أحدث المقالات

الشيخ مازن المطوري(*)

مدخلٌ

تناول علماء أصول الفقه البحث في الأدلّة الشرعية (الكتاب والسنّة) من ثلاث جهات، تتمثَّل في: إثبات الصدور؛ وتحديد دلالته؛ وحجّية تلك الدلالة (حجّية الظهور). فالفقيه في مقام استنباط الأحكام الشرعية وسائر المواقف العملية يحتاج أوّلاً إلى إثبات صدور الدليل من الشارع، وإحراز ذلك إمّا وجداناً بوسائل توجب العلم واليقين؛ وإما بحجّةٍ شرعيّة (تعبُّداً)، ثمّ يحتاج إلى تحديد دلالات ذلك الدليل، فعلى أيّ شيءٍ يدلّ؟ هل يدلّ على الوجوب أو الحرمة أو الجزئية أو الشرطية أو المانعية أو الصحّة أو البطلان؟ وهل دلالته بالعموم أو الإطلاق أو بالمنطوق أو بالمفهوم؟ ثمّ يا ترى بعد تحديد تلك الدلالة هل يسوغ له الاعتماد على ذلك الفهم لمداليل الأدلّة التي استقاها بفهمه وفق قواعد اللغة وأحكام الدلالة؟ وهنا يكون الفقيه بحاجةٍ إلى قاعدةٍ كبرى تقرّر حجّيةَ تلك الدلالة، وتُعْرَف تلك الكبرى بـ (حجّية الظهور).

المراد من الظهور: الدلالة الراجحة بحَسَب ما يفهمه أبناء اللغة، أو هو الفهم الراجح لنصٍّ من النصوص، فيتّخذ سبيلاً في معرفة مراد المتكلِّم وصاحب الخطاب، وفق قوانين اللغة التي صدر الخطاب فيها.

وقد بذل علماء أصول الفقه عنايةً فائقة بالأبحاث المتعلّقة بالدلالة والظهور منذ الأيّام الأولى لولادة هذا العلم. ويمثِّل بحثنا الراهن متابعةً تاريخية لمسألة (حجّية الظهور) في أروقة علم أصول الفقه الشيعي؛ للوقوف على بداياتها الأولى، وملاحقة تطوّراتها وخطّها البياني في مختلف الحِقَب الزمانية، وملاحظة الإثارات والإشكاليات التي انبثقت في إطار هذه المسألة، وكانت محفِّزاً لتطوير البحث وتعميقه وولادة مسائل برأسها.

ولا تخفى أهمّية البحث في تاريخ العلوم وتاريخ كلّ مسألةٍ من المسائل؛ لأن معرفة تاريخ المسائل توقف الباحث على البدايات الأولى لطرح الأبحاث، وطريقة بحثها، وعلى سياق بحثها، وعلى عطاء وإسهام كلّ واحدٍ من الباحثين في تلك المسألة على طول خطّها الزماني. وهو يعطي بدَوْره لكلّ باحثٍ حقَّه الطبيعي دون بَخْسٍ أو مصادرة. كما يوفِّر الأرضية الصالحة في نسبة الآراء والإسهامات والإبداع إلى أصحابه الحقيقيين، بعيداً عن الادّعاءات، وبعيداً عن الطريقة الإرجاعية التي انتهجَتْها بعض الدراسات الحديثة في نسبة وإرجاع كلّ إبداع وتطوير من باحثٍ ما إلى التاريخ، دون التحقُّق الفعلي من طريقة العرض وطبيعة الاستدلال والبيان وجهة وحيثية البحث بين المنسوب إليه وبين صاحب الحقّ! ومن ثَمَّ يوقفنا بحث تاريخ المسائل على مقدار أخذ اللاحق من السابق، ومقدار النقص الذي تركه السابقون، والإضافة أعطاها اللاحقون لهم.

كما وتنبثق أهمّية دراسة تاريخ العلوم وتاريخ كلّ مسألة في إفادتها في الدراسات المقارنة؛ ضرورةَ أن تركن الدراسات المقارنة إلى مستويات طرح المسألة وآفاقها وفضاءاتها في الحِقَب المختلفة، والفضاءات المعرفية المتعدِّدة، حتّى يتمكّن الباحث من تشخيص أوجه التمايز والاتفاق في كلّ حقبةٍ من حِقَب بحثها، والوقوف على مقدار إبداع وتطوير كلّ جيلٍ أو كلّ باحثٍ.

ومن المؤسف أن كثيراً من الدراسات، ولا سيَّما دراسات علم أصول الفقه، والدراسات العقلية عامّةً، كالفلسفة والمنطق، لم يهتمّ الباحثون فيها بتتبُّع تاريخ مسائلها، ممّا أوجب اشتباهات وأخطاءً في نسبة الأقوال والآراء، فضلاً عن بَخْس الحقوق ومصادرة جهود الآخرين. مضافاً إلى أن الباحثين في مسألةٍ معينة قد يتّفقون في النتائج، ولكنهم يختلفون في المنطلقات وطبيعة الاستدلال وفضاء طرح البحث، وهذا لا يتمّ الوقوف عليه من دون دراسة تاريخ المسألة.

بناءً على ذلك جاء البحث الماثل بين أيدينا لملاحقة تاريخ مسألة حجّية الظهور (الفهم الراجح)؛ لمعرفة بداياتها، وملاحقة تطوّراتها وخطّها البياني العامّ صعوداً ونزولاً. كما يحاول في ثنايا ذلك إبراز الأصول العامّة للاتجاه الذي يؤمن به في حجّية الظهور. ولا يدّعي كاتب السطور الإحاطة والإلمام بكلّ جوانب المسألة من ناحيةٍ تاريخية، ولا الاستيعاب؛ إذ ثمّة موانع موضوعية وذاتية تحول دون ذلك، ولكنّه حاول ـ وحَسْبُه المحاولة ـ قدر الإمكان أن يستوعب الدراسات الأصولية الأساسية والمهمّة في الحواضر العلمية الشيعية منذ بدايات التصنيف في علم أصول الفقه وحتّى الحقبة المعاصرة.

نقطة الانطلاق

ننطلق في متابعتنا التاريخية للبحث في حجّية الظهور من الشيخ المفيد (336 ـ 413هـ) في كتابه (التذكرة بأصول الفقه)؛ ذلك أن هذا الكتاب يمثِّل أقدم مصنَّف وصلنا في علم أصول الفقه الشيعي. فعلى الرغم من تأكيد بعض المؤلِّفين على وجود مصنَّفات في أصول الفقه الشيعي أسبق من عصر المفيد، غير أنها لم تصِلْ إلينا. وحتّى كتاب (التقريب في أصول الفقه)، الذي يُعَدّ من تصنيفات سلاّر الديلمي(463هـ)، تلميذ المفيد، هو الآخر لم يصِلْنا بدَوْره، بل إن نفس كتاب (التذكرة)، للمفيد، قد وصلنا مختصره الذي وضعه الشيخ أبو الفتح الكراكجي(449هـ)، وأدرجه في كتاب (كنز الفوائد)، ولم يصِلْنا الأصل الذي كتبه المفيد.

أضِفْ إلى ذلك كلّه أننا نمتلك وثيقةً تاريخية بين أيدينا تؤكِّد لنا أوّلية المفيد في التأليف بهذا المضمار على صعيد الحواضر العلمية الشيعية، وتتمثَّل تلك الوثيقة في نصٍّ للشيخ الطوسي (385 ـ 460هـ)، تلميذ المفيد، ذكره في مقدّمة كتاب العُدّة، حيث جاء فيه: «قد سألتُمْ ـ أيَّدكم الله ـ إملاء مختصرٍ في أصول الفقه، يحيط بجميع أبوابه على وجه الاختصار والإيجاز، على ما تقتضيه مذاهبنا وتوجبه أصولنا، فإن مَنْ صنّف في هذا الباب سلك كلُّ قومٍ منهم المسالك التي اقتضاها أصولهم، ولم يصنّف أحدٌ من أصحابنا في هذا المعنى إلاّ ما كتبه شيخنا أبو عبد الله& في المختصر الذي له في أصول الفقه، ولم يَستَقْصِه، وشذَّ عنه أشياء يُحتاج إلى استدراكها، وتحريرات غير ما حرّرها»([1]).

إن هذه الوثيقة التاريخية القيِّمة التي خطَّتها أنامل الشيخ الطوسي، والتي تؤكِّد أوّلية أستاذه المفيد في التأليف على صعيد أصول الفقه، تمثِّل المبرِّر الذي نركن إليه في شروعنا في المتابعة التاريخية للبحث في حجّية الظهور انطلاقاً من الشيخ المفيد. إضافةً إلى أن الكتب والتأليفات في أصول الفقه التي نصّ أصحاب المعاجم والفهارس على أسبقيّتها على المفيد لم يصِلْنا شيءٌ منها.

من أقدم النصوص التي وصلتنا والمشيرة إلى حجّية الظهور هو ما ذكره الشيخ المفيد في كتابه (التذكرة بأصول الفقه)، فقد ذكر المفيد، في سياق حديثه عن الحقيقة والمجاز، حجّيةَ الظهور، ووجوب التعويل عليه في فهم الخطاب. ومن المستحسن نقل نصّ كلامه؛ إذ جاء فيه: «والحقائق والمجازات إنما هي في الألفاظ والعبارات، دون المعاني المطلوبات. والحقيقة من الكلام ما يطابق المعنى الموضوع له في أصل اللسان، والمجاز منه ما عبّر عن غير معناه في الأصل تشبيهاً واستعارة؛ لغرض من الأغراض، وعلى وجه الإيجاز والاختصار. ووصف الكلام بالظاهر وتعلق الحكم به إنما يقصد به إلى الحقيقة منه. والحكم بالاستعارة فيه إنما يُراد به المجاز. وكذلك القول في التأويل والباطن إنما يُقصد به إلى العبارة عن مجاز القول واستعارته حَسْب ما ذكرناه.

والحكم على الكلام بأنه حقيقةٌ أو مجاز لا يجوز إلاّ بدليلٍ يوجب اليقين، ولا يسلك فيه طريق الظنون. والعلم بذلك من وجهين: أحدهما: إجماع أهل اللسان؛ والآخر: الدليل المثمر للبيان. فأما إطلاق بعض أهل اللغة أو بعض أهل الإسلام ممَّنْ ليس بحجّةٍ في المقال والفعل فإنه لا يُعتَمَد في إثبات حقيقة الكلام. ومتى التبس اللفظ فلم يقُمْ دليلٌ على حقيقةٍ فيه أو مجازٍ وجب التوقُّف؛ لعدم البرهان»([2]).

يشير الشيخ المفيد بقوله: «والحقائق والمجازات إنما هي في الألفاظ، دون المعاني» إلى النزاع المعروف بين علماء الأدب في تفسير المجاز؛ حيث ذهب المشهور منهم إلى القول: إن المجاز والاستعارة وما أشبه شأنٌ من شؤون اللفظ، فهي نقل لفظ من موضعه واستخدامه في آخر لأجل مناسبةٍ؛ بينما ذهب السكّاكي (555 ـ 626هـ) إلى أن المجاز من شؤون المعاني، دون الألفاظ، ويتمثّل في عملٍ ذهنيّ حيث يفترض الإنسان في ذهنه أن المشبّه (مثلاً) أحد مصاديق المشبّه به، فيعطي حدّ وماهية المشبّه به إلى المشبّه في الذهن، فيكون المشبّه مصداقاً ادّعائياً للمشبّه به([3]).

وللمفيد نصٌّ آخر، ذكره عند الحديث عن معاني القرآن، حيث سجَّل قائلاً: «ومعاني القرآن على ضربين: ظاهر؛ وباطن. فالظاهر هو المطابق لخاصّ العبارة عنه تحقيقاً على عادات أهل اللسان، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾. فالعقلاء العارفون باللسان يفهمون من ظاهر هذا اللفظ المراد. والباطن هو ما خرج عن خاصّ العبارة وحقيقتها إلى وجوه الاتّساع، فيحتاج العاقل في معرفة المراد من ذلك إلى الأدلة الزائدة على ظاهر الألفاظ، كقوله سبحانه: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾»([4]).

إنَّ هذين النصّين يعتبران من أقدم نصوص علم أصول الفقه الواصلة إلينا، والتي تعرّضت لمسألة حجّية الظهور. وقد قرّر المفيد فيهما أن الظاهر من الكلام هو المعنى الحقيقي، أي المعاني الموضوعة لها الألفاظ في اللغة، والتي ستعرف فيما بعد بـ(الدلالة الوضعية التصوُّرية)، وهو المعنى الذي تحمل عليه الألفاظ، ويكون حجّةً في فهم خطاب المتكلِّم. غير أن المفيد عاد ليقرّر أن الحكم على الكلام بالظهور، أي على كون المعنى حقيقياً، وليس مجازياً، يحتاج إلى دليلٍ يوجب اليقين، ولا يمكن الركون إلى الظنّ لتحديد الدلالة الظاهرة. والدليل الذي يوجب اليقين بالحقيقة أو المجاز، وفق ما أفاده الشيخ المفيد، أمران: الأوّل: إجماع أهل اللغة؛ والآخر: الدليل المُثْمِر للبيان.

لم يذكر لنا الشيخ المفيد وجهاً تعليلياً للأخذ بالظهور والتعويل عليه. وقد يكون مرجع ذلك وضوح المسألة وعدم وقوعها محلاًّ للخلاف وقتئذٍ. وهذا المعنى بالتحديد يمثِّل نقطةً مهمة تفيدنا في دراسة الإشكالية التي أثارها لاحقاً زعيم الأخباريين محمد أمين الأسترأبادي، القاضية بعدم حجّية الظهور القرآني؛ إذ ستبدو هذه الإشكالية دون تاريخٍ يعزّزها.

غير أن البحث إذا لم يقع في حجّية الظاهر فهو مهمٌّ في تحديد الظهور الحجّة وموضوعه. فمن المهمّ أن نلاحظ هنا أن نصوص المفيد تناولت البحث في حجّية الظهور بشكلٍ ابتدائي، مقتَضَب جدّاً، وغير واضح المعالم، وإنْ مثَّل البذرة لما سيتطوّر لاحقاً. فالظهور في نصوص المفيد هو الحقيقة دون المجاز، بمعنى أن حجّية الظهور والتعويل عليه تمثّل الأخذ بالدلالة التصوّرية الوضعية للكلام، أما كيف نعرف أن المعنى حقيقيّ وضعيّ؟ أكّد المفيد أن ذلك يكون بواسطة دليلين. وسوف نشهد في حقبةٍ لاحقة أن علماء الأصول يقرِّرون أن استكشاف المدلول الوضعي التصوُّري يكون عبر أصالة التطابق بين المداليل التصديقية الجدّية والتصوّرية، فهي الكاشفة عن إرادة المعاني الحقيقية التي وُضعت لها الألفاظ. فعند الاشتباه بين المعاني الحقيقية والمجازية (الاشتباه في معرفة المراد الجدّي للمتكلِّم، كما يعبِّرون) نستعين بقاعدة أصالة التطابق بين الدلالتين الجدّية والوضعية؛ للقول: إن الظاهر من الخطاب إرادة المعنى الحقيقي الموضوع له.

كما يُلاحَظ في نصوص المفيد عدم ذهابه صوب التمييز بين الظهور الذاتي والموضوعي، بل توقفنا القراءة الدقيقة المتأنِّية لهذه النصوص على ارتكاز حديث المفيد على الظهور الذاتي، دون الموضوعي، وعلى أساس ذلك قرَّر أننا بحاجةٍ إلى العلم بوجود الظهور، ولا يكفي مجرّد الاحتمال أو الظنّ، وهذا يناسب افتراض أن الظاهر من الكلام يقصد به الحقيقة من المعاني، دون المعاني المجازية. غير أن السؤال هنا: هل يناسب المعنى الذي قرَّره المفيد الحديثَ عن الظهور الذي هو حجّةٌ ويجب حمل الخطاب عليه؛ إذ لا شَكَّ في أن الظهور الحجّة هو الموضوعي، دون الذاتي، وهو ـ أي الموضوعي ـ يبقى ظاهرةً خاضعة للاحتمال؟

وبعبارةٍ ثانية: إن الظهور التصديقي الجدّي، وفق ما قرَّر المفيد، يتمثَّل في المعنى الحقيقي، دون المجازي، والتصديقي الجدّي بدَوْره لا يخالف التصوُّري الوضعي، غير أن السؤال المهمّ: هل تنحصر مقاصد المتكلِّم في الخطابات بالمعاني الحقيقية، دون المجازية؟ وهل يختصّ الظهور بالمعاني الحقيقية، دون المجازية، كذلك؟

لا تهدف دراستنا هذه إلى الإجابة عن تلكم الإشكالية، بقدر ما تهتمّ بالمتابعة التاريخية للبحث في حجّية الظهور في أروقة علم أصول الفقه الشيعي، وملاحقة تطوّراته وتكامله عبر العصور المختلفة لنموّ هذا العلم، وملاحظة مقدار ما أضافه كلّ عَلَمٍ من أعلام الأصول الشيعي، والفجوات التي بقيَتْ دون معالجة عبر مسيرة هذا البحث، الذي لا يمكن نكران نضوجه التاريخي وتطوّره، ولا سيَّما في مدرسة النجف الحديثة.

إذا ما انتقلنا إلى تلميذ المفيد المبرَّز، أعني السيد المرتضى عَلَم الهدى (355 ـ 436هـ)، فسوف نجد حضوراً مميّزاً لبحث حجّية الظهور، وبشكلٍ لافت وتأسيسي.

تعرّض السيد المرتضى في كتاب (الذريعة) للبحث في الحقيقة والمجاز، وبعد أن أعطى تعريفاً لكلّ واحدٍ منهما، عطف الكلام للحديث عن أحكام الحقيقة، فذكر وجوب الحمل على الظاهر، فقرَّر قائلاً: «ومن حكم الحقيقة وجوب حملها على ظاهرها، إلاّ بدليلٍ. والمجاز بالعكس من ذلك، بل يجب حمله على ما اقتضاه الدليل. والوجه في ثبوت هذا الحكم للحقيقة أن المواضعة قد جعلت ظاهرها للفائدة المخصوصة، فإذا خاطب الحكيم قوماً بلغتهم، وجرَّد كلامه عمّا يقتضي العدول عن ظاهره، فلا بُدَّ من أن يريد ما تقتضيه المواضعة في تلك اللغة التي استعملها»([5]).

إن أهمّية نصّ السيد المرتضى في حجّية الظهور تكمن في تركيزه على الوجه التعليلي لوجوب الأخذ بظاهر الخطاب؛ ذلك أن كلّ لغةٍ من اللغات قد جرى أهلها في الوضع على إفادة معانٍ وقصود مخصوصة، اتّفقوا على أن تكون الألفاظ بظاهرها دالّةً عليها. وأهمّية هذا النصّ لا تكمن في ذكره للوجه التعليلي فحَسْب، وإنما تركيزه على عقلانية الأخذ بالظاهر من الخطاب؛ إذ الأخذ بالظاهر من الخطاب هو مقتضى المواضعة التي تمّت بين أهل اللسان، والفوائد المتوخّاة من المواضعة تحصل بالأخذ بما يظهر من الخطاب المنتمي إلى تلك اللغة. وهذا معناه أن خطابَ الحكيم في تلك اللغة إذا خلا من القيود والإضافات التي تدلّ على معانٍ جديدة زائدة عمّا هو مقتضى المواضعة والاتفاق بين أهل اللغة حجّةٌ في إفادة المعاني المتواضَع عليها، أي يجب الأخذ بظاهره والتعويل عليه حَسْبَ ما جرى عليه في استعمال أهل اللسان، ومن ثمّ يكون الإعراض عن ظاهر الخطاب، والقفز إلى استنباط دلالات ليس لها شواهد من نفس اللغة، يمثِّل انقلاباً على التواضع والاتفاق بين أهل اللغة.

ويُلاحَظ في نصّ المرتضى اتّفاقه مع أستاذه المفيد في أن الظهور والأخذ به من أحكام المعاني الحقيقية، دون المجازية.

ليس بعيداً عن هذه الأجواء تعرَّض الشيخ الطوسي، تلميذ المرتضى وزميله في التلمذة على الشيخ المفيد، في نصوص مقتضبة جدّاً لحجّية الظهور في كتابه الأساسي (العُدّة في أصول الفقه). في بحث حمل عنوان (ذكر الوجه الذي يجب أن يحمل عليه مراد الله بخطابه) أورد الطوسي نصّاً مرتبطاً ببحثنا، جاء فيه: «إذا ورد خطابٌ عن الله تعالى فلا يخلو من أن يكون محتملاً أو غير محتملٍ؛ فإنْ كان غير محتملٍ، بأن يكون خاصّاً أو عامّاً، وجب أن نحمله على ما يقتضيه ظاهره، إلا أن يدلّ على أنه أراد به غير ظاهره دليلٌ، فيحمل عليه. فإنْ دلّ دليلٌ على أنه أراد بالخاصّ غيره وجب حمله على ما دلّ عليه، وإذا دلّ على أنه لم يُرِدْ الخاصّ نظر فيه: فإنْ كان ذلك الخاصّ ممّا لا يتّسع إلاّ في وجهٍ واحد وجب أن يحمل على أنه مرادٌ به، وإلاّ أدّى ذلك إلى أن يكون ما أراد بالخطاب شيئاً أصلاً؛ وإنْ كان ممّا يتّسع به في وجوهٍ كثيرة وجب التوقُّف فيه، ولا يقطع على أنه أُريد به البعض؛ لعدم الدليل، ولا أنه أُريد به الجميع؛ لأنه لا دليل عليه أيضاً»([6]).

على أساس علاقة اللفظ بالمعنى ودلالته عليه قسَّم الطوسي الخطاب إلى أقسام. والأصل في تلك الأقسام الحمل على الظاهر والعمل به، إلاّ أن يقوم دليل على إرادة الخلاف. فالأخذ بالظاهر والاحتجاج به هو الأصل في التعامل مع الخطابات، سواء كان الخطاب إلهيّاً أو نبويّاً، كما نصّ في موضعٍ آخر.

وفق هذا المعنى يتّضح أن مرجعية التعامل مع الخطاب القرآني، فضلاً عن الخطابات الأخرى، تتمثَّل ـ وفق الطوسي ـ في الأخذ بظاهر الخطاب، فالأخذ بظواهر الخطاب مطابقٌ للموازين الدلالية التي جرى عليها أهل اللسان، فهو المرجعية التي يحتكم إليها، ولا يصحّ العدول عنها إلاّ بمقدار ما يدلّ عليه الدليل.

إن المقارنة بين نصوص المفيد والمرتضى والطوسي في بحث الظهور توقفنا على تميُّزٍ لكلمات المرتضى، يتمثَّل في بيان النكتة والحيثية التعليلية للأخذ بالظهور، واتّخاذه مرجعية في فهم الخطاب واستكشاف مراد المتكلِّم. وهذه النكتة وإنْ جاءت مقتضبةً، وبشكلٍ أوّلي، إلاّ أنها مهمّةٌ في إفادتنا لتطوُّر خطى البحث في حجّية الظهور عند المرتضى، كما أن هذه البذرة في التعليل سوف تنمو وتتطوّر بشكلٍ لافت في ظلّ أتون الصراع الأخباري الأصولي بشأن حجّية ظواهر القرآن الكريم.

ومن جهةٍ ثانية إن هؤلاء الأعلام، وهم يمثِّلون أقدم حقبة في التأليف الأصولي الواصل إلينا، بتقريرهم حجّية الظهور وما يمثِّله من مرجعيةٍ في التعامل مع الخطاب القرآني، يرفضون ضمناً دعاوى تعمية الخطاب القرآني ورمزيّته التي تسلب هذا الخطاب المقدَّس موضوعيةَ الظهور، ومن ثمَّ عدم صحّة التعويل عليه؛ ذلك أن القرآن الكريم نزل بلسان قومٍ جَرَت المعاملة الدلالية بينهم على الأخذ بظهور الخطاب لاستكشاف أغراض المتكلِّم، والحكيم الذي يستهدف أغراضاً معيَّنة قد جرى على ذلك السياق الدلالي في اللسان العربي المبين، أعني اتّخاذ الظهور مرجعيةً في الفهم وإيصال مقاصده وأهدافه.

برحيل الشيخ الطوسي عن الحياة الدنيا توقَّفت عجلة البحث والنموّ في علم أصول الفقه قَرْناً من الزمان، القرن الذي يُعْرَف بـ (المقلِّدة)، حيث تركت المكانة البارزة للطوسي أثراً سلبياً في الحواضر العلمية، أسهم في انكفاء وتراجع البحث العلمي، والركون إلى مجاراة الطوسي وتقليده في أفكاره وآرائه، حتّى أن الشيخ حسن زين الدين (959 ـ 1011هـ) قد كتب في (المعالم)، ناقلاً عن والده الشهيد (911 ـ 966هـ): «إن أكثر الفقهاء الذين نشأوا بعد الشيخ كانوا يتبعونه في الفتوى تقليداً له؛ لكثرة اعتقادهم فيه، وحسن ظنّهم به»([7]).

وهذه «الحقيقة، بالرغم من تأكيد جملةٍ من علمائنا لها، تدعو إلى التساؤل والاستغراب؛ لأن الحركة الثورية التي قام بها الشيخ في دنيا الفقه والأصول، والمنجزات العظيمة التي حقَّقها في هذه المجالات، كان من المفروض والمترقَّب أن تكون قوّةً دافعة للعلم، وأن تفتح لمَنْ يخلف الشيخ من العلماء آفاقاً رحيبة للإبداع والتجديد، ومواصلة السير في الطريق الذي بدأه الشيخ، فكيف لم تأخذ أفكار الشيخ وتجديداته مفعولها الطبيعي في الدفع والإغراء بمواصلة السير؟!»([8]).

لا يعنينا هنا التعرُّض للأسباب التي أدَّتْ إلى انكفاء الحركة العلمية بعد الطوسي، وقد استعرضها السيد الشهيد الصدر في (المعالم الجديدة للأصول)، وإنما نريد التأكيد على أن عجلة البحث الأصولي توقَّفت بموت الشيخ الطوسي، وما خلَّفه في كتاب العُدّة، قَرْناً من الزمان، إلى أن قيَّض الله تعالى الشيخ ابن إدريس الحلّي (543 ـ 598هـ)، ليفتح باب نقد الطوسي، ويعيد الحركة والنشاط للبحث العلمي الفقهي والأصولي، فكان ذلك إيذاناً ببدء مرحلةٍ جديدة من مراحل البحث الأصولي في حاضرةٍ علمية جديدة متمثّلة بمدرسة الحلّة.

يمكننا، ونحن نكتب هذه السطور في خاتمة هذه الحقبة، أن نخرج بمجموعةٍ من النقاط ترتبط ببحث الظهور في تلك المرحلة الزمنية:

1ـ إن البحث في الظهور في تلك الحقبة كان ابتدائياً ومحدود المسائل.

2ـ أصل حجّية الظهور والتعويل عليه.

3ـ أصل الكلام الظاهر في الحقيقة.

4ـ موضوع الظهور المعاني الحقيقية (الدلالة الوضعية).

5ـ العمل بالظهور منسجمٌ مع غرض الوضع.

6ـ التعليل الوحيد على العمل بالظهور جاء في كلمات المرتضى.

حجّية الظهور في مدرسة الحلّة

أسهمت خطوات ابن إدريس الحلّي النقدية في الخروج على آراء الشيخ الطوسي ومخالفتها، إلى جانب عوامل أخرى، بأن تدبّ الحياة والنشاط الفكري من جديدٍ في الحاضرة العلمية الشيعية في العراق، ولا سيَّما في مدينة الحلّة ـ مركز ابن إدريس ـ، التي نمَتْ فيها مدرسةٌ فكرية فعّالة، وبرز فيها إلى جانب ابن إدريس رجالُ فكرٍ مختلفون ومتعدّدون. وعلى الرغم من أن ابن إدريس لم يخلِّف لنا كتاباً في أصول الفقه، إلاّ أن معاصريه من رجال الفكر في الحلّة قد خلَّفوا مصنَّفاتٍ وآثاراً في علم أصول الفقه الشيعي، نحاول أن نستعرض من الواصل منها الموقف من حجّية الظهور:

1ـ من المحقِّقين الذين برزوا في مدرسة الحلّة، وألّفوا في علم الأصول، الشيخ نجم الدين جعفر الحلّي (602 ـ 676هـ)، الذي يُعَدّ من التلامذة غير المباشرين لابن إدريس، وهو مؤلِّف كتاب (شرايع الإسلام)، الذي أصبح بعد ذلك محوراً للبحث والتدريس في الحوزات العلمية.

من جملة ما خلَّفه المحقِّق الحلّي في الأصول كتابان: معارج الأصول؛ ونهج الوصول إلى علم الأصول. غير أنه لم يتعرَّض في المعارج للبحث في حجّية الظهور وتعريفه والوجه في التعويل عليه؛ ويبدو أن مرجع ذلك وضوح المسألة، أي مرجعية ظهور الخطاب. كما ويبدو من مجموع كلماته المتفرِّقة في سائر مواضيع علم الأصول تبنِّيه للاتجاه السائد في حجّية الظهور.

2ـ ليس بعيداً عن ذلك جاء العلاّمة الحسن بن يوسف الحلّي (648 ـ 726هـ)، تلميذ المحقِّق متقدّم الذكر، وهو الآخر تعرّض لبحث الظهور بشكلٍ مقتضب؛ ففي المبحث الثاني من كتاب مبادئ الوصول تعرَّض لتقسيم الألفاظ، فقال: «الرابع: اللفظ المفيد إنْ لم يحتمل غير ما فهم منه فهو النصّ؛ وإنْ احتمل: فإنْ تساويا فالمجمل؛ وإلاّ فالراجح ظاهرٌ، والمرجوح مؤوّلٌ»([9]).

ومن الواضح جدّاً أن حكم الظهور هو العمل به والتعويل عليه وفهم مراد صاحب الخطاب اعتماداً عليه. والخطاب الظاهر وفق كلام العلاّمة الحلّي هو التعريف المدرسي المتداول، أي ذلك اللفظ الذي له أكثر من معنى، غير أن علاقته بأحد المعاني تختلف عن علاقته بالآخر، فيكون أحدها راجحاً، والآخر مرجوحاً.

ويلاحظ أن العلاّمة الحلّي لم يحدِّد لنا موضوع الظهور، فهل موضوع الظهور هو المعنى الحقيقي، كما جرى على ذلك المفيد والمرتضى والطوسي من قَبْلُ، أو يشمل المعاني المجازية ليتجاوز الدلالات الوضعية؟ فكلّ هذه الأبحاث المهمّة والمصيرية في فهم الخطاب لا نجد لها حضوراً عند العلاّمة الحلّي.

وجاء في كتاب (تهذيب الوصول إلى علم الأصول): «اللفظ المفيد إنْ لم يحتمل غير معناه فهو النصّ، وهو الراجح المانع من النقيض؛ وإنْ احتمل وكان راجحاً فهو الظاهر»([10]). وذكر في بحث الاشتراك: «المراد بالذات من وضع الألفاظ إنما هو إعلام السامع بما في ضمير المتكلِّم، وقد تتبعه أمورٌ أخرى مرادة بالعَرَض. وإنما تحصل الغاية الذاتية عند اتّحاد الوضع، فإنه على تقدير تعدُّده تكون نسبة المعاني إلى اللفظ واحدة، فلا يتخصّص أحدها بالفهم، فتنتفي الغاية»([11]).

وفي تعريف الخطاب قال: «الخطاب هو الكلام المقصود به الإفهام، فلا يقع من المتكلِّم الحكيم المخاطبة بالمهمل؛ لاشتماله على النقض»([12]). وقال: «يمتنع أن يخاطب الله بشيءٍ ويريد خلاف ظاهره من دون البيان؛ وإلاّ لزم الإغراء بالجهل؛ ولأنه بالنسبة إلى غير ظاهره مهملٌ»([13]).

وفي نصٍّ آخر كتب: «خطاب الله تعالى يحمل على الحقيقة الشرعية إنْ وُجدَتْ، سواء وُجد غيرها من الحقائق أم لا. فإنْ انتفت الشرعية فالعُرْفية إنْ غلبت على اللغوية في الاستعمال؛ وإلاّ فهو مشتركٌ يفتقر في حمله على أحدهما إلى القرينة. وإنْ انتفت العُرْفية فاللغوية، وإنْ لم تكن فالمجاز. فإنْ تعدَّدَتْ العُرْفية حملت كلّ طائفة الخطاب على المتعارف عندها»([14]).

وإضافة إلى إسهامات العلاّمة الحلّي في علم أصول الفقه أسهم آخرون من علماء ورجالات الفكر في الحلّة في حركة التأليف والتصنيف الأصولي، وقد كتبت مؤلَّفات من قبيل: منية اللبيب، لمحمد بن الأعرج الحسيني (681 ـ 754هـ)؛ وغاية البادي، لركن الدين الجرجاني (كان حيّاً حتّى سنة 720هـ)، تلميذ العلاّمة الحلّي؛ وغاية السؤول وشرح المبادئ وشرح تهذيب الأصول وشرح مبادئ الوصول، للفاضل المقداد السيوري(826هـ)؛ وغيرها. لكنّ هذه الكتب غير مطبوعةٍ، فلا يسعنا استكشاف رؤية أصحابها في مسألة حجّية الظهور.

أعقب ذلك مجيء الشيخ حسن زين الدين العاملي (959 ـ 1011هـ)، نجل الشهيد الثاني، وألّف في علم الأصول كتابه المعروف «معالِم الدين وملاذ المجتهدين»، الذي أضحى مَتْناً دراسياً في الحوزات العلمية.

لم يزِدْ الشيخ حسن زين الدين شيئاً عما قرَّره السَّلَف في ما يرتبط بموضوع الوضع والمعاني الحقيقية والمجازية للألفاظ، وفي ما يرتبط بالحقيقة الشرعية واستعمال اللفظ المشترك وما سواها من أبحاث.

نعم، تعرّض الشيخ زين الدين إلى بحثٍ سيكون من الفصول الأساسية للبحث في حجّية الظهور، وهو الفصل المرتبط بإشكالية شمول الخطاب لغير المشافهين، فقرَّر قائلاً: «ما وُضع لخطاب المشافهة، نحو: يا أيّها الناس، يا أيّها الذين آمنوا، لا يعمّ بصيغته مَنْ تأخَّر عن زمن الخطاب، وإنما يثبت حكمه لهم بدليلٍ آخر. وهو قول أصحابنا وأكثر أهل الخلاف. وذهب قومٌ منهم إلى تناوله بصيغته لمَنْ بعدهم. لنا: إنه لا يُقال للمعدومين: يا أيّها الناس، ونحوه. وإنكارُه مكابرةٌ. وأيضاً: فإن الصبيّ والمجنون أقرب الى الخطاب من المعدوم؛ لوجودهما واتّصافهما بالإنسانية، مع أن خطابهما بنحو ذلك ممتنعٌ قطعاً، فالمعدوم أجدر أن يمتنع.

احتجّوا بوجهين: أحدهما: إنه لو لم يكن الرسول| مخاطباً لمَنْ بعده لم يكن مُرسَلاً إليه، واللازم منتفٍ. بيان الملازمة: أنه لا معنى لإرساله إلاّ أن يُقال له: بلِّغ أحكامي، ولا تبليغ إلاّ بهذه العمومات، وقد فرض انتفاء عمومها بالنسبة إليه. وأما انتفاء اللازم فبالإجماع.

والثاني: إن العلماء لم يزالون يحتجّون على أهل الأعصار من بعد الصحابة في المسائل الشرعية بالآيات والأخبار المنقولة عن النبيّ|، وذلك إجماعٌ منهم على العموم لهم.

والجواب: أما عن الوجه الأوّل فبالمنع من أنه لا تبليغ إلاّ بهذه العمومات التي هي خطاب المشافهة؛ إذ التبليغ لا يتعين فيه المشافهة، بل يكفي حصوله للبعض شفاهاً، وللباقين بنصب الدلائل والأمارات على أن حكمهم حكم الذين شافههم.

وأما عن الثاني فبأنه لا يتعين أن يكون احتجاجهم لتناول الخطاب بصيغته لهم، بل يجوز أن يكون ذلك لعلمهم بأن حكمهم ثابتٌ عليهم بدليلٍ آخر. وهذا مما لا نزاع فيه؛ إذ كوننا مكلَّفين بما كلِّفوا به معلومٌ بالضرورة من الدين»([15]).

في أوج تألُّق مدرسة الحلّة، ولا سيَّما في الدراسات العقلية والكلامية والأصولية، تلقّى التفكير الأصولي في أوائل القرن الحادي عشر الهجري صدمةً شديدة، أربكَتْه وعرقلت نموّه وتطوّره، وقد كان ذلك بفعل ظهور الحركة الأخبارية على يد الشيخ محمد أمين الأسترأبادي(1033هـ)، الذي عمل على نقد العقل النظري والعملي، وعارض الفكر الأصولي، الأمر الذي أشغلَ الأصوليين بمعارك فكرية وصراعات داخلية.

وبشأن متابعتنا التاريخية للبحث في حجّية الظهور في علم أصول الفقه الشيعي يحسن بنا هنا أن نقف عند انعطافةٍ مهمّة في تاريخ هذا البحث، تمثَّلت في موقف زعيم المدرسة الأخبارية الأسترأبادي من حجّية ظهور الخطاب القرآني، العمود الفقري للمعرفة الدينية، فقد اتّخذ الأسترأبادي موقف الرفض للعمل بظهور الخطاب القرآني، ولم يؤمن بحجّيته؛ استناداً إلى ظهور أخبار منقولة عن أئمّة أهل البيت^! وقد مثَّل هذا الموقف من الأسترأبادي خروجاً عن سيرة المسلمين القائمة منذ الصدر الأول للإسلام في العمل بالظاهر القرآني، وفهم مقاصد الوحي في العقيدة والشريعة.

ومن المهمّ في هذا المجال إيراد كلامه؛ إذ قال: «وأما استنباط الأحكام النظرية من ظواهر كتاب الله من غير سؤال أهل الذكر^ عن حالها، من كونها منسوخةً أم لا، مقيّدةً أو لا، مؤوّلةً أم لا، فقد جوّزه جمعٌ من متأخِّري أصحابنا، وعملوا به في كتبهم الفقهية، مثل: التمسُّك بعموم قوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ في إثبات صحّة العقود المختلف فيها، وهو أيضاً غيرُ جائزٍ»([16]).

من اللافت هنا، إذا جاز لنا التعامل بدقّةٍ مع نصّ الأسترأبادي، نسبته تجويز العمل بالظاهر القرآني إلى جمعٍ من متأخِّري أصحابنا. ومثل هذا التعبير يُوهِم أن المتقدِّمين من علماء الشيعة لم يكونوا على هذه الطريقة! وهو أمرٌ لا تساعد عليه سيرتهم ولا كلماتهم في العمل بظهور الخطاب القرآني. ورُبَما يفهم هذا التعبير من الأسترأبادي على سبيل المحاججة؛ لإظهار انقطاع المجوِّزين للعمل بالظاهر القرآني عن سيرة السَّلَف من علماء الشيعة، والتي حاول أن يجرّها إلى ما يتبنّاه من اتجاهٍ نظري في مجمل توجُّهاته!

تمسّك الأسترأبادي بوجوهٍ لإقصاء ظاهر الخطاب القرآني عن الحجّية، وهي أربعة([17]):

الأوّل: عدم ظهور دلالة قطعية على ذلك.

الثاني: إنّ فتح الباب أمام التمسُّك بظاهر الخطاب القرآني لاستنباط الأحكام النظرية (غير الضرورية) يوجب ترتُّب مفاسد. ومن الشواهد على ذلك أن علماء العامة من بقيّة فرق المسلمين قالوا في قوله تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾: إن المراد السلاطين.

الثالث: إنّ العمل بظاهر الخطاب القرآني منهيٌّ عنه بالروايات المتواترة عن أئمة أهل البيت^. وقد علَّلت تلك الروايات النهي بأسباب مختلفة، منها: إن القرآن لا يعرفه إلاّ مَنْ خوطب به؛ ومنها: إن القرآن نزل على وجه التعمية بالنسبة إلى أذهان الرعيّة؛ ومنها: إن القرآن قد نزل على قدر عقول أهل الذكر^؛ ومنها: إن العلم بالناسخ والمنسوخ من القرآن، والباقي على ظاهره وغير الباقي، لا يوجد إلاّ عند أهل البيت^.

الرابع: إنّ الظن ببقاء الخطاب القرآني على ظاهره إنما يحصل للعامّة، دون الخاصّة. وقد سبق من الأسترأبادي أن أوضح هذا الوجه في الفصل الخامس من كتابه، وممّا جاء فيه: إن العامة من سائر المذاهب يدَّعون أن النبيّ| قد أظهر لأصحابه كلّ ما نزل عليه، ولم يختصّ أحداً منهم بتعليمه. ومن جهةٍ ثانية لم تكن هناك ـ كما يدّعي العامة ـ دواعٍ لإخفاء ما جاء به النبيّ|، وإنما الدواعي توفّرت على أخذه ونشره. وهذا ينتج لنا أن عدم اطّلاع المجتهد على ما يوجب الخروج عن مقتضى البراءة الأصلية، وعدم عثوره على الناسخ والمقيّد والمخصّص والمؤوّل لآيةٍ أو سنّة، يورثه الظنّ بعدم وجود تلك المخصّصات والمقيّدات والناسخ والمؤوّل وما يخرج به عن البراءة في الواقع. وعلى أساس ذلك فإن أهل العامّة قد انعقد إجماعهم ـ كما يدّعي الأسترأبادي ـ على أن عدم ظهور المَدْرَك لحكمٍ شرعي مَدْرَكٌ لعدمه. غير أن هذه المقدّمات كما يرى الأسترأبادي كلّها باطلةٌ على مذهب الإمامية:

فأما المقدّمة الأولى التي تقول: إن ما جاء به النبيّ لم يختصّ به أحداً، وإنما أظهره لجميع أصحابه، فغير مسلَّمةٍ؛ باعتبار أن الدليل قد قام على أن النبيّ قد اختصّ الإمام عليّاً× وأهل بيته^ بتعليمهم ما نزل عليه وما جاء به.

وأما المقدّمة الثانية التي تقول بعدم وقوع فتنة بعد النبيّ توجب توفُّر دواعٍ للإخفاء من قبل المختصّين بالتعليم فغير مسلَّمةٍ هي الأخرى؛ لوقوع ذلك بشهادة التاريخ.

وإذا بطلت هاتان المقدّمتان بطل ما يترتّب عليهما، أعني تلك الفكرة التي تقول: إن عدم اطّلاع المجتهد يوجب الظنّ بعدم الوجود، والإجماع على أن عدم ظهور المَدْرَك لحكمٍ شرعيّ مَدْرَكٌ شرعيّ لعدمه.

وقد خلص الأسترأبادي في مسعاه لسلب الحجّية عن ظاهر الخطاب القرآني إلى القول: «وبالجملة عند المحقّقين من الأصوليين التفحُّص عن الناسخ والمنسوخ والتخصيص والتأويل واجبٌ. وطريق التفحُّص عندنا هو في سؤالهم^ عن حالها»([18]).

يُلاحَظ هنا أن هذا النمط من التدليل الذي ركن إليه الأسترأبادي يوجب وقفةً موسّعة لتفحُّصها ونقدها، وبيان ما لها وما عليها، وهو أمرٌ خارج عن اهتمام هذه الدراسة، التي تبتغي المتابعة التاريخية للبحث في حجّية الظهور؛ للوقوف على خطّها البياني وآفاقها المختلفة في دراسات علم أصول الفقه الشيعي. ولكنّنا نشير إلى ملاحظاتٍ عامّة واستفهاماتٍ يترك تعميقها إلى فرصةٍ مناسبة.

إن الحجّة الثانية التي استعان بها الأسترأبادي لإقصاء ظهور الخطاب القرآني عن الحجّية، والتي قرّر فيها أن العمل بذلك الظهور يوجب فتح الباب للمفاسد، حجّةٌ غير منضبطةٍ وغير واضحة المعالم؛ إذ فضلاً عن مفسدة تعطيل العمل بالظاهر القرآني، المبرِّر الوجودي لاستمرارية المعرفة الدينية، فإن المفاسد التي تخوَّف منها الأسترأبادي تبقى على حالها، حتّى مع القول بعدم جواز الرجوع للظاهر القرآني، وأوضح شاهدٍ على ذلك الاتجاهات الباطنية واتجاهات الغلاة التي استندت للروايات المنسوبة لأهل البيت^، وفسَّرت القرآن بشكلٍ لا يناسب اللغة ولا نظامها الدلالي، ولا ينسجم مع عقائد الإسلام، وتعاملت مع القرآن بوصفه رموزاً وألغازاً. ومفاسد هذه التوجُّهات أشدّ خطراً من تلك التي تخوَّف منها الأسترأبادي.

على أن علماء أصول الفقه لم يجيزوا العمل بظاهر العامّ القرآني وبمطلقاته إلا بعد الفحص عن المخصِّص والمقيِّد، والاطمئنان بعدم وجودهما، ومن ثمّ فلا وجه للتشبُّث بمحاولةٍ غير صحيحة لبعض علماء العامة في تطبيق آية طاعة أولي الأمر على السلاطين، ومقايستها بعمل الأصحاب بظاهر العامّ القرآني بعد عدم العثور على مخصِّص أو عدم تماميته؛ لتقرير عدم جواز العمل بظاهر الخطاب القرآني دفعاً للمفاسد!

أضِفْ إلى ذلك أن وقوع الاختلاف في التفسير، وهو أمرٌ لا مفرّ منه، ولا سيَّما بالنسبة إلى الآيات المتشابهة، لا ينبغي أن يكون مسوِّغاً ومنافياً للعمل بسائر الآيات ممّا ليس فيه اشتباهٌ، وبعد وجود قرائن على المراد منها.

وفي الواقع إن الأسترأبادي في هذا النمط من المحاولة يعمد إلى محاكمة ومحاجّة العاملين بالدليل الواضح وغير المشتبه بأخطاء غيرهم، وتحميلهم مسؤولية تطبيقاتهم الفاسدة، ويطلب منهم ترك العمل بالظهور القرآني الواضح؛ دفعاً للمفاسد التي وقع بها الآخرون!

وبشأن الوجه الثالث الذي تشبَّث به الأسترأبادي فينبغي أن يُلاحَظ هنا أن التماهي مع دلالة هذه النصوص ـ بغضّ النظر عن المناقشات السندية والدلالية فيها ـ ينقض الغرض من نزول القرآن الكريم والفائدة المرجوّة منه والحكمة المقصودة من إنزاله، وهو الذي نزل بلسانٍ عربيّ مبين، وبلسان قوم الرسول، فإن القصد في ذلك هو إفهام مقاصده ومراميه، ومع عدم الفهم؛ بسبب التعمية والترميز، ينتفي ذلك الغرض وينتقض!

أيّاً ما كان الأمر، وحتّى لا نتماهى كثيراً في نقد اتجاهات الأسترأبادي، والخروج بذلك عن هدف هذه الدراسة، فقد خلَّف اتجاه الأخباريين مع الأسترأبادي تداعياتٍ كثيرةً ألقَتْ بظلالها على المعرفة الدينية واتجاهاتها. كما أسهم بإذكاء صراعٍ في الحواضر العلمية، والذي برغم الوجوه المشرقة التي لاحت في ثنايا مواجهته الفكرية ومقاومة انتشاره، غير أنه في الوقت ذاته أسهم بشكلٍ واضح في عرقلة حركة عجلة المعرفة في علم أصول الفقه، حيث انشغل الروّاد من هذا الفنّ في تلك الحقبة بذلك الصراع الداخلي، الذي اعتمد الجَدَل بشكلٍ كبير، والجَدَل بطبيعته يوظِّف معطياتٍ قد تكون غير محقَّقةٍ وخاطئة، ويراكمها، فيلقي ذلك تشويشاً ورماداً على الإرث الأصولي.

كما أن هذه الانعطافة في تاريخ البحث في حجّية الظهور، والتي أثارها الأسترأبادي، ستشكِّل في ما بعد نقطةً محورية في بحوث علم أصول الفقه في مدرستَيْ كربلاء والنجف الحديثة، حيث يتوقّفون لنقد هذا الاتجاه بأدواتٍ مختلفة يتداخل فيها المعطى العقلي والنقلي وبحوث الدلالة وفلسفتها، ممّا يعني أن إشكالية حجّية ظهور الخطاب القرآني احتلّت موقعها كبحثٍ مهمّ في مسألة حجّية الظهور.

في الوقت الذي كان يعمل الأسترأبادي على نقد العقل، وما أثاره من إشكالية ترتبط بحجّية ظاهر الخطاب القرآني، وما تخلَّل ذلك من ركودٍ في الدراسات الأصولية، كان الفاضل عبد الله التوني الخراساني(1071هـ) يعمل على التصنيف في علم الأصول وتحقيق مسائله، فأخرج لنا مؤلَّفه المشهور (الوافية في أصول الفقه)، الذي يُعَدّ من الكتب المهمّة والرائدة في هذا العلم.

وفي ما يرتبط بمتابعتنا للبحث في حجّية الظهور ومسائلها فقد تعرّض الفاضل التوني في (الوافية) إلى أبحاثٍ متعدّدة ترتبط بمسألة الظهور وفهم الخطاب، فتوقّف للبحث عن الحقيقة والمجاز، والأصل عند التردّد فيهما. كما تعرّض إلى مسألة أن حجّية ظواهر الخطابات الشرعية لا تختصّ بالمشافهين والموجودين في زمان الوحي، وحجّية مطلق ظواهر القرآن الكريم، ثمّ عاد في موضعٍ آخر من الكتاب لاستكمال الحديث عن حجّية الظاهر القرآني.

بدايةً قرَّر التوني أن الدلالة الحقيقية هي الدلالة الوضعية، أي استعمال الألفاظ في المعاني الموضوعة لها. غير أن هذا الوضع تارةً يكون لغوياً؛ وأخرى شرعياً (حقيقة شرعية)؛ وثالثة عُرْفياً([19]).

أما عند التردُّد في استعمال اللفظ بين المعنى الحقيقي الموضوع له والمجازي فيقرِّر التوني، كما هو الاتجاه السائد، أن الأصل حينئذٍ هو الحقيقي. قال: «الأصل في اللفظ أن يكون مستعملاً في ما وضع له حتّى يثبت المخرج، فإذا دار اللفظ بين الحقيقة والمجاز رجّحت الحقيقة. وكذا إذا دار بينها وبين النقل أو التخصيص أو الاشتراك أو الإضمار»([20]).

إن موقف التوني في هذا المجال لا يختلف عن الموقف المتداول في أن الدلالة الوضعية هي المرادة في الاستعمال حَسْب الظاهر، فلا نخرج عنها إلاّ بدليلٍ.

وفي ما يخصّ مسألة اختصاص الظهور بالمشافهين أو كونه عامّاً لغيرهم فقد قال التوني: «الحقّ أن الخطابات الواردة بصيغة النداء، وكلمة الخطاب، كالكاف والتاء، وغير ذلك، ممّا خلقه الله تعالى في الملك ونحوه، وأمره بإنزاله إلى السماء الدنيا في مدّةٍ أو في ليلة القدر، ومنها إلى النبيّ| في مدّةٍ مديدة بالتدريج، ليبلِّغَه هو وأوصياؤه من عترته صوات الله عليهم أجمعين إلى أمّته إلى يوم القيامة، ليست مختصّةً بالموجودين في زمان الوحي، بحيث يكون كلُّ خطابٍ منها مختصّاً بمَنْ استجمع شرائط التكليف حين نزوله، ولا يكون شاملاً لمَنْ تأخَّر، كالخطابات الملكية لمَنْ تولّد حين توطين النبيّ| بالمدينة؛ ولا مختصّةً بحاضري مجلس النبيّ| حين قراءتها، خلافاً للأكثر ممَّنْ صنَّف في الأصول من الشيعة والنواصب، حيث جعلوها مختصّةً بالموجودين في زمن الخطاب، أو بحاضري مجلس الوحي، وجعلوا ثبوت حكمها لمَنْ بعدهم بدليلٍ آخر، كإجماعٍ، أو نصٍّ، أو قياس. لنا: مساعدة الظواهر من غير معارضٍ، إلاّ الشبهة الواهية للخصم. وهي أمورٌ…»([21]).

ثمّ استعرض الوجوه التي استدلّ بها الآخرون، وركَّز في الخامس منها على الظواهر، التي حشَّد فيها الآيات والروايات، وتعرَّض للجواب عن تلك الحجج.

إن الفاضل التوني يقرِّر لنا في هذا النصّ بوضوحٍ أن ظواهر الخطابات الشرعية من الكتاب والسنّة لا تختصّ بالمخاطبين والموجودين من المشافهين، وإنما هي ظاهرةٌ لكلّ متلقٍّ للخطاب؛ ولعلّ الوجه في ذلك هو طبيعة الوضع والغاية منه.

أما إشكالية حجّية ظهور الخطاب القرآني، وجواز الاستناد إليه في مقام استنباط الأحكام النظرية المختلفة، فقد أكّد الفاضل التوني في ثنايا حديثه على أن الظاهر هو: «الذي يفهم بحَسَب الوضع اللغوي»([22])، غير أن التوني شكَّك في وجوب اتّباع ما يُفْهَم من ظاهر الخطاب القرآني على الإطلاق؛ لوجوهٍ أطال فيها([23]).

لكنّ الفاضل التوني عاد في موضعٍ آخر لاستكمال الحديث عن حجّية الظاهر القرآني، وقد قرَّر أن استنباط الأحكام من الآيات الأحكامية يتوقّف على العلم بها، وهو ظاهرٌ([24]). ثمّ استعرض الوجوه التي استند إليها الأخباريون، والجواب عنها؛ ليصل إلى النتيجة المتقدّمة، أي الاستناد لظاهر الخطاب القرآني في الاستنباط، وهو حجّية الظهور.

وممّا يُلاحَظ هنا أن الحقبة السابقة زمانياً لظهور التيار الأخباري الحديث لم تشهد كتب علم الأصول المؤلَّفة فيها ظهور مصطلح (حجّية الظهور) بهذا التركيب، بل لا نجد حضوراً واضحاً في بيان الوجه التعليلي في اعتبار الظهور والاستناد إليه في مقام فهم مقاصد وغايات المتكلِّم واكتشاف أغراض الخطاب؛ ولعلّ ذلك يشي بأن مسألة اعتبار الظهور والتعويل عليه وحجّيته بشكلٍ كلّي أمرٌ مفروغ منه، ولا معنى للبحث فيه، والاستدلال عليه. ويبدو لنا أن هذا المصطلح (حجّية الظهور) قد ظهر للوجود في أعقاب النزاع الأخباري الأصولي، ذلك الصراع الحادّ الذي اقتضى من الأصوليين التوسُّل بأدواتٍ متعدّدة لمجابهته وتحجيمه وردّ مقولاته، فظهرت لنا مقولات من قبيل: حجّية الظهور، وحجّية القطع الذاتية حتّى لو نشأ القطع من رفّة جناحٍ أو اصطكاك حجرين، وسواء كان عن أسبابٍ موضوعية أو ذاتية، وسواء كان عقلياً أو شرعياً، بلا فَرْقٍ.

ملامح مرحلةٍ جديدة

تأثَّرت أوساطٌ علمية كثيرة بالتيار الأخباري، وبالنزعة التي مثَّلها الأسترأبادي، وذاع صيتها، وكثر أتباعها. والأسترأبادي، بعد أن نقد العقلين النظري والعملي، ورفض حجّيتهما، صار إلى التأسيس لأصل الأخذ بالنقل مطلقاً عند تعارضه مع العقل، فكان من تداعيات ذلك تقديم آحاد الأخبار على العقل وأحكامه في أبواب المعارف المختلفة.

غير أن هذا الاتجاه، الذي اتّخذ من كربلاء المقدسة مقرّاً له، لم يكن خليّ السرب، وإنّما كان ثمّة اتجاهٌ يُعِدُّ العُدّة لإرجاع الأمور إلى نصابها الصحيح، رافضاً المساس بحجّية ظاهر الخطاب القرآني، أو التجاوز على حريم العقل في العقائد والأصول. وقد مثَّل هذا الاتجاه بحقٍّ العلاّمة الوحيد محمد باقر البهبهاني (1118 ـ 1206هـ)، الذي ألَّف في التحسين والتقبيح وحجّية العقل في المستقلاّت العقلية.

وبرغم أن الحائري لم يخلِّف كتاباً خاصّاً بعلم أصول الفقه على النَّسَق والترتيب المعهود، ولكنّه في كتاب (الفوائد الحائرية) توقَّف لبحث كثيرٍ من مسائل علم الأصول، بل هي الغالب عليه. وقد كان لحجّية الظهور حضورٌ واضح في هذا الكتاب، وإنْ لم تكن بعنوانٍ مستقلّ، ولكنّه بحث هذه المسألة في عناوين مختلفة، من قبيل: الفائدة الثامنة والعشرون في حجّية القرآن، وقد خصّها لنقد دعوى الأخباريين. وكذلك في الفائدة السابعة والعشرون من الخاتمة في أن الأئمة^ كانوا يتكلّمون على طريقة المحاورات العُرْفية، وكذلك في الفائدة التاسعة عشرة في عدم جواز العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصِّص. وسوف ننتقي من هذه العناوين المقدار الذي يصبّ في صالح هذه المتابعة التاريخية للبحث في حجّية الظهور.

في ما يخصّ حجّية ظاهر الخطاب القرآني نصّ البهبهاني قائلاً: «الأخباريون منعوا عنها مطلقاً. وهو في غاية الغرابة؛ لأن الحجّة قول الله تعالى، وأما قول الرسول| والأئمّة^ إنما يكون حجّةً في الأحكام الشرعية من حيث كونه كاشفاً عن قوله تعالى، فلا معنى للتوقُّف في كون قول الله تعالى حجّةً! فكيف يحكم بعدم كونه حجّةً من جهة ما يتوهّم من بعض الأخبار؟ إذ على تقدير أن يكون نصّاً صريحاً في عدم حجّية قول الله تعالى كيف يجوز العمل به؟ وحاشاهم^ أن يأمروا بعدم طاعة قول الله، وعدم جعله حجةً، كيف وهم^ صرَّحوا مكرّراً كثيراً أنه ما لم يكن حديثهم موافقاً للقرآن (فاضربوه عرض الجدار)، وأنه زخرفٌ، وأنا لا نقول خلاف القرآن أبداً، وأنه ما لم تجدوا للحديث شاهداً من القرآن فلا تعملوا به. وصرَّح الرسول| في الخبر المتواتر بأنه تاركٌ فينا الثقلين: كتاب الله؛ وعترته أهل بيته، وجعلهما حجّةً علينا إلى يوم القيامة، وأمرنا بالأخذ بهما، وأكَّد وشدَّد، وورد عنهم^: إنما يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله تعالى، حين سئلوا عن وضع المرارة على الإصبع حال الوضوء إلى غير ذلك. وفقهاء الشيعة في الأعصار والأمصار كان دَيْدَنهم الاستدلال والتمسُّك به»([25]).

يركِّز الوحيد البهبهاني في هذا النصّ على عدم معقولية سلب حجّية ظاهر الخطاب القرآني، ومرجع ذلك إلى أن حجّية قول النبيّ والأئمّة^ في الأحكام الشرعية معلّلةٌ بكاشفيتها عن حجّية قول الله تعالى الأصليّة، فكيف يُتَصَوَّر أن الحجّية الفرعية العَرَضية تسلب حجّية ما بالأصل والذات؟!

والملفت هنا أن البهبهاني يردّ على دعوى الأسترأبادي، أن جمعاً من متأخِّري علماء الشيعة أجازوا العمل بظاهر الخطاب القرآني في استنباط الأحكام النظرية منه، بالقول: إن التمسُّك بظاهر الخطاب القرآني والعمل به والاستدلال كان دَيْدَن فقهاء الشيعة في الأعصار والأمصار!

ويمضي الوحيد البهبهاني في التأصيل لحجّية ظاهر الخطاب القرآني، فيكتب مقرِّراً: «والحاصل أن القرآن كلامه تعالى يقيناً، فإذا ظهر مراده فلا يمكن التأمُّل؛ لأنه في الحقيقة تأمُّلٌ في كونه تعالى حجّةً يجب اتّباع قوله تعالى، وامتثال أمره ونهيه، والاعتداد بخطاباته وأحكامه، ولا يرضى بذلك كافرٌ، فضلاً عن مؤمنٍ، سيَّما أن يكون التأمُّل من جهة ادّعاء ظهورٍ من ظواهر بعض الأخبار! وأين سند القرآن ومتنه من سنده ومتنه؟ وأما الدلالة فرُبَما كانت قطعيةً؛ ورُبَما كانت ظنّيةً في غاية القوّة، ورُبَما كانت ظنّيةً مقابلة للظنّ الحاصل من الأخبار، مع أنه حجّةٌ عندهم قَطْعاً»([26]).

ويستمرّ البهبهاني في نقد الأحاديث التي استند إليها الأسترأبادي وغيره للمنع من حجّية ظواهر الخطابات القرآنية.

إن البهبهاني، وبرغم عدم تناوله للبحث في حجّية الظهور بعنوانه، ولم ينقِّح لنا حقيقته وموضوعه، فلا يَسَعُنا التعرُّف على تفاصيل طبيعة رؤيته للمسألة في ما يرتبط بتعريف الظهور والوجه التعليلي في حجّيته، إلاّ أننا؛ ومن خلال مجموع كلماته المتفرِّقة في سائر الأبحاث الواردة في الفوائد الحائرية، يمكننا التعرُّف على قضيةٍ كلّية يبني عليها البهبهاني، تتمثَّل في حجّية الظهور مطلقاً، سواء كان قرآنياً أو غيره، وجواز التعويل عليه وحجّيته في معرفة مراد وقصد المتكلِّم.

وعلى منوال الوحيد البهبهاني جرى تلميذه السيد محمد مهدي بحر العلوم (1155 ـ 1212هـ)، فقد عقد في كتابه (الفوائد الأصولية) فائدةً في حجّية الكتاب العزيز، تناول فيها بالنقد دعوى الأخباريين ومستندهم، دون أن يذكرهم بالاسم. وقد قرَّر فيها حجّية ظهور الخطاب القرآني، ولا سيَّما في الحكم منه. ومن المستحسن إثبات نصّ كلامه، حيث سجّل قائلاً: «الكتاب هو القرآن الكريم، والفرقان العظيم، والضياء والنور، والمعجز الباقي على مرّ الدهور، والحقّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يدَيْه ولا من خلفه، تنزيل من لدُنْ حكيمٍ حميد، أنزله بلسانٍ عربي، هدىً للمتقين، وبياناً للعالمين، وأنه الخطيب الآمر، والواعظ الزاجر… والمحكم منه حجّةٌ بنفسه، وما تشابه منه حجةٌ، فالمرجع فيه إلى أهله، وهم قرناء التنزيل وعلماء التأويل، والعلم اليقيني بجميع القرآن، مُحْكَمه ومُتشابِهه وظاهره وباطنه، مختصٌّ بهم، وبذلك كان تبياناً لكلّ شيءٍ، وشفاءً من كلّ جهلٍ وعمىً، وعليه تنزيل الروايات المتضمّنة لاختصاص علمه بهم، ووجوب الرجوع في تفسيره إليهم. وأما الخبر المشتهر: لا يجوز تفسير القرآن إلاّ بالأثر الصحيح والنصّ الصريح فالمراد به تفسير المشكل، وبيان المعضل، لا تفسير جميع القرآن، وإلاّ لزم قصره على المتشابه، أو احتاج المحكم منه ـ وهو البيِّن بنفسه ـ إلى البيان. وكلا الأمرين معلوم البطلان. وقد أطبق جماهير العلماء من جميع الفِرَق منذ عهد النبيّ| إلى يومنا هذا على الرجوع إلى الكتاب العزيز، والتمسُّك بمُحْكَماته في أصول الدين وفروعه، وفي سائر العلوم المتشعِّبة والفنون المتنوّعة، من غير نكيرٍ ولا توقُّف على ورود تفسير، بل أوجبوا عرض غيره عليه، كما ورد الأمر به في الأخبار المتكاثرة والنصوص المتواترة»([27]).

يتعرَّض بحر العلوم في هذا النصّ بالنقد لمستند الأخباريين، مبيِّناً أن إسقاط حجّية ظواهر الخطاب القرآني مخالفٌ لسيرة علماء المسلمين من عهد النبيّ|، فضلاً عن مخالفة تلك الدعوى لنصوص الأئمّة^.

إن نصّ بحر العلوم وأستاذه البهبهاني من قَبْلُ يمثِّلان شاهداً على ما ألمحنا إليه سابقاً، من أن إثارة الأسترأبادي بشأن حجّية ظواهر الخطاب القرآني مثَّلت انعطافةً مهمّة وخطيرة في تاريخ البحث في حجّية الظهور، ممّا أوجب التوقُّف عندها بالنقد. وهو بدَوْره شاهدٌ على أن الإثارات الخاطئة تضخّ الدماء في البحث العلمي والمعرفي، وتوجب التأصيل للمسائل الفكرية المختلفة، برغم ما تثيره من إعاقاتٍ سيئة في جوانب أخرى. فالإثارة وردّ الإثارة تمثِّل عنصراً مهمّاً في حركة المعرفة، وخروجها عن حالة الجمود والتكرار، ممّا يوجب التعامل مع الإثارات بروحٍ علمية متفائلة. والمراجعة البسيطة لتاريخ العلوم توقفنا على أن بعض الإثارات الخاطئة كانت عاملاً مهمّاً في تبلور كثيرٍ من المجالات المعرفية.

وأيّاً ما كان الأمر فالمُلاحَظ في ما يرتبط بمحلّ البحث أن حجّية الظهور لم تَحْظَ بحضورٍ لافت وبعنوانها في دراسات البهبهاني الأصولية، ودراسات تلميذه بحر العلوم، بمعنى أن الخطّ البياني للبحث في حجّية الظهور بعد مدرسة الحلّة لم يشهد تصاعداً ملحوظاً ولافتاً، وإنما حافظ على سيره الرتيب، إنْ لم نقُلْ بتعرُّضه لانتكاساتٍ في تلك الفترة، برغم أهمّية تلك الحقبة الزمنية في تحريك عجلة المعرفة الدينية بفعل الصراع الأخباري الأصولي، وطبيعة الأدوات التي وظَّفها الأصوليون في منافحة خصومهم. غير أننا سنشهد مع التلميذ الآخر للبهبهاني، أعني الشيخ جعفر كاشف الغطاء (1156 ـ 1228هـ)، في قسم الأصول من كتابه (كشف الغطاء)، تطوُّراً ملحوظاً في تناول مسألة الظهور والأبحاث المرتبطة به.

في مبحث (مقتضى القاعدة في التخاطب) نصَّ الشيخ جعفر كاشف الغطاء قائلاً: «إنّ مقتضى القاعدة في التخاطب حمل كلام المتكلِّم في مكالمته، أو المرسِل في رسالته، أو الكاتب في مكاتبته، على مصطلحه، وعلى ما وضع له في لغته، أو عُرْفه العامّ أو الخاصّ، في جميع أخباره وأحكامه؛ دون المخاطَب في باب المخاطبة أو المرسَل إليه في باب الرسالة، أو المكتوب في باب الكتابة»([28]).

بنى الشيخ كاشف الغطاء المضمون أعلاه على ما تقدَّم منه في باب الوضع؛ إذ قرّر هناك قائلاً: «إنه قد علم من تتبُّع السِّيَر والآثار، والنظر في الطريقة المستمّرة على مرور الدهور والأعصار، أنّ كلّ مَنْ عني بتفهيم المعاني كثيرة الدَّوَران ـ لعامّة آحاد نوع الإنسان أو لخصوص صنفٍ منه كائناً مَنْ كان ـ التزم بوضع المباني لتلك المعاني؛ لكثرة حصول الإجمال في المجازات، وتحمّل المؤونة بنصب القرائن، وخفائها في أكثر الأوقات»([29]).

إن القراءة الفاحصة لهذين النصّين توقفنا على مجموعة أمور بنى عليها الشيخ كاشف الغطاء:

1ـ حجّية الظهور والتعويل عليه في الإفهام والتفهيم.

2ـ إن الفهم والظهور هو المعاني الموضوعة لها الألفاظ في اللغة (المعاني الحقيقية)، فالظاهر هو الدلالة الوضعية التصوُّرية، التي يتمسّك بها بناءً على الأصل، وعدم نصب القرينة على إرادة الخلاف.

3ـ إن العمل بالظاهر في القاعدة في التعامل مع الخطاب، إلاّ أن تقوم قرينةٌ على الخلاف.

4ـ في ما يخصّ الاستعمال يلزم البناء على عُرْف وفهم وقت الخطاب، ولا عبرة بغيره. وحينئذٍ إنْ عُلم الاتّحاد فلا مشكلة، وإنْ جُهل الحال في أحدهما وعُلم في الآخر بُني على المعلوم، فما صدر من الأوائل محمولٌ على العُرْف المعلوم عند الأواخر، وبالعكس. وإنْ عُلم اختلافهما كان خطاب كلّ وقتٍ محمولاً على عُرْفه، فما ورد من الشرع يحمل على عُرْف يوم الورود، فإنْ كان فيه مصطلحٌ شرعي عُمِل عليه، وإلاّ فعلى الحقيقة العُرْفية العامّة، ثمّ اللغة([30]).

إن ممّا امتاز به الشيخ كاشف الغطاء في تناوله لمباحث الألفاظ والدلالة والظهور وما يرتبط به من مسائل يتمثَّل في بحثها بشيءٍ من التفصيل والاستيعاب قياساً بالمرحلة الزمنية التي عاشها، وقد كانت هذه الأبحاث وقتئذٍ نيئةً في الدراسات الأصولية.

وعلى سيرة شيخه البهبهاني في التعرُّض لإشكالية ظاهر الخطاب القرآني، التي أثارها الأسترأبادي، توقَّف الشيخ كاشف الغطاء عند تلكم الإشكالية؛ لاستكمال بحثه المرتبط بالظهور وحجّيته، فقرَّر قائلاً: «في أن لزوم العمل بالقرآن في الجملة، وفهم معانيه كذلك، يكاد أن يلحق بالضروريات وبالمتواترات معنىً، فإن مَنْ تتبّع الروايات، وأمعن النظر في كلام الأئمّة الهداة، واطّلع على احتجاجهم على أهل الكتاب وغيرهم بآيات الكتاب، واحتجاج الأصحاب بها خَلَفاً بعد سَلَف، ألحق المسألة بالضروريّات. مضافاً إلى سيرتهم المألوفة وطريقتهم المعروفة في العمل به. مع أنه المرجع في ترجيح الأخبار، والميزان الذي عليه المدار باتّفاق جميع علماء الأعصار. مع خلوّ أكثره عن تفسير الأخبار. ومَنْ أنكر ما قلناه، ولم يذهب إلى ما حرَّرناه، فقد خالف قولُه عملَه وعملَ الأئمّة^، والعلماء الماضين، في مخاطبة الناس ـ حال الوَعْظ والنصيحة ـ بالآيات المتعلّقة بهما، مع خلوّها عن تفسير الأحاديث… ولقد أضاعوا فصاحة القرآن وبلاغته وإعجازه، فلا يكون حجّةً إلاّ على مَنْ أذعن بالحجّية، وأقرّ بالأئمّة^، وعرف أخبارهم في التفسير! ثمّ إنه عبَّر عنه في الآيات المعلوم تفسيرها بالفرقان، والبيان والتبيان. وما ورد من بعض الأخبار التي بعثت هؤلاء على الجحود والإنكار منزّلة على الردّ على مَنْ أنكر المُجْمَلات والمُتَشابِهات، ونزّل على مذاقه معاني الآيات؛ لأن الأمر من البديهيات»([31]).

نلاحظ أن كاشف الغطاء في ما يرتبط بتعرّضه لإشكالية ظهور الخطاب القرآني قد قرَّر مجموعة أمور:

1ـ حجّية ظهور الخطاب القرآني من الضروريّات.

2ـ الاستدلال على حجّية ظهور الخطاب القرآني بروايات الأئمّة^، وبسيرتهم وسيرة أصحابهم والعلماء من بعدهم.

3ـ إن سلب حجّية ظهور الخطاب القرآني مساوٍ لسلب حجّيته وقدرته على مخاطبة غير المؤمن؛ إذ مع عدم حجّيته وحجّية الفهم الراجح والظاهر منه كيف يمكن عرضه على الآخرين؛ لإثبات إعجازه لهم؟ وما لم يفهموه كيف يدركون إعجازه؟ إذن سلب حجّية الظهور القرآني إبطالٌ لبلاغته وفصاحته وإعجازه، وهذا ينتج لنا أن حجّية القرآن مختصّةٌ بمَنْ آمن بأئمّة أهل البيت^ واطّلع على رواياتهم التفسيرية!

وفي ما يخصّ الأمر الثالث نلاحظ تطوّراً ملحوظاً في كيفية مواجهة إشكالية الأسترأبادي، وذلك ببيان لازمها الباطل، المتمثِّل في إضاعة قابلية القرآن للعَرْض على الآخرين.

أما الأمر الثاني فالمُلاحَظ فيه رجوعٌ في المستوى عما كان قد قرَّره قَبْلاً الوحيد البهبهاني؛ لأنه من الاستدلال بالحجّية الفرعية على حجّية ما بالذات، فحجّية روايات الأئمة وسيرتهم، وهي ظهوراتٌ مقاليّة وحاليّة، متفرّعةٌ على حجّية كلام الله تعالى التي أعطاها للمعصومين^ في أقوالهم وأفعالهم. فالاستدلال بها لا يخلو من شبهة دَوْرٍ! وكأنّ الشيخ كاشف الغطاء يستدلّ بظهور الروايات على حجّية ظهور القرآن، في مقابل أولئك الذين يسلبون حجّية ظهور الخطاب القرآني بالاستناد إلى ظهور الخطاب في بعض الروايات!

في ذات الحقبة التاريخية التي قرَّر فيها كاشف الغطاء ذلك كتب المحقِّق أبو القاسم القمّي(1231هـ) كتابه المهمّ والمعروف (قوانين الأصول)، وقد تعرَّض فيه إلى بحث الظهور بشكلٍ لافت ومستوعب إلى حدٍّ ما.

بعد أن بيَّن المعنى المعروف في الحقيقة والمجاز نصّ قائلاً في أصالة الحقيقة: «كلّما استُعْمِل لفظٌ خالياً عن القرينة فالأصل الحقيقة، أعني به الظاهر؛ لأن مبنى التفهيم والتفهّم على الوضع اللفظي غالباً، ولا خلاف لهم في ذلك»([32]).

وفي أصالة الظاهر قرَّر قائلاً: «قد ذكرنا أن الأصل في التفهيم والتفهُّم هو الوضع، وأيضاً الأصل والظاهر يقتضيان عدم إرادة الزايد على المعنى الواحد، وعدم وضع اللفظ لأكثر من معنىً حتّى يكون مشتركاً أو منقولاً، وعدم إرادة معنىً آخر من اللفظ بقرينةٍ حاليّة أو مقاليّة، فهو وإنْ احتمل إرادة هذه الأمور ولم يكن قرينة عليها فلا رَيْبَ أنه يحمل على الموضوع له»([33]).

إن ظاهرة وجود اللغة والوضع يقتضيان ـ وفق هذا النصّ ـ التعاهد الضمني العام من قِبَل أبناء اللغة على استعمال الألفاظ في معانيها الموضوعة لها، وأن لا يتمّ الخروج عن هذا الأصل إلاّ مع نصب القرينة، ووفق ذلك يكون العمل بالظهور والاستناد إليه كائناً في بطن اللغة والوضع.

وبشأن حجّية ظهور الخطاب القرآني فقد أكّد المحقِّق القمّي قائلاً: «الحقّ جواز العمل بمُحْكَمات الكتاب، نصّاً كان أو ظاهراً، خلافاً للأخباريين، حيث قالوا بمنع الاستدلال بكلّه، على ما نسب إليهم بعضهم، وقال: إن مذهبهم أن كلّ القرآن مُتشابِهٌ بالنسبة إلينا، ولا يجوز أخذ حكمٍ منه إلاّ من دلالة الأخبار على بيانه، وهو الأظهر من مذهبهم؛ أو بالظواهر فقط، على ما يظهر من آخر. وفصَّل بعض الأفاضل، فقال: إن أرادوا أنه لا يجوز العمل بالظواهر التي ادُّعِيَتْ إفادتها للظنّ المحتملة لمثل التخصيص والتقييد والنسخ وغيرها؛ لصيرورة أكثرها متشابِهاً بالنسبة إلينا فلا يفيد الظنّ، وما أفاد الظنّ منه قد منعنا عن العمل به، مع قبول أن في القرآن مُحْكَماً بالنسبة إلينا أيضاً، فلا كلام معهم؛ وإنْ أرادوا أنه لا مُحْكَم فيه أصلاً فهو باطلٌ. أقول: وهذا التفصيل غفلةٌ عن محل النزاع؛ فإن هذا التشابه على الوجه الذي ذكره لا اختصاص له بالكتاب، بل هو يجري في الأخبار أيضاً، وقد مرّ بيانه في باب وجوب البحث عن المخصِّص في العام. بل النزاع في المقام إنما هو بالنسبة إلى خصوص الكتاب، وإنما نشأ هذا النزاع من جهة بعض الأخبار الذي دلّ على أن علم القرآن مختصٌّ بالمعصومين^، وأنه لا يجوز تفسيره لغيرهم، وذلك لا يختص بوقتٍ دون وقتٍ، وبزمانٍ دون زمان. وأما ما ذكره المفصِّل فهو إنما يصحّ في زمان عروض الاختلالات، لا في أول زمان النزول، فنقول: الحقّ القول بجواز العمل؛ فأما في الصدر الأول الذي خوطب به المشافهون فلأن الضرورة قاضيةٌ بأن الله تعالى بعث رسوله| وأنزل إليه الكتاب بلسان قومه، مشتملاً على أوامر ونواهي ودلائل لمعرفته، وقصصاً عمَّنْ غبر، ووعداً ووعيداً وإخباراً بما سيجيء، وما كان ذلك إلاّ لأن يفهم قومه ويعتبروا به، وقد فهموا وقطعوا بمراده تعالى من دون بيانه|، وما جعل القرآن من باب اللغز والمعمّى بالنسبة إليهم، مع أن اللغز والمعمّى أيضاً ممّا يظهر للذكيّ المتأمِّل من أهل اللسان والاصطلاح، بل أصل الدين وإثباته إنما هو مبنيٌّ على ذلك؛ إذ النبوة إنما تثبت بالمعجزة، ولا رَيْبَ أن من أظهر معجزات نبيِّنا| وأجلّها وأتقنها هو القرآن…

ومن جميع ذلك ظهر أن حجّية ظواهر القرآن على وجوهٍ؛ فبالنسبة إلى بعض الأحوال معلوم الحجّية، مثل: حال المخاطبين بها، وبالنسبة إلى غير المشافهين مظنون الحجّية. وكونها مظنون الحجّية إما بظنٍّ آخر علم حجّيته بالخصوص، كأنْ نستنبط من دلالة الأخبار وجوب التمسُّك بها لكلّ مَنْ يفهم منها شيئاً؛ وإما بظنٍّ لم يعلم حجّيته بالخصوص، كأنْ نعتمد على مجرّد الظنّ الحاصل من تلك الظواهر، ولو بضميمة أصالة عدم النقل وعدم التخصيص والتقييد وغير ذلك، فإنّ ذلك إنما يثبت حجّيته وقت انسداد باب العلم بالأحكام الشرعية، وانحصار الأمر في الرجوع إلى الظنّ. ولما كان الأخبار أيضاً من باب الخطابات الشفاهية فكون دلالتها على حجّية الكتاب معلوم الحجّية إنما هو للمشافهين بتلك الأخبار، وطروّ حكمها بالنسبة إلينا أيضا لم يُعْلَم دليلٌ عليه بالخصوص فيدخل حينئذٍ أيضاً في القسم الآخر»([34]).

ويُلاحَظ هنا أن المحقِّق القمّي، برغم توفّر كلماته على مضمون نقاش كاشف الغطاء للأخباريين، إلاّ أنه قد توسَّع في إشكالية ظهور الخطاب القرآني وناقشها من جهاتٍ متعدّدة، كما يُلاحَظ ولادة مصطلح (حجّية ظواهر القرآن) مع المحقِّق القمّي.

لقد شهدت طبقة تلاميذ الوحيد البهبهاني نشاطاً لافتاً في التأليف في علم أصول الفقه، وقد وفَّرت تلكم التأليفات مادّةً في موضوع مباحث الألفاظ ومسألة الظهور والتعويل عليه، فقد كتب الشيخ محمد تقي النجفي الرازي(1248هـ) (هداية المسترشدين)، وهو شرح لكتاب المعالم، للشيخ حسن العاملي. ولاحظ الشيخ محمد تقي أن الشيخ حسن قد اقتصر في مباحث الألفاظ على القليل من مطالبها، لأجل ذلك عقد الكلام في مجموعة فوائد، سجَّل لنا فيها نصوصاً ترتبط ببحثنا الراهن.

قال: «وقد ظهر ممّا ذكرنا أن الأظهر إدراج المفاهيم ونحوها في الدلالات العقلية، كسائر الاستلزامات العقلية، كدلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضدّه الخاصّ ونحوها. وقد يتفرَّع على الوجهين جواز الاعتماد في ذلك على الظنّ، إنْ قيل بكون الدلالة فيها وضعيةً، وعدم الأخذ بالقطع مع كونها عقليةً؛ لعدم الاعتداد بالظنون العقلية. ويدفعه الاكتفاء بالظنّ في الدلالات اللفظية؛ لجريان الاستعمالات عليه، فلا فرق بين جعلها وضعية أو عقلية»([35]).

يقرِّر لنا الشيخ محمد تقي النجفي في هذا النصّ أن الدلالات ظنّيةٌ، فلا يمكن التعامل معها كمعادلاتٍ رياضية لا تقبل الخلاف والاحتمال الآخر.

وفي نصٍّ آخر، وعند حديثه عن الحقيقة والمجاز، ذكر قائلاً: «قد يكون المقصود باستعمال اللفظ إفادة الموضوع له، وقد يكون المقصود إفادة غير ما وُضع له ابتداءً، وحينئذٍ فالغالب أن يكون الموضوع له واسطة في الانتقال إليه بمعونة القرينة الدالّة عليه من غير أن يُراد ذلك من اللفظ، بل إنما يكون واسطةً في الانتقال خاصّة؛ وقد لا يكون المعنى الموضوع له واسطةً في الانتقال إليه أيضاً، بل يكون القرينة هي المفهمة لإرادة ذلك المعنى، من غير انتقالٍ إلى معناه الموضوع له أصلاً، كما أشَرْنا إليه؛ وقد يكون المقصود بالإفادة غير ما وُضع له، لكنْ يُراد من اللفظ خصوص ما وُضع ابتداءً، لينتقل منه إلى المعنى المقصود. ولا إشكال في كون الاستعمال على النحو الأوّل حقيقياً، وعلى الوجه الثاني مجازياً، وأما الثالث فيندرج في الحقيقة بملاحظة ما يتراءى من ظاهر حدّها، نظراً إلى استعمال اللفظ حينئذٍ في المعنى الحقيقي ابتداءً، وإنْ جعل ذلك واسطةً في الانتقال إلى غيره. وفيه ما سيأتي الإشارة إليه. وهذه الطريقة أيضاً شائعةٌ في الاستعمالات»([36]).

وبعد أن قرَّر المعاني الحقيقية والمجازية نصَّ قائلاً: «الأصل في الاستعمال حمل اللفظ على معناه الحقيقي فيما إذا دار الأمر بين الحمل عليه وعلى المعنى المجازي، فيحكم بكون المعنى الحقيقي هو المقصود لإفادة المطلوب إفهامه من العبارة، إلاّ أن يقوم هناك قرينةٌ صارفة عن ذلك، قاضية بحمل اللفظ على غيره»([37]).

ثم أبرز الوجه التعليلي لظهور الخطاب في المعاني الحقيقية، فقال: «ويدلّ عليه، بعد قيام السيرة القاطعة المستمرة من بدوّ وضع اللغة إلى الآن، النظر إلى الغاية الباعثة على التعدّي للوضع؛ إذ الغرض من الأوضاع تسهيل الأمر في التفهيم والتفهّم، حيث إن الإنسان مدنيٌّ بالطبع يحتاج في أمر معاشه ومعاده إلى أبناء نوعه، ولا يتمّ له حوائجه من دون الاستعانة بغيره. ولا يحصل ذلك إلاّ بإبداء ما في ضميره، وفهمه ما في ضمير غيره ممّا يحتاج إليه، ولا يتسهّل له ذلك إلاّ بواسطة الموضوعات اللفظية؛ حيث إن سائر الطرق من الإشارة ونحوها لا يفي بجميع المقاصد، ولا يمكن الإفهام بها في كثيرٍ من الأوقات، ويتعسَّر إفهام تمام المقصود بها في الغالب، مضافاً إلى ما يقع فيها من الخطأ والالتباس، فلذا اقتضَتْ الحكمة بتقرير اللغات، وبناء الأمر في التفهيم والتفهّم على الألفاظ. ومن البيِّن أن الفائدة المذكورة إنما تترتَّب على ذلك بجعل الألفاظ كافيةً في بيان المقاصد من غير حاجةٍ إلى شيءٍ من القرائن؛ إذ لو توقَّف الفهم على ضمّها لزم العَوْد إلى المحذور المذكور. مضافاً إلى كونه تطويلاً بلا طائلٍ؛ لإمكان حصول المقصود من دونه… وبالجملة أصالة حمل اللفظ على المعنى الحقيقي والحكم بكونه مراداً للمتكلِّم عند الدوران بينه وبين المعنى المجازي ممّا لا كلام فيه في الجملة، وعليه مبنى المخاطبة، وهو المدار في فهم الكلام من لدُنْ زمان آدم× إلى الآن، في كافّة اللغات وجميع الاصطلاحات»([38]).

ينطلق الشيخ محمد تقي في هذا النصّ من الغرض العقلاني الذي تقوم عليه التوافقات الضمنية في اللغة، ويتمثَّل ذلك الغرض في التواصل والتعبير عن المحتوى الداخلي عند الإنسان والتفهيم والإفهام، والذي يعني أن اعتماد اللغة وظاهر الخطاب فيها أمرٌ لا محيص عنه، ولا يوجد سبيلٌ غيره لتحقيقه.

كما يُلاحَظ أن هذا النصّ يتضمّن الإقرار بأن حجّية الظهور والتعويل عليه واتّخاذه أساساً في فهم مقاصد الآخرين أمرٌ سابق على تدخُّل الشريعة وإقرار المعصوم×. فالحجّية هنا (الاعتماد) ملاصقةٌ لأصل التباني الضمني من أهل اللغة على مداليل الألفاظ؛ لأجل التعبير عن المحتوى الداخلي وإيصال المقاصد والتواصل.

إن هذا النصّ قد بنى على مجموعة أصول:

1ـ إن الإنسان مدنيٌّ بالطبع، وهذه المدنية والاجتماع منبثقان عن الحاجة إلى أبناء النوع الإنساني في أمور الحياة وتحقيق المنافع والأغراض.

2ـ إن الحاجة لتحصيل المنافع والأغراض والغايات تدعو الإنسان إلى الاستخدام أي استخدام ما يحيط بالإنسان في سبيل تحقيق ذلك، ومنه استخدام نفس أبناء النوع الإنساني.

3ـ إن استخدام وتسخير الآخرين يتوقّف على إبداء ما في الضمائر لهم والتفاهم معهم، والتعبير عن المحتوى الداخلي لهم، وإبراز الأغراض والأهداف.

4ـ إن أسهل الطرق في إبراز الأغراض والأهداف والتعبير عن المحتوى الداخلي يتمثَّل في اتخاذ الأصوات والألفاظ وسيلةً لذلك؛ لأن سائر الوسائل لا تفي بجميع مقاصد الإنسان، بل ولا يمكن الإفهام عبرها في كثيرٍ من الأوقات، ولكثيرٍ من الأغراض، فضلاً عمّا يقع فيها من التباسٍ وأخطاء، فيتعيَّن أن تكون الألفاظ ودلالاتها الطريق الأمثل في ذلك التواصل.

من المهمّ هنا أن نلاحظ أن هذه الأصول التي بنى عليها الشيخ محمد تقي النجفي تنتج لنا الحجّية الاعتبارية للغة ودلالات وظهورات خطاباتها، والتي سيقول بها فيما بعد بشكلٍ مؤصَّل العلاّمة محمد حسين الطباطبائي، ولا معنى حينئذٍ للاستدلال بالإجماع على حجّية الأخذ بالظواهر، كما فعل نفس الشيخ([39])!

على أن نسجِّل امتيازاً للشيخ محمد تقي في تناوله البحث في حجّية الظهور بشكلٍ غير مسبوق قياساً بالفترة التي عاش فيها، وقياساً بالتَّرِكة في هذا الشأن، فقد أسهب في بحث المسألة وتنقيح الظهور والمراد منه وسائر ما يرتبط به.

لم يُعِرْ الشيخ محمد تقي الأصفهاني إشكالية ظواهر الخطاب القرآني اهتماماً، وإنما أشار إليها في كلماتٍ مقتضبة جدّاً، مقرِّراً فساد الوجوه التي تمسّك بها الأخباريون، وقد تعرَّض الأصفهاني لذلك في ذيل حديثه عن مسألة حجّية الظهور بالنسبة لغير المخاطب. ومن المستحسن نقل نصّ كلامه؛ لفائدته في هذه المتابعة التاريخية؛ إذ كتب قائلاً: «وأما بالنسبة إلى غير المخاطب، لا سيَّما مع عدم الحضور في مجلس الخطاب، فقد يتأمّل في جريان الأصل المذكور، خصوصاً مع طول المدّة وتعارض الأدلة وظهور القرائن المنفصلة الباعثة على الخروج عن الظاهر، بالنسبة إلى كثيرٍ من الخطابات الواردة؛ إذ الأخذ بالأصل المذكور في ذلك غير ظاهرٍ من الدليل المتقدّم؛ لعدم ابتناء المخاطبات العُرْفية على مثل ذلك، ليمكن الاستناد فيه إلى الوجه المذكور.

نعم، الدليل على الأخذ بالظنون المتعلّقة بالأحكام الشرعية منحصرٌ عندنا في ما دلّ على حجّية مطلق الظنّ بعد انسداد باب العلم، فيتفرَّع ذلك على الأصل المذكور، دون ما ذُكر من قيام السيرة القاطعة والإجماع المعلوم على حجّية الظواهر، فإن القدر الثابت من ذلك هو القسم الأوّل خاصّة. وكذا يُستفاد ممّا ذكره بعض أفاضل العصر.

قلتُ: من الواضح المستبين أن علماء الأعصار في جميع الأمصار مع الاختلاف البيِّن في آرائهم وطرائقهم، والتفاوت الواضح في كيفية استنباطهم وسلايقهم، اتفقوا على الرجوع إلى الظواهر المأثورة، والاستناد إلى ما يُستفاد منها والأخذ بما تدلّ عليه، وإنْ اختلفوا في تعيين الحجّة منها بحَسَب الإسناد، وما يصلح من تلك الجهة للاعتماد. نعم، رُبَما وقع خلافٌ ضعيف لبعض متأخِّري الأخباريين في الظواهر القرآنية؛ لأمورٍ اتّضح فسادها في محلّه.

وقد اعترف بذلك الفاضل المذكور بالنسبة إلى الكتاب، نظراً إلى أن الظاهر أن الله تعالى يريد من جميع الأمّة فهمه والتدبُّر فيه والعمل به. وقال: إن ذلك طريقة أهل العُرْف في تأليف الكتب وإرسال المكاتيب والرسائل إلى البلاد النائية. ومن البيِّن أن هذا الوجه بعينه جارٍ في سائر الروايات والأخبار الواردة بعد فرض حجّيتها ووجوب العمل بمضمونها؛ إذ هو الطريق في استنباط المطالب من الألفاظ.

وبالجملة إن جواز العمل بالظواهر اللفظية ممّا قام عليه إجماع الفرقة، من قدمائها ومتأخِّريها ومجتهديها وأخباريّيها، بل الظاهر إجماع الأمّة عليه على مذاهبها المتشعّبة وآرائها المتفرّقة. وقد حكى الإجماع عليه جماعةٌ من الأجلّة، حتّى أنه قد صار عندهم من المشهورات المسلَّمات حجّية الظنّ في الموضوعات، ويعنون بها الموضوعات اللفظية؛ إذ سائر الموضوعات يعتبر فيها القطع أو الأخذ بالطرق الخاصة المقرّرة في الشريعة. فما ادّعاه الفاضل المذكور من الفرق بين الصورتين، وقصره الإجماع على الأوّل من الوجهين المذكورين، بيِّن الفساد»([40]).

ويُلاحَظ هنا حضور وتداول مصطلح (حجّية الظواهر) في كلمات صاحب (هداية المسترشدين).

بعد تعرُّضه لكلام صاحب القوانين أثار الأصفهاني إشكاليةً ترتبط بأن أصالة العمل بالظهور وحجّيته هل هو مُناطٌ بالوضع، فلا يمكن الخروج عن مقتضى الوضع إلاّ بمقدار ما يدلّ عليه الدليل، أو أن العمل بالظهور وحجّيته مشروطةٌ بحصول الظنّ بالمراد، أي الظنّ الراجح، ومن ثمّ فمع انتفاء الظنّ بالمراد لا يمكن التعويل على الظهور، حتّى لو كان السبب في ذلك قرينة غير صالحة للاعتماد، كما لو عارض القياس أو الاستحسان (غير الحجّة في فقه الإمامية) ظهور الخبر الصحيح في الإطلاق، وتزلزل الظنّ بالمراد منه؛ بسبب الظنّ غير الحجّة؟

ومثالٌ آخر: في ما لو كان الخبر ظاهراً بالعموم غير أنه ورد خبرٌ يدلّ على التخصيص، ولكنه ضعيفٌ لا يمكن التعويل عليه من ناحية السند، فأوجب ذلك تزلزل الظنّ بالمراد من العامّ، وهكذا.

لسنا معنيين هنا باستعراض مقاربة هداية المسترشدين لهذه الإشكالية بقدر ما نريد إعطاء صورةٍ عمّا تناولته من مسائل وإشكاليات ترتبط بالبحث في حجّية الظهور والفهم. غير أن هداية المسترشدين قرَّر قائلاً: «والذي يقتضيه التحقيق في المقام أن يُقال بالفرق بين ما يكون باعثاً على الخروج عن الظاهر بعد حصول الدلالة بحَسَب العُرْف وانصراف اللفظ إليه في متفاهم الناس، وما يكون مانعاً من دلالة العبارة بملاحظة العُرْف وباعثاً على عدم انصراف اللفظ إليه بحَسَب المتعارف في المخاطبة، وإنْ لم يكن ظاهراً في خلافه صارفاً إليه عن ظاهره. وقد يُنَزَّل عليه ما حكيناه عن بعض أفاضل المتأخِّرين من المنع عن الأخذ بالأصل المذكور إلاّ مع الظنّ بمقتضاه، وما حكَيْناه عن الجماعة من البناء على الأخذ به إلاّ مع قيام الدليل على خلافه. ولو فرض إجراؤهم له في غير المحلّ المذكور فهو من الاشتباه في مورده، كما يتّفق كثيراً مع سائر الموارد من نظائره»([41]).

ـ يتبع ـ

الهوامش

(*) باحثٌ وأستاذٌ في الحوزة العلميّة في النجف. من العراق.

([1]) الطوسي، العُدَّة في أصول الفقه: 85 ـ  86، تحقيق: محمد رضا الأنصاري القمّي، بوستان كتاب، قم، ط1، 1432هـ.

([2]) المفيد، التذكرة بأصول الفقه: 42 ـ  43، تحقيق: مهدي نجف، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان، ط2، 1414هـ.

([3]) يوسف بن محمد السكّاكي، مفتاح العلوم: 393، الفصل الخامس: في المجاز العقلي، ضبطه وكتب هوامشه وعلّق عليه: نعيم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1987م.

([4]) التذكرة بأصول الفقه: 29.

([5]) السيد المرتضى، الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 10 ـ  11، تصحيح وتقديم وتعليق: أبو القاسم كَرجي، دانشگاه طهران، 1346هـ.ش.

([6]) العدّة في أصول الفقه: 129.

([7]) حسن بن زين الدين العاملي، معالم الدين وملاذ المجتهدين: 176، مؤسّسة النشر الإسلامي، قم.

([8]) السيد محمد باقر الصدر، المعالم الجديدة للأصول: 82، مركز الأبحاث والدراسات التخصُّصية للشهيد الصدر، قم، ط2، 1425هـ.

([9]) العلاّمة الحلّي، مبادئ الوصول: 65، تعليق وتحقيق: عبد الحسين محمد علي بقّال، مكتب الإعلام الإسلامي، قم، ط3، 1404هـ.

([10]) العلاّمة الحلّي، تهذيب الوصول إلى علم الأصول: 65، تحقيق: محمد حسين الرضوي، مؤسّسة الإمام عليّ×، لندن، ط1، 1421هـ.

([11]) تهذيب الوصول إلى علم الأصول: 73.

([12]) المصدر السابق: 78.

([13]) المصدر السابق: 87.

([14]) المصدر السابق: 88.

([15]) معالم الدين وملاذ المجتهدين: 108 ـ  109.

([16]) محمد أمين الأسترأبادي الفوائد المدنية: 269 ـ  270، تحقيق: رحمة الله الأراكي، مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، ط3، 1429هـ.

([17]) المصدر السابق: 270 ـ  271.

([18]) المصدر السابق: 271.

([19]) عبد الله الفاضل التوني، الوافية في أصول الفقه: 59، تحقيق: محمد حسين الرضوي، مجمع الفكر الإسلامي، قم، ط3، 1424هـ.

([20]) المصدر السابق: 61.

([21]) المصدر السابق: 119 ـ  120.

([22]) المصدر السابق: 136.

([23]) المصدر السابق: 136 ـ  144.

([24]) المصدر السابق: 157.

([25]) محمد باقر الوحيد البهبهاني، الفوائد الحائرية: 283 ـ  284، مجمع الفكر الإسلامي، قم، ط2، 1424هـ.

([26]) المصدر السابق: 284.

([27]) الفوائد الأصولية: 179 ـ  180.

([28]) جعفر كاشف الغطاء، كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء 1: 148، تحقيق: مكتب الإعلام الإسلامي، خراسان، بوستان كتاب، قم، ط2، 1430هـ.

([29]) المصدر السابق 1: 146.

([30]) المصدر السابق 1: 150.

([31]) المصدر السابق 1: 191 ـ  192.

([32]) أبو القاسم القمّي، قوانين الأصول: 29، الطبعة الحجرية.

([33]) المصدر السابق: 31.

([34]) المصدر السابق: 393 ـ  403.

([35]) محمد تقي الأصفهاني، هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين 1: 142، مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، ط2، 1429هـ.

([36]) المصدر السابق 1: 146 ـ  147.

([37]) المصدر السابق 1: 205.

([38]) المصدر السابق 1: 205 ـ  206.

([39]) المصدر السابق 1: 207.

([40]) المصدر السابق 1: 207 ـ  208.

([41]) المصدر السابق 1: 210.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً