعن سليمان بن يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله 2: «أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها، فلها المهر بما استحلّ من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان وليّ من لا ولي له»، رواه الخمسة إلا النسائي.

تدلّ الأحاديث السابقة ــ خاصّة الأول والثاني الذي هو تكملة للأول ــ أنّ النبي 2 قد نهى عن أن تتولّى المرأة عقد الزواج مطلقاً، أي سواء أكانت تتولاه بطريق الوكالة عن غيرها أو تعقد لنفسها أو تعقد لغيرها سواء أكانت أصيلة في العقد، أم لا، والنهي يقتضي فساد المنهيّ عنه؛ فبطلانه، فالزواج الذي تعقده المرأة بعبارتها فاسدٌ وباطل، أما الحديث الثالث، فهو صريح لا يحتاج إلى إيضاح في بطلان الزواج بغير ولي، وإذا تحدّثنا بلغة القانون الوضعي فهو باطل بطلاناً مطلقاً؛ لتكرار عبارة (فنكاحها باطل) ثلاث مرات([18]).

وقد اشترط الفقهاء عدّة شروط في الولي في عقد الزواج هي:

1 ــ الذكورة: وقد سبق بيان الآيات والأحاديث الدالّة على منع أو عدم جواز أن تتولّى المرأة عقد الزواج لها أو لغيرها.

2 ــ العقل: وهو شرط بديهي وضروري في كلّ التصرفات، وليس في الزواج فقط؛ فليس لغير العاقل ولاية على نفسه، فلا يكون له ولاية على غيره من باب أولى.

3 ــ الإسلام: وهذا شرط ضروري؛ لأنّ غير المسلم ليست له ولاية على المسلم، قال تعالى: >لَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً< (النساء: 14)، كما أن عقد الزواج في الإٍسلام من العبادات، فلا يصحّ لغير المسلم أن يأتي شيئاً من أمور العبادة في الإسلام.

4 ــ البلوغ: فلا ولاية للصبي القاصر على نفسه، فلا يجوز أن تكون له ولاية على غيره، ففاقد الشيء لا يعطيه.

5 ــ عدم الإحرام بالحجّ أو العمرة: وهذا شرط مؤقت بزمن، هو وقت الإحرام؛ لأنّ المحرم لا يجوز له أن يعقد عقد زواج، ولا أن يأتي امرأته، فمن باب أولى ليس له ولاية الزواج أيضاً.

6 ــ العدالة: أي أن يكون مجتنباً لارتكاب الكبائر، وفي هذا الشرط خلافات تفصيلية.

 

من تجوز ولايته([19])

اختلف الفقهاء فيمن تجوز ولايتهم؛ فجمهور فقهاء المذاهب الأربعة، ومنهم الإمام مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل وغيرهم، يرون أن الأولياء في الزواج، هم العصبة، والعصبة هم الأقارب من الذكور الذين تثبت قرابتهم بواسطة الذكورة، أما القرابة عن طريق الأنثى فليسوا بعصبة، ولا تجوز ولايتهم في عقد الزواج، أمّا الحنفية فيرون أن كلّ من له حقّ الميراث، سواء أكان بالفرض أو بالتعصيب، له الولاية في الزواج.

أمّا المرأة التي لا ولي لها، فإن لم تختر بنفسها وليها، فالسلطان ولي من لا ولي له، وقد زوّج النجاشي رسول الله، وإذا وجد الكفء للمرأة فليس للولي منع المرأة من الزواج، فقد قال رسول الله 2: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ــ وفي رواية فأنكحوه ــ إن لم تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفسادٌ كبير، قالوا: يا رسول الله، وإن كان فيه! قال: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، ثلاثة مرات». رواه الترمذي بإسناد حسن عن أبي حاتم.

أمّا المرأة الثيّب البالغة، فتستأذن الأب، استدلالاً بما روي عن خنساء بنت خدام الأنصارية أن أباها زوّجها وهي ثيب وبالغة، فأتت رسول الله 2، فردّ نكاحها، وقال: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، فقالوا: يا رسول الله! وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت».

الركن الرابع: الشهود([20])، شرّع الإشهاد على عقد الزواج لكونه من ألوان الإعلان عن قيام الرابطة الزوجية الشرعية بين رجل وامرأة؛ وذلك للتفرقة بين الزواج الشرعي القائم على الأسس الإسلامية وبين السفاح الذي يحدث في السر، ولابدّ في عقد الزواج من شاهدين على الفقه السنّي دون الشيعي، أي لا ينعقد العقد إلا بحضور شاهدين، وقد اختلف الفقهاء في كون الشهادة من أركان عقد الزواج أم أنّها شرطٌ من شروطه، ونحن نرى أن الشهادة ركنٌ من أركانه؛ لقوله 2 في الحديث الصحيح: «لا نكاح إلا بوليّ وشاهدي عدل»، فقد ساوى الحديث بين الولي الذي بغيابه يبطل العقد وبين الشهود، وبذلك يكون الشهود من أركان عقد الزواج وليس شرطاً من شروطه، وممّا يدلّ على ذلك أيضاً قول رسول الله 2: «البغايا اللائي ينكحن أنفسهنّ بغير بينة» أي شهود.

وقد اشترط الفقهاء في الشهود بعض الشروط هي: 1 ــ الإسلام. 2 ــ العقل.
3 ــ العدالة، أي اجتناب الكبائر. 4 ــ البلوغ. 5 ــ الذكورة. 6 ــ ألا يكون أصمّ وأخرس، وهذا شرط بديهي حتى يفهم ما يُقال وما يقول، وقد سبق أن درسنا هذه الشروط.

حكم المهر([21]): جمهور فقهاء السنّة متفق على أنّ المهر لس ركناً من أركان عقد الزواج، إلا المالكية، فقد عدّوه ركناً من أركان عقد الزواج، كما أنه ليس شرطاً من شروطه، بل هو حقّ للمرأة، وهو أثر من الآثار التي ترتّب على عقد الزواج، ولا يملك الزوج ولا الزوجة ولا أولياؤها إخلاء طرف الزوج منه، وقد ثبت بأدلّة من القرآن الكريم والسنّة النبوية وجوب المهر.

أما القرآن الكريم، فقال تعالى: >وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً< (النساء: 4)، حيث تبين هذه الآية أن المهر فريضة من الفرائض([22]).

 

الكفاءة في الزواج([23])

الكفاءة ــ لغةً ــ المماثلة والمساواة، والمقصود بها في الزواج أن يكون الزوجان متساويين في أمور خاصّة، يترتب على عدم التساوي فيها أن لا تستقيم حياتهما في الغالب، وقد استدلّ لذلك بما روي عن علي بن أبي طالب %، قال: قال رسول الله 2: «ثلاث لا تؤخرها: الصلاة إذا أتت، الجنازة إذا حضرت، الأيم إذا وجد كفؤها»، وما روي عن عائشة، أن رسول الله 2 قال: «أنكحوا الأكفاء»، وما روي عن عمر بن الخطاب قال: «لأمنعنّ فروج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء»، فضلاً عن الحديث السابق: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه، أو فأنكحوه».

والكفاءة ليست شرطاً من شروط صحّة الزوج، لكنّها حقّ من حقوق المرأة، والمقصود بها ألا يكون الرجل أقلّ من المرأة مكانةً وأخلاقاً، أو على صعيد المركز الاجتماعي، وهي تكريم للمرأة، وهي شرط في الرجل دون المرأة، أما وقت الاعتبار بالكفاءة فهو وقت إنشاء عقد الزواج، فإن تخلّفت بعد ذلك فلا يعتدّ بها.

شرط مستحدث للزواج في القانون الوضعي، شرط التوثيق

ما سلف ذكره حتى الآن هو الأركان المطلوبة شرعاً في عقد الزواج، فإذا تخلّف أحدها بطل الزواج، أما اليوم، فقد أضاف القانون الوضعي في مصر، شرطاً إلى ما سلف، وهو التوثيق الذي نصّ عليه في الرسوم بقانون رقم (78) لسنة 1931م، من المادة (99) منه.

وهذا الشرط لما كان لا يحلّ حراماً، ولا يحرم حلالاً، فهو من شروط صحّة عقد الزواج لكنّه لا يعدّ ركناً، إلا أنه يمكن اعتباره جزءاً من ركن الإشهاد ويندرج تحت حكمه، مما يجعله لازماً في هذه الأيام، بعد أن فسدت الذمم وخرجت النفوس، وأصبحت المادّة هي معيار كل شيء. فلا جناح علينا إذا لم نأخذ بها بشرط أن يكون عقد الزواج مكتمل الأركان السابق الحديث عنها، إلا أنّ الضرورة في الوقت الحاضر تفرض علينا فرضاً الأخذ بالتوثيق؛ لأنه ليس فيه ضرر، كما أنه أنفع للزوجين وأوليائهم والناس جميعاً، بعد أن كثرت الناس كثيراً، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي هؤلاء الناس.

المبحث الثاني: أنكحة مختلف عليها

أولاًً: زواج المسيار([24])

1 ــ ماهية زواج المسيار: سمّي بذلك لأنّ الرجل يسير على المرأة من بيتها، أو بيت أبيها، أي يأتيها وهو سائر، وسمّي كذلك بزواج الفهاريات؛ لأنّ الرجل كان يقضي النهار فقط مع المرأة، نسبةً إلى لغة أهل نجد.

وهذا الزواج كان معروفاً في أيام الإسلام الأولى، ويقوم على شرط إقامة الزوجة في بيت أبيها أو بيتها، ويأتيها زوجها فمتى شاء أتى أو حينما يمرّ على البلد الذي تقيم فيها.

ولفظ مسيار له أصلٌ في التاريخ قديماً وحديثاً، فمن تابع تاريخ الرحّالة الأوائل يجد أن بعضهم كان يحلّ ببلدة طلباً للعلم أو الرزق، ويمكث فيها فترة تطول أو تقصر، ويتزوج من هذه البلد، وقد يولد له ولد، ثم بعد ذلك يتابع هجرته ويرحل إلى بلد آخر، إكمالاً لمسيرته تاركاً زوجته وأولاده، إما بطلاق أو بغيره، وتوافق الزوجة على ذلك.

2 ــ حكم زواج المسيار في الشريعة الإسلامية: اختلف الفقهاء في حكم زواج المسيار، ما بين مُحل له ومحرم، وحاكمٍ بالكراهة، وسوف نستعرض آراء كلّ فريق منهم مع التعقيب، ونذكر رأينا في النهاية.

الفريق الأول: ويرى أن زواج المسيار حلال، والقائلون بذلك جماعة منهم فضيلة المفتي الدكتور نصر فريد واصل، والدكتور عبد الصبور شاهين، وفضيلة الشيخ محمد عاشور وكيل الأزهر الشريف، والدكتورة آمنة نصير عميدة كلية الدراسات الإسلامية للبنات، وجامعة الأزهر، شريطة أن تكون القوامة للمرأة، وأن يكون ذلك في بلد الحالة الاقتصادية فيه مرتفعة، بحيث تملك الفتاة فيه كلّ مقوّمات الحياة من شقة وسيارة وغيرها.

أمّا أدلة القائلين بحلّ زواج المسيار، فمن أباحه ذكر أنّه لابدّ أن تتوافر فيه شروط وأركان عقد الزواج في الشريعة الإسلامية، والمتفق عليها من جمهور الفقهاء ــ والسابق بيانها في المبحث الأول ــ لأن هذه الأركان والشروط هي التي تفرّق بين النكاح والسفاح، وأضافوا أن كلّ زواج تتوافر فيه هذه الأركان والشروط يكون صحيحاً بصرف النظر عن مسمّاه، ما دام غير محدّد المدة.

الفريق الثاني: ويرون حرمة زواج المسيار، ومنهم الدكتور محمد فؤاد شاكر رئيس قسم الحديث بجامعة عين شمس، والدكتورة ملكة يوسف أستاذ الفقه الإسلامي، وقد ذكر الدكتور شاكر أن الإمام أحمد بن حنبل حرّم مثل هذا الزواج، كما ذكرت الدكتور معاذ صالح أن بعض الفقهاء من التابعين حرّم هذا النوع من الزواج ومنهم الحسن البصري، وكذلك حكم ببطلان هذا الزواج شيخ الإسلام ابن تيمية.

أمّا أدلة هذا الفريق، فقد قال عنه الإمام أحمد بن حنبل: «ليس هذا من زواج أهل الإسلام»، ويظلّ معلقاً برغبة الزواج عندما يأتي إليها ويمكث عندها بعض الوقت ليلاً أو نهاراً.

الفريق الثالث: وهم القائلون بكراهة زواج المسيار، ومنهم الدكتورة سعاد صالح عميد كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات في الأزهر، وهي ترى أن الأثر المترتب على هذا الزواج يجعله مكروهاً؛ لأنّ فيه تغريراً وخداعاً عندما يغضّ نيّته عن الزوجة وعن وليها، مما جعل بعض الفقهاء يذهب إلى التحريم، لكن هناك بعض المجتمعات الإسلامية التي تفرض فيها الضرورة الاجتماعية هذا الزواج نظراً لزيادة نسبة العنوسة عند الفتيات، وقد أدى هذا النوع من الزواج إلى التخفيف من مشكلة العنوسة، والتي بدأت تظهر في بلداننا، وخاصة في القاهرة الكبرى، وما إعلانات الزواج في الصحف عنّا ببعيد.

من جماع ما سلف، يبين أن الذين قالوا بحلّ زواج المسيار اشترطوا فيه أن تتوافر فيه جميع أركان شروط عقد الزواج، ونحن نرى قباحة هذا النوع من الزواج، ولذلك لحل مشكلة العنوسة في مصر، فالمرأة التي لا تتزوج أو تزوجت وطلقت أو رمّلت، تصاب عادة بأمراض نفسية من الوحدة، فضلاً عن أن الجهاز التناسلي للمرأة في حالة عدم استعماله تصاب المرأة باضطراب نفسي يؤثر على تعاملها مع الناس، ومنهنّ من تمرض نفسياً؛ فهذا الجهاز خلق للاستعمال لا للإهمال ولا حرج في الدين والعلم؛ فلا تستح المرأة من ذلك ولا الرجل، فالغريزة من فطرة الإنسان، ومن يتجاهلها يعادي الفطرة، والإسلام دين الفطرة، فهب أن رجلاً عمل في القاهرة وهو مقيم ومتزوج من إحدى المحافظات الأخرى، وهب امرأةً غير متزوّجة ومقيمة بمفردها في شقة، وهما من الجيران، هل يتزوّجان أم يزنيان فيقعان في الزنا وهو محتمل في مثل هذه الظروف، لذا نحن نقول: زواجٌ مختلف عليه خيرٌ من زنا مجمع عليه، والحدود تدرأ بالشبهات.

من هنا، نذهب إلى ما ذهب إليه أنصار الرأي الأول، ونخالف من ذهب إلى غير ذلك.

ثانياً: نكاح الشغار([25])

نكاح الشغار أن يقول وليّ المرأة: زوّجتك بنتي على أن تزوّجني بنتك، ويكون بضع كل منهما صداق الأخرى، فيقبل ذلك، والبضع الفرج، والدليل على حرمة هذا الزواج هو الحديث النبوي المروي عن النبي 2: حدّثنا عبدالله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أنّ النبي 2 نهى عن الشغار، والشغار يكون بأن يزوّج كلّ وليّ وليّته للأخر دون صداق مسمى ــ أي خلو بضع كلّ منهما من الصداق ــ وجعل الفرج هو الصداق».

وقد أجمع العلماء على أنّ نكاح الشغار لا يجوز، واختلفوا في صحّته؛ فالجمهور على البطلان، وفي رواية عن الإمام مالك يفسخ قبل الدخول لا بعده، ومثل ذلك ذهب الأوزاعي، وذهب الحنفية إلى صحّته مع وجوب مهر المثل لكلّ منهما، وأيّده في ذلك كلّ من قول الزهري، ومكحول، والثوري، والليث بن سعد، وفي رواية عن أحمد واسحاق وأبي ثور، كذلك قال الشافعي، وقد قال الشافعي: إن النساء محرّمات إلا ما أحلّ الله أو ملك يمين، فإذا ورد النهي عن نكاح تأكّد التحريم.

وقال بعضٌ: إن لم يجعلا البضع صداقاً بأن سكتا عن ذلك فيهما صحّ نكاح كلّ منهما؛ لأنه ليس فيه إلا شرط عقد، وهو لا يفسد النكاح، ويجب مهر المثل لكلّ واحدة([26])، والذي نراه أنّ المنهي عنه من النبي دائماً فاسد وباطل، وهذا منه.

المبحث الثالث: حكم الزواج العرفي في الشريعة الإسلامية

حقيقة الزواج العرفي

الزواج العرفي ــ والمنتشر حالياً خاصّة بين شباب الجامعات في مصر ــ عبارة عن ورقة يكتبها رجلٌ أو شاب إلى امرأة أو فتاة، يقرّ فيها بأنه تزوّج هذه المرأة أو الفتاة، وقد يُشهد عليها بعض الزملاء، أو قد تكون الورقة خالية من الشهود، مع ذكر مهرٍ رمزي.

هذه الورقة، لا تعتبر عقد زواج بأيّ حال من الأحوال، بل هي عقد اتفاق على الزنا؛ لخلوّها من جلّ أركان وشروط عقد الزواج في الإسلام، وليس كما يدعى بعضهم من أنّه زواج مكتمل الأركان والشروط، غايته غير موثق لدى المأذون، طبقاً للمادة (99) من المرسوم بقانون رقم 87 لسنة1931م، وهذا النوع باطل بطلاناً مطلقاً، إذا تحدّثنا بلغة الفقه القانوني الوضعي، أما في الشريعة فهو باطل.

لقد خلطت بعض الآراء بين الزواج العرفي المعاصر السالف ذكره، وبين الزواج في العهد الإسلامي السابق على التوثيق، بصورة لو استخدمنا مصطلحاتها لأضفينا الشرعية على علاقات العشق في المجتمعات الغربية باعتبارها نوعاً من تعدّد الزوجات، ولاعتبرناها تطبيقا رشيداً أو فطرياً لتعدّد الزوجات في الإسلام([27]).

إنّ المنحرفين هم الذين استخدموا هذا المصطلح (زواج عرفي)، وقد استخدموه لجعل العلاقة غير المشروعة مقبولةً نفسياً، كما أنه يريح ضمير مرتكب الزنا([28])، والمشكلة في الزواج العرفي ليست نظرية، بمعنى أن الزواج العرفي يعني الزواج الإسلامي المعتاد، ولكنه غير موثق كما سبق أن ذكرنا آنفاً، وبالتالي يكون شرعياً، بحيث ينحصر الخلاف في التوثيق من عدمه، ومن ثمّ لا يطال أركان الزواج الأخرى في الإسلام من الولي، وشاهدي عدل، والإشهار والإعلان، كما أن الخلاف في ضرورة تطابق هذه الأركان الثوابت بكل تمايزاتها بين المذاهب المختلفة، مع الواقعة الجديدة المسمّاة بالزواج العرفي في مصر في أواخر القرن العشرين، فليس المهمّ الأسماء بل المضمون؟

إنّ السائد في الزواج العرفي هو السرية، بلا إعلان أو إشهار، وبلا ولي وبلا شهود غالباً، ويفتقد إلى معظم أركان عقد الزواج، فهو ليس بزواج بل زنا إجماعاً؛ فكلّ أشكال الزواج العرفي السرّي في مصر الآن ملوثة وغير شرعية، إن الفقه يطبّق النص على الواقع، والواقع أن الزواج العرفي السائد هو الزواج السرّي الباطل شرعاً، بل هو عقد مكتوب على الزنا، ولا تنطبق عليه ضوابط العلاقة الزوجية في الإسلام.

ويذكر بعض الشيوخ منذ فترة كلاماً غير متسق حول الزواج العرفي، فيقول بعضهم: إنه جائز، لكنّه مكروه، ويقول آخرون: مكروه كراهةً تصل إلى التحريم، وهم يردّدون ــ تضليلاً ــ أن الزواج العرفي هو الذي كان موجوداً في أيام الإسلام الأولى، حيث لم يكن هناك مأذون، وهذا حقّ يراد به باطل؛ لأنّ المشكلة ليست في عدم وثيق العقد، وإنّما في عدم توافر الأركان والشروط الشرعية المطلوبة في الزواج حتى يكون شرعياً؛ فيجب أن نفرّق بين الزواج مكتمل الأركان والشروط طبقاً لأحكام الشريعة الإسلامية. وبين الزواج السرّي السائد الآن، فالأول زواجٌ صحيح وشرعي، ومن الأولى إطلاق لفظ (عرفي) عليه؛ لأنه متعارف عليه عند الناس وأصبح معروفاً، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، وقد أصبح عرفاً سائداً في حياة الناس من كثرة تواتر أعمالهم وأحوالهم عليه، أما الثاني، فلا يصحّ شرعاً أن يطلق عليه (زواج)؛ لأنّ هذه الكلمة لها مكانتها في الإسلام، لا تقل عن مكانة الصوم والصلاة؛ فالزواج عبادة، كأيّ عبادة في الإسلام، لها أركان وشروط ينبغي أن تتوافر حتى تتمّ وتكتمل وتكون صحيحةً، أما دون ذلك فليس بعبادة، إذاً فليس بزواج، أما إذا أطلقنا عليه تعبير الزواج العرفي فسيكون ذلك تحايلاً على أحكام الشريعة الإسلامية، بل هو زنا، ويصح أن يطلق عليه: عقد زنا مكتوب أو اتفاق زنا([29]).

وقد أيّد فضيلة المفتي الدكتور نصر فريد واصل مفتي الجمهورية ما نقول، وقال: إنّ مجمع البحوث الإسلامية اتخذ قراراً باعتبار الزواج العرفي زنا؛ لأنه لا تتوافر فيه أركان عقد الزواج الصحيح، وأضاف فضيلته: إنّ المجمع أرسل توجيهاته في هذا الشأن إلى مجلس الشعب، وإلى فضيلة الإمام الأكبر، وزاد على ما سبق: لا يكفي عدم الاعتراف بهذا الزواج، وإنما يجب أن تكون هناك عقوبة تعزيرية للمخالفين، وطالب فضيلته بتعديل المواد الخاصّة بالزواج العرفي من القانون، وفقاً لتوجيهات المجمع محافظةً على المجتمع وغلقاً لهذا الباب الذي يمكنه أن يدمّر شباناً، ويسقط الدولة في مزبلة التاريخ الذي لا يرحم، ولنا في التاريخ مثال على ذلك، حينما صرّح رئيس وزراء فرنسا بعد الحرب العالمية: لم تهزمنا الحرب، ولكن هزمتنا النساء؛ بانحلالهنّ؛ فهل بعد قول أهل الذكر قول.

ونحن لا نملك ولا يسعنا سوى أن نؤيّد ما ذهب إليه مجمع البحوث الإسلامية وأهله أهل الذكر، قال تعالى: >فَاسْأَلُواْ أهل الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ<.

الزواج العرفي في القانون المصري

المبحث الأول: الزواج العرفي في قوانين الأحوال الشخصية حتى عام 1999م

عندما صدرت أول لائحة للمأذونين عام 1890م، والمشتملة على اختيار المأذون وواجباته، لم يكن فيها ما يشير إلى وجوب التوثيق في عقد الزواج، وقبل هذا العام لم تكن توجد قواعد تشير إلى التوثيق، لكن عقد الزواج كان مكتمل الأركان والشروط الشرعية التي تتطلّبها الشريعة الإسلامية فيه، رغم أنه قد يكتب في ورقة لكنّها غير موثقة (أي عرفية) وأحياناً قد لا يكتب.

وفي 22 ذي الحجة سنة 1314هـ ــ 27 مايو 1897م، صدر الأمر العالي بلائحة ترتيب المحاكم الشرعية، والتي نصّت في المادة الثالثة منها على عدم سماع دعوى الزوجية أو الاقرار بها بعد وفاة أحد الزوجين، إلا إذا كانت الدعوى مؤيدة بأوراق خالية من شبهة التصنّع، تثبت العلاقة الزوجية([30]).

وفي 1910م، صدرت لائحة جديدة، خطت خطوةً للأمام في موضوع توثيق عقد الزواج، إذ نصّت في المادة (81) منها على أن «دعوى الزوجية أو الإقرار بها ــ بعد وفاة الزوجين أو أحدهما ــ لا تسمع من أحد الزوجين أو غيرهما عند الإنكار، في الحوادث الواقعة من سنة 1911م، إلا إذا كانت الدعوى ثابتة بأوراق رسمية، أو أوراق عرفية مكتوبة كلّها بخط المتوفى، وعليها توقيعه»([31]).

من خلال نصّ المادة السالفة، يتبيّن أن المشرّع قد تقدّم خطوةً نحو توثيق عقد الزواج، وذلك باشتراط أن تكون الدعوى ثابتة بأوراق رسمية، أو أوراق عرفية مكتوبة كلّها بخط المتوفى وعليها توقيعه، هذه المادة وإن لم تشترط صراحةً توثيق العقد، إلا أنها اعتبرت ذلك شرطاً لسماع دعوى الزوجية عند الإنكار، ونحبّ أن نوضح هنا أن هذا الزواج كان مكتمل الأركان والشروط طبقاً لأحكام الشريعة الإسلامية؛ فالتوثيق مطلوب مع اكتمال الأركان.

ثم صدر القانون رقم (25) لسنة 1920م، الخاص بالنفقة وبعض مسائل الأحوال الشخصية، والمنشور بجريدة الوقائع في 15 يوليو 1920م، وجه واحد العدد (61)، لكنّه لم يتعرّض لعقد الزواج من ناحية التوثيق، أي أنّ المادة (81) من لائحة 1910م هي الواجبة التطبيق، أي أنّها ما زالت سائرة المفعول([32]).

ثم صدر القانون رقم (25) لسنة 1929م، والذي صدر بسراي عابدين في 28 رمضان 1347هـ، 10 مارس 1929م، والمنشور في الوقائع المصرية من 25 مارس 1929م، العدد (27) ويقع في (25) مادة، دون أن يتعرّض لموضوع توثيق عقد الزواج من قريب أو بعيد، أي أن المادة (81) سالفة الذكر ما زالت نافذة المفعول وواجبة التطبيق في سماع دعوى الزوجية عند الإنكار([33]).

ثم صدر المرسوم بقانون رقم (78) لسنة 1931م، والمشتمل على لائحة جديدة لترتيب المحاكم الشرعية، والإجراءات المتعلّقة بها، والمنشور بجريدة الوقائع المصرية، العدد (53) غير عادي، والصادر في 20 / 5/ 1931م، وقد صدر بسراي عابدين في 24 / ذي الحجة 1349هـ، 12 مايو 1931م، والتي نصّت في المادة (99) منها على ما يأتي([34]): «لا تُسمع ــ عند الإنكار ــ دعوى الزوجية أو الطلاق أو الإقرار بهما بعد وفاة أحد الزوجين في الحوادث السابقة على سنة 1911م، سواء أكانت مقامة من أحد الزوجين أو من غيره، إلا إذا كانت مؤيّدةً بأوراق خالية من شبهة التزوير، وتدلّ على صحّتها، ومع ذلك يجوز سماع دعوى الزوجية أو الإقرار بها المقامة من أحد الزوجين في الحوادث السابقة على سنة ألف وثمانمائة وسبع وتسعين فقط بشهادة الشهود، وبشرط أن تكون الزوجية معروفة بالشهرة العامّة، ولا يجوز سماع دعوى ما ذكر كلّه من أحد الزوجين أو من غيره في الحوادث الواقعة من سنة ألف وتسعمائة وإحدى عشر أفرنكية، إلا إذا كانت ثابتة بأوراق رسمية أو مكتوبة كلّها بخط المتوفى وعليها إمضاؤه كذلك».

«ولا تسمع عند الإنكار دعوى الزوجية أو الإقرار بها، إلا إذا كانت ثابتة بوثيقة رسمية في الحوادث الواقعة من أول أغطس 1931م. ولا تسمع دعوى الزوجية إذا كان سنّ الزوجة تقلّ عن ست عشرة سنة هجرية، أو كان سنّ الزوج تقل عن ثماني عشرة سنة هجرية إلا بأمرٍ منّا»([35]).

وقد عدلت هذه الفقرة بالقانون رقم (88) لسنة 1951م، الوقائع المصرية، العدد 50 في 7 / 6 / 1951م.

وهذه الفقرة لا تعنينا في البحث، وما يهمّنا الفقرات الثلاث السابقة.

هذه المادة سالفة الذكر، لخصّت الطريق الذي قطعه المشرّع منذ عام 1798 وحتى عام 1931م، في فقراته الثلاث، بحيث بدت كلّ فقرة من الفقرات قد خطت خطوةً نحو نهاية الطريق، ألا وهو توثيق الزواج، فالفقرة الأولى حصرت سماع دعوى الزوجية أو الطلاق أو الإقرار بهما من الحوادث السابقة على عام 1891م، بما إذا كانت بين أوراق الدعوى أوراق صحيحة تثبت هذه العلاقة، وخالية من التزوير وتدلّ على صحّة العلاقة؛ فالمشرّع هنا وإن لم يوجب التوثيق صراحةً، لكنّه اشترط ذلك ونبّه إلى ضرورته لسماع أو عدم سماع دعوى الزوجية أو الطلاق وحدّد مدّة هذه الفقرة في الحوادث السابقة على عام 1911م.

أما الفقرة الثانية من ذات المادة، فقد أعادت الزمن إلى الوراء، حيث نصّت على الحوادث قبل عام 1798م، فبالإمكان إثبات الزواج بشهادة الشهود، شرط أن تكون العلاقة الزوجية معروفةً لدى الناس، أي أن زوجية سيدة معيّنة لرجل معيّن أمرٌ معروف، وذلك في الحوادث السابقة على عام 1978 وحتى عام 1911م.

أما الحوادث الواقعة بعد عام 1911م، فلا يجوز إثبات العلاقة الزوجية بشهادة الشهود فيها حتى وإن كانت معروفةً لدى الناس كافّة، فاشترطت المادّة السابقة، أن تكون العلاقة الزوجية ثابتة بأوراق رسمية، أي موثقة لدى إحدى الجهات الرسمية بالدولة أو بأوراق عرفية، شريطة أن تكون مكتوبة كلّها بخطّ المتوفى، بل زاد احتياطاً أكثر أن تكون هذه الأوراق العرفية عليها توقيع أحد الزوجين؛ وبهذا يتضح أنه ليس بأيّ كتابة تثبت العلاقة الزوجية.

أمّا الفقرة الثالثة، والتي حدّدت المادةُ مجالها الزمني في المدة من أغسطس عام 1931م وحتى عام 1911م، فيتضح منها أنّ القانون عدد شروطاً للاعتداد بالعلاقة الزوجية عند الإنكار هي:

أولاً: أن تكون واقعة الزوجية حادثة في الفترة من عام 1911م وحتى آخر يوليو عام 1931م.

ثانياً: أن تكون العلاقة الزوجية ثابتة بوثيقة زواج رسمية أعدّت خصيصاً لذلك ومحررة بواسطة موظف، هو المأذون الذي يتكفل بإثباتها في المحكمة الواقعة بدائرة الزواج، أمّا إذا لم تثبت العلاقة الزوجية في هذه الوثيقة الرسمية (قسيمة الزواج) والصادرة من الدولة، فلا تُسمع دعوى الزوجية أو الطلاق، وذلك عند الإنكار.

ومع كلّ ما سبق، ينبغي أن يكون عقد الزواج، المنعقد في تمام الحالات السابقة، مكتمل الأركان والشروط الشرعية طبقاً لأحكام الشريعة الإسلامية من ولي، وشاهدي عدل، وإعلان وإشهار، فإن التوثيق لا يترتب عليه تصحيح عقد باطل شرعي، فالمعيار من عقد الزواج الشرعي توافر الأركان والشروط الشرعية في العقد، أما إذا تخلّف ركنٌ أو أكثر بطل العقل حتى ولو وثق بألف وثيقة.

أما الفترة من أول أغسطس عام 1931م وحتى نهاية عام 1999م، فإنّ المادة (99) من المرسوم بقانون رقم (78) الصادر من 1931م هي الواجبة التطبيق خاصّة الفقرة الثالثة، أي لابدّ لسماع دعوى الزوجية مع الإنكار أو الطلاق أن يكون عقد الزواج مكتمل الأركان والشروط الشرعية طبقاً لأحكام الشريعة الإسلامية، إضافة إلى التوثيق لدى المأذون الشرعي.

ثم صدرت عدّة قوانين خاصّة بالأحوال الشخصية، منها القانون رقم (628) لسنة 1955م، والخاصّ ببعض الإجراءات من قضايا الأحوال الشخصية والوقف، ولم يتعرّض للتوثيق، أي سماع دعوى الزوجية والطلاق عند الإنكار، ثم صدر القانون رقم (62) لسنة 1976م، بشأن تعديل بعض أحكام النفقات، ثم القانون رقم (100) لسنة 1985م، بشأن أوضاع واجراءات إعلان وتسليم إشهار الطلاق إلى المطلقة، وإخطار الزوجة الثانية بالزواج الجديد، ولم يتعرّض هذا القانون أيضاً لموضوع البحث.

المبحث الثاني: الزواج العرفي في القانون رقم (1) لسنة 2000م

أثار صدور القانون رقم (1) لسنة 2000م، ردود فعل واسعة النطاق، من مختلف فئات الشعب، فلم تتوقّف المسألة عند القانونيين فقط، سواء أرباب القضاء الواقف (المحامون)، أو أرباب القضاء الجالس (القضاة)، وعلى كلّ المستويات.

وقد طرح القانون السابق للمناقشة العلنية على صفحات الجرائد والمجلات السيارة كلّها في مصر، ولم تخلُ جريدةٌ في مصر ولا مجلة إلا وساهمت في الحملة سواء تأييداً أو رفضاً، تحمّساً أو مناهضة، وشهدت الساحات الصحفية، وحتى ساحات مجلس الشعب، العديد من المناقشات الساخنة، وردود الأفعال العالمية، حتّى أنّ بعض النواب احتجّوا على القانون، أثناء مناقشته في مجلس الشعب، وانسحبوا من الجلسة الخاصّة بمناقشته.

وكانت أكثر المواد مناقشةً واعتراضاً في هذا القانون، المادة (20) الخاصّة بأحكام الخلع، والمادة (17) الخاصّة بالتطليق من الزواج، وهي محور بحثنا.

هذا، وانقسم الفقه القانوني حول نصّ المادة (17) من القانون رقم (1) لسنة 2000م، حتى وهي ما تزال جنيناً، أي في مشروع القانون، وانشطر إلى فريقين: الأول يناهض ويعارض نصّ المادة (17) بشدّة والمبدأ الذي تنصّ عليه، وكذا الصياغة، والثاني يقرّ المبدأ الذي نصّت عليه المادة (17/2)، لكنّ بعض أنصار هذا الفريق نفسه كان يحتجّ ويعترض على صياغة المادّة.

بدورنا سنقوم بدراسة رأي كل فريق على حدة بدقة وإمعان؛ ونذكر بدايةً نصّ المادة (17/2) التي وقعت محلّ الخلاف والبحث.

تقول المادّة: «.. ولا تقبل عند الإنكار الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج من الوقائع اللاحقة على أول أغسطس سنة 1931م ما لم يكن الزواج ثابتاً بوثيقة رسميّة، ومع ذلك تقبل دعوى التطليق أو الفسخ بحسب الأحوال دون غيرهما إذا كان الزواج ثابتاً بأيّة كتابة».

من مطالعة نصّ المادة (17/2) يتضح أن القانون رقم (1) لسنة 2000م قد أضاف فقرةً جديدة لنصّ المادة (99) من المرسوم بقانون (78) لسنة 1931م، وهي محور البحث، حيث تقول هذه الفقرة: «ومع ذلك تقبل دعوى التطليق أو الفسخ بحسب الأحوال دون غيرهما إذا كان الزواج ثابتاً بأيّة كتابة».

هذه الفقرة هي التي أثارت الاعتراضات وكثرت حولها المناقشات، حتى قبل أن يقرّها مجلس الشعب، وتصبح قانوناً.

الاتجاهات والمواقف من المادة (17/2)

الفريق الأول: وهو المعارض لنصّ المادة (17/2) ([36])، ويلخّص رأي هذا الفريق في كون الزواج العرفي ليس زواجاً بل هو زنا، وإنما أطلقت عبارة (زواج عرفي) للتغرير بالمرأة، وأن هذا الذي يسمّونه زواجاً ليس بزواج؛ لافتقاده معظمَ أركان الزواج وشروطه التي ذكرناها سابقاً، أما ما يحدث الآن في جامعات مصر بين شبابها وشاباتها من كتابة ورقة يقرّ فيها الشاب أو الرجل بأنّ الفتاة أو المرأة المذكورة في الورقة هي زوجته، فهذا ليس بزواج، وإنّما اتفاق على الزنا، ولم يرقَ حتى إلى مرتبة الزواج الفاسد، وذلك لغياب معظم أركان وشروط عقد الزواج منه، كلّ ما في الأمر أنّ الشباب يريدون إفراغ شهوتهم الجنسية فضلاً عن الهروب من تحمّل مسؤولية البيت والزوجة والأولاد، أي مسؤولية تكوين أسرة، من هنا اتخذ أداةً دون الزنا؛ لإشباع الغريزة الجنسية؛ فما أقدمت عليه المادة (17/2) من القانون رقم (1) لسنة 2000م، اعتراف بزواج غير شرعي، لا يزيد عن علاقة مخادنة بين اثنين.

وهذا ما جاء صراحةً في المذكرة التفسيرية، ص14 للقانون (1) لسنة 2000م، والتي وصفت الزواج العرفي بأنه (وصمة)، وأن الغرض من هذا النصّ هو أن يفتح للمرأة آفاقاً للدخول في زوجيّة شرعية موثقة، لكنّ الخروج من الوصمة إلى الشرعية الموثقة معناه الاعتراف بالانتقال من الزنا ــ الزواج السرّي ــ كما يجب أن يطلق عليه، أو عقد اتفاق على الزنا، إلى زواج شرعي([37]).

ويرفض هذا الفريق إقرار الزواج إلا عبر التوثيق مع توافر الأركان والشروط الشرعية، وذلك بسبب فساد الذمم، حيث أصبح يسيراً على بعضهم إنكار العلاقة الزوجية أو اعتبار ادّعائها زوراً وبهتاناً، أو نكاية وتشهيراً، أو لجني منفعة رخيصة، أو عرض زائل، لذلك كان لزاماً على المشرّع الوضعي ضرورة التدخل لمواجهة كلّ هذا التحايل، وهم يعتبرون هذا النوع من الزواج إحدى صور الخلل الاجتماعي المنتشر اليوم في مصر.

ويرى أنصار هذا الفريق أنّ المادة (17/2) من هذا القانون من أهمّ أهداف مؤتمر السكّان بالقاهرة، ومؤتمر المرأة في بكين، وهو خطوة على طريق تنحية الشريعة الإسلامية من قوانين الأحوال الشخصية للوصول إلى علمانيّتها، وجعل عقد الزواج عقداً مدنيّاً، كأيّ عقد من العقود المدنية، والدليل على ذلك أيضاً أن القانون نصّ على اعتماد التاريخ الميلادي في احتساب مدّة العدة بدلاً من التاريخ الهجري، أي إخراجه من دائرة المعاملات والمساومات، خلافاً لما أراده الله سبحانه وتعالى.

وفي القانون نفسه، نصّ على ضرورة توثيق الطلاق في حالة الزواج الشرعي، بينما يكتفى في الزواج العرفي (السرّي) بأية كتابة أو عبارة لا تليق بمكانة عقد الزواج وأهميته القصوى في المجتمع([38])، إنّ القانون وإن لم يعترف بالزواج العرفي صراحةً، إلا أنه اعترف بالطلاق منه، والطلاق لا يكون إلا من زواج، وقد يكون المشرّع فعل هذا خوفاً من مواجهة العلماء والفقهاء.

إنّ الزواج العرفي يجب أن يفسّر بمفهوم الناس له في ظلّ تجدّد ممارساتهم لهذا المفهوم، وهم يطلقون عليه: تدليس زواج عرفي، فلا يعني في الحقيقة زواجاً جدّياً، والمرأة هي الخاسر الأكبر منه، كما لا يمثل نواةً لمؤسّسة زوجية، فهو يستهدف مخالفة الشرع صراحةً؛ لأنّه لا يستهدف ولادة وتنشئة أطفال، ولا ينطبق عليه أحكام المواريث الشرعية، ويمحو الحدود الفاصلة بين علاقات العشق (الزنا)، وعلاقات الزواج المؤسّسية، ولا يمثل أيّ نوع من المصاهرة بين العائلات، كما لا يعمّق صلة الرحم بل يسيء إليها([39]).

وخلاصة ما انتهى إليه رأي هذا الفريق: أنّ المادة 17/2 من القانون رقم (1) لسنة 2000م قد اعترفت بزواج غير متوافر الشروط والأركان المنصوص عليها في الشريعة الإسلامية، وذلك بإباحة الطلاق ممّا يسمى ــ زوراً ــ زواجاً عرفياً، والطلاق لا يكون إلا من زواج صحيح شرعاً، وهو ما لا يتوفر في ما يسمى بالزواج العرفي.

كما أن عبارة: (أية كتابة) الواردة في المادة (17/2) لا تليق بمكانة عقد الزواج في الإسلام، فإنها تفتح الباب للأدعياء للنصب واللعب في عبادة من أهم وأعظم العبادات في الإسلام، والتي قال عنها ربّنا في كتابه الكريم: >ميثاقاً غليظاً<، وهل الميثاق الغليظ يكون بأية كتابة؟ وإذا كان القانون المدني لا يعترف بالدَّين إذا تجاوز مائتي جنيهاً إلا إذا كانت ثابتةً بالكتابة الصريحة وليس بأية كتابة؛ ممّا يجعل هذه المادة مخالفة لنصّ المادة الثانية من الدستور المصري الدائم الصادر في 28/10/1971م، فهل عقد الزواج تقلّ قيمته ــ في نظر القانون ــ عن مائتي جنيه أو أيّ عقار، مهما بلغت قيمته؛ لأن الملكية في العقار لا تكون إلا بالتسجيل؟([40]).

إنّ قول بعضهم: إنّ الزواج العرفي زواج مكتمل الأركان والشروط الشرعية، لكنّه غير موثق لدى المأذون، تدليس، فقد رأينا ونرى في الواقع خلاف ذلك، وهم يقولون: إنّ الزواج يمكن إثباته بفتح حساب لدى البنك باسم امرأة بصفتها زوجة، وكذلك دفتر زوار الفندق إذا ثبت فيه أن المرأة التي معه هي زوجته دون حاجة إلى إثبات آخر كبطاقة عائلية أو قسيمة زواج، فهل هذا ممّا توافرت فيه الأركان والشروط التي تحدّثنا عنها سابقاً، والمبيّنة تفصيلاً دقيقاً في كتب الفقه الإسلامي؟ إنّ السؤال لا يحتاج إلى إجابة؛ لأنه ليس مع العين أين؟!

فضلاً عن ذلك، فإن مجمع البحوث الإسلامية، وهي الجهة التي حدّدها القانون للفصل في مدى موافقة القوانين للشريعة الإسلامية، قد أصدر فتوى بتحريم هذا الزواج المسمّى ــ زوراً وبهتاناً ــ زواجاً، واعتبره زناً، وطالب بمعاقبة من يقوم عليه، وقد صرّح بذلك فضيلة المفتي في جريدة صوت الأزهر (الشروق) العدد (20) بالسنة الأولى، وأضاف فضيلته: إنه ــ والمجمع ــ بعث بذلك إلى مجلس الشعب والشورى، مما يؤكّد أن المادة (17/2) قد خالفت صحيح نصّ المادة الثانية من الدستور.

كما استقرّ قضاء النقض على ذلك، ونذكر هنا بعض الأحكام الصادرة في هذا الشأن، فمنها: (إنّ الزواج الذي لا يحضره شهود زواج فاسد)، طق رقم 14 سنة 22ق جلسة 1217 / 1966، س17، ص1811، وطق رقم 35 سنة 46هـ جلسة 31 / 5/ 1978م، س29، ص1379([41]).

كما قضت المحكمة بـأنّ (بطلان الزواج هو الجزاء المترتب على عدم استجماع شروط إنشائه، الموضوعية منها والشكلية، وهو ينسحب على الماضي؛ بحيث يعتبر الزواج لم يتم أصلاً)([42]). طق رقم (16) سنة 42ق جلسة 19/11/ 1975م، المرجع السابق، ص168، المبدأ رقم: 311؛ وانظر الموسوعة الذهبية للقواعد القانونية التي قرّرتها محكمة النقص المصرية منذ أنشائها عام 1931م ــ الأصدار المدني ــ الجزء الثاني، طبعة 1982م، إصدار الدار العربية للموسوعات، المبادئ 301، 316، 311، ص163، 170، 168([43]).

إذن، كيف يتمّ الطلاق من زواج باطل وفاسد، والطلاق لا يكون إلا من زواج صحيح شرعاً، فهل الزواج بأيّة كتابة زواج صحيح شرعي؟! إنّ ما يطلقون عليه زواجاً عرفياً، وهو في نظر مجمع البحوث الإسلامية زنا، ضار أساساً بالمرأة، وإنّ القانون رقم (1) لسنة 2000م المادة (17/2) حينما نصّ على التطليق أو الفسخ منه فهو يعني اعترافاً منه بهذا النوع، ولا يحتجّ بعضهم بالقول: إنّ هذا الاعتراف لمعالجة الحالات الموجودة، وليس اعترافاً كاملاً بالزواج الباطل؛ إذ لماذا لم تحدّدوا مدّةً معيّنة لسماع دعوى التطليق أو الفسخ، بعدها لا يجوز سماع هذه الدعوى أو تلك، بدلاً من ترك الباب مفتوحاً على مصراعيه للزنا([44]).

الفريق الثاني: وهو الذي يؤيد نصّ المادة (17/2) من القانون رقم (1) لسنة 2000م، ويرى أصحاب هذا الرأي أنّ القانون خيراً فعل حينما نصّ على سماع دعوى التطليق أو الفسخ من الزواج العرفي؛ لأنّ ذلك حلٌ لمشكلة باتت تؤرّق المجتمع المصري وتنخر في عظامه، وهم يرون أن الزواج العرفي مكتمل الأركان والشروط، لكنّه لم يوثق لدى المأذون فقط، أما ما يطلبه الإسلام من أركان وشروط فهي متوافرة في هذا الزواج، وأنّ عدم التوثيق طبقاً للمادة (99) من المرسوم بقانون رقم 78 لسنة 1931م، لا يؤثر على قيام العلاقة الزوجية؛ لأنّ الأركان والشروط الشرعية متوافرة في العقد، فضلاً عن أن التوثيق لم يكن معمولاً به أيام الإسلام الأولى، كما أنه يوجد حالياً بعض القرى والنجوع في مصر لا توثق عقد الزواج، ومع ذلك فهو زواج قائم وصحيح شرعاً، ولم يشكّك أحد في قيام العلاقة بمثل هذا العقد([45]).

وقد قال المستشار الدكتور فتحي نجيب، مهندس القانون ورئيس محكمة النقض بالنصّ في جريدة الأهرام ما يلي: «من هذا الزواج ما يعرف بالزواج السرّي، وهو الشائع بين الشباب في الجامعة اليوم، وإن كان فقد شرط العلانية ليس هو المفسد للعقد، بل وفقد أيّ ركن آخر، ونحن ضدّه ونحاربه، والحقيقة أننا نفتح الباب لتصفيته؛ لكي يتيسّر لكل من وقعت فيه وتريد تصحيح وضعها في المجتمع والحياة أن تجد لها منفذاً وباباً للتخلّص من هذه العلاقة والتحوّل إلى حياة طبيعية وزواج شرعي صحيح متكامل الأركان»([46])، جريدة الأهرام الصادرة في 2/2/2000م: 3.

وهل ما يحدث في الواقع سوى ما سمّاه بالزواج السرّي الذي نحاربه ونقف ضدّه، ومع ذلك اعترف به وقننه؟ ثم إنّ المعروض حالياً على القضاء بلغ حوالي 12 ألف دعوى تطليق من زواج سرّي، وأنتم أدرى وأعلم، هل رأيتم في إحداهنّ ما يخالف ما ذكرته، وهل الحرب تكون بالاعتراف والتقنين لما هو فاسد وباطل وتحليله بدلاً من تحريمه ومعاقبة كلّ من يُقدم عليه، كما أوحى بذلك مجمع البحوث الإسلامية المختصّ ــ قانوناً ــ بالفصل في مسألة حلّ أو حرمة أيّ قانون مطابق أو مخالف للشريعة الإسلامية طبقاً للمادة الثانية من الدستور المصري الواجب أحكامه وتطبيقه، وما رأي سيادتكم في فتوى المجمع؟!

فضلاً عمّا سبق، أضاف أنصار هذا الرأي أنّ حرمان المرأة المتزوّجة عرفياً من حقّ التطليق أو الفسخ، هو حرمانٌ من حقّ دستوري نصّ عليه الدستور، وهو حقّ التقاضي، وكفله لجميع المواطنين، فضلاً عن مخالفة ذلك لمبادئ العدل والإسلام، كما أنّ حقّ التقاضي حقّ إنساني، لا يجوز حرمان أي إنسان منه([47]).

إنّ حقّ التقاضي حق دستوري كفله الدستور لجميع المواطنين، لكن أليس من حقّ المشرع أن يقيّد هذا الحق لمنع التعسّف في استعماله، وقد فعل المشرّع ذلك حيث نصّ في حالات معينة على عدم جواز رفع الدعوى في حالات السبّ والقذف إذا مضت عليها ثلاثة شهور من علم المجني عليه، وكذلك عدم سماع دعوى العامل للمطالبة بحقّ من حقوقه بعد مرور عام من انتهاء خدمته، كما ورد في القانون المدني، وإيقاف دعوى الزنا على شكوى من الزوج أو الزوجة؟([48]).

ممّا سلف، يبين أنّ المشرّع قنّن ونظم حقّ التقاضي بحيث لا يعرف الناس استعماله مما يعرّضهم للمساءلة القانونية في إساءة استعمال الحق، ألم يكن أولى بالمشرّع أن ينصّ على حرمان من تقدّم أو من يقوم بهذا النوع من الزواج السرّي؟([49]).

وبخلاصة ما سلف يتضح لنا تهافت الرأي الثاني وتعارض حججه مع بعضها، ممّا يدلّ على فساده وبطلانه.

خاتمة البحث

نخلص ــ نهايةً ــ إلى رأينا في الزواج العرفي في الشريعة والقانون:

أولاً: في الشريعة الإسلامية

اشترطت الشريعة الإسلامية في عقد الزواج عدة أركان وشروط يجب توافرها في هذا العقد، وإذا لم تتوافر أو تخلّف ركن من هذه الأركان سواء الولي، أو الشهود، أو الإعلان، فإنّ الزواج يعدّ باطلاً ويجب التفريق فيه فوراً، حتى ولو لم يثبت في وثيقة رسمية، فإن الإثبات في الوثيقة لا يصحّح البطلان في عقد النكاح الذي لم تتوافر فيه هذه الأركان جميعها.

أمّا ما يحدث حالياً في مصر، ممّا يسمى بالزواج العرفي، فهو تدليس وزور وبهتان، من كتابة ورقة بين شاب وفتاة أو بين رجل وامرأة، يقرّ فيها هذا الشاب أو ذاك الرجل بأنّ هذه الفتاة أو المرأة هي زوجة له شرعاً، فليس هذا بزواج، بل أطلقنا عليه (عقد زنا مكتوب)، وقد ذهب إلى ما ذهبنا إليه مجمع البحوث الإسلامية وعلى رأسه فضيلة المفتي.

ثانياً: في القانون المصري

إنّ القوانين الصادرة قبل عام 2000م خاصّة المرسوم بقانون رقم (78) لسنة 1931م المادة (99) منه وإن اشترطت ــ لسماع دعوى الزوجية أوالطلاق في المحاكمة ــ أن يكون الزواج موثقاً لدى المأذون في قسيمة معدّة خصيصاً لذلك، فإن هذه المادة وإن لم تشترط صراحةً أن يتوافر عقد الزواج على الأركان والشروط، إلا أن هذه الشروط ضرورية، وبدونها لا يكون هناك عقد زواج، وقد انتهت إلى ذلك محكمة النقض في العديد من أحكامها التي تواترت عليها؛ فالقانون هنا يفترض أساساً أن العقد صحيح؛ لأن الطلاق لا يكون إلا من زواج صحيح، وإلا كان هذا الزواج مخالفاً للشريعة الإسلامية وللدستور، خاصّة المادة الثانية منه، فلا التوثيق يصحّح البطلان، ولا يضفي على العقد شرعيةً، فهو شرط وضع لمصلحة مرسلة أكّدها الواقع والوقائع.

أما الحال في القانون رقم (1) لسنة 2000م، فقد انقسم الفقهاء حول المادة (17/2) من هذا القانون إلى فريقين: الأول عارض وناهض ما ذهبت إليه هذه المادة (17/2)، والثاني أيّد ووافق على المبدأ الذي نصّت عليه، وهو قبول دعوى التطليق والفسخ من عقد الزواج إذا كان ثابتاً بأيّة كتابة، وعليه ففساد نصّ المادة (17/2) يكون للأساب التالية:

1 ــ مخالفة نص المادة (17/2) للمادة الثانية من الدستور الدائم الصادر من 28 / 9 / 1971م؛ لمخالفتها الشريعة الإسلامية.

2 ــ مخالفة نص المادة (17/2) لأحكام محكمة النقض التي تواترت على بطلان عقد الزواج، إذا لم يكن مستوفياً لشروطه وأركانه في الإسلام، وقد سبق أن أوردنا بعض هذه الأحكام.

3 ــ مخالفة نصّ المادة (17/2) للقاعدة القانونية التي تقول: إنّ ما بني على الباطل فهو باطل، فإذا كان الزواج العرفي باطلاً، فإن الكلام المترتب عليه يكون باطلاً.

4 ــ مخالفة نصّ المادة (17/2) لما صدر عن مجمع البحوث الإسلامية المختصّ ــ قانوناً ــ في البتّ في مدى موافقة مشاريع القوانين للشريعة الإسلامية، وبذلك تكون هذه المادة مخالفة للشريعة والدستور.

5 ــ إنّ المادة (17/2) ليست وسيلةً للقضاء على هذا النوع من الزواج بل إنّها تشجعه، وإلا لم يكن ذلك كذلك، فلماذا لم يحدّد القانون مدة معينة بعدها يسقط الحقّ في رفع دعوى التطليق أو الفسخ؟

6 ــ إنّ الله سبحانه وتعالى أطلق على عقد الزواج >ميثاقاً غليظاً<، والقانون رقم (1) لسنة 2000م المادة 17/2 تطلق عليه: (بأية كتابة)، فهل الميثاق الغليظ يكون بأيّة كتابة؟ هذا ما يجعل تلك المادة تحطّ من قدر وأهمية الزواج مما يؤيّد مخالفتها للشريعة الإسلامية وللمادة الثانية من الدستور.

ممّا سلف، يتضح بطلان المادة (17/2) من القانون رقم (1) لسنة 2000م؛ لمخالفتها المادة الثانية من الدستور والشريعة الإسلامية، وأنّ الزواج العرفي ليس زواجاً بل زنا، وقد اتخذه الناس سبيلاً له.

*     *     *

الهوامش



([1])  إبراهيم محمد الجمل، فقه المرأة المسلمة، عبادات ـ معاملات، الطبعة الأولى، عام 1981م، مكتبة القرآن.

([2])  المذكرة الإيضاحية، للاقتراح بمشروع قانون بتعديل بعض أحكام قوانين الأحوال الشخصية، ملحق تشريعات عقد المحاماة، العددين السابع والثامن: 59 ـ 60، سبتمبر ـ اكتوبر 1988م.

([3])  فضيلة المفتي الدكتور نصر فريد واصل، زواج المسيار حلال؛ لأنه يمنع الزنا، مجلة نصف الدنيا، العدد 562: 49، الصادرة في 26 نوفمبر 2000م.

([4])  الأستاذ الدكتور محمد محمد فرحان، مجلّة صوت الأزهر، الشروق، العدد 13: 8، الصادرة في 16 رمضان / 1420هـ، 24 / 12 / 1999.

([5])  المستشار عبدالمنعم إسحاق، نائب رئيس هيئة قضايا الدولة، الزواج العرفي من القانون الجديد، جريدة الأهرام الصادرة في يوم الجمعة 24 / 12 / 2000م باب مع القانون، إعداد عبدالمعطي أحمد: 59.

([6])  الوجيز في نظام الأسرة في الإسلام: 41، إعداد نخبة متخصّصة من أساتذة جامعة الأزهر، كتاب صادر عن جامعة الأزهر لطلاب الكليات المستحدثة.

([7])  الإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، فتح الباري في شرح صحيح البخاري 9: 123 ـ 408، الطبعة الأولى، دار المفار، 1419، 1999م، باب النكاح (76).

([8])  الدكتور محمد رأفت عثمان، فقه النساء في الخطبة والزواج: 10 ـ 14، دار الاعتصام، الطبعة الأولى، 1984م.

([9])  الإمام الغزالي، إحياء علوم الدين 2: 24، الطبعة الأولى، 1407، 1987م، كتاب آداب النكاح؛ ومحمد رأفت عثمان، فقه النساء: 13 ـ 18.

([10])  الإمام الغزالي، إحياء علوم الدين 2: 25.

([11])  المصدر نفسه: 24 ـ 37.

([12])  الدكتور محمد رأفت عثمان، فقه النساء: 14.

([13])  إحياء علوم الدين: 27.

([14])  الدكتور محمد رأفت عثمان، فقه النساء: 59 ـ 61؛ وكتاب جامعة الأزهر: 40 ـ 83؛ 88 ـ 107، 108 ـ 127.

([15])  كتاب جامعة الأزهر: 40 ـ 83؛ ومحمد رأفت عثمان، فقه النساء: 63.

([16])  محمد رأفت عثمان، فقه النساء: 67 ـ 82.

([17])  المصدر نفسه: 84 ـ 85.

([18])  المصدر نفسه: 87 ـ 89؛ وفتح الباري 9: 147؛ وإبراهيم الجمل، فقه المرأة المسلمة: 273.

([19])  تفسير القرطبي 3: 72، 158.

([20])  محمد رأفت عثمان، فقه النساء: 90 ـ 112؛ وفتح الباري 9: 194.

([21])  محمد رأفت عثمان، فقه النساء: 100؛ وفتح الباري 9: 200.

([22])  محمد رأفت عثمان، فقه النساء: 112 ـ 118؛ وكتاب جامعة الأزهر: 88 ـ 107.

([23])  محمد رأفت عثمان، فقه النساء: 61 ـ 62، 115؛ وكتاب جامعة الأزهر: 193؛ وإبراهيم الجمل، فقه المرأة المسلمة: 277 ـ 280.

([24]) انظر: مجلة نصف الدنيا، العدد 562: 38 ـ 40، الصادر في 26 / 11 / 2000م، تحقيق بعنوان مفتي الجمهورية يقول: زواج المسيار حلال؛ لأنه يمنع الزنا.

([25])  ابن حجر العسقلاني، فتح الباري 9: 192 ـ 194، ح 5112، باب رقم: 29، باب الشغار.

([26])  إبراهيم محمد الجمل، فقه المرأة المسلمة: 284.

([27]) مجدي أحمد حسين، جريدة الشعب، العدد 1329: 10.

([28])  سعيد أبو الفتوح، جريدة الأهرام، الجمعة 28 / 10 / 2001: 2.

([29])  فضيلة المفتي، جريدة صوت الأزهر الشريف، (الشروق)، السنة الأولى العدد 20، الصفحة الأولى؛ والدكتورة سعاد صالح، جريدة الشعب، العدد 1433: 2؛ والدكتور يحيى هاشم، جريدة الشعب، العدد رقم 1429: 1022؛ وإبراهيم محمد الجمل، فقه المرأة المسلمة: 267 ـ 280.

([30])  محمد رأفت عثمان، فقه النساء: 118 ـ 120.

([31])  إبراهيم محمد الجمل، فقه المرأة المسلمة: 269 ـ 286.

([32]) الدكتور البيومي محمد البيومي، أنواع الزواج وحكمها بين الشريعة والقانون، جريدة الأهرام، الجمعة 24 / 12 / 1999م، ص29.

([33])  الدكتور عبدالمعطي بيومي، جريدة الأهرام، الجمعة 24 / 12 / 1999م، ص24.

([34])  المستشار علي صحابة، رئيس محكمة استئناف القاهرة للأحوال الشخصية، جريدة الإهرام، 12 / 2 / 2000، ص16.

([35])  ملحق تشريعات المحاماة، تشريعات الأحوال الشخصية للمسلمين وغير المسلمين، العددان السادس والسابع، شهري 9، 10/ 1988م.

([36])  مجدي أحمد حسين، جريدة الشعب، الأعداد: (1329) (1427): 60، (1434).

([37])  الأستاذ الدكتور محمد بلقاجي حسن، عميد كلية دار العلوم السابق، أستاذ الشريعة الإسلامية بها، جريدة الوفد، 23 / 12 / 1999م.

([38])  المستشار زكريا شلس، نائب رئيس محكمة استئناف القاهرة، جريدة الأهرام، 24/1/2000م.

([39])  المستشار الدكتور وحيد محمود، رئيس محكمة استئناف القاهرة، جريدة الشعب، العدد: 1429.

([40])  الدكتور عل جمعة، أستاذ الفقه بكلية الدراسات الإسلامية، جريدة الشعب، العدد: 1429.

([41])  المستشار حسين حمادة، رئيس محكمة الإستئناف للأصول الشخصية، جريدة الشعب، العدد: 1942.

([42])  الأستاذ كمال متولّى الأصول الشخصية.. استقرار الأسرة، جريدة الأهرام يوم 16/1/2000م: 10.

([43])  محمد محمد فرحان، مجلة صوت الأزهر، الشروق، العدد 13: 8، 16 / رمضان / 1420ه.

([44])  فضيلة المفتي، مجلة صوت الأزهر، الشروق، السنة الأولى، العدد 20، الصفحة الأولى.

([45])  المستشار الدكتور فتحي نجيب، جريدة الأهرام، 2/2/2000م: 3.

([46])  المستشار علي صحابة، الأهرام: 16، يوم 12 / 12 / 2001م.

([47])  المستشار حسن مهران حسن، ملاحظات حول شرح قانون الأحوال الشخصية، جريدة الأهرام، 16 / 1 / 2000م: 10.

([48])  عبد المنعم إسحاق، الزواج العرفي في القانون الجديد، الأهرام: 29، الجمعة 24 / 12/ 99م.

([49])  الدكتور يحيى هاشم حسن خزغل، جريدة الشعب، العدد 1429: 2، 10.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً