أحدث المقالات

ترجمة: محمد عبد الرزاق

توطئة ــــــ

يتمحور البحث الحالي حول ظاهرة الخرافة، من خلال دراسة الأسباب والعوامل في ظهورها، ودور الأفهام الخاطئة والساذجة تجاه بعض المقولات الدينية في بلوة الخرافة والرؤى الخرافية. وسنسلِّط الضوء على بعض العوامل المختلفة في بلورة وتطوير واقع الخرافة، ولاسيما العوامل المعرفية والتحولات العلمية والفلسفية الطارئة، إلى جانب العوامل النفسية. ومن أجل فهم أفضل لجذور هذه الظاهرة وبيان طبيعة حصولها وتبلورها تمت الإشارة ـ على سبيل المثال ـ إلى جينولوجيا التنجيم والأبراج.

أما في ما يخص دراسة علاقة الخرافة بالدين والتعاليم النبوية فقد تم التطرق ـ من خلال ذكر بعض النماذج من الخرافات السائدة في صدر الإسلام ـ إلى سيرة الرسول الأكرم|، وأساليبه في محاربة هذه الظاهرة المشؤومة بالطرق السليمة.

 

الخرافة لغةً ومفهوماً ــــــ

الخرافة ـ حسب العرف اللغوي ـ هي الكلام العبثي والمرتبك، لكنه مستحسن؛ أو هي العادة والعقيدة الخارجة عن الأسس العقلية، والمتنافرة مع واقع تعاليم الشرع، وحتى العرف([1]).

ويقال: إن خرافة هو اسم رجل من قبيلة عذرة، ادعى الاتصال بالجن والملائكة، وصار ينقل عنهم الأقوال([2]).

أما الأساس في تبني الخرافة وانتهاجها فهو عبارة عن السطحية، ورفض الرمزية، والتهرب من مجريات الواقع، الأمر الذي يستبطن في سريرته ـ بالوعي واللاوعي ـ إنكار العقل والشرع والعرف، صراحة أو بالكناية. ويراد من السطحية التوقف عند الظواهر، أي إن ظاهر الأمور وصور الحقائق هي التي تحكم بالتوقف عند قشور الحقيقة، والإحجام عن العبور من القشر إلى اللب. وهذا في حدّ ذاته يستلزم الخطأ في الفهم، وتوفُّر الأرضية في تقوقع الأفراد.

تشكل السطحية ـ ولا سيما على صعيد الدين ـ عائقاً أمام إدراك كنه المعارف الدينية والحقائق الإلهية، ومرتعاً لتنامي الانحراف الفكري وظهور البدع والتزمُّت. ولعل النموذج الأبرز لذلك ما وقع في عهد حكومة الإمام علي× من ظهور الخوارج، الذين رفضوا الإساءة إلى صفحات القرآن الورقية، لكنهم أعدوا العدة لقتل القرآن الناطق في آخر المطاف. إن إطلاق شعار «حسبنا كتاب الله» مثال حيٌّ لمدى التعصب لدى المتمسكين بالظواهر، في حين دعانا حديث الثقلين في مغزاه الرصين إلى اتخاذ النهج المتكامل، فأوصى بالجمع بين الظاهر والباطن والقشر واللب معاً نحو رؤية معتدلة.

وفي المحصلة فإن السطحية تستمد جذورها من سذاجة وعدم نضج تلك الأذهان التي تسعى إلى تحجيم المعارف وحقائق الوجود ـ ولاسيما تعاليم الدين ـ ضمن أطر فهمها الضيقة القاصرة، فيتوقعون ما يفهمون، ويحكمون باستحالة كل ما لا تصله مدركاتهم.

أما المراد من رفض الرمزية فهو عبارة عن اتباع رؤية تفيد بأن قضايا العالم ـ ومنها الدين ومعارفه ـ هي من قبيل القضايا الطبيعية، فيتم بذلك إلغاء أي أثر لأي شيء في ما وراء الطبيعة.

وهذه الرؤية تأتي ـ بشكل عملي ـ على أهداف الدين، وخصوصاً غايته في انتشال الإنسان من التراب، وحركته نحو الله. ثم إن تبعات إلغاء الرمزية عن المعارف الإلهية لا تؤدي إلى غياب الحقيقة عن الأبصار فحسب، بل إنها ستؤدي أيضاً إلى تضييع الفرصة أمام ظهور الآثار التربوية، وما تحدثه من تحولات على صعيد الحياة الفردية والاجتماعية.

ولا شك في وجود صفقات سرية بين عنصري السطحية ورفض الرمزية، فمآل العمل بالسطحية في فهم الحقائق هو رفض الرمزية والابتعاد عنها، والعكس صحيح أيضاً؛ أي إن استبعاد الرمزية واستبدال الحقائق الجوهرية بأحداث عادية سيؤول أيضاً إلى السطحية.

أما المكون الثالث في اتباع الخرافة فهو التهرُّب من المسار الطبيعي، والذي يتبلور تارةً في الفكر عبر رفض قانون العلية العام أو تجاهله أو وضع الاستثناءات؛ أو يتبلور تارةً أخرى في الانطلاق من التمني الزائد والأماني الخيالية. وقد ترجمت مواجهة قانون العلية العام والتمرد على مسار الأمور الطبيعي ـ طيلة تاريخ الفكر البشري ـ في أشكال الفكر الفلسفي المقعّد والعلمي، وكذلك في الأشكال المختلفة لظهور الأديان. أما النموذج الأول فمثاله: نقود الغزالي في «مقاصد الفلاسفة» لقانون العلية، وتنزيله منزلة الطبيعة النفسية لدى الأذهان في ترتيب أمور الكون على بعضها الآخر؛ ومن بعدها نقود (هيوم) على العلية أيضاً؛ كما أدخلت نظرية (هايزنبرغ) وقاعدة عدم القطع التيار المخالف للعلية مرحلة جديدة على أعتاب القرن العشرين.

ومن أمثلة النموذج الثاني يمكن الإشارة إلى ظهور المعاجز على يد الأنبياء، التي فعّلت الحراك ـ عن قصد أو غير قصد ـ في تيار المواجهة المذكور.

لقد عاش الإنسان في السابق ضمن أجواء مليئة بالأوهام والعجائب، وما كان يؤثر فيه شيء سوى ما كان مخالفاً للعقل والحس. فقد عكفت الإنسانية طوال التاريخ على البحث عن الإعجاز، وأغرمت بالغيب تماماً، فحتى الملوك الأقوياء وحكماؤهم كانوا يلجؤون ـ في إثبات وجودهم ـ إلى قضايا خارقة للعادة. وهنا تتجلى الضرورة أكثر بالنسبة للأنبياء، الذين تأسست رسالتهم على الغيب، فيتحتّم عليهم تقديم معاجزهم؛ لأن الإعجاز أكثر من المنطق والعلم والحقيقة الملموسة تأثيراً في إيمان الناس آنذاك. لذا كانت استعانة الأنبياء السابقين بالمعاجز أمراً لابدّ منه، أما مع ظهور نبي الإسلام فكانت الإنسانية قد تجاوزت مرحلة العصور البدائية، ودخلت عصر النضج الفكري. لذا كان الرسول الأكرم| يحرص كثيراً على تغيير مسار اهتمامات المجتمع، من تقصي القضايا الخارقة والعجيبة إلى تحكيم العقل والمنطق والإدراك، وسوقهم من الغرائب إلى الواقعية والحقائق. ففي الوقت الذي كان الرسول| يدّعي النبوة لنفسه، ويدعو الناس إلى الإيمان برسالته، اعترف لهم رسمياً بأنه لا علم له بالغيب.

وهذا أمر في غاية الروعة، يحمل في طياته إثارة في الصدق والمصداقية الخارقة للعادة، التي أرغمت القلوب على تقديسه وتنزيهه، والعقول على تعظيمه وتكريمه. فلم يكن موقف الرسول| اعتباطياً حين رفض الاستجابة لإصرار المنكرين والمعاندين، المطالبين بالمعجزة الخارقة إثباتاً لنبوته، بل كان يعتمد في ذلك على الاستدلال العقلي والتجريبي والشواهد التاريخية أيضاً. وعلى الرغم من إلحاح هؤلاء المفرط امتنع الرسول عن الإتيان بمعجزة على غرار معاجز الرسل السابقين، وكانت معجزته الوحيدة هي القرآن الكريم، التي لن يكون لها مثيل أبداً.

وعلى أية حال ليس من شكّ في امتلاك الرسول| ـ علاوةً على معجزته الكبرى، أي القرآن ـ لمعجزات أخرى، من قبيل معاجز الأنبياء الآخرين، تلبي طموح العقول غير الناضجة، ولطالما شغل هذا النوع من المعاجز ـ إلى جانب العديد من معاجز الأنبياء السابقين ـ أذهان البشر، وكان بإمكانه| تقديم تفاسير علمية، أو حتى تعميم تلك المعاجز كقوانين مجهولة على العالم.

وبما أن المعجزة ـ في حدّ ذاتها ـ تستبطن نوعاً من مخالفة قوانين العلية الطبيعية والكونية إذاً فهذه القوانين بالتالي قابلة للنقض، وتقبل الاستثناءات أيضاً. وإذا كانت الأمور والأحداث في القانون الطبيعي تنطلق من القوانين المعروفة أو المجهولة ففي الإعجاز الشامل ـ الذي يستحق عنوان الخرافة ـ ينصبّ الجهد على تجريد الأشياء من طبيعتها، وإيجاد التشويش في قنوات الفهم الرتيبة لإدراك الأمور.

وعلى أية حال فإن مخالفة قانون العلية ـ سواء في رفضه التام بشكل مباشر أم في تجاهله وفرض الاستثناءات عليه، وهو رفض بشكل غير مباشر ـ سيخلق الأرضية لولادة الأفكار الخرافية، وتضخمها أيضاً. وكذلك الحال بالنسبة للتنصُّل من الواقع ومجرياته؛ فأحياناً تتسبب رغبة الانسان في الآمال والطموحات، وسعيه في صياغة إمكانية تحققها، باتساع الرقعة من المثالية المعتدلة إلى التخيّلية المتطرفة. ففي المثالية المعتدلة تكون سمة الإنسان البارزة في صياغة إمكانية الحصول على الآمال الصغيرة والكبيرة سبباً في جنوحه نحو القول بإمكانية تلبية طموحاته البسيطة والمعقدة، عبر الإيمان بالمجريات الفاعلة في الحياة. فالتنجيم والأبراج في أشكالها الهندية والصينية وعند الهنود الحمر، إلى جانب الأساليب الأخرى غير العلمية، من قبيل: قراءة الفأل ـ في مختلف أشكاله، كقراءة الفنجان، والحمص، وصولاً لفأل الطبق، والورق، وفتح الكتاب، وعلم الرمل، وفأل (حافظ)، وقراءة الكّف، والوجه، وجبهة الوجه، وخطوط الكف، والنظر في الماء، وفي المرآة ـ هي جميعها من أنماط الظواهر الفاعلة في مسار الحياة الإنسانية. وغالباً ما ينطق متبنّي هذه الأساليب، من بعد الاستشراف وقراءة الغيب، كي يقنع المخاطبين بإمكانية تحقق آمالهم المختلفة. وهذه النبوءات تتبلور في الأغلب ضمن ثلاثة محاور، هي: فهم الشخصية؛ وفهم الواقع؛ والنظرة المستقبلية.

فعلى صعيد فهم الشخصية يعمل أصحاب هذه الأساليب بطرقهم الخاصة والغريبة في التنبؤ بمميزات الأفراد والسلوكية الشخصانية، بل أحياناً يكون العرّاف ماهراً في مجال علم النفس، فيعمد إلى تحليل عناصر الأفراد والعوامل المؤثِّرة فيها أيضاً.

وهكذا الحال بالنسبة إلى محور فهم الواقع، حيث يذهب هؤلاء إلى التنبؤ بالأحداث المستقبلية لحياة الأفراد، بل يدّعون أيضاً القدرة على إدراك الأحداث التي تحدد الفرح والحزن، أو السعادة والشقاء.

أما محور النظرة المستقبلية فإنهم يدعون التنبؤ بمصير ومستقبل الأفراد، والقدرة على فهم علم الغيب في كشف النصيب، والقضاء والقدر القادم للإنسان.

نشأة الديانات النجومية ــــــ

لا شك أن الإنسان في الحضارة القديمة ـ التي كان يعيش فيها مراحله البدائية والأسطورية، ويجهل حقيقة الأشياء من حوله ـ كان مستغرباً لوجود النجوم العالية وتلألئها الساحر، وما إلى ذلك من الأشكال التي تكوّنها في السماء، من قبيل: الثريا، والدب الأصغر، والأكبر، وتكتُّلات النجوم العظمى، بالإضافة إلى معرفة دور القمر والشمس في صنع ظواهر المدّ والجزر، وحركة الكواكب المنتظمة، ودورها في إرشاد البشر إلى العلامات والجهات. فجميع هذه العوامل قادت الإنسان ـ رويداً رويداً ـ إلى الاعتقاد بقدرة الكواكب والأجرام السماوية المذهلة، فخلق خيالٌ خصبٌ لديه يحلّق به إلى الأعالي، حتى ظهرت ديانة النجوم وعبادة الكواكب قبل ميلاد المسيح بألف عام، وباتت من الديانات القوية جداً، وتحظى بأتباع كثيرين حول العالم، وخصوصاً في آسيا. كما كانت هذه الديانة حاضرة بقوة في الحضارات النهرية ـ مثل: الحضارة البابلية، والكلدانية، والسريانية ـ، وكذلك في الحضارات الصحراوية، كالحضارة الآشورية، ثم تحولت بمرور الزمن إلى ديانة الصابئة وديانة الزرادشتية. ثم بتعاقب العصور والدهور أخذ العلماء والحكماء في العصر القديم بترتيب وتنظيم معتقداتهم في هذا الصدد، مستفيدين من مختلف النظريات ـ من قبيل: العناصر الأربعة، والأفلاك، والبروج ـ، فانتشرت عقائد خرافية عديدة، فباتت تقرن ـ شيئاً فشيئاً ـ بأسماء وأساطير مختلف النجوم والكواكب الآلهة. ومن صميم هذه الأفكار انبثقت مختلف الثقافات الأسطورية، أمثال: الهيلنيستية، الرومانية، المصرية، الصينية، الهندية، البابلية، السريانية، الإيرانية، وظهرت الكواكب الآلهة، أمثال: زيوس، وديانا، وآبولون، وأفروديت في الأساطير الهيلنيستية، والجوبتير والهرا وفنوس ومركور ومارس في الأساطير الرومانية، وآناهيتا وميترا وزاوش وبهرام وكيوان وأستر في الثقافة الإيرانية.

وهكذا أخذ الإيمان بقوى النجوم الخفية ودورها الحتمي في رسم مصير الناس وحياتهم يتأطر بأنماط خرافات الأبراج والتنجيم وغير ذلك، دون الانتباه إلى أن مصائر البشر متعلقة بقوانين عديدة ومختلفة، منها: اجتماعية، وتاريخية، واقتصادية، وفكرية، ومنها: بايولوجية، وجينية، وفايسولوجية، كما أنها تابعة للإرادة، والأخلاق، والتربية الأسرية، والأهم من ذلك كله محورية التعاليم الدينية في هذا المجال.

ولا شك أن النظام الكوني ـ بطبيعته ـ متحكِّم بقوانين حياة الإنسان، وأن المسار الحتمي والهادف لمجمل الأحداث في الماضي والحاضر والمستقبل من مقتضيات ومقدرات البشر يتبلور ـ لامحالة ـ ضمن إطار النظام الإلهي، المنضوي تحت مفاهيم القضاء والقدر الإلهيين، إلى جانب حق الاختيار.

أما الخيالية المفرطة لدى البعض فقد تقودهم إلى السعي وراء إضفاء الشرعية وإمكانية التحقق لآمالهم العريضة، عبر جملة من الطرق المشبوهة والملتوية. ويمكن ملاحظة أبرز هذه التيارات في ما يسمى بالحركات الدينية والعرفانية الجديدة
(New mystical Movments أو New Religious Movement وNMM أو NRM).

ويشمل هذا النوع من الحركات مجموعة من التيارات المعنوية الدينية والعرفانية، التي نشطت منذ العام (1988م) تقريباً. وتشمل هذه التيارات ـ التي ترعرع معظمها في أفريقيا واليابان وشبه القارة الهندية ـ جملة من المذاهب والطقوس، من قبيل: العقيدة القلبية (Adidam)، ويوغا الأناندة مارغا، والإيمان البهائي، والبالاساي بابا، وجسد المسيح، والحركة الكاريزماتية، وأبناء الله، والعبادة المباشرة، والأكانكارية، والهيتلرية الباطنية، ويد الله، ومنزل يهوه، والحكاية العظيمة، ومنظمة الصحة، وتقديس الرمز، وحركة الروح المقدسة، والمجهولات الزائفة، وحركة المطر المتأخّر، وعقيدة أصحاب اليسار، وNLP، وشعب يهوه، والأكروبليس الجديدة، ومعبد الناس، وكذلك العلوم الغريبة، كعلم الطلسمات والتسخير، والشعوذة، والسحر، والصناعة، وهكذا الزنبوذية، وTM، وعرفان الهنود الحمر، وعقائد الدارما، والتولتك، وديانا، والنشوة، وغير ذلك من الفرق والتكتلات الأخرى.

ويسعى كلّ واحد من هذه التيارات ـ عبر ما تنص عليه تعاليمها وأهدافها النظرية والعملية ـ إلى توفير الحلول أمام الإنسان في نيل سعادته بأي سبيل كان، مستفيداً من جميع الوسائل المشروعة وغير المشروعة، والمناسبة لطبيعة الإنسان أو غير المناسبة.

وبغضّ النظر عن إيجابية الغاية العامة والمشروعة في تحقيق السعادة البشرية ونجاح الإنسان في حياته المادية ـ الأمر الذي يحظى بأهمية قصوى لدى بعض التيارات ـ تبقى المقدمات والسبل الكفيلة بتأمين هذه السعادة وهذا النجاح مشبوهة جداً، ومليئة بالخرافات؛ فإن مسألة الاعتقاد بفاعلية بعض الممارسات، والكحول والعقاقير المخلّة بالوعي، وكذلك قول الأذكار الاعتباطية، في تحصيل السعادة ـ الأمر الذي يبعدنا، شئنا أم أبينا، عن الأساليب والطرق الأصلية في الأديان الإلهية، وخصوصاً الدين الإسلامي الحنيف ـ لن تجدي شيئاً، ولن تؤدي إلا إلى الضلالة، والهروب من الواقع، ونسج الأخيلة، وهو الأمر الذي تبلور جلياً في استبدال العناصر الحقيقية بعناصر مجازية.

ومن الغريب، والمؤسف أيضاً، أن رغبة الإنسان الفطرية في نيل السعادة الأبدية والاستقرار النفسي باتت لعبة في يد أنماط الخرافة الجديدة، وقد حلت المطمئنات المؤقتة الزائفة، ربيبة الفكر الخرافي الجديد، محلّ المطمئنات الحقيقية المنبثقة عن الأديان السماوية، ولاسيما الدين الإسلامي، دين السعادة والطمأنينة.

فصار البعض يبحث عن النجاة في مثل هذه التيارات، متجاهلين الأخطار المحدقة بهم؛ جراء الجنوح نحو هكذا نوع من أساليب الطمأنة المؤقتة.

 

الخرافة والعقلانية ــــــ

تكمن دواعي الخرافة ـ كما أسلفنا ـ في التنصل من الواقع، ومقاطعة العقل.

فالإيمان بالخرافات ـ من خلال تجاهل قواعد العقل الفردية والجماعية أو إنكارها ـ يجرّ إلى أنفاق حالكة من الخرافة. ولابد هنا من التفريق بين نوعين من العقلانية، هما: المعتدلة؛ والمتطرفة. فعلى الرغم من إيمان العقلانية المعتدلة بدور العقل وقدرته على معرفة الأسباب العلية التي تحكم طبيعة الأشياء إلا أنها لا تعدّه المصدر الوحيد في الكشف عن الحقيقة؛ حيث إن احتساب العقل كمتفرد في كل شيء، بمعنى حصر القطع بصحة وإتقان المعرفة ـ نظرياً وعملياً ـ بيد العقل العلمي أو الفلسفي، هو من نتاج العقلانية المتطرفة. والواقع أنه لا يمكن لمس هذه القدرة في عقل الإنسان أبداً؛ لأن هناك من المعرفة والعلوم ما لا تتأتى بالجزم العلمي والفلسفي، بل تستحصل من خلال جهود عقلية تستعين بالظن والاحتمال العقلاني.

أما العقلانية المتطرفة فهي نوع من الإطلاقية في مجال العقل. وهو أمر مرفوضٌ طبعاً، وخصوصاً على صعيد الدين؛ حيث لا يمكن اعتبار العقل البشري بلا حدود ومديات تحده، وأن باستطاعته التحليق فوق كل حقيقة، والتغلغل في صميم كل ظاهرة، ودرك كنهها، وتحليل أبعادها. نعم، لا شك في أن التعاليم الدينية كانت قد دعت الإنسان إلى معرفة الحقائق المعمقة، وهو أمر ممكن عبر التعقل أيضاً، إلا أن الإذعان بمديات العقل والتعقل عند الإنسان هو من الأمور المعقولة والمنطقية.

وعليه فإن مآل مقاطعة العقل والهروب من الواقع هو الخرافة، كما هو مآل العقلانية المتطرفة أيضاً؛ حيث إنها تضع كل شيء بيد العقل البشري، ثم تستند على نوع من الإنسانية العقلية لتعد العقل هو المصدر الوحيد في كشف الحقائق ونيل السعادة المنشودة. وهذه العقيدة نفسها هي السبب في انسداد باب المعارف المعنوية في الأديان وإدراك المفاهيم الباطنية الأصلية. ففي الواقع يبقى العقل البشري الدقيق ـ وعلى الرغم من خلاقيته ـ محدوداً بحدود وأطر خاصة به، وإنّ منحه ما هو أكثر من استحقاقه سيقودنا ـ شيئاً فشيئاً ـ إلى ضربٍ من الخرافة أيضاً. واللافت في الأمر أن العقل نفسه هو من يفصح عن هذه الحدود والمديات. إذاً فطالما أن الإنسان يعترف بالحدود والنقص انطلاقاً من حكم عقله فهو هنا ملتزم بضرورة دور العقل من جهة ـ أي رفض الخرافة ـ، ومستوعب من جهة أخرى لمبدأ الكفاءة المحدودة للعقل.

 

الخرافة والإسلام ـــــــ

تحتوي النصوص الدينية ـ الكاشفة في معظمها عن أخبار ما وراء العالم ـ على روايات وقصص تحكي عن امتلاك بعض الأنبياء، بل بعض الشخصيات التي لا نبوة أو رسالة لديها، لقدرات خاصة، من قبيل: قدرة عيسى× على إحياء الموتى، وشفاء المرضى من أمراض مستعصية، وكذلك تحول عصا موسى× إلى حية تسعى، وإحضار عرش بلقيس عند سليمان قبل ارتداد الطرف، وغير ذلك من القصص الوارد ذكرها في القرآن الكريم. ومن المعلوم أن تقبُّل الإنسان لهذه القضايا، واعتقاده ببعدها الإعجازي الخارق للعادة، سيخلق أمامه إمكانية تعميم هذا التقبل على حالات أخرى، فيقول بإمكانية وقوع هكذا أمور دون حضور الزمان أو المكان أو الشخص المعين. إلا أن هذا التعميم ـ المتطلِّب لوضع قواعد في استثناء الأشياء ـ سيؤول بنفسه إلى ضرب من الخرافة، ممّا سيفتح باباً في وجه الادعاءات الكاذبة والمنتحلة.

ليس من شك في أن أصحاب الديانات السماوية يرون أنفسهم مؤمنين بالقضايا الغيبية، إلا أنهم ينظرون إليها في حدود طابعها المستثنى من القاعدة العامة للسياقات الطبيعية، ومبدأ العلية العام أو القابل للتطبيق على مجريات هذه القاعدة وذلك المبدأ، فلا ينظرون إلى الموضوع بوصفه قانوناً معمّماً لايعترف بحدود الزمان والمكان، ولا بالفاعل المحدّد والمعين. فهذا من قبيل ما يجري في حقل العلوم، فإن تأسيس بعض النظريات على حساب تهميش جوانب من العملية العلمية والتجريبية سيؤدي بالتالي إلى تجرُّد مدعي تأسيس هذه النظريات عن الطابع العلمي، وإصدار الحكم برفضها أيضاً.

لقد عدّ القرآن الكريم مبدأ محاربة الأوهام والخرافات من منجزات الرسول الأكرم| ومفاخره، وحثّه على الالتزام بواجبه إزاء تطهير العقول من الشوائب، وتحريرها من القيود والأغلال. فقد رفع الرسول| لواء مقارعة الخرافات بشتى أشكالها، خلافاً للعديد من الحكام والسلاطين عبر التاريخ، الذين كانوا يعدون إقبال الشعوب على الخرافة فرصتهم الذهبية في السيطرة على أذانهم وقلوبهم، فعمدوا إلى نشر الخرافات بينهم، والأخذ بنواصيهم. لذا نسمع الآية الكريمة: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ (الأعراف: 157) تطلق صيحتها البليغة والمبشرة بخلاص الإنسان من الأعباء الثقيلة، والسلاسل المكبلة لأذهان عرب الجاهلية وألسنتهم وأيديهم، وهكذا الحال لسائر جهلاء التاريخ، وتنادي بسير البشر نحو الكمال والسعادة بحرية مطلقة، بعيداً عن طرق الضلالة والضياع.

كانت سمة الرسول| البارزة تتلخص في أنه لم يتصدَّ بنفسه لمحاربة الخرافات المضرة بالفرد والمجتمع فحسب، بل كانا يحارب أيضاً الأفكار والعقائد المنحرفة، حتى وإن كانت في بعض الأحيان تلتقي مع بعض المفاهيم الدينية. فهو يحرص دائماً على تنشئة الناس على المنطق واتّباع الدليل، وليس على اتباع الحكايا والخرافات. فمن ذلك ما روي في كتاب المحاسن، للبرقي، بإسنادٍ عن الإمام الكاظم× أنه قال: «لما قبض إبراهيم ابن رسول الله| انكسفت الشمس، فقال الناس: إنما انكسفت الشمس لموت ابن رسول الله|، فصعد رسول الله المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إن كسوف الشمس والقمر آيات من آيات الله، يجريان بأمره، مطيعان له، لا ينكسفان لموت أحد، ولا لحياته…»([3]).

فلا شك أن إشاعة خبر يعلل الكسوف بموت ابن الرسول| سيعزِّز من إيمان الناس به وبرسالته أكثر من ذي قبل، لكنه| لم يرغب في توظيف الخرافات وانطباع عقول الناس بها.

وتقول حليمة السعيدة مرضعة النبي|: «عندما تم له ثلاث سنين قال لي يوماً: يا أماه، ما لي لا أرى أخواي؟ قلت له: يا بني، إنهما يرعيان غنيمات، قال: فما لي لا أخرج معهما؟ قلت: تحب ذلك؟ قال: نعم، فلما أصبح دهنته، وكحلته، وعلقت في عنقه خيطاً فيه جزع يمانية، فنزعها، ثم قال لي: مهلاً يا أماه، فإن معي من يحفظني»([4]).

كان لدى عرب الجاهلية خرافات غاية في الغرابة والسخرية. فعندما كان يموت لهم مبرز في القبيلة يلتزم الأقرباء بنحر بعير في استقبال الضيوف على قبره؛ إكراماً للميت. ومن معتقداتهم أن ملدوغ الحية أو العقرب سيموت إذا كان يحمل وقتها قطعة نحاسية، ولهذا يضعون على عنقه قلادة من الذهب والفضة؛ ليشفى. وإذا عضّ أحدَهم كلبٌ مسعورٌ أخذوا دماً من كبير القبيلة، ووضعوه على موضع الجرح؛ ليشفى!([5]).

كانت هذه الأمثلة وغيرها من الخرافات الأخرى من دواعي تخلفهم الذهني والسلوكي، مقارنة بالشعوب والأقوام من حولهم. ولهذا نجد النبي| يحرص كثيراً على القضاء ـ قدر المستطاع ـ على هذه الأساطير والأوهام، وجلائها من أذهانهم. فقد ورد أنه قال لمعاذ بن جبل، قبيل إرساله إلى اليمن: «…وأَمِتْ أمر الجاهلية؛ إلاّ ما سنّهُ الإسلام، وأظهر أمر الإسلام كله، صغيره وكبيره»([6]).

وهذا ما تدل عليه خطابات القرآن الكريم أيضاً، حيث قال: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ، ﴿أَفَلا يَعْقِلُونَ، ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ؛ إذ إن الرسالة الإلهية في زمن الرسول| كانت عبارة عن انطلاقة في العودة إلى العلم والمعرفة والتعقل، وانتهاء عهد السحر والسحرة وإلقاء الحبال.

تجدر الإشارة إلى أن من بين مديات الدين الثلاثة ـ أي العقائد والأخلاق والأحكام ـ يشتد حضور الخرافة في العقائد والأحكام، أكثر منه في الأخلاق. ولعل ذلك عائد إلى أن حراك الخرافة في الأخير يتضاءل أمام اللابدّيات القيمية، في حين يبدو أن فرص الخرافات أكبر في العقائد والأحكام في التقولب والانخراط داخل حياة الإنسان.

ففي مجال العقائد؛ ونظراً لأن الإيمان بالغيبيات يشكِّل القسم الأوسع للاعتقادات الدينية، تكون الأبواب مشرَّعة أمام دخول العناصر الخفية والمتغيرات اللامرئية الفاعلة في حياة البشر، التي تجد فيها الغيبيات والعوامل الميتافيزيقية نفسها مرحّباً بها. ولذا باتت المعتقدات الخرافية المنسوبة إلى التنظيرات الدينية تأخذ أشكالاً وصوراً متعددة على صعيد هذه الساحة.

وأما بالنسبة إلى الأحكام الفقهية فلعل التسامح في أدلة السنن المستحبة والمكروهة صار سبباً في حضور الحلول والاستنتاجات الخرافية. ففي الوقت الذي يصبّ الفقهاء اهتمامهم على الواجبات والمحرمات؛ نظراً لخطورة الأحكام الملزمة، قياساً بالأحكام غير الملزمة، ويؤسَّس لعمليات إحراز صحة السند والمتن من حيث توافقهما مع أحكام العقل النظرية والعملية، وكذلك نصوص القرآن، تبقى الأحكام غير الملزمة بمنأىً عن مثل هذه التدابير الاحترازية التوثيقية، ولاسيما في إطار القول بالتسامح في أدلة السنن. لذا فإن هذا صار مقدمة ـ من حيث ندري أو لا ندري ـ للتعاطي مع المقترحات الخرافية المندسة.

الهوامش

([1]) فرهنگ معين، ج1.

([2]) معارف ومعاريف 5: 109.

([3]) أحمد بن محمد بن خالد البرقي، المحاسن: 313.

([4]) المجلسي، بحار الأنوار 15: 392.

([5]) للتوسع في الموضوع انظر: محمد هادي اليوسفي الغروي، تاريخ تحقيقي إسلام: 119 ـ 123.

([6]) حسن البحراني، تحف العقول: 25.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً