أحدث المقالات

د. الشيخ حيدر حبّ الله

من هو “المتفقّه الجدلي”؟ وما هو “الفقه الجدلي”؟

أعني بـ “المتفقّه الجدلي” ذاك الشخص الذي يفهم من البحث الفقهي ما يقوم على قواعد الجدل والمناظرة، بهدف الدفاع عن فكرة فقهيّة (أو توليفة أفكار) أو مهاجمة فكرة أخرى تُعتبر خصماً قائماً. ولكي نذكر شبيهاً تاريخيّاً نأخذ علم الكلام المتَّهم على غير صعيد ـ بحقٍّ أو بغير حقّ ـ بأنّه تورّط باعتماد مرجعيّة الجدل في اشتغالاته البحثيّة، فالمتكلّم كثيراً ما تهمّه المناظرة وممارسة أشكال الجدل المعتمدة في المنطق الصوري وغيره.

إنّ المتفقّه الجدلي ظاهرة لها شكلان:

الشكل الأوّل: المتفقّه الجدلي المقارن (بين المذاهب)، وهو الذي ولَّدَ علم الفقه المقارن القائم على الجدل، دون علم الفقه المقارن القائم على الحوار والبحث والتعاون، فالمتفقّه الجدلي المقارن هو ذلك الذي يبحث في قضيّةٍ فقهيّة (أو توليفة قضايا فقهيّة) ليس لكي يكتشف الحقّ فيها، بل لكي يردّ على قول الذين ينتمون لغير مذهبه العقائدي أو لغير مذهبه الفقهي.

الشكل الثاني: المتفقّه الجدلي غير المقارن، وهو ظاهرة ازداد انتشارها في العقود الأخيرة، ويمكن العثور على نسيجها وروحها في أعمال سابقة فقهيّة. وهو متفقّه يدرس مسألةً فقهيّة لا لكي يخرج بنتيجة تقتضيها الأدلّة، بل ليُثبت نتيجةً مسبقة أو ليُبطل نتيجةً يراها خصومه من داخل مذهبه العقدي ومن داخل مذهبه الفقهي، أو من خارج نطاق الفقه كلّه.

نوعٌ من المتفقّه الجدلي غير المقارن يمكن العثور عليه منذ زمن بعيد جداً، وهو ذاك المتفقّه الذي يعرف مسبقاً أنّ النتيجة واحدة، لكنّه يبحث حتى يُثبتها، فلو فرضنا أنّه لم يقدر على إثباتها، فهو يبذل قصارى جهده لإثباتها، وكأنّه لابُدّ لها أن تثبُت بأيّ ثمن، الأمر الذي يحوّله من فقيه استدلالي إلى فقيه يحمل الروح الجدليّة، فيعتمد أحياناً على المؤثرات النفسيّة أو يخترع أدلّةً يتصوّرها ذات قيمة، لا لشيء إلا لشعوره الذاتي بضرورة إبقاء الوضع على ما هو عليه.

إنّ الفقه الجدلي أو المتفقّه الجدلي ليس من الضروري أن يُنتج فقهاً كاملاً جدليّاً، بل يكفي أن يكون له حضوره النسبي داخل البحوث الفقهيّة، فلا أعني هنا فقهاً كاملاً يقوم على العقل الجدلي، بل ظاهرة داخل الفقه تزداد وتتقلّص وتؤثر على مجموعة من البحوث الفقهيّة، تبعاً لعوامل ومتغيّرات.

هذا، وكلّ ما سأقوله حول الفقه الجدلي والمتفقّه الجدلي، له ما يشبهه في علم أصول الفقه الجدلي، وفي علم الحديث الجدلي، وفي علم الرجال الجدلي، وغير ذلك من العلوم النقليّة بل والعقليّة، بل قد تجد في علم الحديث والرجال نسبةً أعلى من الجدليّة من علمَي: الفقه والأصول.

الأثافي الستّ للفقه الجدلي أو المتفقّه الجدلي

الأثافي التي يقوم عليها الفقه الجدلي أو المتفقّه الجدلي، عديدةٌ، يمكن التركيز على بعضها، وهي ست:

1 ـ عدم التفكير الصفري، بمعنى أنّ الباحث لا يبدأ من الصفر لإثبات فكرةٍ فقهيّة أو نفيها، بل يدخل البحث العلمي مفترضاً مسبقاً ثبوت هذه الفكرة أو بطلانها، وتكون بداية مشواره عمليّة التثبيت والتبرير والدفاع أو عمليّة الهجوم والإبطال.

2 ـ اعتماد منطق التفتيش والستر، إذ يقوم الفقه الجدلي على السعي للعثور على نقاط ضعف في الطرف الآخر، والتفتيش عن ثغرات ولو كانت شكليّةً، بهدف إحراجه أو إرباكه أو جعله في موقفٍ ضعيف. وفي المقابل يسعى المتفقّه الجدلي لكي يستر كلّ العيوب الموجودة في أفكاره أو عند رموز مدرسته، ويعمل بكلّ جهده للحيلولة دون انكشافها، وإذا حصل أن انكشفت أو كشفها خصمُه فإنّه يعمل على تبريرها عبر آليّات من نوع فتح باب الاحتمالات التفسيريّة الغريبة وغير المتوقّعة؛ بهدف أن يقول للطرف الآخر: إنّ هذه الفكرة أو هذه الفتوى تحتمل أن يراد منها كذا وكذا مما لا يحتمله أحدٌ في العادة. إلى غير ذلك من الطرق والأساليب، والتي يشتهر من بينها أسلوب قمع الآخر أو التنمّر عليه بحجّة أنّه غير متخصّص.

3 ـ اعتماد منطق المحاماة أو الادّعاء، وليس منطق القضاء، وبتعبير آخر: تقمّص شخصيّة المحامي أو المدّعي العام (أو وكيله ونائبه)، وليس شخصيّة القاضي، فهو يريد أن ينتصر لفكرته أو لفكرة مدرسته وجماعته، فيلبِس ثوبَ المحاماة، ويبدأ يفتّش عن ألف منفذ ومنفذ؛ لكي يخرّج متهمه من وراء القضبان ويمنحه صكّ براءة. وإذا كان الذي هو خلف القضبان خصمُه وأعداؤه فهو يعمل بكلّ ما أوتي من قوّة لمراكمة أيّ شيء يمكنه أن يجعل القاضي يحكم بأقسى أشكال العقوبة. ولو أخذ المحامي القضيّة عينها لكن الذي خلف القضبان كان خصمُه، لانقلب إلى مدّعٍ تلقائيّاً، حتى لو كانت المعطيات واحدة!

تظهر بعض أمثلة ما نقول عندما يتصدّى فقيه أو مرجع أو مجمع فقهي ما لفتوى معيّنة، تثير بلبلةً ونقاشاً، ويظهر لها خصوم يسعون لتصفية حساباتهم مع هذا الفقيه أو المرجع عبر استغلال هذه الفتوى مثلاً، هنا نجد أنّ المحامي (المتفقّه الجدلي) يعقد الندوات والمحاضرات ويكتب الرسائل والمقالات، لتبيين وجهة نظر مرجعه أو مجمعه الفقهي بأحلى صورة، والدفاع عنها، ولو فرضنا أنّ الفتوى بعينها قالها بعض خصومه فإنّ الندوات عينها سوف تنعقد على العكس تماماً!

وأذكر يوماً أنّنا كنّا في محضر جماعةٍ من فضلاء الحوزة العلميّة، وكان حديثٌ عن فتوى أطلقها أحد المراجع في حينه، فكان الفضاء الحاكم على هذا المجلس أنّهم يريدون أن يقوم الباحثون بكتابة بحوث فقهيّة لتأييد تلك الفتوى! وهو ما أثار استغرابي، وكأنّ المرجع يُفتي وعلى الآخرين أن يشكّلوا جيشاً من المنظّرين والمدافعين عن فتواه! وأذكر أنّ تلك المسألة كانت من الغرائب عند السائد، بحيث أكاد أجزم ـ والعلم عند الله ـ لو أنّ مرجعاً آخر أفتى بها لهبّ الحاضرون أنفسهم ـ وأعرفهم جميعاً حقَّ المعرفة فرداً فرداً ـ للدعوة لكتابة مقالات في نقد تلك الفتوى! وإلى الله المشتكى.

4 ـ فنّ صناعة الدليل الفقهي، وأعني به أنّ المتفقّه بالفقه الجدلي عندما تنهار الأدلّة التي قدّمها هو أو فريقُه لإثبات فكرتهم نتيجة تطوّرات في البحث الاستدلالي أو نتيجة الجدل والمناظرة المباشرة وغير المباشرة، فهم يبتكرون الأدلّة الجديدة. إنّ ابتكار الأدلّة ليس عيباً، بل قد يكون إبداعاً، لكنّ ابتكار الأدلّة في سياقٍ جدلي كثيراً ـ ولا أقول دائماً ـ ما يعني شيئاً من “فبركة” الأدلّة الوهميّة والسعي لإقناع أنفسنا بها ومحيطنا، لا لشيء إلا لإبقاء أفكارنا وآرائنا قائمةً على حالها لا يحدث فيها تغيّر جذري. ولولا وضعنا النفسي هذا لما أقنعتنا هذه الأدلّة بشيء، ولربما ضحكنا عليها أحياناً.

5 ـ التركيز على الشكليّات دون الجوهر، بمعنى أنّ المتفقّه الجدلي وبسبب غرقه في النمط الجدلي، فهو إمّا عاجز أو لا يهمّه تقديم نقد جوهري وعميق وبنيوي لأفكار الآخرين؛ إذ يشعر أنّ هذه الطريقة طويلة ومضنية، وقليلاً ما يكون لها تأثير شعبي، إذ غالباً ما يقتصر تأثيرها على بعض النخب، لهذا يفضّل المتفقّه الجدلي استخدام أنماط النقد الشكلي مثل هفوة تعبيريّة هنا أو جملة غير دقيقة هناك أو كلمة في غير محلّها أو غير ذلك.

6 ـ الشعبويّة أو التركيز على العواطف والأحاسيس، وهذه من ميزات النهج الجدلي عبر التاريخ، وإذا طبّق ذلك متفقّهٌ جدلي فهو يعمل على أن يصوّر الطرف الآخر على أنّه شرير وطالب شهرة ومشكوك في نزاهته، أو أنّ هذه الأفكار تستبطن ادّعاء أنّ جميع علمائنا وتراثنا ليس سوى سخافات، أو هو يدمّر هويّتنا ويخدم عدوّنا شعر أم لم يشعر، وغير ذلك.

ويشتهر المنتمون الجدليّون عبر التاريخ بتحريض العامّة، عبر إثارة العواطف الشعبيّة، فهذا من أدواتهم المعروفة عبر كلّ العصور وفي مختلف المجالات، والقائمة هنا لا تنتهي ليس الوحيد فيها الإمام الطبري (310هـ).

ما هي أضرار الفقه الجدلي والمتفقّه الجدلي؟

يمكن ذكر مجموعة من الأضرار، أقتصر هنا منها على اثنين:

1 ـ التراجع العلمي، أو السَّير من الاستدلاليّة إلى الفوضويّة، بمعنى أنّ الفقه الجدلي مضلِّل؛ لأنّ السياقات الجدلية تعيد ترتيب وتنظيم العقل بطريقة تجعله يقتنع ـ أحياناً كثيرة ـ بأدلّة وهميّة، ولو أنّه لم يكن جدليّاً ولم يقع تحت التأثيرات النفسية والانتمائية للعقل الجدلي، لما اقتنع بهذه الأدلّة والحجج. وهذا يعني ظهور ركام من الاستدلالات والمناقشات العقيمة والهابطة على المستوى المنهجي والعلمي، فإذا تغلغل التفكير الجدلي في بنية الاجتهاد الفقهي أخرجه من “الاستدلاليّة” إلى “الفوضويّة”.

وهذا هو السبب في أنّنا عندما نرصد بعض الموضوعات التي تُدرس على طريقة التفقّه الجدلي نجدها ركيكة في أدلّتها أحياناً كثيرة، بخلاف الموضوعات التي يتحرّك فيها الفقيه أو المتفقّه بطريقة مليئة بالحرّية وعدم الخوف من النتيجة مهما كانت. ويوماً ما قال أحد الأصدقاء الأفاضل، وهو يوصّف حال فقيهٍ معاصر يُشهَد له بالدقة والمتانة في الفقه والأصول، وكان تلمَّذَ على يديه لسنوات، قال: «إنّ أستاذنا الفقيه هذا لما تناول قضايا فقهيّة لها صلة بأوضاع مذهبيّة، وجدناه كالبقّال الذي يبيع الطماطم في السوق، وكأنّه لا يفقه شيئاً مما سبق وعلّمه للأجيال”. ورغم أنّ هذا التعبير غير لائق منه، غير أنّني أنقله لمجرّد توصيف الحالة التي لمسَها هذا الصديق.. أعني حالة التفاوت الكبير بين الفقيه نفسه وهو يبحث مسألةً لا تدخلها حساسيّات الجدل ومنطلقاته، وبينه وهو يبحث موضوعاً داخل نطاق الجدل المذهبي.

هذا الفقيه عينُه كان قد أشكل يوماً على وجهة نظرٍ تقول بجواز استمناء المرأة، وهي قضيّة دخلت حينها حيّز النقاش الجدلي وفق تعريفي له، فطَرَح ـ حفظه الله ـ هذه القضيّةَ في درسه، ولم تأخذ معه سوى بضع دقائق! ليختم بالقول: «إذا كان فلاناً يسمح لبناته وزوجاته وأخواته بالاستمناء، فنحن لا نقبل بذلك!». هذه اللغة هي التي تعبّر عن الانتقال من الاستدلاليّة إلى الفوضويّة، وتذكّرني بخبر زرارة (المعتبر السند عند جميع العلماء فيما أظنّ)، قال: جاء عبد الله بن عمير (عمر/معمّر) الليثي، إلى أبي جعفر ـ عليه السلام ـ فقال له: ما تقول في متعة النساء؟ فقال: «أحلّها الله في كتابه وعلى لسان نبيّه صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، فهي حلال إلى يوم القيامة» فقال: يا أبا جعفر، مثلك يقول هذا وقد حرّمها عمر ونهى عنها؟! فقال: «وإن كان فعل»، قال: إنّي أعيذك بالله من ذلك أن تحلّ شيئاً حرّمه عمر، قال: فقال له: «فأنت على قول صاحبك وأنا على قول رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ فهلمّ ألاعنك أنّ القول ما قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ وأنّ الباطل ما قال صاحبك»، قال: فأقبل عبد الله بن عمير، فقال: يسرّك أنّ نساءك وبناتك وأخواتك وبنات عمّك يفعلن، قال: فأعرض عنه أبو جعفر ـ عليه السلام ـ حين ذكر نساءه وبنات عمّه. (الكافي 5: 449).

2 ـ الإغلاق الجزئي لباب الاجتهاد، فإنّ المتفقّه الجدلي يتصوّر أنّه بمناقشاته يُثري العمليّة البحثيّة، وهذا لا نشكّ فيه في الجملة، لكنّه من جهة أخرى يعطّل فتح باب الاجتهاد في دائرته التي ينتمي إليها؛ ولهذا فإنّ علم الفقه المقارن الجدلي يطوّر الفقه بين المذاهب، لكنّه يعطّل الاجتهاد الإبداعي في موضوعاته، داخل المذاهب نفسها. وأقصد من التعطيل وإغلاق باب الاجتهاد الحدَّ من ظهور الأفكار المخالفة في الدائرة التي يتناقش عليها الفقه المقارن، فمثلاً لو أخذنا مسألة مسح القدمين أو غسلهما في الوضوء، فإنّ الفقه المقارن الجدلي سوف يضاعف من أدلّة كلّ فريق لمصلحته، وهذا عنصر قوّة فيه، لكنّه في الوقت عينه سوف يمنع داخل الفريق السنّي ظهور قراءات مخالفة للسائد سنيّاً لمصلحة مسح القدمين، وسيمنع داخل الفريق الشيعي ظهور قراءات مخالفة للسائد شيعيّاً لمصلحة غسل القدمين، ولهذا عبّرتُ هنا بالإغلاق الجزئي، وهذا أحد أشكال الجزئيّة التي أعنيها.

الفقه والمتفقّه الجدلي، الأسباب ومبرّرات الوجود

هناك أسباب عدّة لظهور الفقه الجدلي أشير ـ على سبيل المثال ـ للخوف على الهويّة، فإنّه كلّما طال البحث الفقهي بالنقد والتمحيص قضايا تتعلّق بالهويّة الدينية أو المذهبيّة أو بالهويّة الاجتماعيّة أو نحو ذلك، تحرّكت مشاعر المتفقّه الجدلي، ويتراجع هذا الأمر كلّما تعرّض النقد لقضايا لا علاقة لها بالهويّة المأنوسة عبر التاريخ، فمثلاً لو أنّ فقيهاً اليوم طرح رأياً جديداً في مسألة كيفية تطهير مخرج البول، ففي العادة لن تكون هناك إثارة شعوريّة ولا خوف على الهويّة يستدعي نهضة معاكسة، بينما لو طرح قضيّةً تتصل بجواز طلاق المرأة نفسها من الرجل مطلقاً، فهذا يهدّد التركيبة الاجتماعيّة، أو طرح ـ بين الإماميّة ـ مسألة تتعلّق بجواز أكل لحم الأرنب، فهذا موضوع يصنّف كمَعْلَم من معالم الفقه الشيعي عبر التاريخ، فيثير الهويّة وقلقها. إلى غير ذلك من الأمثلة.

وإلى جانب الخوف على الهويّة هناك الانصياع للسائد والمأنوس، فعندما يُرَوَّض الإنسان على الانصياع لكلّ مأنوس سائد ومتعارف، فإنّه سوف يتحوّل إلى إنسان جدلي في قراءته للقضايا التي لا تنسجم مع المألوف والسائد في محيطه؛ وبخاصّة وأنّ الإنسان بطبعه يبحث عن الأمان في ظلّ محيط اجتماعي متوالم معه، فالشعور بالوحشة يُقلقه؛ لهذا فهو يفضّل الانصياع للمألوف هرباً ـ في اللاشعور ـ من معاناة الفراق والوحشة، ويبرّر انصياعه هذا بخلق نظريّات وأفكار، وتبدأ رحلة الجدل. وهنا نجد الكثيرين ممّن يطبّقون عمليّاً قاعدة: «الوقوف على التلّ أسلم»، لكنّ التلَّ هنا هو تلّ المشهور والإجماع والأعراف الاجتماعيّة وغير ذلك.

وهكذا العواطف والأحساسيس والمشاعر، فالمجتمعات الذكوريّة ـ مثلاً ـ يصعب عليها جدّاً أن تتقبّل أفكاراً تهزّ من هذه الذكوريّة وتخدشها، لهذا فهي تفضّل التضييق على المرأة أو إبقاء سلطة الرجل مطلقةً وسلطة المرأة في غاية التقييد، وكلّ شيء يمسّ ذلك يسمّى بالخدش بالحياء العام أو تدمير الأسرة أو نشر الفساد والفاحشة وغير ذلك، وتبدأ رحلة الجدل وخلق التبريرات والمفاهيم الوهميّة. ذلك كلّه والجدلي يدّعي أنّه يبحث عن الحقيقة ويدافع عن القيم والشرف والفضيلة.

توضيحٌ ودعوة

وأختم كلامي المختصر هذا بأمرين: توضيح ودعوة

أمّا التوضيح، فهو أنّ المتفقّه الجدلي لا يقتصر على المتفقّه الجدلي الكلاسيكي، بل لدينا متفقّهون جدليّون تجديديّون كُثر، فهؤلاء أيضاً يقعون ضحايا لطريقة التفكير نفسها، فهو يحكم على الرأي الفقهي قبل بحثه، فيُعجبه أو لا يُعجبه، ثم يبحث ليُثبت ما يُعجبه أو لينفي ما لا يعجبه! أو ليُثبت ما يقول به رمزٌ من رموز مدرسته أو لينفي ما يقول به رموز مدارس أخرى في الفقه!

وأمّا الدعوة، فهي لتحييد التفكير الفقهي الجدلي من حياتنا، لإعادة الفقه الاستدلالي إلى موقعه في كلّ زوايا الفقه، بعيداً عن القلق والخوف والاضطراب والارتباك والعصبيّة والاصطفافات الزائفة، والله وليّ التوفيق.

لهذا يختلف الاستدلاليُّ الحقيقي عن الجدلي

من كلّ ما تقدّم يتضح جيداً أن المتفقّه أو الفقيه الاستدلالي الحقيقي يختلف تماماً عن الفقيه الجدلي في النتائج البحثيّة، فمن المتوقّع منه أن يخالف السائد في مجالات متعدّدة، بعكس الفقيه الجدلي الذي تكون نسبة موافقته للسائد عالية.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً