أحدث المقالات

دور تجديد علم الكلام في التقريب بين المذاهب الإسلامية

من خلال مجلّتيْ «رسالة الإسلام» و«رسالة التقريب»

علي بن مبارك

تجديد الكلام في «الإمامة» نموذجاً

يثير خطاب التقريب بين المذاهب الإسلامية عدّة إشكاليات تتعلّق بتجديد الفكر الديني بصفة عامّة وعلم الكلام بصفة أخص. ولقد تنبّه روّاد التقريب إلى ضرورة تجاوز معوّقات الفكر الإسلامي الكلاسيكي وتذليل الصعوبات العالقة في الذّاكرات العقدية في بعدها المذهبي والنحلي، ولم يكن صوت روّاد التقريب التجديديّ نشازاً بل كان صدى لأصوات إسلامية متعدّدة ملّت التقليد وتشوّقت إلى الاجتهاد بعد غلق بابه والتصدّي لمن رغب فيه، ولئن بدت محاولات روّاد الجامعة الإسلامية التجديدية  عند بعض الباحثين جزئية محدودة الأفق لا تخرج عن مجال الإصلاح والتطوير فإنّ المحاولات المعاصرة  التي ظهرت -وما زالت تظهر- في مختلف أرجاء العالم الإسلامي بدت ثورية لأنّها طالبت تصريحاً دون تلميح بضرورة تجديد الفكر الديني وتثوير مقولاته الكلامية والأصولية حتّى تستجيب لحاجات مسلم اليوم في علاقته بالآخر الأدنى  والأقصى  في الآن ذاته.

ولقد أثيرت في هذا الإطار عدّة إشكاليات فرعية تتعلّق بعلاقة المعاصرة مع التراث وموقف التجديد من التقليد  ومجالات تجديد الفكر الإسلامي، فطرح بعضهم  ضرورة تجديد المنظومات الفقهية وإعادة النظر في أصولها  المعتمدة حتّى تستجيب لحاجات العصر وتجيب عن مشاغل المسلم المعاصر، كما نبّه آخرون إلى خطورة مسألة تأويل القرآن، فنادوا بتحرير النصّ من وصاية الأوصياء ووساطة الوسطاء، فقرنوا بين الوحي وقضايا المجتمع المتجددة، وطالبوا بضرورة تجديد آليات فهم النصّ القرآني  اعتماداً على ما خلص إليه الفكر الإنساني من مناهج تحليل وتفكيك، بل نجد بعضهم  ينادي بإعادة قراءة النصّ بعيداً عن فهم القدامى ووساطتهم.

وفي هذا السياق يندرج هاجس تجديد علم الكلام كما تجلّى تصريحاً وتضميناً عند أعلام الفكر الإسلامي المعاصر بصفة عامة وروّاد التقريب بين المذاهب الإسلامية بصفة أخصّ.

 

أولا: تجديد علم الكلام: الإشكاليات والسياقات

تثير مشاريع تجديد علم الكلام عدّة إشكاليات فيما يتعلّق بأدبيات التقريب بين المذاهب الإسلامية والحوار بين الأديان والمذاهب، وتتعلّق هذه الإشكاليات المثارة بمدى الحاجة إلى تجديد علم الكلام أو إلى علم كلام جديد، وطبيعة هذا التجديد إن صحّ وجوده، وخصوصية علم الكلام بما هو موضوع التجديد، والمحطّات الكبرى التي مرّ بها هذا التجديد إن جاز لنا تسميتها بمحطّات.

1- الحاجة إلى تجديد علم الكلام تعكس الحاجة إلى علم كلام جديد أزمة خطيرة عاشها -وما زال يعيشها- الفكر الإسلامي المعاصر، تتمثّل في صدمة حضارية انتابت روّاد النهضة العربية وتوارثتها الأجيال عندما اكتشفوا تخلّفهم وتقدّم الغرب عليهم، ووجد الفكر الدينيّ نفسه بعد عقود من الجمود والانغلاق غريباً في سياق إنساني يتقدّم ويتطوّر بصفة غير متناهية، ولقد دفع الاستعمار، ثمّ الاستقلال من بعد، وانبلاج عصر المعلومات والاتّصالات وما يطرحه من نظام عالميّ جديد؛ إلى ظهور دعوات بعض العلماء في حقبات تاريخية مختلفة في التاريخ المعاصر إلى تجديد علم الكلام، أو طرح علم كلام جديد يستجيب لتحديات العصر وحاجات المسلمين.

ولقد كان وعي الحاجة التجديدية قويًّا وفاعلاً عند دخول المسلمين: علماء دين ومفكرين ومصلحين وساسة، في حوار مع الآخر ممّن خالفهم المعتقد والتقليد أو ممّن خالفهم المذهب والرأي والتصوّر وشاركهم الملّة. ولكم نسج المخيال الإسلامي صوراً نمطية سلبية لهذا الآخر القريب البعيد، تراكمت عبر التاريخ وحوّلها المخيال الجمعيّ إلى أساطير وخرافات، يستمتع بسردها علماء الدّين ويتلذّذ عامة الناس بحكايتها، وتروجها ثقافةً وسلوكاً. وعلى هذا الأساس كانت صدمة الحوار مع الآخر صدمة عميقة؛ لأنّ علم الكلام القديم لم يستطع -من حيث المنهج والأسس التي يقوم عليها، والمسائل الكلامية التي كان يطرحها، والأهداف التي كان يبتغي تحقيقها- أن يتعامل مع مطلب إنسانيّ جديد حتّمته حاجيات المجتمع الإنساني المعاصر، والتزامات الدول الإسلامية الناشئة الباحثة دوماً على مدّ جذور التواصل وتحقيق السلم والأمن على المستويين الداخلي والخارجي.

ويمكن في هذا الإطار أن نميّز بين صدمتين متمايزتين من حيث أطراف الحوار ولكنّهما متشابهتين من حيث تمثّل الأزمة والتوق إلى تجاوزها من خلال تجديد الفكر الإسلامي عموماً وكلامه بصفة أخص، تتمثّل الأزمة الأولى في معوّقات ثقافية وعقائدية صحبت مشروع الجامعة الإسلامية كما طرحها جمال الدين الأفغاني (الأسد آبادي)، وتتجلّى هذه الصعوبات في وجود جهل كلّ طرف إسلاميّ بالآخر، وتعامله معه من خلال ذاكرة مذهبية قديمة، وآليات علم كلام هرم، صنّف المخالف من أهل القبلة تصنيفات مهينة تتراوح بين مبتدع وفاسق وعاصٍ وخارج من الملّة وكافر كفر نعمة وكفر شكر وأحياناً كفر ملّة… فكيف يمكن لجامعة إسلامية أن تقوم بين أطراف يجهل بعضهم بعضاً فيوجّه كلّ طرف إلى الآخر أسهماً كلامية مملوءة بالتهكّم والرفض والإقصاء والتحقير والتهميش، استلّت من جراب علم الكلام القديم. ومن هنا كان وعي الحاجة بضرورة تطوير مقولات علم الكلام، ولعلّ هيمنة الهاجس الإصلاحي السياسيّ لدى الأفغاني الأسد آبادي حال دون تفكير جدّي في اقتراح مشروع كلامي تجديدي، سنرى بعض ملامحه لاحقاً مع تلميذه محمّد عبده من خلال تأليفه رسالة تتعلّق بعلم التوحيد. ولئن اعتبر جمع من المفكرين والباحثين أنّ محاولة عبده كانت دون المنشود ولم تطرح فعليًّا مشروعاً تجديديًّا في علم الكلام، فإنّها عكست -حسب رأينا- وعياً بأزمة عاشها الفكر الديني وعمل بعض المصلحين في حدود الممكن الثقافي على تذليلها وتجاوزها.
ويبدو أنّ تصاعد مواجهة المسلمين للاستعمار، لكثرة طغيانه واستبداده واستغلاله، جعلت المسلمين يتحمّسون أكثر لنمط جديد من التفكير يتعارفون من خلاله بعضهم على بعض من جديد، بعدما باعدت بينهما الذّاكرات العقدية المذهبية الضيّقة. ولعلّ استقلال مصر، واستقطابها لأبرز علماء المسلمين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي غربيّه وشرقيه سنّيه وشيعيّه وإباضيّه، وفّر الظروف الملائمة لطرح الإشكاليات الخطيرة المتعلّقة بأزمة الحوار الإسلامي – الإسلامي، والتقريب بين مختلف مجموعاته الدينية. وفي هذا الإطار يتنزّل تأسيس دار التقريب التي اضطلعت من خلال روّادها بمهمّة تجديد مقولات الكلام بطريقة ضمنية، بعيدة عن ضوضاء المشاريع وضجيج بيانات التجديد. ويتجلّى هذا المنزع التجديديّ من خلال مقالات مجلة «رسالة الإسلام» لسان حال الدّار، وتواصل هذا الوعي بضرورة التجديد الكلامي في مشاريع إعلامية وفكرية تقريبية لاحقة، وإن كان وعياً لا يماثل ما وجدناه من جرأة وعمق عند الروّاد الأوائل.

أمّا الصدمة الثانية فقد أربكت العلماء المسلمين حينما حاوروا بقية الأديان وخاصة منها المسيحية، التي استطاع لاهوتها أن يطوّر من مقولاته متأثّراً بحركة الإصلاح الديني ومكاسب الحداثة؛ إذ اتّخذت الكنيسة الكاثوليكية في أغلب المجامع المسكونية قرارات خطيرة ذات بعد لاهوتي بالأساس، ولعلّ أخطر هذه القرارات ما جاء في المجمع الأخير «الفاتيكاني الثاني» الذي اعتبره مشير باسيل عون «مجمع التجديد اللاهوتي الأوسع أثراً في تاريخ الكنيسة كله». وتكمن أهمية هذا المجمع -حسب عون- في طرحه قضية لاهوتية خطيرة تتعلّق بالحوار الديني والاعتراف بالآخر  وإقراره بإمكانية خلاص غير المسيحي.

وعلى هذا الأساس أصبح الإسلام يحتوي -كغيره من الأديان- بعض بذور الحقّ والخير والصلاح.

رغم محدودية هذا التجديد اللاهوتي، وعدم اعترافه مطلقاً بوحي الإسلام، فإنّ جعل بعض العلماء والمفكرين المشاركين في الحوار الإسلامي – المسيحي يضطربون ويدركون هشاشة مقولات الكلام الإسلامي المعتمدة في الحوار. ولقد عبّر محمد الطالبي  عن هذه الصدمة، ورأى أنّ صعوبة الحوار تكمن أساساً في تفاوت قدرات الطرفين الكلامية اللاهوتية؛ إذ الاختلاف بينهما يكمن أساساً «في درجة التقدّم في علم اللاهوت بين الطرفين…»، وآية ذلك أنّ علم اللاهوت المسيحي «استطاع أن يغنم من مواجهته للنظم الفكرية الأخرى..وهكذا تسنّى للتفكير المسيحي أن يكون باستمرار متحرّكاً، وأن ينسجم مع عصره انسجاماً ينمو يوماً بعد يوم، وهو في ذلك يحافظ على الرّوابط التي تشدّه إلى الأصل الصافي في سنتها ويمنتها».


2- دلالات التجديد: تجديد علم الكلام أم علم كلام جديد؟

تطرح مسألة تجديد علم الكلام عدّة قضايا تتعلّق بالتجديد في حدّ ذاته، فما المقصود بالتجديد؟ وهل يشمل المعاني دون المباني أو المنهج دون الأسس أم تراه يمسّ كلّ أركان العلم حتّى يستوي علم كلام جديد؟ إلى أيّ مدى تأثرت نزعات التجديد الكلامية بسياقاتها الحضارية والتاريخية؟ هل يعني التجديد القطع مطلقاً مع الكلام القديم بكلّ خلفياته الحجاجية والجدلية والتناظرية، أم هو فحسب تطوير النظام الكلامي القديم حتّى يستجيب لحاجيات الفكر الإسلاميّ المعاصر؟ ألا يعني تجديد علم الكلام إعادة تنظيم للخطاب الإسلامي ومراتب «الحوارية» فيه، بحثاً عن عقلانيته المفقودة كما ذهب إلى ذلك طه عبد الرحمن ؟ هل يمسّ ذلك بخصوصيات العلم ومكانته بين العلوم الإسلامية؟ وهل مازال فعلاً لهذا العلم مكانة أمام هيمنة الفقه وأصحابه وأرباب الفكر الديني التقليدي المحافظ ؟ هل يمكن لتجديد علم الكلام أن يساهم في التقريب بين المجموعات الإسلامية المختلفة، وأن يعدّل الصور المشوّهة الكامنة في الذاكرات المذهبية والعصبية المغلقة؟ إلى أيّ مدى يستطيع الكلام الجديد أن يفرز خطاب تواصل ناجع ومفيد يؤمّن التعرّف والتعارف والتعريف  بما هي حلقات أساسية في التقريب بين المذاهب الإسلامية؟ لا ندّعي في هذا البحث أن نجيب عن كلّ هذه الأسئلة وغيرها ممّا لم نطرح، ولكنّ قصارى جهدنا أن نثير ما تختزنه من قضايا أرّقت -ومازالت تؤرّق- أقطاب التقريب ودعاته.

إنّ ما طرحناه من قضايا تتعلّق بالتجديد شغلت من ساهم في تحرير مجلّة «رسالة الإسلام» فظهرت أقلاماً جريئة طرحت المسائل الكلامية المعهودة بطريقة مخالفة، واقترحت قضايا جديدة استجابةً لحاجات العصر، وتبعتها في هذا التمشّي وبصوت أخفتَ وأقلّ جرأة -فيما نعتقد- مجلّة «رسالة التقريب»؛ إذ هيمنت عليها قضايا الفقه وعلوم القرآن والسياسة على حساب الخطاب الفلسفي الفكري. ولكن قبل أن نتعمّق في مجالات التجديد في المجلتين، ودورها في التقريب بين المذاهب الإسلامية، لا بدّ أن نقف بإيجاز عند خصوصيات علم الكلام ورحلته من التأسيس إلى الانزياح، ثمّ سنعرّج، دون إطالة، على أهمّ محطّات دعوات التجديد في التاريخ الإسلامي المعاصر، ونصل كلّ ذلك بمشغل التقريب بما هو الخيط الواصل بين مباحث هذا العمل.

 

3-  خصوصيات علم الكلام الإسلامي: من التأسيس إلى الانزياح

يجدر بنا التذكير بأنّ علم الكلام لم يكن علماً دقيقاً ومضبوط المعالم من حيث كثرة تسمياته وتعدّد تعريفاته وتداخله مع علوم الدراية والرواية في الآن ذاته.ويمكن للنّاظر في مدوّنات «العقائد» الإسلامية، بمختلف أطيافها الفكرية، أن يلحظ هذا التعدّد في التسميات وربّما في المسمّيات فيعترضه أحياناً اصطلاح علم الكلام أو «الكلام الإسلامي»، وتشدّ انتباهه أحايين أخرى اصطلاحات بديلة  من قبيل الفقه الأكبر  وأصول الدين  وعلم التوحيد  وعلم العقائد  وعلم النظر والاستدلال… وبالإضافة إلى هذا التعدّد الكبير لتسميات علم الكلام نجده يتداخل بصفة كبير مع علوم إسلامية وعقلية أخرى، فهو من جهة يتداخل مع إلهيات الفلسفة حتّى بدت العلاقة بينهما في أطوار تاريخية مختلفة «غامضة قد يسمّى أحدهما باسم الآخر»  كما ذهب إلى ذلك محمد قراملكي في كتابه « الهندسة المعرفية للكلام الجديد».

ولو تتبّعنا مختلف المفاهيم المتعلّقة بعلم الكلام في مختلف مراحل تاريخ الفكر الإسلامي للاحظنا ملاحظة مبدئية مفادها أنّ المفهوم تطوّر من دلالة فقه أصول الدّين في مقابل الفقه المهتمّ بالفروع، وهذا التأسيس بنا أركانه – فيما يبدو – أبو حنيفة النعمان (تـ 150)؛ إذ يذهب إلى اعتبار الفقه «معرفة النفس ما يجوز لها من الاعتقادات والعمليات وما يجب عليها… وما يتعلّق منها بالاعتقاديات هو الفقه الأكبر، وما يتعلّق وما تعلّق منها بالعمليات فهو الفقه». ولقد تطوّر هذا المفهوم مع الفارابي (تـ 339) فتحوّل من «معرفة العقائد على أدلّتها بالكلام»  إلى صناعة «يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرّح بها واضع الملّة، وتزييف كلّ ما خالفها بالأقاويل». ولئن شابه كلام الفارابي  نظرية الفقه  من حيث احتوائه أحكاماً نظرية وأخرى عملية، فإنّه انتقل بأصول الدين من حيّز التعريف بالعقائد إلى مجال الدفاع عنها وكشف زيف مخالفها. ويبدو أنّ مجال الدفاع عن الملّة تطوّر مع الغزالي (تـ 505 هـ) ليختصّ بـ«حفظ عقيدة أهل السنّة وحراستها عن تشويش أهل البدع»، وكأنّنا انتقلنا بهذا المفهوم من حيّز الآخر الأقصى الذي يخالفنا المعتقد إلى الآخر الأدنى الذي يشاركنا الملّة ويخالفنا المذهب. والرأي وهذا الانزياح الخطير تدعّم مع ابن خلدون  ومَن سايره مِن المتأخّرين.

إنّ هذا السرد التّاريخيّ الوظيفيّ الموجز سيساعدنا على طرح إشكالية مشروعية تجديد علم الكلام بما تعكسه من صعوبات إجرائية في تمثّل العلم على حقيقته، فهل نأخذ بمفاهيمه الأولى كما فعل محمّد عبده (تـ1905) حينما ذهب أنّ الكلام أساساً «علم يبحث فيه عن وجود الله وما يجب أن يكون عليه وما يجوز أن ينسب إليه وما يمتنع أن يلحق به»، أم نحافظ على دلالاته المتأخرة بما فيها من مجادلات ومطارحات ومناظرات وردود يدّعي فيها كلّ طرف اكتساب أصول الدين الحقيقية ويرمي بالمخالف المسلم بتهم متعدّدة كالمبتدع والمارق على الدّين.

وهكذا نكتشف أهمية هذا المدخل المفهومي لتتبيّن خلفية الدعوة إلى تجديد علم الكلام من منظور التقريب بين المذاهب الإسلامية، وكيفية تعامل روّاده مع مفاهيمه الشائعة، وعملهم على حصر علم الكلام في مجال التعريف بالعقائد على حقيقتها، والتعرّف على عقائد المجموعات الإسلامية الأخرى في أصولها وكما يراها أهلها دون وساطة الوسطاء ووصاية الأوصياء.

 

4-  في تاريخية دعاوى «تجديد علم الكلام» أو «علم الكلام الجديد»

لقد انتاب منزع تجديد علم الكلام وتطوير ومقولاته عدداً كبيراً من المفكرين وعلماء الدين في العصر الحديث، ويمكن التمييز في هذا الإطار تمييزاً منهجيًّا بين صوتين: نادى الأوّل بالتجديد من داخل خطاب التقريب الذي تأسس بصفة واضحة مع جماعة التقريب بالقاهرة، وهو صوت لم يصرّح -على جرأته – باعتزامه التجديد مشروعاً ومنهجاً وغايةً، بل اكتفى بالتجديد الضمني الصامت، وسنرى ملامحه في القسم الإجرائي المتعلّق بمقالات مجلتي رسالة الإسلام ورسالة التقريب. أمّا الصوت الثاني فكان ينشط خارج إطار جماعات التقريب ولكنّه كان بدوره يخدم التقريب بطريقة أو بأخرى، من خلاله تصريحه بضرورة تجديد علم الكلام أو إيجاد علم كلام جديد يحقق للمسلم إنسانيته المفقودة في كتب الجدل والخلافيات وتبادل السباب والتهم والتكفير والتكفير المضاد. وفي هذا الإطار يذهب بعض الدّارسين  إلى أن أوّل من ألّف كتاباً بعنوان «علم الكلام الجديد» هو شبلي النعماني  أحد علماء الإسلام في الهند، وترجمه إلى الفارسية محمد تقي داعي كيلاني، وطبع سنة 1329 هـ/ 1911م تحت العنوان نفسه. ويبدو أنّ هذا الكتاب سيؤثّر لاحقاً في مفكّري إيران وفي مشهدها الثقافي بصفة عامّة. ومردّ هذا التأثير جرأة صاحبه؛ إذ اعتبر أنّ «علم الكلام القديم يُعنى ببحث العقائد الإسلامية لأنّ شبهات الخصوم كانت ترتكز على العقائد فقط، بينما يجري التأكيد هذا اليوم على الأبعاد الأخلاقية والتاريخية والاجتماعية في الدين… حيث تعتبر هذه المسائل من اختصاص علم الكلام الجديد». ويبدو أنّ هذا الكتاب استطاع أن يجمع بين ذاكرتين في مشهد فكريّ طريف: ذاكرة سنية مثّلها صاحب الكتاب، وأخرى شيعية تجلّت في الترجمة بكلّ خلفياتها الثقافية؛ ولذلك انتشرت دعاوى «تجديد الكلام» أو «الكلام الجديد» في مختلف أنحاء العالم الإسلامي بكلّ أطيافه ومدارسه الفكرية، فتحدّث حسن حنفي عن ضرورة التجديد؛ إذ ردد في إحدى محاوراته: «لا أستطيع أن أدخل في علم كلام جديد دون أن أعيش العلم كخبير في العلاقات الدولية والعلوم السياسية والاجتماعية والعلوم السلوكية، ومن ثمّ أعرف التجارب البشرية من خلال الأدب والأمثال العامية والشعر وكلّ ما يعبّر عن التجارب». وأثار هذا المجال فضول عدد كبير من المفكرين المسلمين  فألفوا كتباً تدلّ عن وعي حقيقيّ بأهمية التجديد في مجال علم الكلام الإسلامي، وهذا الوعي ذاته سنجده بطريقة مختلفة عند رواد التقريب بداية من مقالات مجلّة «رسالة الإسلام».

ثانيّا: الكلام في «الإمامة»: نماذج إجرائية في تجديد علم الكلام من خلال مجلّتَيْ «رسالة الإسلام» و «رسالة التقريب» للتجديد في علم الكلام وجوه عدّة يصعب ضبطها في هذا المجال البحثيّ؛ إذ يمكن رصده في مختلف مسائل علم الكلام الإلهية والطبيعية والإنسانية. ويمكن للباحث أن يجد في مقالات مجلتي «رسالة الإسلام» و«رسالة التقريب» قضايا كلامية متعدّدة تتعلّق بالذات الإلهية وصفاتها، وكلام الله وعلاقته بالتاريخ، وفعل الإنسان، وعلاقة الخالق بالمخلوق، وخلق الكون، وفهم مسار الطبيعة، والإمامة، والإيمان في علاقته بالكفر. والملاحظ أنّ هذا المنزع التجديديّ لم يهتمّ فحسب بالمسائل الكلامية بل شمل أيضاً أسس هذا العلم ومبادئه التصوّرية والتصديقيّة، ومناهج أدائه، وكيفية توظيفه للبرهان والحجاج، واللّغة المستعملة في إنجاز الكلام. ونظراً لصعوبة تناول مختلف هذه المسائل على أهمّيتها، ارتأينا أن نشتغل فحسب في هذا العمل حول مسألة نموذج تتعلّق بالإمامة؛ نظراً لخطورتها وكثرة تواردها في أدبيات التقريب.

لا نبالغ إذا اعتبرنا مسألة الإمامة من أعقد مسائل علم الكلام وأكثرها إثارة وتداولاً في كتب العقائد. ولذلك لاقت هذه المسألة اهتمام المهتمين من روّاد التقريب في مختلف مراحله، وحاولوا التعامل معها بطريقة جديدة لا توقظ الذاكرات الدّينية المذهبية من مضاجعها، بل تقرّب قدر المستطاع بين تصوّرات باعدت بينها قرون من الانغلاق والجهل والتباغض والحروب في بعض الأحيان. ولئن تجنّب رواد التقريب «السنّة» الأوائل طرح مسألة الإمامة بعمق، واكتفوا بطرح إشكاليات حافّة تتعلّق بنظم الحكم في الإسلام، فإنّ من شاركهم هاجس التقريب من الشيعة الزيدية  والاثني عشرية فضّلوا الحديث عن مسألة الإمامة لتوضيح المبهم، وتصحيح تحريفات الذاكرات المذهبية، والتعريف بمقولات المذهب على حقيقتها دون وصاية أو وساطة، علّ التقريب يتحقق، والتعارف يتوطّد بين إخوة في الملّة تحوّلوا إلى أعداء، بسبب مقولات كلامية استحالت أصولَ الدين وركائزَه وما هي بالأصول وما بلغت أحياناً حدّ الفروع.
ونظراً لصعوبة تتبّع كلّ ما جاء في هذا السياق سنكتفي برصد مجال التجديد الكلامي في مسألة الإمامة عند علماء الشيعة الإمامية، وسنعقد مقارنة بين موقفين يفصل بينهما أكثر من نصف قرن، ويجمع بينهما تقليد شيعيّ اثني عشريّ بكلّ تراكماته الثقافية والتاريخية والعقدية والنفسية. يتمثّل الموقف الأوّل في مقال كتبه محمد جواد مغنية  في مجلة «رسالة الإسلام» سنة 1950 يحمل عنوان «ضرورات الدّين والمذهب عند الشيعة الإمامية»، في حين ظفرنا بالموقف الثاني عند محمد مهدي الآصفي  في مقال له نشره بمجلّة «رسالة التقريب» سنة 2004 اختار له عنوان «التعدّد والوحدة في الولاية والإمرة».

لقد عمل مغنيّة منذ مستهلّ مقاله على تبيان الفروق بين الأصول والفروع، وخطورة أن يستحيل الفرع أصلاً من أصول الدين يحدّد مقولاته الكلامية ويؤسّس تصوّراته، فأكد أنّ أصول الدّين في المنظومة الشيعية كما هو حال بقية المنظومات لا يتعدّى ثلاثية «التوحيد والنبوّة والمعاد»، وعلى هذا الأساس فإنّ الإمامة ليست «ليست أصلاً من أصول دين الإسلام، وإنّما هي أصل لمذهب التشيّع، فمنكرها مسلم إذا اعتقد بالتوحيد والنبوّة والمعاد، ولكنّه ليس شيعيًّا».

وهو بذلك يفصل بين أصول الدين بما هو علم توحيد يجمع كلّ المسلمين وأصول المذهب بما هو تمثّل دينيّ لا يلزم غير معتنقي المذهب. وكأنّه أراد أن يضعنا أمام مسألة خطيرة تتمثّل في حدوث انزياحات أثّرت في الكلام الإسلامي وضيّقت من مجال الانتماء حتّى استحال الانتماء إلى المذهب لا يقلّ أهمية عن الانتماء إلى الملّة، وأصبح الدفاع عن مقولات النحلة أو الفرقة أهمّ عند المتكلّم من دفاعه عن أصول الدين كما تجلّت في مراحلها الأولى مراحل التأسيس. ولكنّ المعوّق المعرفيّ الدينيّ الذي اعترض مغنية واعترض غيره ممّن سعوا في تقريب الهوّة بين المسلمين يتمثّل أساساً في كيفية تعامله مع تراث فكريّ وكلاميّ وعقائدي تشكّل واستحال نسقاً دينيًّا متجانساً لا يقبل التشكيك ويرفض الحفر والتفكيك، وآية ذلك أنّ عدداً كبيراً من علماء الشيعة الاثني عشرية جعلوا من الإمامة أصلاً من أصول الدين، ويتجلّى ذلك على سبيل المثال عند نصير الدّين الطوسي (ت 672هـ/ 1274م) الذي أكّد في كتابيه «تجريد الاعتقاد»  و «قواعد الاعتقاد»  أنّ الإمامة أصل أثراً وعقلاً، وآية ذلك أنّ الأوائل نقلوا نصوصاً عن النبيّ ومن تبعه من المعصومين تؤكّد محورية مقولة «الإمامة» في النسق الإسلامي الشيعي، والطريف أنّ هذه النصوص تحوّلت إلى مقدّس لا يمكن التشكيك في أصله وصحته، ولكنّ ذلك لم يمنع محمد جواد مغنية – رغم ثقافته الحوزوية التقليدية- أنّ ينقد نصوصاً تفرّق ولا تجمع، والحال أنّ الإسلام جاء للجمع بين معتنقيه، وعلى هذا الأساس انتقد مدوّنات القدامى إذ «فيها الصحيح وفيها الضعيف… فليس عند الشيعة كتاب يؤمنون بأنّ كلّ ما فيه حق وصواب من أوّله إلى آخره غير القرآن الكريم».

ويبدو أنّ جرأة مغنية لم تكن مجرّد لحظة مقال نشره في عدد من أعداد مجلّة «رسالة الإسلام» بل تعكس مشروعاً تصحيحيًّا تجديديًّا يشمل علم الكلام وغيره من المعارف الدينية، التي تحول -من حيث بنيتها المعرفية وأهدافها الاستراتيجية- دون تحقيق التقريب بين المجموعات الدينية الإسلامية المختلفة، في زمن مازال يهيمن فيه الاستعمار على جزء كبير من العالم الإسلامي، وكان همّه الأساسي «كيف يستعيد المسلمون وحدتهم وتناصرهم». ولقد ضبط لذلك خطّة خفية لم يصرّح بها ولكنّنا رصدنا ملامحها من خلال مقالاته المتعدّدة المنشورة في «رسالة التقريب»، ويمكن أن نعرض هذه الخطّة من خلال أربعة مداخل أساسية:

·        يتمثّل المدخل الأوّل في ضرورة التعامل بحذر مع مدوّنة القدامى الكلامية بصفة خاصّة، وفهم الحدود بين الفروع والأصول، لتبيّن الانزياحات الخطيرة التي رافقت الكلام الإسلاميّ في مسيرته الفكرية، حتّى ظنّ المشتغلون به خاصّة في العصور المتأخّرة «أن الاختلاف في الفروع والاعتبارات اختلاف في الأصل والجوهر»، وعلى هذا الأساس دعا إلى ضرورة التنبّه إلى «الفرق بين الدين والمذهب»  حتّى نتجنّب تكفير المخالف في المذهب الشريك في الدين والملّة. ولقد أكّد في عدّة مقالات أنّ هالة التقديس اقترنت تاريخيًّا بعدد مضبوط من كتب السلف التأسيسة  لا مبرّر لها ويمكن نقدها وتجاوزها؛ لأنّها ساهمت في رسم صورة خيالية للآخر الأدنى. وهذا التوجّه نرصده بجلاء في مقاله «من أصول الشيعة الإمامية»  إذ انتقد فيه ما ترسّخ في الذاكرات المذهبية من صور نمطية لا علاقة لها بحقيقة الآخر كما تجلّى في التاريخ، «وأغرب من ذلك أن ينسبوا لأحد المذاهب قولاً لم يقل به أحد من أتباع ذلك المذهب، أو قال به فرد أو أفراد خالفهم فيه أكثر فقهاء المذهب نفسه، فينسبون إلى أهل السنة أجمعين قولاً للأحناف، أو لفقيه منهم، وينسبون إلى الشيعة كافة، بما فيهم الإمامية، قولاً لغلاة الشيعة أو لفقيه من الإمامية خالف علماءهم جميعاً، بل قد ينسبون إلى الشيعة قولاً لجاهل لا يفهم عن التشيع شيئاً». ولقد دفعه هذا المنهج النقدي إلى انتقاد التعصّب والغلوّ، ورأى أنّ «الغلاة في نظر الشيعة الإمامية»  لا يمتّون إلى الدين بصلة لأنّهم يفسدون ولا يصلحون.

·        المدخل الثاني الذي اعتمده مغنية في طرح مواقفه العقدية والكلامية يتمثّل في تأكيده على أهمية الاجتهاد والاستنباط في في التقريب بين وجهات نظر مختلف المجموعات الإسلامية فكتب «الاجتهاد في الإسلام»، وفيه أكّد على ارتباط الأحكام والآراء بالعادات والمستجدات في الفقه الإمامي، كما سرد لنا نماذج «من اجتهادات الشيعة الإمامية»  تؤّكد أنّ اللاّحق من حقّه، وربّما من واجبه، أن ينقد السابق ويتجاوزه لا أن يقف عند مقولاته متعصّباً لها، فأورد مواقف جريئة لعلماء كبار  تمرّدوا على التقليد الشيعيّ الاثني عشري كما حدّد معالمه أرباب المذهب وأصحاب كلامه، ورأى أنّ هذه النماذج «خير شاهد على أنّه باستطاعة الإنسان أن يتحرر من قيود البيت والمدرسة، وتقاليد الآباء والأجداد، وعلى أنّ سلطان العقل النيّر أقوى من كلّ سلطان». ويبدو أنّ مغنية استفاد من نظرية الاجتهاد في الفكر الاثني عشري التي ترى أنّ اجتهاد الحيّ أولى من حيث التقليد من اجتهاد الميّت، ممّا يبيح للمجتهد المعاصر إن تحمّس إلى ذلك التغيير والتعديل والتطوير وتصحيح الأخطاء.

·        المدخل الثالث يتعلّق بمحاولة التأسيس لثقافة إسلامية تقوم على التعدّد والاختلاف، ورأى أنّ «الخلاف لا يمنع من الإنصاف»، ولعلّ من الإنصاف أن نعترف بمن يخالفنا الرأي ويغايرنا المذهب.

·        المدخل الرّابع يكمن في وعي مغنية بأهمية الدراسات المقارنة في الدراسات الإسلامية، وآية ذلك أنّ المقارنة العلمية تيسّر للباحث والمطّلع التعرّف على وجوه التماثل والتباين بين مختلف «مدارس» الفكر الإسلاميّ كما تقرّب بين العلماء على أساس التعارف الحقيقي المتمرّد على الذاكرة، وفي هذا يندرج حديثه عن «القياس عند ابن حزم والشيعة الإمامية»  و«التقية بَين السُّنّة وَالشيعَة».

وكما شغلت مسألة «الإمامة» السابقين من روّاد التقريب فإنّها أيضاً استقطبت فضول اللّاحقين واهتماماتهم، فعالجوا المسألة وفق منهج لا يماثل بالضرورة منهج أصحاب أقلام «رسالة الإسلام». وحتّى تتضح هذه المقارنة اخترنا مقال لمحمد مهدي الآصفي  تحت «عنوان التعدّد والوحدة في الولاية والإمرة»، حاول في مستهلّه أن يرصد الخلاف الجوهريّ بين السنّة والشيعة فيما يتعلّق بمسألة الإمامة، ورأى أنّ أهل السنّة يقولون: «بوجوب الإمرة والولاية، وإذا قام أحد بالتصدّي لإمامة المسلمين مع قيام عادل كفء بأمر الإمامة من قبله وجب على المسلمين منعه ونهيه عن ذلك، وإن لم يرتدع تجب مقاتلته حتّى يكفّ عن هذا الأمر». أمّا الشيعة «فالمسألة واضحة في عصر الحضور فلا يجوز لأحد أن يتصدّى للإمامة مع قيام الإمام المعصوم، ولا يصحّ قيام الإمام المعصوم إلا بعد وفاة الإمام المعصوم الذي سبقه… أمّا في عصر غيبة الإمام المعصوم فلم تتفق كلمات الفقهاء على أمر واضح، ولم يبحث الفقهاء هذه المسألة بصورة واضحة فيما أعلم».

يثير هذا التعريف بموقفي السنّة والشيعة من الإمامة عدّة إشكاليات تتعلّق بعلاقة ما طرحه الآصفي من أفكار بمشغل التقريب بين التصوّرات المذهبية، وأوّل ما يشدّ الانتباه تأكيده أنّ الفقهاء من أهل السنّة كما هو حال فقهاء الشيعة اضطلعوا بمهمّة ضبط المواقف المذهبية الرّسمية فيما يتعلّق بمقولة الإمامة بما هي ولاية وإمرة، والحال أنّ هذا المبحث من مشمولات علم الكلام أساساً وإن طرح على مستويات أخرى في أدبيات الفقه والأحكام السلطانية وغيرها… كما نلاحظ أنّ الآصفي أطلق مواقف عامّة «لا يختلف فقهاء السنّة»  في إقرارها تتمثّل في رفض إمامة العادل بوجود إمام قائم وإن كان أقلّ كفاءة وعدلاً منه، ولا ندري كيف تحدّد الكفاءة ومن يضبطها وما هي حدودها وهل هي ثابتة لا تتغيّر أم أنّنا مطالبون بتغيير الإمام كلّما ظهر الأكفأ؟ وما المقصود بالولاية والإمرة والحال أنّ كلّ منظومة إسلامية فرعية إمامية وزيدية وإسماعيلية وإباضية وسنية وصوفية فهمت المصطلحين بطريقة تختلف عن الأخرى، ونسجت لهما في الذاكرة الجمعية شبكة من الدلالات الحافّة حدّدت بطريقة أو بأخرى هوية المذهب وخصوصياته؟
يبدو أنّ الآصفي منذ مستهلّ مقاله لم يكن دقيقاً في مواقفه ومصطلحاته، ممّا سينعكس على بحثه وعلى أدائه الكلاميّ في علاقته بالتقريب رؤية ومنهجاً وهدفاً.ولقد عمل من خلال مختلف أقسام بحثه أن ينفي مشروعية التعدّد من خلال مجموعة من الأدلّة بوّبهما تحت حكمين أوّلي وثانوي قصد تأكيد حتمية وحدة الولاية، وفي هذا الإطار تعمّق الآصفي في بيان «الأدلة على نفي مشروعية التعددية» من خلال «ما تقتضيه الأدلة الاجتهادية» مرتكزاً على حجية «الظاهر والإرادة الجدية في الخطابات» الكامنة في النّصوص المروية عن السّلف، وآية ذلك أنّ «دلالة الكلام حجّة في الإرادة الجدية للمتكلّم بمعنى أنّ الكلام يدلّ على أنّ المتكلّم جاد فيما يقول وليس بهازل. وهذه هي إحدى الدلالتين التصديقيتين في مقابل الدلالة التصورية الحاصلة قهراً من الكلام..». لقد عمل الآصفي على توظيف تقسيم علماء الكلام دلالات اللّغة إلى دلالات إفرادية تصويرية وأخرى دلالات تركيبية تصديقية وحصر دلالات اللفظ في وحداته الدّنيا، دون أن يتنبّه إلى أنّ دلالة النصوص التي يعتمدها تتجاوز حدود اللفظ لتشمل التركيب ومقام التلفّظ وسياقات التدوين، وهذه الأمور أصبحت في الحقيقة من بديهيات علم اللسانيات ومباحث الدلالة. وجدير بالذّكر أنّ صاحب المقال قرن بين وحدة الإمرة ووحدة الأمّة فلا سبيل إلى أحدهما إلَّا بالآخر؛ إذ «لا معنى للوحدة إذا لم تكن في العقيدة إلَّا أن تكون في البنية السياسية للأمة فيكون معنى وحدة الأمة هي وحدتها في الكيان السياسي ووحدة الكيان السياسي بوحدة الولاية والسياسة لا محالة»، وكأنّه لا حلّ للمسلمين ولا منقذ لهم إلاّ اعتماد منهج موحّد في الولاية، ولعلّ في هذا الإطار يندرج حديثه عن «ولاية الفقيه»  الذي ختم به مقاله وخصّ به مقالاً آخر مستقلاً، والحال أن ولاية الفقيه أمر اجتهاديّ غير متّفق عليه داخل المنظومة الشيعية ذاتها  من خلال مراجعها ورواد إصلاحها.

إنّ نفي التعدّد نفيٌ للاختلاف ورفض لتعدد التصوّرات والممارسات المتعلّقة بأشكال الحكم، وهذا ما انتقده روّاد التقريب الأوائل أصحاب أقلام «رسالة الإسلام»؛ إذ عملوا قصارى جهدهم على التأكيد أنّ «الإسلام واحد ومتعدّد»  في الآن ذاته، وأنّ الاختلاف رحمة وتوسعة للمؤمنين، وأنّه لا يعني بالضرورة الخلاف في الدّين؛ ولذلك ميّز محمد تقيّ القمي بين «خلاف نرضاه وخلاف ونأباه»، وعمل محمد محيي الدّين عبد الحميد ومحمد محمد مدني رئيس تحرير المجلّة وآخرون على تتبّع أسباب الاختلاف وتوجيهه توجيهاً يخدم التقريب ووحدة الصفّ الإسلاميّ.

إنّ مقارنتنا بين محمد جواد مغنيّة ومحمد مهدي الآصفي لا تعني مطلقاً أنّ روّاد «رسالة الإسلام» كانوا في عمومهم توّاقين إلى التجديد وتطوير مقولات الكلام الإسلامي بما يتلاءم مع حاجات التقريب، ولا يعني أيضاً أنّ أقلام «رسالة التقريب» تنزع إجمالاً إلى المحافظة والحذر من كلّ تجديد يمسّ بنية الفكر الدينيّ كما رسمها أصحاب الأصول وأرباب الكلام، فالمتمعّن في مجلّة دار التقريب يلاحظ وجود أصوات  بدّعت علم الكلام كما بدّعه الفقهاء والمحدّثين من قبل وفضّل علي الجندي في ثمرة  من ثمرات معقوله ومنقوله كلام أحد الأعراب على كلام علماء الكلام، كما أورد في ثمرة سابقة  عنوانها «مدخل لعلم الكلام» نصيحة تقدّم بها عبد الله بن حنيف إلى أحد الصوفية يدعوه فيها إلى تجنّب علم الكلام.
وفي المقابل نجد أصواتاً في «رسالة التقريب» تحاول التجديد وتعمل على إقرار ثقافة تعدد واختلاف، وترى أنّه لا يمكن التقريب بين مواقف المسلمين ومقولاتهم العقدية دون اعتماد ثنائية «الثبات والتحوّل»؛ لأنّ الشريعة ثابتة ومتحوّلة في الآن ذاته على حدّ تعبير هاشم هاشمي، لكنّه صوت خافت -لا يكاد يسمع أحياناً- أمام هيمنة مسائل الفقه وعلوم القرآن والتفسير والخطاب السياسي الداعي إلى الوحدة ووعي المخاطر المحدقة بالأمّة. وهذا التراجع الملحوظ في حضور قضايا الحكمة والعقل والكلام والمنطق في أدبيات التقريب في السنوات الأخيرة  يدلّ على هيمنة العقل الفقهيّ ومحاولة حصر التقريب في مجال الأحكام وتوحيد المواقف، دون الاهتمام الكبير بتقريب العقول قبل القلوب، وبتوسيع المجال التقريبي ليشمل الثقافة والأدب والفنون والمعمار والفلسفة والتربية والتعليم والبحث العلميّ وقضايا الحرية والمواطنة والعلاقة مع الآخر الغربي والمسيحيّ وبقية أديان العالم والعادات والتقاليد والعلوم الصحيحة والعلوم الاجتماعية والنفسية وقضايا الإصلاح والتجديد… وكلّها قضايا طرحت في شكل مقالات في «رسالة الإسلام» التي تنبّهت منذ كلمة افتتاح عددها الأوّل أنّ «الإسلام هو دين العلم والعقل»  على حدّ تعبير رئيس تحريرها محمد محمد مدني، كما اعتبر القمّي في هذا العدد الأوّل التأسيسيّ التقريب مشغلاً ثقافيًّا بالأساس؛ إذ «لو أننا فتحنا صدورنا من جديد، واعتبرنا الثقافة الإسلامية، مجموعة يكمل بعضها بعضاً، وتفاهمنا فيما بيننا على هذا الأساس، وأدركنا أن هذه الثقافة الإسلامية، بُنيت على أن تكون للإسلام قبل كل شيء، وليست ملكاً لفرد ولا لمذهب أو طائفة، كما أنّها ما أوجدت لتكون عنصرية، لجددنا بناء هذا القصر المنيف».

لقد اعتمدنا مسألة «الإمامة» مثالاً للنظر في تجديد روّاد التقريب في علم الكلام على ضوء ما تبنوه من أهداف تقريبية، ولم يكن اختيارنا لهذه المسألة صدفة بل قصدناه حقّ القصد لأنّه يمسّ بطريقة أو بأخرى عدّة مسائل كلامية عويصة حيّرت القدامى والمعاصرين على حدّ سواء، من قبيل النبوّة والخاتمية والصحبة والعصمة والولاية والبراءة والتأويل والكفر والإيمان في حال الأخذ بهذا النمط من الإمامة أو ذاك أو الرفض، وما ينجرّ عن ذلك من وعد ووعيد وتمثّل للمعاد والحساب والجزاء والعقاب، ومن جهة أخرى تطرح مسألة الإمامة قضية اختيار الوليّ من حيث المعايير والشروط، وتحيل بذلك على قضايا الجبر والاختيار والقضاء والقدر، وتدخّل الغيب في سياسة أمر البشر…

والطريف أنّ مسألة الإمامة تشغل روّاد التقريب على مستوى كلّ المجالات وفي مختلف مراحل التاريخ، فالذّاكرة التاريخية المذهبية تجعل من مسألة الإمامة مسألة ذات قداسة؛ إذ بها تتميّز الفرقة ومن أجلها وُجدت، فالتمييز التفاضلي بين الإمامة والخلافة باعد بين السنّة والشيعة، ورؤية الإباضية المتميّزة للولاية والبراءة حالت في فترات مختلفة من تاريخهم دون التواصل الحقيقيّ مع بقية المجموعات الإسلامية، وهذه المسائل مازالت اليوم تطرح في أشكال مختلفة وبعبارات متعدّدة.

ونخلص في خاتمة هذا العمل إلى تأكيد وعي روّاد التقريب ممن ساهموا في تحرير مقالات مجلتَيْ «رسالة الإسلام» و«رسالة التقريب» بأهمية تجديد علم الكلام الإسلامي، وضرورة البحث أحياناً على كلام جديد يستجيب لقضايا العصر وطبيعة العلاقات المطروحة محليًّا ودوليًّا على المسلمين. فنجدهم يطرحون مسألة تكفير أهل القبلة  مبرزين وهنها ويؤكّدون وهم مقولة الفرقة الناجية، محذّرين من تداعياتها على مستوى الفعل الاجتماعي والسياسي من ممارسة العنف والإرهاب. ويبدو أنّ «متكلّمي التقريب الجدد» أدركوا أهمية الانفتاح على العصر وقضاياه والاستفادة من علومه، فقرن الأوائل أصحاب «رسالة الإسلام» أساساً بين التقريب والوطنية في زمن مازالت همم أغلب المسلمين تشرأبّ للاستقلال والتحرر، ومن ثمّة كان حديثهم عن الحرية والتعاون ووحدة الصفّ. وفي المقابل نجد المعاصرين ممّن يسهمون بالكتابة في مجلّة «رسالة التقريب» يهتمّون كثيراً بوضع المسلمين وبالمؤامرات التي تحاك ضدّهم في ظلّ عولمة شرسة تستهدف الإسلام في داره  ودارها.

ورغم ما نلحظه في «رسالة التقريب» من محاولات قليلة لتأسيس خطاب كلاميّ جديد قادر على التواصل مع الآخر الأقصى والتعامل معه على أساس مدنيّ وحداثيّ  فإنّ تجربة مجلّة «رسالة الإسلام» تظلّ متميّزة على مستوى انفتاحها على الآخر في صورتيه الدنيّة والقصيّة، وجرأتها في طرح القضايا، وتجرّدها في أغلب مقالاتها من وصاية الذّاكرات المذهبية ومخيال المجموعات الإسلامية، ويمكن لرسالة التقريب أن تجدّد روح التحرّر الكامنة في مقالات سابقتها في درب التقريب «رسالة الإسلام» بشرط أن تنوّع كما فعلت مجلّة «دار التقريب» من الأقلام المساهمة في تحرير صفحاتها، وفسح المجال لكلّ من يهمّه مشغل التقريب في مختلف المجالات العلمية والأدبية والفنية والاجتماعية والفلسفية والمعلوماتية والاتصالية، فهل يمكن اليوم أن نتحدّث عن كلام إسلاميّ جديد دون تمثّل ثورة الاتصالات والمعلومات وما نتج عنها من علوم جديدة تتعلّق بهندسة التواصل واللسانيات الحاسوبية وعلم الاجتماع الآلي  وغيرها من المعارف الجديدة، التي تؤثّر في الخطاب، وتساهم في التقريب إن وُظّفت لغايات التعارف والحوار والتقريب.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً