أحدث المقالات

تختلف مستويات التفكير باختلاف منسوب سقف الحريات في فضاء الفكرة وسقف النقد والتصويب في الذهنية العامة والثقافة الاجتماعية، وهذا الاختلاف ينعكس حتماً على الفهم والممارسة.

فكلما ارتفع سقف الحرية الفكرية ومنسوب النقد والحوار ارتقى وعي الناس، وانعكس ذلك إيجابياً على الفهم والممارسة لها واقعياً على كل المستويات، خصوصاً السياسية والاجتماعية.

وما يحدث من ممارسات تتمايز في تشددها نسبيا منذ وصول التيارات الإسلامية ، حيث راوحت الآراء بين ثقافة المنع والقبول، وغالبا كان منشأ القبول لكثير من الحريات والقبول بالتعدديات لا ينطلق من ثقافة مترسخة تقودها القناعة، بل غالباً كان منشأه ثقافة المصلحة السياسية والاجتماعية، فالقناعة بأصل فكرة حرية الرأي والتعبير تكون ثابتة مهما تغيرت العناوين والمصاديق. أما ثقافة المصلحة، فمتغيرة بتغير الواقع ومواطن القوى، ومرتبطة أيضاً بمحاكاة الظروف الميدانية.

ما يحدث اليوم بعد وصول التيارات الإسلامية من ممارسات يطرح تساؤلاً كبيراً حول علاقة المتشددين دينياً بالدولة، وأصل فهمهم للممارسة السياسية، وللدولة المدنية الحديثة، وعلاقة كل ذلك بالمقدس؟

وكي نخرج برؤية حول القسم الأول من التساؤل، علينا فعلياً تناول القسم الثاني منه، وهو علاقة المتدين بالمقدس، وأثر هذه العلاقة في واقعه، خصوصاً السياسي والاجتماعي.

وسنؤسس لذلك عبر نقطة انطلاق تطرح مجموعة تساؤلات هي: ما حقيقة المقدس؟ وما علاقة الإنسان به؟ وما دور المقدس في حياة الإنسان الاجتماعية والسياسية؟ وما دور المقدس في فهم الإنسان للنص الديني، ومن ثم فهمه لواقع الحياة؟

وكيف نستطيع من هذه التساؤلات فهم علاقة المتشددين بالدولة، وانعكاس ذلك على سلوكهم الاجتماعي والسياسي؟

فما يحدث من أحداث سياسية واجتماعية هو نتيجة وليست صدفة، منطلقات هذه النتائج قاعدة فكرية يتحصن بها المتشددون نتيجة فهمهم للدين، وقراءتهم للنص الديني، وعلاقتهم بالمقدس في واقع الحياة، فأي معالجة لهذا الواقع السياسي القائم لا تتم إلا عبر مناقشة هذه القضايا الجذرية في عمق الفكر وتفكيكها، ومن ثم تشخيص الإشكالات ووضع الحلول المناسبة لها للنهوض بوعي الناس وتوسيع مداركهم واستنطاق دفائن العقول، لأن السلاح الأكثر فاعلية في تقدم أي مجتمع مرتبط بمدى وعيه وإدراكه الفكري والمعرفي وقدرته على تشخيص الخلل من الممارسات الاجتماعية، وكل ما يتعلق بالإنسان، ومن ثم معالجة هذه الإشكالات بأدوات معرفية وواقعية تقدم حلولاً تخدم المجتمع وتنهض بالإنسان كفرد وعضو فاعل في هذا المجتمع.

فالتشدد هو توصيف لفهم إنساني للظاهرة الدينية ينتج عنه سلوك يؤثر في المجتمع والدولة.

والفهم ومخرجات العقل حول الدين هما المحرك الأول للانسان بشكل عام، ويلعب المقدس دورا مهما في هذا السلوك، إذ أنه كما يقول هوبرت "الفكرة الأم في الدين"، "ويظهر المقدس كمقولة حساسة يستند اليها الموقف الديني، حيث تمنحه طابعه المخصوص، وتفرض على المؤمن شعورا خاصا بالاحترام يعطي لإيمانه مناعة ضد روح التمحيص والفحص، ويجعله في منأى عن النقاش، ويجعله خارج العقل وفيما وراءه" كما يقول روجيه كايوا.

والاسلام – كما يصنفه مصطفى ملكيان في كتابه العقلانية والمعنوية- "تارة عبارة عن النصوص الدينية والمذهبية المقدسة للمسلمين، أي مجموع القرآن والأحاديث الصحيحة، وتارة هو مجموعة الشروح والتفاسير والتبيينات والدفاعات الخاصة بالقرآن والأحاديث الصحيحة، أي هو نتاجات المتكلمين وعلماء الأخلاق والفقهاء والفلاسفة والعرفاء وغيرهم من علماء الثقافة الاسلامية، وأحيانا يعرف الاسلام بوصفه جملة الممارسات التي صدرت عن المسلمين طوال التاريخ، علاوة على الآثار والنتائج المترتبة على هذه الأفعال".

وتصنيف كهذا يجعلنا نميز منطقة المقدس ومساحات الدنيوي والبشري بما يمكنه فصل المقدس الحقيقي عن مقدسات فرضتها أفهام وسلوك البشر، وهذا الفصل له من الأهمية الكثير، حيث يمكن أن يعيد صياغة العقل الناقد للانسان بما ينعكس على سلوكه المؤثر في المجتمع والدولة.

وتأتي علاقة الانسان بالمقدس من خلال فهم الانسان للدين وضرورة وجود منطقة في النفس الانسانية تمده دوما بالاطمئنان والمعنوية وهي منطقة المقدس أو ما أطلق عليه الشهيد محمد باقر الصدر فيكتابه مجتمعنا " المثل الأعلى".

فما يتشكل من أفكار وفهم للدين في عقل الانسان يتحول الى أشكال من التفاعل الانساني مع مقدساته بسلوكيات تتخذ إجراءات عديدة لحماية المقدس والتضحية لأجله، للحصول بعد ذلك على كل صنوف العون والنجاح من المقدس كما يتوقعه الانسان المؤمن، فيتحول المقدس إلى منبع كل فاعلية إنسانية تتحرك لحماية هذا المقدس والدفاع عنه، ويكون المجتمع وساحات التفاعل الانساني هما منطقة اشتغال المؤمن في علاقته مع المقدس.

فالمقدس هو صفة تضفيها جهة قادرة علوية محيطة فوق بشرية على كل ما يترشح عنها عن طريق الوحي بما يمثل شريعة لدين إلهي لا مدخلية بشرية فيه ، بحيث يصبح تطبيقه والدفاع عنه لدرجة بذل النفس لأجله ضرورة انسانية دنيوية قبل آخروية هدفها صيانة الانسان وحفظ كرامته.

وكل ما هو خارج هذه الصبغة القدسية الالهية للدين الحقيقي بشريعته الصحيحة هو مقدسات بشرية أضفى عليها الانسان صبغة قدسية تحولت مع التراكم الزمني الى مقدسات فاعلة مع أنها – واقعا – وهمية وليست حقيقية، لكنها أثرت بشكل كبير في حياة الانسان في الدنيا وهي نتاج فهم بشري لا غير. وهو ما يتطلب تمحيصا وفحصا لفصل المقدس الالهي عن البشري لما لذلك من أثر كبير في حياة الانسان وكرامته، إلا أن المعني بهذا التمحيص والفحص هم أهل التخصص وأهل التحقيق، وآليات ذلك تعتمد على المرحلية وعدم الصدام ووفق قاعدة درء المفسدة أولى من جلب المصلحة، وهو ما يعني النظر في كيفية التفكيك بين الانسان والمقدس غير الالهي لحساسية الرابطة بين الطرفين.

ولكن كيف ينعكس فهم الانسان للمقدس على واقعه الاجتماعي والسياسي؟

 علاقة الإنسان وخصوصا المتشددين دينيا بالمقدس نستطيع أن نخلص منها إلى تصور حول المنشأ الفكري الذي يتحرك منه هؤلاء، وكيف يتفاعلون مع واقعهم من خلاله، وكيف يمكن معالجة ذلك للتخفيف من شدة الصراعات التي تتمظهر بمجموعة من الممارسات السياسية والاجتماعية، وتنعكس سلبا على حالة الاستقرار الاجتماعي والأمن الوطني.

وكما ذكرنا أنفا أن الإسلام ينقسم – حسب ملكيان – إلى ثلاثة أقسام ووفقا لهذه الأقسام نستطيع أيضا توضيح مساحات العلاقة بين المقدس والعقل وكيف يمكن أن نعقلن فهمنا للمقدسات.

فالاسلام الأول، أي الذي هو عبارة عن النصوص الدينية والمذهبية المقدسة للمسلمين، أي مجموع القرآن والأحاديث الصحيحة، وحيث أن المسلمين منقسمون إلى مذاهب يعود فيها كل مذهب إلى القرآن ومجموعة ما توصل إليه من أحاديث صحيحة، فتكون العلاقة هنا مباشرة مع النص بما هو نص بغض النظر عن فهمه، وتعتبر هذه النصوص بذاتها مقدسة لأن منشأها هو الله وبالتالي تصبح نصوصا مقدسة بذاتها، والقرآن كتاب مقدس مجمع عليه ككلام ومحتوى لدى المسلمين، إلا أن الخلاف يأتي في منطقة النصوص الدينية والمذهبية للمسلمين من حيث توثيق السند وهو ما يختص به علم الرجال، أو توثيق المتن والذي تكون مرجعيته في التوثيق القرآن الكريم.

فما قد يعد عند بعض المذاهب معتبرا وصحيحا قد لا يعد عند الآخرين معتبرا وصحيحا، وهنا يختلف بذلك مستوى قدسية النص، فما يعد مقدسا لدى مذهب قد لا يعد مقدسا لدى آخر، هذا الاختلاف في مستوى المقدس ينشأ عنه اختلاف في منشأ الفكر والعقيدة وبالتالي اختلاف في التفاعل مع المقدس في ساحات الفعل الاجتماعي والسياسي.

في هذه المنطقة يأتي دور العقل في عقلنة هذه المقدسات من ناحية الدليل أو البرهان العلمي الذي يعتبر حجة في إثبات حقيقة السند والمتن، وبالتالي يوثق القدسية أو يضعفها، ومن ناحية أخرى يرشد العقل في ساحة التفاعل الانساني معه، فما يثبت بالدليل أو البرهان كنص فهو مقدس، ولكن تأتي مرحلة ما بعد الاثبات وهو الثبوت أي الفعل والواقع في كيفية التعاطي مع مقدسات الآخرين وما هي الأولوية في كل مقام، ففي مرحلة تكون الأولوية وفق تشخيص العقل وظروف الزمان والمكان للإنسان على حساب المقدس، وفي مرحلة تكون للمقدس على حساب الإنسان، هذه التشخيصات يفترض أن تحقق مسألة الأمان الاجتماعي والسياسي وتقضي على كل فوضى وفتنة غالبا ما تستخدم فيها المقدسات غير المتفق عليها في ضرب إسفين الخلاف في المجتمعات الإنسانية، فمثلا نلحظ أن أي إثارات هي إثارات في المقدس وغالبا في المقدسات المختلف عليها، أي هي مقدسات نسبية وليست ثابتة، فعلى سبيل المثال الكعبة «مقدس» لدى كل المسلمين فلا نلحظ أي إثارة حولها لأنها «مقدس» مجمع عليه، ولكن المراقد المطهرة لأئمة أهل البيت عليهم السلام هي مقدسات نسبية غير مجمع عليها، فإذا ما أراد الآخرون إشغال الأمة عما هو أهم قاموا بضرب تلك المراقد، كما حدث حينما فجرت المراقد في سامراء، وكان موقف المرجعيات الدينية السنية والشيعية في ذلك الوقت حازما ولكنها مارست أعلى حالة من الضبط وخففت من حالات رد الفعل على ما حدث، في توظيف للعقل في مصلحة الإنسان على حساب المقدس باعتبار أن انفلات الأمور سيؤدي بلا ريب لاشتعال نيران الفتنة.

أو كما حدث في فتنة النيل من زوجة النبي عائشة وقامت بعض المراجع الدينية باصدار فتوى تحرم المس بالسيدة عائشة كما فعل السيد علي الخامنئي.

إذا هنا يوظف العقل في ضبط القداسة والتفاعل الإنساني معها كي تحقق حالة الاستقرار والأمن الاجتماعي وتقي الأمة مما هو أعظم.

عادة ما يقع الخلط في موضوع المقدس بين النص وفهم النص وبين النظرية والممارسة، والذي أثارته كعاصفة تساؤلات تجربة الغرب مع الكنيسة، وأثر هذه التجربة في واقع الإنسان ومن ثم المجتمع.

 فبينما في الإسلام نجد أن لا قدسية إلا لما قدسه الله تعالى، إلا أن الناس في عمق لاوعيها تمارس دور الله في إضفاء القدسية على الأمور.

فالقداسة تارة تكون لمخرجات الوحي الإلهي ذاتية، وتارة تكون لأشخاص بعينهم قدسهم الله لأنهم وسائطه للناس، فقدسيتهم مكتسبة وعرضة للزوال كما صرح القرآن بذلك في حال لم يلتزموا ما أمرهم الله به، فهو قادر على استبدالهم.

فالنص الوحياني القرآني والروائي الموثق سندا ومتنا، هو مقدس بذاته لأنه قول الله، ولا يمكن أن تزول قدسيته، وأما الأشخاص كالأنبياء والأوصياء والأولياء فقدسيتهم مكتسبة وعرضة للزوال في حال نقضت شروط القدسية التي أملاها الله عليهم، فقدسيتهم مرتبطة بالتزامهم بالنهج الإلهي والوحي.

وقصة بلعم بن باعورة التي ذكرها القرآن خير دليل على قاعدة الاستبدال وزوال القدسية بنقض شروطها.

والإسلام بما هو مجموعة الشروح والتفاسير والتبيينات والدفاعات الخاصة بالقرآن والأحاديث الصحيحة، أي نتاجات المتكلمين وعلماء الأخلاق والفقهاء والفلاسفة والعرفاء وغيرهم من علماء الثقافة الإسلامية هو فهم بشري لأشخاص امتلكوا مواصفات العلم والورع والتقوى، إلا أن صفة القداسة ألحقت بهم من قبل الناس لأسباب أهمها: -سطوة سلطة العلم وإرهابها على المحيط لعبقرية وإبداع هؤلاء.

 

– التزام هؤلاء بأسس التقوى والورع والتزامهم نهج الأنبياء والأولياء.

 واجتماع هذين السببين كان جديرا في إضفاء صفة القدسية عليهم.

ومع التراكم التاريخي أصبحوا رموزا دينية أو مذهبية مقدسة لا تمس أقوالهم ولا أفهامهم للدين، ولا تنقد شخصياتهم، وكأنهم معصومون من قبل الله، رغم أنهم ليسوا أنبياء ولا أوصياء.

وهنا يقع الخلط لدى الكثيرين، ومنهم علماء ونخب، في عدم المس بأقوال وفهم هذه الرموز، ويأتي هنا دور العقل في التمحيص والتمييز، إذ أنه لا قداسة لفهم هؤلاء للدين، بل أفكارهم وأقوالهم هي عرضة للنقد والتقييم والتصويب وفق مبادئ علمية تعتمد الدليل والبرهان والموضوعية في عملية النقد وإعادة النظر، خاصة مع تبدل الزمان والمكان. وحتى أشخاصهم تقيّم من خلال مدى الالتزام بالنهج الرباني، فلا قدسية إلا ضمن هذه المعايير.

ومن هنا تنطلق معضلة التشدد والتمسّك بالسلف بطريقة غير موضوعية تقصي العقل وتهمل نظرية الزمان والمكان في قراءة هؤلاء، وتحوّلهم إلى مقدسات كأشخاص وكأفهام، مما يدفع بأتباعهم المرتبطين فكريا وعقديا بهم إلى الالتزام نصا بكل ما ورد عنهم نظرية وتطبيقا، رغم المسافة الزمنية الفاصلة بيننا وبينهم، ورغم التطورات الكبيرة التي طرأت على العقل البشري وقراءته للنصوص.

ومع وجود جماعات دينية تلتزم بشكل نصي بما توصل له السلف من أفهام بشرية للنصوص الدينية، تتمايز بتمايزها المقدسات، فينعكس ذلك على تنوع ألوان طيف المجتمع، وتنوع الممارسات الناشئة عن هذا الالتزام.

تكمن عادة المشكلة في كيفية التوليف بين هذا الالتزام بالمقدس، والعلاقة بالدولة التي تحكمها أطر قانونية ودستورية، والعلاقة بالمجتمع المتنوع في مشاربه ومقدساته.

بالطبع من أهم مقاصد الشرائع والأديان السماوية كافة هو العدالة وحفظ الكرامات، وفرع العدالة أي المساواة وحفظ الحقوق الإنسانية، بما يحقق العدالة والكرامة، وحماية الحريات بما يحفظ كيانية المجتمع واستقراره.

ومادمنا نعيش في مجتمعات تتمايز فيها المشارب الدينية والمذهبية، فإن هذا التمايز يوجد تمايزا في المقدسات والرموز المقدسة، بما ينعكس على استقرار المجتمع وأمنه، ولقد عالج القرآن الكريم هذا من خلال النهي عن سب آلهة الآخرين، حتى لا يعتدوا على آلهتنا، ولعل الإله هنا أعلى جهة مقدسة للإنسان، وتم النهي القرآني عن التعدي عليه، فإن ما دونها أيضا أولى بالاحترام وعدم التعدي، وهي مسألة عامة ومنطبقة على الجميع تجاه الجميع.

وفي نظام الدولة التي تؤمن بالتعددية الدينية والسياسية والتعدديات كافة، فإن الضابطة لا تكون بحكم الأغلبية على الأقلية، بحيث يجيز لها استباحة مقدسات الأقليات أو تشريع قوانين تنافي مقاصد الشرع والنهي القرآني، بل الضابطة هي ما ذكرناه سابقا كنص قرآني ناه عن التعدي بحق الجميع.

فبالنسبة إلى العلاقات داخل المجتمع ما يحكمها هو أسس التعايش، كما ذكر القرآن وكقاعدة قيمية تتناسب وجميع أذواق البشر وفطرتهم، وتقرها العقول وهي: «وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، فالتعايش والتعارف وقبول الآخر في داخل المجتمع هو ما يجب أن يكون الحاكم والضابط للتمايز والتنوع، ولا يجيز لفئة فرض مقدساتها على فئة أخرى استمزاجا، بل الاحتكام يكون للقانون الذي تسنه الدولة في هذا الاتجاه.

أما على مستوى العلاقة بالدولة، فيكون من خلال سن الدولة لقوانين تضبط قضية التميز والتنوع بما يحقق العدالة والمساواة، ويحفظ الكرامات ويحقق الحريات العامة.

وفي التشريع لأي قوانين جزائية للحفاظ على المقدسات من قبل السلطات التي تدير الدولة، فإن هذا التشريع عليه أن يراعي كل الشرائط والأسس والضوابط التي تحقق العدالة، ولا تنطلق من استمزاجات ورغبات شخصية أو من مقدسات جهة على حساب جهة أخرى، وحتى في حال شرعت قوانين تمنع التعدي على رموز ومقدسات أطياف المجتمع، فإن القوانين لابد أن تراعي كل الضوابط التي تحقق العدل والعدالة ولا توقع الظلم.

فالقانون كي يكون قابلا للتنفيذ لابد أن يستشعر فيه قابلية التنفيذ في داخل المجتمع، وهو ما يأخذ بالحسبان تحقيقه للعدالة، وعدم سلبه للحريات، وعدم تعديه على الكرامات أو تسببه في الظلم والانتهاك.

فعلى مستوى التعايش في داخل المجتمع تسن قوانين ضابطة ومحققة لهذا التعايش ضمن أطر العدالة وحفظ الكرامات، وعلى مستوى الدولة وعلاقتها بأطياف المجتمع كافة، فإن السلطات معنية بسن قوانين رادعة للتعدي الذي يضر باستقرار الدولة والمجتمع ويخل بأمنه، ولكنه رادع يحقق العدالة ويحفظ الكرامات.

ولذلك ما يضبط حركة الجماعات المتشددة دينيا الملتزمة نصا بأفهام بشرية للأديان هو القوانين التي تنظم علاقتها بالمجتمع من جهة، وبالدولة من جهة أخرى، بحيث لا تفرض هذه الجماعة من خلال علاقتها بالمقدس رؤاها وأفكارها على باقي أطياف المجتمع بطريقة غير عادلة أو سالبة للكرامة، أو مضيقة للحريات تحت ذريعة تطبيق ما يؤمن به في مقدساته المستوحاة من أفهام بشرية عرضة للتمحيص والنقد.

إلا أن الإشكالية تقع في مدى إيمان هذه الجماعات المتشددة بالدولة المدنية وبالديموقراطية كنظام حكم ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم ، وهو سؤال له علاقة أيضا في مدى ارتباط هذه الجماعات بالمقدس وخاصة فيما يتعلق بالتأسي بسلوك الرموز الدينية المقدسة لديهم عبر التاريخ في قيادة الدولة والمجتمع، وهو ما يتطلب بحثا آخرا يتعلق في كيفية استقراء التاريخ وغائية الحراك التاريخي لهذه الرموز ، ودور الزمان والمكان في هذا الاستقراء ، وهو ما قد نوضحه في أبحاث أخرى.


Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً