أحدث المقالات

بقاء النهضة الحسينية بين الشيعة

تفسيرات سيكولوجية وسيسيولوجية وسياسية و..

د. محمد منصور نجاد

د. محمد منصور نجاد(*)

ترجمة: مشتاق الحلو

 

أ – المدخل

1ـ منطلق البحث :

ألا يثير حضور الملايين من الناس، مرتدين زيّ الحداد، لاطمين وجوههم في أيّام محرم، التساؤل لدى الباحثين عن الأسباب التي أخرجت هؤلاء الناس من بيوتهم، خاصّة الشباب منهم – الذين لا يستجيبون بسهولةٍ لطلب الآخرين –  إلى الطرق، بخضوع وخشوع وانسجام؟ لا يعدّ هذا السلوك الفردي والجماعي في شهر محرم أمراً عادياً، بل يستدعي الالتفات والانتباه، أحد الأسئلة التي تخالج الذهن في هذا المضمار، هو: ما السرّ وراء بقاء نهضة معيّنة ونفوذها على مرّ قرون متمادية، وبهذا الكمّ والكيف؟

ولكي نكون واضحين، فالسؤال الأساس ليس عن سرّ خلود النهضة الحسينية بوصفها إحدى نهضات مقارعة الظلم في التاريخ، فهذا السؤال يطرح على كل المسارات والأشخاص المقارعين للظلم، سواء كان عملهم على أساس ديني، كإبراهيم وموسى، أو غير ديني، ويشمل حتى الأشخاص والحركات الباطلة، كأن نسأل عن سرّ خلود أسماء مجرمين، من قبيل الاسكندر وجنكيز ويزيد.

إذن، لا يبحث هذا المقال عن سرّ الخلود بصورةٍ مطلقة، بل يسأل عن أسباب ردّة فعل الشيعة تجاه استشهاد الإمام الحسين(ع)، حيث لم يقوموا بمثلها لأيّ شخص آخر، وحتى خير البرية(ص)؛ إذ لم يألف الشيعة إقامة طقوس اليوم الثالث والسابع على وفاة الرسول (ص)، ناهيك عن الأربعين.

الحضور الجماهيري الواسع، التعاطف غير المألوف، الانسجام بين المعزّين، التضحية، الرثاء المستمر حتى يوم الأربعين من استشهاد الإمام الحسين(ع) وصحبه، ذلك كلّه بعد أربعة عشر قرناً، ألا يثير التساؤل عن سرّ هذا الخلود؟([1]). ما يؤسف الباحث هو فقدان المصادر العلمية في هذا المضمار([2])، وليس هذا المقال إلا مدخلاً للموضوع، ونترك تفصيل البحث إلى فرصةٍ أخرى، أو إلى كتّاب آخرين.

 

2ـ منهج البحث:

من الواضح أن عملاً واسعاً وعميقاً للإجابة على مثل هذا السؤال الصعب، يحتاج إلى بحوث معمّقة، وبطرق معتبرة علمياً. ويمكننا ذكر المناهج التالية من جملة مناهج البحث العلمي:

1 – البحث الميداني: والاستفادة من المقابلات والاستبيانات والاستطلاعات، ومن ثمّ تحليل المعلومات المتوافرة.

2 – البحث الاكتشافي: ويستعان في هذا النمط من البحث بالمقدمات المشهورة والمقبولة نسبياً، ثم تطرح أفكار وفرضيات حول السؤال الأساس للبحث، وهذا هو المنهج المتبع هنا.

نذكّر بأنّ موضوع بحثنا (وهو النهضة الحسينية وآثارها)، يعتبر موضوعاً مرتبطاً باختصاصات مختلفة؛ لذا سوف نتناوله من زوايا مختلفة وبآليات اختصاصات علمية متنوّعة.

 

3ـ زاوية البحث: 

لم يكن هدفنا من هذا البحث المختصر توصيف طقوس العزاء والرثاء، وإن كان موضوعاً يستحقّ الدراسة، وقلّ ما تناوله الباحثون، ولسنا بصدد الحكم على التيارات التي ظهرت على هذا الصعيد، ونقدها، أو تقديم توصيات للأشكال المطلوبة منها، فقد قدّمت أعمال لا بأس بها في هذا المجال بالتحديد؛ بل هدفنا التحليل والتعليل>، أي بيان أسباب الحضور الجماعي الغريب والمدهش للشعب الإيراني، وعلى الأقل الشيعة منهم، في طقوس العزاء الحسيني، وطرح فرضيات في هذا الصدد.

 

ب – دراسة الموضوع

1ـ فرضية حبّ الفضيلة

1ـ هل نعلم، لماذا خلّد اسم سقراط في التاريخ، ويذكر بإجلال وإعظام، في حين مضى على قتله خمسة وعشرون قرناً، ولا علاقة لنا – نحن الإيرانيون –  به؟ هل سألنا أنفسنا، لم لا يزال اسم رستم> وملاحمه متلألئاً على صفحات أرواحنا، نحن الإيرانيون، ولا يمكننا نسيانه؟ و..

قد تكون الإجابة الإجمالية في إطار فرضية، تقول: إنّ بعض الفضائل تستهوي البشرية في كلّ زمان ومكان، حيث تحبّها وتحترمها، وتبعاً لذلك، تخلّد أسماء أصحابها؛ فقد قُتل سقراط في سبيل توعية الناس وتعليمهم، وأبرع رستم في الدفاع الملحمي عن هذه الأرض، وبما أنّ الصمود على الحقّ وتوعية الناس أمورٌ جميلة، والتضحية أمر مطلوب، خُلّد اسم أصحاب هذه الفضائل في التاريخ.

ألا يمكن اعتبار الفضائل التي كانت حاضرةً في كربلاء، كالمطالبة بالحق، والملحمة، والتضحية، و..([3]) سرّ بقاء النهضة الحسينية ونفوذها؟

هذه الإجابة ليست خاطئة، لكنّها غير وافية؛ إذ لا ينزل أحدٌ إلى الطرق كلّ عام من أجل أصحاب الفضائل، كسقراط([4]) ورستم، بل تختصّ هذه الطقوس الشيعية بالنهضة الحسينية، فمازال سؤالنا دون جواب، على الرغم ممّا ذكرناه؛ ولذلك قلنا في بادئ الكلام: إنّ رمز الخلود بصورة مطلقة، غير رمز خلود النهضة الحسينية.

 

2ـ فرضية الحاجة إلى البُعد المعنوي والقلبي

2ـ ألا يمكننا – من خلال نظرة عرفانية – أخلاقية – التأمّل في أنه لو تمتع الإنسان بثلاثة أبعاد: "الجسم والعقل والقلب"، واحتاج كل منهم إلى تغذية خاصة به، وكان "القلب" الأهمّ من بين البعدين الآخرين، لكان غذاؤه أهمّ من غذائهما؛ فإذا كان الأمر كذلك، فجميع الناس وراء تلبية هذه الحاجة؛ لذلك، تخفق القلوب لنداء أولياء الله، وحتى أنبياء الديانات غير التوحيدية، فمنذ آلاف السنين يغذي نداء "بوذا" و"كونفوشيوس" ملايين الناس، فما بالك بنداء أولئك المرتبطين بالسماء؟! إذاً، ينبغي البحث عن سرّ بقاء الديانات بين البشرية في هذه الحاجة الإنسانية المتأصّلة؛ فإن صحّ ذلك، ألا يجوز تحليل النهضة الحسينية على هذا الأساس؟ أي إنّ هذه الواقعة تمتلك أصناف الأطعمة الشهيّة لقلوب البشرية، وهل هناك طعامٌ للقلب أفضل من العشق؟ فحتى العشق الأرضي من قبيل قصة "مجنون ليلى" لن ينمحي من ذاكرة الناس؛ فجدير بنا البحث عن سرّ خلود النهضة الحسينية في هذه الحاجة الفطرية الباطنية والقلبية للبشرية في التغذية المعنوية؛ فالحسين(ع) خير من يروي هذا الظمأ.

من الصواب الالتفات إلى هذا العامل في مطالعة النهضة الحسينية، لكنّه – كسابقه – ليس جامعاً؛ لأنّ الغذاء الروحي والقلبي ليس حكراً على مائدة الحسين(ع)، وإن لم يحظ الآخرون بالقدر عينه من الاهتمام والحبّ.

العجيب في الأمر، أنّ الناس يعرفون أصحاب الإمام الحسين(ع)، وحتى غير الهاشميين منهم، كالحرّ بن يزيد الرياحي، أكثر من معرفتهم ببعض المعصومين، ويتأثرون بابن الستّة أشهر، وابن الثلاثة أعوام، أكثر من تأثرهم بالأنبياء. إذاً يجب البحث عن هذا السرّ في أمر آخر؛ فلنلتفت إلى العوامل الأرضية والبشرية وحتى غير الروحية في أسباب خلود هذه النهضة.

 

3ـ الفرضية السيسيولوجية في تفسير التفاعل مع النهضة الحسينية

3ـ ألا يمكن تحليل أسرار خلود نهضة عاشوراء من زاوية علم الاجتماع>؟ يبدو أنّ من الممكن، التوصل إلى بعض النتائج في هذا المضمار:

1ـ 3ـ ليس لاعبو هذه القضية أشخاصاً محدّدين، بل هو عمل جماعي منسجم، منظّم، وهادف، وإذا كان العمل الروحي المبني على التضحية، والمؤثر، والفاضل، و.. جماعياً، أصبح أكثر خلوداً من العمل الفردي. ميّز هذا النمط من الشهادة الإمامَ الحسين(ع) عن سائر المعصومين؛ ولذلك أصبحت شخصيته أكثر نفوذاً.

2ـ 3ـ من الناحية السوسيولوجية، يجب أن نلتفت إلى أنّ اصطحاب الأهل والعيال، يساعد كثيراً على حفظ جزئيات الحادثة واستمرارها، ونقل تفاصيلها فيما بعد؛ فالوفاء يكون في درجة عالية داخل العائلة، وأعضاؤها أقرب الناس من بعضهم، وأحقّ بنقل دروس هذه النهضة، وأكثر تأثيراً؛ لهذا دوّنت واقعة عاشوراء بتفاصيلها الدقيقة، ونقلت للطالبين، وخلّدت في العقول والأذهان.

3ـ 3ـ ظهرت واقعة كربلاء في إطار نهضة متحرّكة، ساهمت في مسارات اجتماعية مختلفة، دعمت بعضها، وأزالت أخرى، كتشتت أنصار مسلم بن عقيل، وقد تناول المؤرخون مصير كلّ واحدة من هذه الحركات الاجتماعية بحدّ ذاته، ووثّقوه ونقلوه للأجيال القادمة.

4ـ 3ـ أبدت مؤسّسة رجال الدين> اهتماماً منقطع النظير بهذه الواقعة، وروّجت لها؛ حيث ينفرد الإمام الحسين (ع) من بين الأئمة في مدى الاهتمام الذي تبديه الحوزة العلمية بمناسبة استشهاده، حيث تعطّل دروسها لأكثر من عشرة أيام في ذكرى استشهاده، دون سائر الأئمة؛ لهذا، لا يمكننا من الناحية السوسيولوجية أن نغفل تأثير هذا العامل على الرأي العام؛ خاصة وأنّ المجالس الحسينية ليست حكراً على رجال الدين، فقد تناولها أصحاب الفنّ في أطر مختلفة، كالشعر، والنعي، والمراثي، والمسرح و.. بلُغات التشبيه، والتمثيل، والاستعارة، والمجاز و.. حتى مارسوا في بعض الأحيان التحريف اللفظي والمعنوي لها، لكنّ التحريف أيضاً لعب دوراً إيجابياً في ترسيخ أبعاد هذه النهضة([5]).

5ـ 3ـ من ناحية أخرى، نحن بحاجة إلى دراسة سوسيولوجية لنفس الحضور العام للناس؛ لأنّ هذا الحضور بدوره يثير الأسئلة: كيف تظهر هذه الحركات الجماعية المنظمة والمكملة لبعضها، في أيام محددة، وبين جموع غفيرة من الناس؟ يمكننا إرجاع هذا الاجتماع العظيم للتقاليد الدينية. لكنّ السؤال هو: كيف خلق هذا التقليد العجيب والمنقطع النظير؟ كيف وجدت هذه الهوية الدينية الجماعية، ولماذا؟ أي شيء يؤدي إلى فعل جماعي كلّ عام؟

من الممكن إرجاع هذه الحركات للعادات، والقول: إنّ الفرد في الثقافة الشيعية، يستأنس منذ الصغر بالمراسيم الحسينية؛ إذ يصطحبه أهله في هذه المجالس، ويلبسوه السواد، ويعطوه الرايات السود، وحين يكبر يشارك في هذه المراسم من تلقاء نفسه؛ لهذا، تصبح هذه الطقوس عادة لا يمكنه التخلّي عنها، وتجرّه إليها من حيث لا يشعر، وتضطرّه للالتزام بها.

لكن مازال يمكننا التعمّق في التحليل، ودراسة أسباب هذه العادات والتقاليد بشكل أدق؛ فعلى سبيل المثال، يمكن دراسة أسباب انجرار الإنسان للأعمال الجماعية من خلال الأبحاث العميقة الفلسفية والاجتماعية؛ إذ في ضوئها يكون الإنسان مدنيّاً بالطبع، وحتى لو كان متوحشاً بالطبع، لكنّه مدني بالعقل، ويحتاج إلى الجماعة والمجتمع على أساس الضرورات العقلية، وحين يختار الاقتراب من جماعة، يجد المنسجمين معه أنسب لهذا الأمر، واقعة كربلاء من عوامل توحيد الشيعة، الذين يحسّون بالقرب والانسجام في إطار الثقافة الشيعية؛ لهذا تبرز نشاطات جماعية كمراسم أيام عاشوراء، كما أنّ هذه الواقعة تجذب الناس للمشاركة بسهولة، لأنّها جبلت بالرموز، والأساطير، والمعجزات، والكرامات و.. عبر القرون؛ لذلك أصبحت أكثر استمراراً وجاذبية.

6ـ 3ـ يجب الالتفات إلى أنّ الخصوصيّة تتشكّل قبال الخصوصيّة المخالفة، فطقوس العزاء من العلامات والرموز والمظاهر التي تميّز الثقافة الشيعية مقابل سائر الثقافات، ولا سيما ثقافة أهل السنّة، حيث كانت الثقافة الحاكمة في العالم الإسلامي في القرون الأولى، وكان الشيعة أقلّية بالنسبة إليهم، وكان هذا الجمع المحدود والمحجور عليه، بحاجة إلى الاقتراب من بعضه، والامتياز بهويّة خاصة دون الآخرين، وطرح مفاخره الثقافية؛ وقد ولّدت هذه الحاجة لبناء الخصوصية الشيعية، الدافعَ والوازع الكافيَين للاجتماع في أيام خاصة من كل عام، وإعلان الوجود بطرق مختلفة، وكانت جذوة الثورة الحسينية، أنسب من سائر الموضوعات للوحدة والمقاومة.

يبدو أنّ بإمكاننا دراسة واقعة كربلاء بوصفها ظاهرةً اجتماعية من خلال الأدبيات السوسيولوجية، وكشف الجوانب الخفية منها، لكنّ هذه النظرة لا تنسجم، على الرغم من محاسنها، مع الأبعاد الروحية للنهضة؛ لذا ينبغي دراسة أسرار خلود هذه النهضة من زوايا أخرى.

 

4 – الفرضية السيكولوجية في تفسير استمرارية النهضة الحسينية

4ـ ألا يمكن أخذ العوامل السيكولوجية في دراسة عناصر تأثير النهضة الحسينية على الصغير والكبير، والرجل والمرأة، والفقير والغني و..؟ أليس لهذا الحضور الجماهيري دوافع نفسية، إضافة للأبعاد المعنوية؟ فعلى سبيل المثال، هل هناك مراسم، أو اجتماع، أو تظاهرة، أو.. يتمكّن الفرد فيها من إظهار نفسه إلى هذا الحد، وعرض إمكاناته، والحظوة برضا الآخرين وقبولهم له؟

تنفرد طقوس عاشوراء بهذه الصفة، حيث يستطيع من يتمتّع بقوة بدنية، رفع الرايات الثقيلة، والمباهاة بقوّته؛ ومن له صوتٌ حسن، نعيَ الحسين(ع)، والفخر بصوته؛ ومن كان متمكّناً، بَذَلَ مالَه، للحصول على وجاهة اجتماعية، وإذا كان ضعيفاً، يأكل الطعام ويلطم على صدره؛ وإذا كان شقياً، يضرب رأسه بالسيف؛ وإذا كان رقيق القلب يذرف الدموع؛ وإن لم يرغب أو يتمكّن من المساهمة الفعّالة، وقف متفرجاً، وكسب أجراً أخروياً ومتعةً دنيوية. وإذا كانت امرأةً، خرجت إلى الطرق بدل الانزواء في البيت، واختلطت بالمجتمع، دون أن يعترض عليها أحد، وإذا كان الفرد يتمتع باستعداد إداري، فإنّه يدير المواكب و..

بعبارة أخرى، من زاوية سيكولوجية، بما أنّ الجميع يستطيع المساهمة في هذه الطقوس بشكل مؤثر، وإثبات حضوره، فلدى الجميع دافع قوي للخروج والحضور إلى جانب الآخرين، دون إجبار أو إكراه.

يمكن أن يكون لحضور الناس مبرّر سيكولوجي آخر؛ فقد قلنا: إنّ رسالة عاشوراء روحية ومجبولة بالفضائل، لكنّ ما يميزها عن سائر الطقوس، أنّها منعت في بعض الفترات التاريخية منذ استشهاد الإمام الحسين(ع)، وطوال العهدين الأموي والعباسي، فقد تعرّض قبر الإمام(ع) للغرق بيد أمثال المتوكّل العباسي، وواجه زوّاره شتّى أنواع الإيذاء، وحتى القتل. وفي العصر الحاضر أيضاً، سعى أمثال الشاه الإيراني رضا بهلوي لمنع طقوس عاشوراء، بينما تزيد رغبة الإنسان بالممنوع من الناحية النفسية، وكما يقول المثل: "الإنسان حريص على ما مُنع"؛ فحين سعت الحكومات لمنع التعازي، حرص الناس على تقويتها وإقامتها في الخفاء، إن لم يتمكّنوا من إعلانها؛ من هذه الناحية، يغدو الدافع لإقامة الطقوس الحسينية فردياً ونفسياً، وحتى لو كانت هذه الحاجة روحية، لكنّها ليست سماوية وأخروية بالضرورة؛ لهذا، فحتى لو كان الناس – كما يصفهم الحسين(ع) – : "عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم"، لكنّهم يشاركون في هذه الحركات الجماعية، تلبيةً لحاجاتهم الفردية والنفسية، ويحصلون من خلالها على نتائج لا تتوفر من طرق أخرى؛ فهنا يتلقون الدعم والحماية والاهتمام والتشجيع، بخلاف سائر المجالات.

لا يفسّر هذا العامل أيضاً، على أقلّ تقدير، دافع الذين يشاركون بحماس شديد، وعشق، وشغف، واندفاع كبير؛ لهذا ينبغي البحث عن عوامل أخرى إضافيّة.

 

5 – الفرضية السياسية في تفسير الاستمرارية

5ـ ما هو دور الحكّام ورجال الدولة، من الناحية السياسية، في استمرار النهضة الحسينية ونفوذها؟

مما لا شكّ فيه، أنّ في إيران على أقلّ تقدير، لعب تأسيس الدولة الصفوية، وإعلان المذهب الشيعي مذهباً رسمياً في البلاد، دوراً مهماً في تثبيت الطقوس والتقاليد الشيعية ونشرها، ومنها طقوس عاشوراء، وقد ساهمت السلسلة القاجارية أيضاً في إرساء الشعائر الشيعية. لكن كما أشرنا، إذا كان المنع الحكومي ينتهي بنتيجة معكوسة، فكذلك تصدّي الحكومات لترويج نهضة عاشوراء، يقلّل من عمقها، وقد تسبّب ردة فعل عكسية من قبل الناس في بعض الأحيان، وإذا أردنا ربط انتشار هذه الطقوس بصورة كاملة بالحكّام الصفويين، فمن المفروض أن تنقرض بانقراضهم، بينما الواقع ينبئ عن خلاف ذلك.

لعلّه بالإمكان اعتبار المشاركة في هذه الطقوس وإدارتها من قبل المؤسّسات المدنية الثقافية، وأفراد لا ينتمون إلى الدولة، من عوامل استمرارها وشدّ الناس إليها؛ فشدة الحماس لدى الناس، تأتي من التفاعل الجماهيري، لا الارتباط بالحكومات؛ فإذا لعبت العوامل السياسية دوراً في تفعيل هذه المشاركة، فما كان ذلك إلا مقطعياً، ولم يدم ولم يساهم بالضرورة في تعميق هذه الطقوس وشدّة إقبال الناس عليها، ولعله أثار في بعض الأحيان ردود فعل لدى الجماهير.

ويمكننا دراسة الخلفيات السياسية لاستمرار النهضة الحسينية في إطار أضيق، أي في أبعاد مقارعة الظلم والاستبداد، والمطالبة بالعدالة، واعتبار سلاطين العصر غير شرعيين، كان هذا الجانب السياسي في الثورة الحسينية فرصةً ثمينة لمن يريد مقارعة سلاطين عصره، ليبرّر موقفه بالاستناد إلى نهضة عاشوراء، ويثير الحماس لدى الثوريين، ويدفعهم للنضال والمقاومة، ويخلق كربلاء جديدة بالاستفادة من تمام أجزاء تلك الواقعة، وإحياء ذكراها.

 

6ـ فرضية الإعجاب النخبوي بالثورة الحسينية

6ـ العامل الآخر هو إعجاب كثير من النخب الفكرية، والسياسية، وحتى غير المسلمة منها، بشخصيّة الإمام الحسين(ع) ونهضته؛ فلماذا يتكلّم أمثال "غاندي"، في القرن العشرين، عن الحسين(ع) ويبدي اهتماماً بها؟

للإجابة على هذا السؤال، يمكننا القول:

أولاً: احتكّ أمثال هؤلاء المفكّرين والمصلحين بالشيعة وثقافتهم، نظراً لموقعهم الجغرافي أو تعاملهم الثقافي، ورأوا عن كثب حركاتهم الحماسية الجماعية بطابع قدسي حزين؛ لذلك تساءلوا عن الحسين(ع)، وكيف يثير هذا الشوق والحزن لدى الناس.

ثانياً: للنهضة الحسينية دلالات عميقة في أبعاد مختلفة؛ إذ تدعو – في البُعد الأخلاقي – للعزة المقرونة بالروحانية، وفي البعد السياسي والاجتماعي تحمل رسالة المقاومة والملحمية؛ لذلك، ينهل كلّ مصلح يريد معالجة آلام مجتمعه، من هذا البحر العذب، على قدر قابليته، وحسب حاجته والخلأ الذي يريد ملأه؛ فيتأثر بها ويتحدث عنها؛ إذ لا تزال آثارها الإيجابية باقيةً بين غير الشيعة، وحتى غير المسلمين.

 

ج – تلخيص واستنتاج، التفسيرالشمولي

يمكننا دراسة العزاء الحسيني بشكل إجمالي من زاويتين على الأقل:

الأولى: تأثير هذه الطقوس على أخلاق الناس وثقافتهم، وفي هذه الحالة، يجب اعتبارها "متغيّراً مستقلاً" في البحث، وهو العمل الذي قمت به في كتاب (تأثير عزت وافتخار حسيني بر نهضت وانقلاب اسلامي).

الثانية: تأثّر الطقوس بسائر العوامل، وفي هذه الحالة، يدرس الحضور الجماهيري للناس بصفته "متغيّراً تابعاً" في البحث، وهو العمل الذي قمت به في هذا البحث، نظراً للسؤال الذي انطلقت منه، وهو: ما هي أسرار بقاء النهضة الحسينية ورواجها، خلال قرون متمادية؟

لا بأس بسرد نتيجة البحث من خلال مثال، وهو أنّه لو رأينا ناراً مشتعلةً في مكان ما، يمكننا النظر إلى هذا الحدث من زاويتين، الأولى: من أين أتت هذه النار؟ وما هي قوة اشتعالها؟ الثانية: كم كانت البيئة مساعدةً على اشتعالها؟ لأنّ شعلة الكبريت تنطفئ على التراب أو الصخر، ولا تكون مفيدةً أو مضرّة إلا في ظروف محدّدة.

فبالنسبة للهيب عاشوراء الذي ألهب نفوس الشيعة – على الأقل – وتزداد جذوته يوماً بعد يوم، يمكننا السؤال عن دور الإمام وأصحابه، أو الشعلة نفسها في هذا الاشتعال، ومدى تأثير الأرضية والبيئة في ذلك.

فمن ناحية الشعلة نفسها، يمكننا القول: 1ـ إنّ نار كربلاء كانت متأثرةً بالسيف والدم، وتلهب النفس أكثر من الموت العادي، أو القتل دون إراقة دم. 2ـ هذه الشعلة جماعية، وإيقاعها أشدّ على النفوس من الفردية. 3ـ ضمّت طيفاً واسعاً، من الشيخ الكبير إلى الطفل الصغير؛ ولذلك تشدّ الأصناف كافّة إليها. 4ـ لاعبوها الأساسيون من سلالة الوحي، وبطلها إمامٌ معصوم. 5ـ احتضنها أفراد، كانوا حاضرين وشاهدين على مجرياتها، وقدّموها بأحسن حلّة. 6ـ كان هذا القتل قريناً للروحانية والطهارة والقداسة، ومحفوفاً بالفضائل البشرية، كالعزة والوفاء والعشق و.. والتي تعني الكثير للمتديّنين، وحتى بالنسبة لغيرهم. 7ـ يجب أن لا نغفل في الختام، دور رذالة جيش عمر بن سعد ودناءتهم، في تمييز هذه النهضة عن غيرها؛ فقد ساعدوا على توقّد جذوة طلب الحق والعزة والإحساس بالمظلومية.

وأمّا بالنسبة للعوامل الخارجية والخلفيات التي ساهمت في بقاء هذه النهضة وتعمّق جذورها، فيمكننا عدّ الموارد التالية:

1ـ الحاجة الفطرية لدى البشر للروحانية والفضيلة والملحمية والتعاليم الإيجابية؛ إذ تتمتع النهضة الحسينية بغذاء روحي سالم، لجميع الطالبين والمحبّين.

2ـ لعب منع السلطات ومحاربتها لهذه الطقوس، دوراً في إثارة حساسية الناس تجاهها، كما ساهم بعض رجال الدولة في انتشارها.

3ـ من ناحية سيكولوجية، يستطيع مختلف الأشخاص المساهمة بشكل فعّال في هذه الطقوس، والظهور فيها، ولذلك تكون المساهمة فيها شيّقةً للجميع.

4ـ بَحْث الجماعات عن هوية تميّزهم عن الآخرين، وحاجتهم إلى ما يشدّهم إلى بعضهم في الحياة الاجتماعية، من دواعي النشاطات الجماعية الدينية، التي تحققت في هذه النهضة أيضاً؛ حيث كان الشيعة يبحثون عن هوية لهم مقابل سائر المذاهب، وما يجمعهم مع بعض. بعبارة أخرى: لاتساع طقوس عاشوراء وتحوّلها إلى عادات جماعية، جذورٌ في نفوس أفراد المجتمع نفسه.

5ـ لا ينبغي الغفلة عن دور المؤسّسات المدنية والأعمال التعبوية والتعاطف الجماهيري في تعميق هذه النهضة؛ لأنّ النشاطات الشعبية العامة تتمتع بقوّة أكبر لجذب الناس إليها، مقارنةً بما تقوم به الدول والحكومات.

6ـ لعب الفنّ دوراً مهماً في تركيز هذه النهضة واستمرارها، في قوالب مختلفة من قبيل: الخطابة، الشعر، النعي، التمثيل، الرسم و..

7ـ ساعد تمتع هذه النهضة بأبعاد مختلفة، على إيصال رسالتها لكلّ من احتكّ بالشيعة، وإن لم يكن منهم، بحيث انتشرت خارج نطاق الشيعة أيضاً.

8ـ استئناس عامّة الناس بالأساطير والحوادث الرمزية، ضاعف من قداسة هذه الواقعة وتأثيرها، ولا تجوز الغفلة عن خصائص الإمام الحسين(ع) نفسه في إضفاء القداسة على هذه النهضة.

ونذكّر في الختام، بأنّ هدفنا في هذا البحث القصير، كان "اكتشاف" الإجابة على السؤال التالي: لماذا بقيت نهضة الإمام الحسين(ع) حيّةً ومؤثرة إلى هذه الدرجة؟ حيث طرحنا فرضيات من زوايا عديدة، وناقشناها، وهيأنا مدخلاً لدراسة أساسية معمّقة في هذا المجال، آملين الرضا والقبول.

 

الهوامش

 



(*) أستاذجامعي، ومتخصّص في علم الاجتماع.

[1]   كنت قد فكّرت بهذا الموضوع من قَبل بشكل إجمالي، لكن في المؤتمر الأخير للمجمع العالمي لأهل البيت (ع)، والذي أقيم في الشهر الثالث من عام 2002م، حينما تناول خطيب الافتتاحية الموضوع بسطحية، من قبيل اعتباره الإخلاص والخصائص العائلية والوراثية للإمام الحسين(ع) سبباً لهذا الموضوع، في حين لا تصدّق هذه الأمور بالنسبة لسائر المعصومين (ع)… قرّرت أن أدرس هذا الموضوع بتأنٍّ.

[2]   لم يرد في المصادر المشهورة، كالمقاتل، أبحاث تحليلية. ولم يتناول هذا الموضوع بالبحث والتنقيب في المؤلّفات المعروفة عن تاريخ إيران المعاصر، كحسين وارث آدم لعلي شريعتي، أو مقال حسين بن علي وجلال الدين رومي، من كتاب (قمار عاشقانه) لعبد الكريم سروش، وبرتوي از عظمت حسين(ع) [إشعاع من عظمة الحسين(ع)]، للطف الله الصافي، وبس از بنجاه سال بجوهش بيرامون قيام إمام حسين(ع)، [بعد خمسين عاماً من البحث حول نهضة الإمام الحسين(ع)]، لجعفر شهيدي، و.. وقد تناولت المصادر التالية فقط هذا الموضوع بشكل ناقص وغير مقنع: محمد إبراهيم آيتي، بررسي تاريخ عاشورا، [دراسة تاريخ عاشوراء]: 47 – 128، طهران، مكتبة صدوق، 1374ش/1995م؛ وسجاد جوبينه، نكاه فلسفي به جريان عاشورا [ نظرة فلسفية على واقعة عاشوراء]: 59 – 82، انتشارات أبرار، 1377ش/1998م؛ وعلي باقي نصر آبادي، مقال عوامل بايداري وجاودانكي نهضت عاشورا، [أسباب بقاء نهضة عاشوراء وخلودها]، مجلة حكومت اسلامي، العدد 27: 348 – 374، ربيع 1382ش/2003م.

[3]   قالوا: تعرف الأشياء بأضدادها>. فإذا كانت الفضائل حاضرةً بقوة في كربلاء، في إحدى الجبهتين، كانت الرذائل حاضرة بمختلف أنواعها في الجبهة الأخرى، وهذا ما ساعد على معرفة الفضائل وأصحابها، وزرع حسّ المظلومية في الجانب المقابل، وهو ما يحزن القلب ويضاعف من تأثير هذه الواقعة. حيث ما استطاع أيّ مؤرخ درس هذه الفترة أن يتجاوز ذكر الحسين(ع) وأنصاره، لهذا دوّنت النهضة الحسينية وضبطت.

[4]   للتعرف على سقراط، راجع – على الأقل – المصادر التالية: برن جان، سقراط، ترجمه للفارسية: أبو القاسم بور حسيني، طهران، شركة نشر علمي وفرهنكي، ط2، 1374ش/1995م؛ ورنر شارل، حكمت يونان: 42 – 73، ترجمه للفارسية: بزرك نادر زاد، طهران، شركة نشر علمي وفرهنكي، ط2، 1373ش/1994م.

[5]   وقف بعض العلماء في وجه هذه التحريفات، من أشهرهم الشيخ حسين بن محمد تقي النوري من خلال كتاب لؤلؤ ومرجان، طهران، أمير كبير، والطبعة الأخرى بإعداد مصطفى داريني، قم، انتشارات الأستاذ أحمد مطهري، ومنهم الشيخ مطهري في كتاب تحريفات عاشورا، لكن في المقال الحاضر لا نبحث عن صحّة أو سقم هذه الأعمال وهذا الحضور الشعبي العام، بل نلاحظ هذا الحضور في مجموعه بغض النظر عن صحّته وسقمه، ونبحث عن أسبابه، أمّا البحث عن الحُسن والقبح فمتروك إلى مقام التقييم.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً