أحدث المقالات

 


إيمان شمس الدين

المقدس ما قابل المدنس وهو ما يرتبط بشيء متعال,وغالبا المقدسات لها ارتباط ديني حيث تميل فطرة الإنسان إلى الرمز والارتباط الحسي بالموجودات المحيطة فالإنسان حسي الطبع.

ولكن هل كل ما أسبغ الإنسان عليه صفة القدسية هو من المقدسات؟
أم أن هناك مقدسات بشرية تحولت إلى أصنام في الحياة أصبحت محورا لسلوك الانسان وفعله الاخلاقي والاجتماعي وانفعالاته بكافة مصاديقها؟

في واقع الأمر أننا لا ننكر أن هناك مقدسات واقعية أضفت عليها القدسية من قبل الله تعالى ,وهو ما أثبته النص وأقر به العقل ومصاديقه كثيرة,كذات الله المقدسة وذوات الانبياء والمعصومين الذين عصمهم الله عن الخطأ والدنس والزلل وككرامة الإنسان والكتب السماوية الصحيحة, وغيرها من المقدسات التي إما هي بذاتها مقدسة كذات الله القدوس,أو افاض عليها الله تعالى القدسية من ذاته فأصبحت مقدسة بالعرض,وهو ما يجب أن نتوصل إليه بالعقل والأدلة العلمية المعتمدة,فالاجماع ليس دليل على قداسة الشيء بل العلمية والدليل العقلي والنقلي المعتمد هو طريقنا إلى المقدسات.

ولكن دأبت البشرية على صناعة مقدسات خاصة بها,ويذكر لنا التاريخ كثيرا منها كالأصنام وغيرها التي أضفى عليها البشر صفة القدسية وحولوها إلى مقدسات يعتبر المساس بها حكما بالاعدام.

مما انعكس على السلوك الاجتماعي للفرد والمجتمع والدولة وبات الجميع رهين هذه المقدسات في رؤيته للحياة والكون,وكان لهذا دورا كبيرا في صناعة التخلف وغلق الذات في صناديق مظلمة بعيدة عن نور العلم والحقيقة.

ولعل أبرز مثال على ذلك هو عصور الظلام التي عاشتها أوروبا في ظل الحكم الكنسي ومحاكم التفتيش التي أضاعت الكثير من العلوم لمعارضتها مع الكتاب المقدس الذي شابه التحريف المثبت بأدلة قطعية وليس هنا مجال بحثها. 

ومن الانصاف بمكان أيضا أن نتكلم عن ممارسات كنسية تحدث في أوساط المسلمين وخاصة كثير من علمائهم, حينما تطرح فكرة للبحث خارجة عن المألوف والمشهور والإجماع ,فكرة تعيد النظر في التراث والموروث,إما تنقد شعيرة أو تنقد سلوك لشخصية تاريخية وتعيد النظر بها,أو تنقد معتقدا وفق أدلة علمية ونقلية وعقلية تحليلية قد توصلنا إلى منطقة أكثر وضوحا في معرفة الحقيقة.

فكما كانت الكنيسة ترغم الشخص وتعذبه جسديا للرجوع عن أفكاره والاقرار بما جاء في الكتاب المقدس حتى لو خالف العقل والعلم,ففي أوساطنا يتم الامر بصورة مغايرة ولكنها لا تقل في تأثيراتها وأبعادها عن طريقة الكنيسة , وهي إسقاط الشخص اجتماعيا وخاصة في دائرة المؤسسات العلمية ومهاجمته شخصيا مما يسهل عمليا قتل الفكرة في مهدها وكفى الله المؤمنين شر القتال, بدل مناقشة الفكرة بالدليل العقلي والنقلي وبطريقة علمية وموضوعية, كما أمرنا به الإمام علي عليه السلام حيث قال:"انظر إلى ما قيل ولا تنظر إلى من قال" والتي لها مجالاتها الواسعة أيضا ليس هنا محل بحثها,وهو ما سيثري الساحة العلمية بالحوار الخلاق ويزيد من مساحات إبداع العقل الانساني وينعكس على العلوم والثقافات والسلوك الإنساني خاصة.

ولا ننكر أن هناك دوائر يتم فيها هذا الشيء أي الحوار العلمي للافكار دون النظر للأشخاص ولكن الطابع الذي يغلب على هذه المؤسسات الدينية هو طابع التشهير والاسقاط الاجتماعي الذي يؤدي أوتوماتيكيا إلى سقوط الفكرة وإن كانت هذه الفكرة بوابة للحقيقة .

وواقع الأمر أن أصل رسالة الأنبياء وجهادهم جاء ليخلص البشرية من هذه المقدسات المصنوعة أو هذه الأصنام, التي أدت إلى تأطير العقل والحجر عليه وخنقت صفة الابداع في الانسان وكبلت خلاقية العقل في التفكير والابتكار.

فالتوحيد بأصله هو تحرير للانسان من كل صنم حوله عقله القاصر أو ظروفه المحيطة إلى مقدس لا يمكن الاقتراب منه أو نقده أو تقييمه.

وهناك بطبيعة الحال فرق كبير بين التعدي والسب والتطاول على رموز وإن كانت حقيقة غير مقدسة ,وبين دعوة الشريعة إلى النظر وإعمال العقل في النقد والتقييم للسلوك والمنهج واستخلاص العبر من هذه الرموز التاريخية التي لم يفض عليها الله صفة القدسية.

واليوم في راهننا أضحت المقدسات كثيرة,منها القبيلة و العائلة و الذات و الرموز التاريخية وعلماء الدين وغيرها من المقدسات التي ليس لها أصل قداسي من الله وهلم جر, أصنام لم يجعل الله لها من سلطان حيث حولتها التعصبات إلى مقدسات حجرت على العقول من التفكير والابداع وحولتها إلى عقول ديموغاجية مغلقة شمولية ,وهو ما جعلنا نعيش التخلف والقهقري.

إن الوعي بالحقائق والحقيقة وكسر هذه الأصنام ورفض كل المقدسات التي ليس لها أصل قداسي من الله لهو الضمانة الوحيدة لتحرر العقل واطلاق العنان لابداعاته وخلاقيته الرائعة.وهو مدخل التطور والتقدم البشري.

إلا أن وعي الطريقة أيضا في الوصول لهذه الحقائق والأخذ بالآليات الأقل ضررا في تحقيق الاصلاح هو وعي مطلوب في ظل راهن يغلب عليه واقع التقديس أكثر من واقع البحث عن الحقيقة ,فالمرحلية أحيانا كثيرة مفتاحنا للوصول ولكن أثناء الطريق نحتاج إلى الصدمة لاحداث هزة في الوعي الديني كي نكمل المسيرة بمرحلية أخرى وهكذا.

فمرحلية الدعوة إلى الله من قبل الانبياء عليهم السلام كانت تتوقف عند محطات وتنتقل في دعوتها إلى أسلوب الصدمة لإحداث هزة في وعي الناس الديني,وكانت الصدمة متمثلة بالمعجزة.

فالوعي بالحقيقة والوعي بالطريقة من مستلزمات النهوض الفكري وخاصة الديني,في ظل بيئة تحكمها وتتحكم فيها عقلية الهالات القدسية والشخصانية وصراعات نفوذ ليس سياسي ولا اجتماعي وإنما ديني محض.   

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً