أحدث المقالات

محمد عباس دهيني

مهما غالى به بعضٌ أو استخفّ به آخرون يبقى هو العنوان الأهمّ في مسار الحركات الإسلاميّة الواعية، والتائقة لنجاة وخلاص الأمّة. ففي حَمْأة التحريض الطائفيّ والمذهبيّ المُتبادَل، والذي توسَّعَتْ دائرتُه، ودخل إلى كلِّ بيتٍ، عبر شاشاتِ قنوات الفتنة وبثّ الفِرْقة بين المواطنين، على اختلاف أديانهم، بل بين المسلمين أنفسِهم، بل رُبَما وصل الأمر إلى تحريض الأخ على أخيه في المذهب الواحد؛ لتباينٍ في بعض الآراء والأفكار والرُّؤى هنا وهناك، في مثل هذه الظروف لا يَجِدُ الداعيةُ والمبلِّغ مَفَرّاً من التركيز في كلِّ مناسبةٍ على موضوع الوحدة بين المسلمين، والتعايش بين أهل الأديان السماويّة كافّةً، وصولاً إلى التواصل بين الأمم والشعوب على اختلاف انتماءاتها العَقْديّة والسُّلُوكيّة.

أَلَمْ يقرأْ المسلمون في كتاب الله العزيز ما يدعوهم إلى الوحدة فيما بينهم؟! فلماذا يخشَوْن الوحدة الحقيقيّة الكاملة؟! لعلّهم يختلفون في ماهيَّتها ومفهومها. فماذا تعني الوحدة بين المسلمين؟

الوحدة بين المسلمين، الماهيّة والمفهوم

تُتصوَّر للوحدة الإسلاميّة عدّةُ معانٍ:

1ـ فالبعض يحاول ربط مفهوم الوحدة بمفهوم الأُخوّة، وكأنّه يستلهم ذلك من قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات: 10).

وهذا المعنى يستلزم أن يكون المسلمُ سَنَد المسلم في المُلِمّات والشدائد، بعيداً عن أيّ تحريضٍ وعداوةٍ وبغضاءَ وعصبيّةٍ وصراعٍ.

2ـ ويذهب آخرون إلى اعتبار قوام الوحدة الإسلاميّة في أن يكون للمسلمين جميعاً نظامُ حكمٍ واحدٌ، سواء أسمَيْناه (الخلافة) أو (الدولة).

3ـ ويشير قسمٌ ثالث إلى أنّ معنى الوحدة الإسلاميّة أن لا يكون هناك سُنِّيٌّ وشيعيّ، بل جمعٌ من المسلمين، لا يتميَّزون عن بعضهم.

وأعتقد أنّ المعنيين الأخيرين هما اللذان شكَّلا ويشكِّلان مانعاً أمام السعي الجادّ للوحدة بين المسلمين.

ـ ما معنى أن يكون للمسلمين جميعاً نظامُ حكمٍ واحدٌ؟ قد يكون هذا الطَّرْح   ـ للوَهْلة الأولى ـ جَذّاباً، ولكنّه بعد تأمُّلٍ وتفكير سيُشكِّل هاجساً مخيفاً لكلِّ مَنْ يرى أنّه أقلِّيّةٌ عَدَديّة يمكن أن تذوب وتتلاشى في مثل نظامٍ كهذا.

إذن فَلْيَبْقَ الشِّعار، ولكنْ لا لأيِّ ترجمةٍ عمليّةٍ له.

ـ ماذا يعني أن لا يكون هناك شيعيٌّ وسُنِّيّ؟ هذا يعني دعوةً غيرَ صريحة لتخلّي السنّيّ عن معتقداته والأحكام الشرعيّة التي نشأ عليها، وورثها عن أسلافه منذ زمنٍ بعيد.

وهكذا هي دعوةٌ مبطَّنةٌ للشيعيّ كي يتخلّى عن منظومته الفكريّة، في العقيدة والشريعة، مُهْمِلاً كلَّ ما بذله العلماءُ الماضون من جُهْدٍ في تأسيس وتأصيل هذه الأفكار والمبادئ.

إذن سيسود جرّاء هذا التفسير للوحدة الإسلاميّة هاجسُ الفناء والتلاشي والقضاء الاختياريّ على الذات، وبالتالي لم ولن نشهد جُهْداً كافياً لتحقيق الوحدة الواقعيّة بين المسلمين.

والحَقُّ أنّ الوحدة الإسلاميّة ليست بالمعنيَيْن المذكورَيْن.

فنحن اليوم نعيش عصر الدُّوَل المستقلّة، ولا أُفُقَ لأيِّ حديثٍ عن دولةٍ إسلاميّة واحدة، أو نظامِ خلافةٍ شاملٍ لكلِّ بلاد المسلمين.

كما أنّ الشيعيّ لن يتخلّى عن تشيُّعه، وكذلك السُّنِّيّ. وليس مطلوباً منهما ذلك.

وإنّما كانت الدعوة إلى الوحدة بين المسلمين، والتعايش بين أهل الأديان كافّةً، والتواصل الحضاريّ بين البشر جميعاً، لبناء مجتمعٍ يقِلّ أو يكاد ينعدم فيه الخلاف، وإنْ بقي الاختلاف، وتزول منه الصراعات والحروب.

إذن ليس المطلوب أن نتناسى ما نختلف فيه، كمسلمين، أو كأتباع مذهبٍ واحدٍ نختلف في عقيدةٍ هنا وحكمٍ شرعيّ هناك، وإنّما المطلوبُ تنظيمُ هذا الاختلاف، بحيث لا يؤدّي إلى الخلاف والتقاتل، والتلاعن، والتكفير، والتضليل، والتراشق بالتُّهَم ـ وأغلبُها باطلٌ، وليس بثابتٍ على الطَّرَف الآخر، وإنّما هي نتاج الوَهْم والاشتباه والخطأ في الفَهْم؛ بسبب العصبيّة المقيتة ـ.

إنّ الاختلاف في الرأي والاجتهاد حقٌّ مشروعٌ، ما لم يكن قِبال نصٍّ إلهيّ أو نَبَويّ أو وَلَويّ معصومٍ، فينبغي أن يُتَّبَع.

ولكنَّ الممنوع والمحظور أن يَصِلَ الاختلاف إلى حالةٍ من الخلاف والتخالف والتخلُّف، بحيث يتنافرون، ويتقطَّعون أمرهم، ويقتُل بعضُهم بعضاً.

وقد يسأل البعضُ: إلامَ تهدفون من الدعوة إلى الوحدة الإسلاميّة؟ أليس انتصارُ هذا المذهب أو ذاك، وكلٌّ يعتبر نفسه على حقٍّ وهدى، كافياً لبناء المجتمع الصالح المَرْضِيّ لله عزَّ وجلَّ؟

الهدف من تحقيق الوحدة الإسلاميّة

هي أهدافٌ كثيرةٌ، ولكنَّنا سنتناول ثلاثةً منها على وجه الخصوص؛ لأهمّيتها:

1ـ بناء الإنسان الصالح والمجتمع السويّ: فمن النادر أن نشهد إنساناً صالحاً وَرِعاً في مجتمعٍ مليءٍ بالعداوة والحِقْد والعَصَبيّة، وصولاً إلى حدّ التلاعُن والتكفير والتضليل وتبادل التُّهَم، واختتاماً بالضَّرْب أو الجَرْح أو القَتْل.

في مجتمعٍ كهذا يصعب أن يسلم للإنسان دينٌ أو خُلُقٌ أو فكرٌ. فالفعل سيقابله ردّةُ فعلٍ ـ وهذا طبعٌ إنسانيّ ـ، ثمّ تنجرُّ الأمور إلى ما لا تُحْمَد عُقْباه، في الدنيا والآخرة.

حين يتمّ الافتراء على قومٍ، فيُنسَب إليهم ما لم يقولوه أو يفعلوه، أو تُحرَّف وتُقطَّع كلماتُهم، لتظهر في أبشع صورةٍ، وأقبح طَرْحٍ، فمن الطبيعيّ جدّاً أن تجد من هؤلاء كُثُراً يَسْعَوْن للبحث عن بعض السَّقَطات والزَّلاّت عند الطَّرَف الأوّل. وهكذا تشتعل الحربُ الكلاميّة بينهم، ولا تخلو في أغلب الأحيان من تجريحٍ وتشكيكٍ ولَعْنٍ وشَتْمٍ. فهل هذا هو مظهر المجتمع الإسلاميّ الصالح؟!

من هنا نفهم لماذا وقف أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب×، وقد سمع بعضَ أصحابه في صِفِّين يَسُبُّون أهلَ الشّام، وقف لينهاهم عن فعلهم هذا. أَيُقاتلُهم ويمنعُ سبَّهم؟! نعم، لأنّ المعركة ستضع أوزارها عاجِلاً أو آجِلاً، وهو يريد أن يبقى لأفراد المجتمع الإسلاميّ بعد المعركة بقيّةٌ من صلاحٍ ووَرَعٍ وأخلاقٍ، ولذلك قال× لأصحابه: «إنّي أَكْرهُ لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنّكم لو وصفتُم أعمالَهم، وذكرتُم حالَهم، كان أصوبَ في القَوْل، وأبلغَ في العُذْر، وقلتُمْ مكانَ سَبِّكم إيّاهم: اللهُمَّ احقِنْ دماءَنا ودماءَهم، وأصلِحْ ذاتَ بيننا وبينهم، واهْدِهم من ضلالتهم؛ حتّى يعرف الحقَّ مَنْ جَهِلَه، ويَرْعَوي عن الغَيِّ والعُدْوان مَنْ لَهِجَ به» (نهج البلاغة 2: 185 ـ 186).

وفي كلامه× هذا إشارةٌ إلى لزوم حَصْر الخلاف بالفعل، فلا يتعدّى إلى الفاعل، فالخصومة والمواجهة إنما هي للفعل نفسه، وأمّا الفاعل فهو امرؤٌ قد أخطأ، ونحاول إصلاحه، لا إسقاطه.

2ـ الحفاظ على الاحترام بين الأُمَم: فلا يعتقدنّ أحدٌ أنّ سائر الأُمَم تميِّز بين مذهبٍ وآخر في الأمّة الإسلاميّة. فهم يتعاملون معنا على أنّنا واحدٌ لا يتجزّأ.

وهذا ما شهدناه في ما قام به بعض الحاقدين من رسومٍ مسيئة للنبيّ|، أو إنتاج أفلامٍ تخدش في سلوكه الشخصيّ والتبليغيّ.

وبعض الذي ذكروه موجودٌ في بعض تراثنا الحديثيّ غير النقيّ، تراث السنّة والشيعة على السواء. ولكنْ هل ميَّز أولئك الحاقدون بين مذهبٍ وآخر، أو بين منظومةٍ فكريّة هنا وأخرى هناك؟ أبداً، فهذه بنظرهم سلوكيّاتُ نبيِّ الإسلام والمسلمين، بجميع مذاهبهم وفِرَقِهم. ولذلك شَنُّوا حملةً شَعْواء على كلِّ ما يَمُتُّ إلى الإسلام بِصِلَةٍ، ولو لم يكن يرتضي مثل تلك السلوكيّات المنسوبة كَذِباً وزُوراً إلى نبيِّنا الأكرم محمد|.

أمّا لو كانت الوحدة الإسلاميّة قائمةً بحقٍّ بين المسلمين، وكانوا قد تباحثوا وتحاوروا فيما بينهم، بهدوءٍ ورَوِيّةٍ، وبعيداً عن أيّ عَصَبيّةٍ، في صحّة نسبة هذه الأخبار ـ التي لا نشكّ للحظةٍ أنّها موضوعةٌ مدسوسةٌ ـ، لكانوا قد أزالوها من الكتب، وسَدُّوا الباب مُحْكَماً أمام كلِّ حاقدٍ، يستهدف الإساءة للإسلام وأهله.

3ـ تحقيق الانتصار على الأعداء: وهذا لا يمكن أن يكون إلاّ بتضافر الجهود، ورَصِّ الصفوف، ووحدة الموقف في القضايا الكبرى، التي تمسّ أمن المجتمع الإسلاميّ أو اقتصاده أو سياسته.

آليّات ترسيخ الوحدة الإسلاميّة

لا يكفي أن ندعو إلى الوحدة بين المسلمين، وأن نعقد المؤتمرات بين فترةٍ وأخرى؛ إذ ليس للدعوة إلى الوحدة الإسلاميّة أيُّ قيمةٍ ما لم تَقْترِنْ بالعَمَل الجادّ لتحقيق هذه الوحدة في الخارج.

ولأجل تحقيق وترسيخ هذه الوحدة لا بُدّ من اعتماد آليّاتٍ خاصّة، تتوفَّر على حظٍّ من النجاح في هذا المجال. وأهمُّ تلك السُّبُل:

1ـ تصفية القلوب والنوايا: فمن المهمّ جدّاً أن يُحْسِن المسلمون الظنّ ببعضهم، ويحمل كلٌّ منهم أخاه على مئات المحامل الحَسَنة، التي لن يفقدها في كلّ موقفٍ وحَدَثٍ.

ومن المفيد جدّاً في مجال ترسيخ الوحدة الإسلاميّة أن يتحلَّى المسلمُ بصفة أن يُحِبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه، ويكره له ما يكره لها. فكما يكره كلُّ إنسانٍ أن يفتري عليه الآخرون ما لم يقُلْه أو يعمَلْه فعليه أن يتحرّى كاملَ الدِّقّة في ما ينقله عن الآخرين من قَوْلٍ أو فِعْل؛ كي لا يقع، ولو من حيث لا يريد؛ بسبب التعصُّب والرغبة في التشفّي وردِّ العدوان إذا كان، في محذور النَّقْل الخاطئ أو المجتزأ. وهو ما يزيد الشَّرْخ، ويعمِّق الهُوّة، ويثير البلابل والقلاقل، ورُبَما كانت فتنةٌ من كلمةٍ. فمَنْ يتحمَّل المسؤوليّة؟!

2ـ العودة إلى ضوابط وحدود القرآن: فعندما دعا القرآن الكريم للحوار بين الأديان، وهو أوّل مَنْ دعا إلى ذلك ـ وللأسف فقد انحرف اليوم عن مساره  الصحيح ـ، وضع ضوابطَ لهذا الحوار، ومنع من تجاوزها، حيث قال: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لا نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران: 64)، وقال أيضاً: ﴿وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (العنكبوت: 46).

فلا بُدّ من الالتزام بهذه الضوابط، في حوار الأديان، وحوار المذاهب، وحوار الفِرَق والمِلَل والنِّحَل.

3ـ إظهار المشتركات ومساحات التوافق: وهي كثيرةٌ جدّاً، فلا تقاربها ـ عدداً وسعةً ـ مواردُ الاختلاف، ولكنّ ذلك يحتاج إلى وَعْيٍ رساليٍّ، وبصيرةٍ إيمانيّةٍ، وتخطيطٍ هادفٍ، وجُهْدٍ كبيرٍ، ولا سيَّما في المجالات العلميّة، كالأبحاث والدراسات المقارنة، التي تسلِّط الضوء بوضوحٍ على مساحات التوافق في العقيدة والشريعة، والجذور المشتركة لكثيرٍ من القواعد والمبادئ التي يؤمن بها هذا الفريق أو ذاك.

وفي هذا السياق لا بُدّ من التنبيه والتحذير من أبواق الفتنة، سواءٌ كانوا أشخاصاً أو جمعيّاتٍ أو إذاعاتٍ أو قنواتٍ تلفزيونيّةً، الذين لا هَمَّ لهم، بل هي وظيفتُهم الحرام وغير الشرعيّة، التي يتقاضَوْن الأَجْر عليها، لإثارة النَّعَرات بين السُّنَّة والشيعة، وبين هذا المَرْجِع وذاك، وبين المسلمين والمسيحيّين، وبين الشَّرْق والغَرْب، وبين العَرَب والفُرْس، وما إلى ذلك.

إنّهم أبواقُ الفتنة، إنّهم أعوانُ إبليس، فلا يجوز الاستماع إليهم، فـ «مَنْ أَصْغى إلى ناطقٍ فقد عَبَدَه؛ فإنْ كان الناطقُ يُؤَدّي عن الله عزَّ وجلَّ فقد عَبَدَ الله؛ وإنْ كان الناطقُ يُؤَدّي عن الشيطان فقد عَبَدَ الشيطان» (الكليني، الكافي 6: 434، حديث الإمام الجواد×).

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً