أحدث المقالات

مدخل ـــــــ

حول طبيعة العلاقة التي تربط علم القراءة بعلم التفسير ومنهجيّته، وكذلك التفسير ومقدّماته، تتبادر إلى الذهن الأسئلة التالية:

هل هذه العلوم منفصلة ومستقلّة عن بعضها بصورة تامّة، وأنّ العلاقة التي تربطها علاقة تباين أم ماذا؟

إذا أردنا مطابقة هذه العلوم مع بعضها، هل ستكون عملية المطابقة تامّة أم ناقصة؟ وإذا كانت ناقصة، فما هي نقاط الالتقاء والاختلاف؟

في ضوء المناهج والأسس والاتجاهات المتعدّدة الخاصّة بالتفسير، كيف ستكون العلاقة بين علم القراءة وهذه التفريعات والتشعّبات الداخلية للتفسير في حال المطابقة؟

 

إطلالة على أنماط العلاقة الـتـي يرسمها الباحثون القرآنيون ـــــــ

في معرض الردّ على هذه الأسئلة، ينقسم الباحثون القرآنيون إلى قسمين:

أ ــ ينظر بعض الباحثين القرآنيين إلى علم القراءة([1]) بوصفه من مقدّمات علم التفسير، لكنّه لا يدخل ضمن دائرته، معتبرين هذه العلاقة علاقة تباين.

ب ــ البعض الآخر ينظر إلى العلاقة بينهما باعتبارها علاقة تداخل([2])، واضعين علم القراءة ضمن التفسير، وهذا الفريق وإن اتّفق في رؤيته بخصوص النصف الأول، أي علاقة التفسير بالقراءة، لكنّه ينقسم على نفسه فيما يتعلّق بالنصف الثاني، وهو تحديد علاقة علم القراءة بالتفسير، أسساً ومناهج واتجاهات، وذلك بحسب مرجعية كلّ منهما، حيث يعتمد بعضهم العقل مرجعيّةً، بينما ينادي بعض آخر بالنقل.

ولأجل الوقوف على أبعاد هذا الخلاف القائم، نعرض ــ مفصّلاً ــ للآراء المطروحة.

العلاقة الأولى: علم القراءة في دائرة التفسير ـــــــ

يرى هؤلاء العلماء أنّ العلاقة التي تربط العلمين ببعضهما هي علاقة الجزء بالكل، حيث يعتبرون علم القراءة أحد العلوم المتفرّعة عن علم التفسير.

1ـ ضمن تعريفه للتفسير، ذكر أبو حيان التوحيدي (745هـ) كيفية أداء ألفاظ القرآن ونطقها، حيث وضّح في ختام تعريفه أنّ المراد منها تبيين القراءة الصحيحة للآيات الكريمة([3]).

يرى جولدتسيهر (1921م)، أنّ المرحلة الأولى والمتقدّمة في تفسير القرآن والتي كانت تستند إلى أسس صلبة ومحكمة، تمثّلت في الإقامة المحضة للنصّ القرآني، والمراد بإقامة النصّ القراءات، ولا شيء غير ذلك([4]).

وكما يظهر جليّاً، فإنّ هذا الفريق يصوّر طبيعة العلاقة بين علم القراءة والتفسير على أنّها علاقة الجزء بالكلّ، لكن هل الجميع متّفقون على إجابة
موحّدة عن السؤال الثالث؟ الجواب هو كلا، حيث يكتنف وجهات النظر السائدة خلاف حول تحديد أبعاد العلاقة بين علم القراءة والمناهج والأسس([5]) والاتّجاهات التفسيرية ذلك أنّ بعضهم يقيمه على أساس النقل، فيما يشيده بعضهم الآخر على أساس العقل.

علم القراءة ومبدأ النقل ـــــــ

1 ــ القرآن بالقرآن ـــــــ

يتناول محمد حسين الذهبي([6]) وتحت عنوان: التفسير في عصر الرسول الكريم2 والصحابة، عصرَ التفسير الأول، ويرى أنّ الصحابة في هذا العصر كانوا يستندون إلى أربعة مصادر: أوّلها القرآن الكريم، وكان منهجهم تفسير القرآن بالقرآن، ثم يشير ــ في هذا السياق ــ إلى الأنماط المتعدّدة لهذا المنهج، من جملتها حمل بعض القراءات على الآية، أو القراءة المشهورة ([7]).

يقول أحمد إسماعيل نوفل: إنّ القراءة المشروحة نوع من أنواع تفسير القرآن بالقرآن، ويعزو ذلك إلى وجود كلمات أكثر في القراءة تبيّن معنى الآية([8]).

2 ــ القرآن بالسنّة ـــــــ

أ ــ الخبر المتواتر: يسلّم الكثير ممّن يؤمنون بتواتر القراءات([9]) بوجود مثل هذه العلاقة، لكنّ شرط الفصل بين القرآن والقراءات يكمن في اعتبارهما حقيقتين مستقلّتين([10]).

ب ــ الخبر الواحد: يعتقد الإمام الخوئي، أنّ بعض القراءات منقولةٌ بالخبر الواحد([11]).

علم القراءة ومبدأ العقل (المعارف الإنسانية) ـــــــ

يقول الأبياري: لا يمكننا أن نسلّم بالتأويلات الكثيرة التي طرحها القرّاء، ومن المؤكّد أنّ جمهرة التأويلات تلك من إفرازات اجتهادات القرّاء التي بلغت حدّ الإفراط أو المبالغة، فتجاوزت بذلك الحدود المتعارفة للاجتهاد والاستنباط… ولا شكّ أنّ تدوين المصحف دون تنقيطٍ أو تشكيل، كان السبب وراء ظهور هذا العدد من القراءات([12]).

العلاقة الثانية: علم القراءة خارج دائرة التفسير ـــــــ

ثمّة باحثون([13]) في علوم القرآن([14]) يقولون باستقلال علم القراءة عن علم التفسير، ومن هؤلاء الشهيد محمد باقر الصدر، حيث يرى أنّه يجب أن لا ننظر إلى الدراسات والبحوث المطروحة تحت عنوان التفسير الموضوعي وتتناول أموراً لا تمتّ بصلة إلى العنوان من قبيل أسباب النـزول أو القراءات.. يجب أن لا ننظر إليها تحت هذا المسمّى، أي التفسير الموضوعي أو التوحيدي بالمعنى الذي نقصد([15]).

ويطرح السيد محمد باقر الحكيم نظرية الشهيد الصدر القائلة بأنّ «علم التفسير يضمّ بين دفّتيه جميع المباحث المتّصلة بالقرآن الكريم باعتباره كلام الله تعالى، وهو غير معني بالمباحث التي تتناول رسم الخطّ أو أداء الكلمات»، مؤيّداً ــ ضمنياً ــ هذا التمايز، ومقرّاً بعلاقة التباين هذه([16]).

أمّا السيد هداية جليلي، فيرى أنّ مباحث العلوم القرآنية ــ بما في ذلك مبحث القراءات ــ هي في الأساس من جملة الأدوات التي يستعين بها المفسّر في عمله، وليست التفسير نفسه، فدور مباحث العلوم القرآنية في التفسير ــ الموضوعي منه والترتيبي ــ شبيهٌ إلى حدّ بعيد بدور المنطق في الفلسفة وعلم الأصول في الفقه، فالعلوم القرآنية علومٌ آلية، وليس منها علم التفسير ([17]).

وبالعودة إلى ما صدّرنا به هذا البحث، نرى أنّه عندما طرحت الأسئلة المذكورة في بداية البحث، كان بديهياً أن نتوقّع أجوبةً منسجمة وموحّدة، أو على الأقلّ غير متناقضة، لكنّنا نرى الآن أنّ النتيجة جاءت على عكس المتوقّع، حيث نلحظ وجود تباين في وجهات النظر التي تضمّنتها الأجوبة، تباينٌ يرقى إلى حدّ التناقض، هذا مع العلم بأنّ أيّاً من هذه الأجوبة لا يقوم على دليل قاطع أو برهان واضح، وهي بعدُ لم تحُط بجوانب الموضوع، ولم تتطرّق إلى زواياه المتعدّدة، وهذا بالطبع ما يقودنا إلى التساؤل التالي عدا تساؤلات أخرى غيره، وهذه التساؤلات هي:

هل من الممكن وضع علم القراءة في دائرة علم التفسير وإخراجه منها في آنٍ معاً؟ وهل يعدّ هذا تناقضاً حقيقياً أم شكلياً؟ هل بوسعنا رفع هذا التناقض الحاصل في الآراء بطريق ما؟ ما هو انطباع هؤلاء عن علم القراءة، الذي يحمل بعضهم على الاعتقاد بوجود صلة بينه وبين علم التفسير، بينما يجعل آخرين منهم ينفون مثل هذه الصلة، فبعضهم يضعه في صدر أولويات أسس علم التفسير، وبعضهم يصنّفه آخر عناصر مسلسل الأولويات؟ أليس من بديهيات التصنيف الصحيح والدقيق أن يحتلّ كل علم موقعه المناسب ضمن التفريعة الشجرية للعلوم، وتبيين طبيعة العلاقة التي تربط الأجزاء بصورة شفافة وواضحة؟ إذاً أين يكمن الخلل الذي جعل النتيجة بهذه الصورة من الارتباك وعدم الانسجام؟ وباختصار نريد أن نعلم أيّ الرأيين هو الصحيح؟ وما هو دورنا في حلّ هذه الإشكالية؟ هل لنا القبول بكليهما، أم أنّ الأمر يستوجب طرح رأي ثالث، مستعينين ــ بالتفكيك ــ حلاًّ مناسباً لهذه الإشكالية؟

علاقة علم القراءة بعلم التفسير، الفرضية والحل الإجماليان ـــــــ

لمّا كانت مداخل البحث عديدة وعناصر الاستنتاج اللازمة كثيرة ومتنوّعة، ولأجل إضفاء الانسجام والاستحكام على أجزاء البحث، نقدّم ــ بدايةً ــ فكرةً عامة عن الحلّ بوصف ذلك مدخلاً للموضوع، لنناقش بعد ذلك أجزاء البحث وارتباطها ببعضها، ومن ثمّ ندرس الموضوع من جميع جوانبه، من خلال عرض التفاصيل المتاحة.

ونحسب أنّه من أجل رفع هذا التناقض الظاهر، والوقوف على الحكم الصحيح والنهائي لهذا الموضوع يجب علينا متابعة الخطوات التالية: سبر الدوافع الأصلية والرئيسة التي تقف وراء هذه الآراء والأحكام المتناقضة، وبلورة رأي نهائي وقاطع فيما اختُلِفَ فيه للوصول إلى النتيجة النهائية.

المرحلة الأولى: سبر أسباب تمايز آراء المؤلفين ـــــــ

إنّ السبب الرئيس وراء تمايز آراء المؤلفين واختلافها في هذا الموضوع مردّه إلى منطلقات وفرضيات كلّ واحد منهم، وهي عبارة عن:

أ ــ الفصل بين القرآن وبين القراءة والقراءات بشكل عام([18]).

ب ــ الفصل بين القرآن وبين القراءات السبع([19]).

ج ــ تواتر القراءات([20]).

د ــ اعتبار القراءة جزءاً لا يتجزأ من خصوصيات النصّ القرآني([21]).

هـ ــ الفصل بين القرآن والتفسير([22]).

و ــ امتلاك رؤية خاصة حول سلامة القرآن من التحريف([23]).

 

المرحلة الثانية: بلورة رأي نهائي فيما اختُلِفَ فيه ـــــــ

بعد تحديد أهمّ النقاط والفرضيات التي عرضها المؤلفون، وأثرها في بلورة الآراء النهائية وتحديد العلاقة، نحاول ــ قدر الإمكان ــ تقديم الرأي الصحيح والنهائي؛ لنختم الموضوع به؛ وبناءً على هذا، نسلّم أولاً بأنّ القرآن الكريم منـزّه عن التحريف بأقسامه الثلاثة: الزيادة، والنقصان والتغيير، ويترتّب على هذا أن يكون للقرآن نزولٌ واحد ونصّ محدّد، ما يعني أنّ القراءة أداءٌ لألفاظ وعبارات معيّنة ومحدّدة فحسب، ولا شيء غير ذلك، وعندها سنرى من البديهي ألاّ تكون لعلم القراءة أيّة علاقة بالتفسير الذي يعني شرح المعاني.

في المرحلة التالية، نتناول علم القراءة من زاوية اختلاف معاني القراءات، وبعد المقارنة نضع حالات الاختلاف المعنائي في دائرة التفسير، لاختبار صحّتها وسنديّتها، ثم نحيلها إلى مبدأ النقل أو الاجتهاد والتفسير الصحيح أو التفسير بالرأي، وهو التفسير المذموم.

الفرضية والحلّ: مناقشة تفصيلية ـــــــ

قبل بسط البحث والدخول في تفاصيله، ولأجل الخروج بحكم صحيح ورأي سديد، نرى لزاماً مناقشة النقاط التالية:

أ ــ وضع العلمين في إطار أشمل

إذا سلّمنا بآراء مدرسة شتالت([24]) حول علاقة الجزء بالكلّ([25]) والتي تقول([26]): «الكل لا يساوي مجموع الأجزاء، وأنّ تحليل كل جزء على حدة ووضع الأجزاء إلى جانب بعضها لا يعطينا صورةً عن الكلّ؛ لأنّ الكلّ يمثّل طريقة ارتباط الأجزاء ببعضها، وما لم تتّضح كيفية هذا الارتباط، لا يمكن فهم طبيعة الأجزاء».

إذا سلّمنا بهذه النظرية، ونقلنا الحديث عن الكلّ إلى مجموعة العلوم القرآنية وما يتفرّع عنها، وعلاقة هذه المتفرّعات ببعضها وبالكلّ ــ والمقصود بهذه المتفرّعات علم القراءة وعلم التفسير ومناهجه ــ فإنّنا بلا شكّ سنقترب كثيراً من توضيح أبعاد المسألة وحلّ المشكلة؛ ذلك أنّ كلا العلمين من تفريعات العلوم القرآنية، بمعنى أنّه في الوقت الذي يشتركان فيه بمسألة الارتباط المباشر بالقرآن وموضوعه، يتخصّص كل منهما في جانب معيّن مغاير لاختصاص الآخر، ولهذا السبب، فإنّه من جهة، تلحّ الضرورة على نقد آراء القائلين بالفصل الكامل بين هذين العلمين، ومن جهة أخرى يجب التنويه إلى خطأ القائلين بتداخلهما الكامل.

وبعبارة أخرى، إنّ كلا الفريقين نظر إلى زاوية واحدة من الموضوع، وفاته الإحاطة ببقية زواياه، فخرجت آراء كل منهما مجتزأة ومبتورة غير جامعة، وهو إن دلّ فإنّما يدلّ على أنّ أيّاً من الفريقين لم يهتد إلى التصنيف الصحيح الذي يأخذ بعين الاعتبار المعايير والمواصفات المطلوبة.

ب ــ دراسة الكلمات المفتاحية وتبيين خطأ استعمال اللفظ الواحد في معانٍ عدّة

من خلال وقفة متأمّلة ودراسة معمّقة للكلمة المركّبة «قراءة القرآن»، والنظر إليها بشكل مجتزأ «قراءة» و«قرآن» أو بشكل مركّب كما هي عليه الآن، نخرج بانطباعات ومعانٍ متعدّدة تختلف عن بعضها. لقد عمد هؤلاء إلى إيهام السامع وإرباكه من خلال استخدام المشترك اللفظي، ولأجل رفع هذا الإبهام، والوقوف على معنى مشترك، والوصول إلى الحل المثالي، من الضروري اتّباع الخطوات التالية:

الخطوة الأولى: تحديد دائرة العبارات القرآنية وتبيين التمايز بين القرآن والقراءة

نعني بالقراءة قراءةَ القرآن، ولكن ما لم تتحدّد قرآنية العبارات والكلمات، لن تأخذ القراءة المعنى أو الصفة القرآنية لها؛ لأنّ قراءة أي معنى يتحدّد بحدود عبارة النصّ المتاح أمامنا، أمّا عدم تحديد إطار القراءة ــ قرآنيةً أو غيرها ــ فيظهر لبساً فيها؛ ذلك أنّه ليست كلّ قراءة هي قرآن، بمعنى أنّ لفظ القرآن أخصّ من القراءة. إذاً ما العمل؟ حينما ينظر طرفي القضية إلى القرآن من زاويتين مختلفتين تحملان معاني واعتبارات غير محدّدة، فكيف لنا أن نوحّد رؤيتهما بشأن قراءة القرآن، لنحدّد ــ على ضوء ذلك ــ علاقة علم القراءة بالعلوم الأخرى.

الخطوة الثانية: تحديد أوجه الخلاف بين القرّاء واستنباط آراء علماء القراءة

لا يوجد أدنى شكّ في أنّ من ينظر أو الذين ينظرون إلى جميع القراءات أو بعضها على أنّها القرآن، واعتبار الاستفادة من بعضها لبعضها الآخر نحوٌ من تفسير القرآن بالقرآن، سوف ينطلق من الفرضية القائلة بأنّ القرآن ليس ــ بالضرورة ــ نصّاً توقيفيّاً وألفاظاً ثابتة غير قابلة للتغيير، وهؤلاء بطبيعة الحال لا يؤمنون بالنزول الواحد للقرآن؛ من هنا، يعتقدون أنّ للنصّ أوجه متعدّدة ومختلفة، وكذلك القراءات متعدّدة ومتباينة، وجميعها ينظر إليها على أنّها قراءات للقرآن، وهذه الفكرة بالذات هي التي حملت بعضهم على ضرورة تحديد نطاق تعريف القراءة في إطار الألفاظ التي يُختلف في قراءتها، وفي المقابل هناك من وضع القراءات في دائرة التفسير، أو أخرجها عنها، فقصرها في إطارها الخاصّ وهو التلاوة، هؤلاء جميعاً يلتقون عند فرضية مشتركة، وهي وجود وجه واحد للقرآن وعبارات محدودة وتوقيفية، لم يطرأ عليها ــ بأيّ حال ــ أيّ نقص أو زيادة أو تغيير، وعلى هذا الأساس لا ينبغي أن تتباين قراءة القرآن، كما أنّ الفئة الأخيرة منهم تعتقد أنّه لا ينبغي الخلط بين مسألة قراءة النصّ ومسألة المعنى وتغيّره. وبحسب رأيهم فإنّ من بين القراءات الموجودة، ثمّة قراءة واحدة أصلية، وهي القراءة الوحيانية القرآنية، وبقية القراءات الأخرى تتوزّع بين وحيانية غير قرآنية ــ أي اجتهاد الرسول الكريم 2 ــ أو غير وحيانية. ومن الطبيعي أن لا ينظر إلى هذه القراءات بوصفها قرآناً، أو قراءةً له، ومن ثمّ فالاستناد إليها في تفسير الآيات ليس مندرجاً ضمن منهج تفسير القرآن بالقرآن؛ لذلك نرى بعضهم يقول بالتعميم والشمولية في تعريفه للقراءة، حيث يعرّفها بالقول: «القراءة هي العلم بكيفية أداء كلمات القرآن ونطقها»([27]).

ونلاحظ هنا أنّ كلا الفريقين متأثّر بفرضيات مسبقة، إن صحّت كانت النتائج صحيحة، وإن سقمت كانت سقيمة، لكن ما يثير العجب أن نرى من يتبنّى فرضيات أحد الفريقين لكنّه يعرض لنتائج الفريق الآخر، كما حصل مع الذهبي ومن سار على نهجه مثل أحمد إسماعيل نوفل([28])؛ فالذهبي حين يتناول موضوع القرآن يُدرج القراءات ضمن دائرة تفسير القرآن لا القرآن نفسه، ومع هذا نراه يضعها إلى جانب أنواع تفسير القرآن بالقرآن، في خطوة تنمّ عن خطأ فاحش. بعبارة أوضح، إنّه ينظر إلى القراءات بوصفها وحيانية غير قرآنية، لكنّه عند ممارسة تصنيف لعلوم القرآن يعتبرها وحيانيةً قرآنية.

وللحيلولة دون تكرار مثل هذه الأخطاء، يجب ــ قبل كل شيء ــ تبنّي إحدى الفرضيتين باعتبارها الأصحّ، لننتقل إلى الأخرى؛ لتصحيحها بالاستناد إلى الأولى.

ثمّة دلائل عقلية([29]) ونقلية([30]) عديدة تفيد أنّ القرآن نصّ توقيفي وذو وجه واحد، وعلى هذا الأساس، يلزم أن نتبنّى هذا الرأي ونبني عليه، وهو أمر يسير وبسيط للغاية بالنسبة لثلاثة أرباع القرآن([31])، حيث اختلاف القراءات معدوم، وهو ما يُصطلح عليه بالقراءات المتّفق عليها من قبل القرّاء، أمّا بالنسبة للربع الآخر الذي تعدّدت القراءات فيه واختلفت، أو ما يسمّى بالآيات المختلف فيها، فالحلّ هو اعتماد فكرة عدم تغيّر المعنى والاستناد إلى المساحة المشتركة من القراءات في حالات اختلافه، ويعدّ هذا المعيار ــ عدم تغيّر المعنى والحيلولة دون تغيّره ــ من المسائل المهمّة للغاية في هذا النمط من الآيات؛ ذلك أنّ الذي يؤمن بوحدة النصّ والوجه القرآني الواحد، لا يمكن أن يقبل بفكرة زيادة الألفاظ أو نقصانها أو تغيّرها؛ لأنّ أيّاً من هذه الاحتمالات تنتهي به إلى نتيجة واحدة، ألا وهي تغيّر المعنى، أي التحريف.

ج ــ تقسيم القراءات إلى حقيقية وواقعية

لا شكّ أنّ تبنّي فكرة النصّ القرآني الواحد وسلامته من التحريف في الأبعاد الثلاثة التي ذكرناها ووجوب عدم تغيّر المعنى، سيضطرّنا ــ عند تعاطينا مع مصطلح علم القراءة بمعناه الواقعي (بما هو كائن) ــ إلى اختزال الكثير من مباحثه، وإخراجها عن دائرة علم القراءة بمعناه الحقيقي ــ أي بما يجب أن يكون ــ من هنا يمكن تعريف علم القراءة على نحوين:

1 ــ القراءةُ أداء ألفاظ معيّنة ومحدّدة وموحّدة تشكّل في مجموعها القرآن ضمن إطار من المفاهيم الواضحة.

2 ــ القراءةُ اختلاف القرّاء.

ولتوخّي السهولة نصطلح على القراءة بالمعنى الأول بالقراءة الحقيقية أو حقيقة القراءة، والقراءة بالمعنى الثاني بالقراءة الواقعية.

د ــ الربط بين القراءة الحقيقية ومقدّمات التفسير، وبين القراءة الواقعية والتفسير وأسسه ومناهجه واتّجاهاته

والآن ما العمل؟ هل ترتبط القراءة الحقيقية بالتفسير أم لا؟ كلا بالطبع، فالقراءة الحقيقية لا ترتبط بالتفسير ومناهجه، بل تعتبر مقدّمةً له، وهي علم آلي يخدم أغراض التفسير، أما بالنسبة للقراءة الواقعية، فنحن أمام خيارين، إمّا أن نطرح بعيداً القراءات الواقعية التي تؤدّي إلى تغيّر المعنى، ونرفضها جملةً وتفاصيل، أو أن نقبلها على علاّتها رغم تعارضها مع القراءة الحقيقية وانطوائها على معنى التحريف، لكن لا يبدو أيّ من الخيارين هو المعقول؟ لذلك لا يبقى أمامنا سوى أن نحيل الجزء المعني بتغيّر المعنى إلى التفسير، وأن نضع القراءات الواقعية التي تتناول المعنى وتغيّره في زمرة هذا العلم.

إذن، فالقراءة الواقعية في أبعادها الثلاثة: النقصان والزيادة والتغيير الذي يؤدّي إلى تغيّر المعنى ــ عدا حالة تعدّد اللهجات ــ يجب أن ننظر إليها بوصفها تفسيراً؛ كيلا تضيع المعارف الإسلامية، وعليه تنضوي القراءات الواقعية تحت مباحث التفسير.

من نافلة القول أن نذكر: أنّه كما يوجد تفسير صحيح وآخر سقيم، وأنّ عوامل الصحّة والسقم تلعب دوراً مهمّاً في التفسير، كذلك الحال مع المصدر الجديد للتفسير، ونعني به القراءة الواقعية؛ حيث تؤثر العوامل والمعايير عليها وتحدّد مسارها، فعلى سبيل المثال، من العوامل التي تلعب دوراً في صحّة التفسير، الانسجام العام أو الجزئي مع المعنى القرآني، وهذه هي القراءة الحقيقية؛ لذا، تتحدّد صحّة التفسير بمقدار تطابق القراءة الواقعية مع القراءة الحقيقيّة، والعكس بالعكس.

هـ ــ تحديد علاقة القراءة الواقعية بأسس التفسير ومناهجه واتجاهاته

في حالة المطابقة الكلية والجزئية، تكون هذه القراءة ــ أي الواقعية ــ على نحوين: مستندة وغير مستندة، فإذا كانت مستندة ترتبط القراءة الواقعية بمجال المعارف الإلهية والسنّة، أمّا إذا كانت غير مستندة، فترتبط القراءة الواقعية بمجال المعارف الإنسانية واجتهادات القارئ، لكنّ الشيء المؤكّد أنّه يجب عدم ربطها بمنهج تفسير القرآن بالقرآن والسنّة المتواترة؛ ذلك أنّ القراءة مستقلّةٌ عن القرآن، فهي صنيع أخبار الآحاد.

ولكي نقدّم مثالاً نقول: إذا اتّخذنا الآية الكريمة 76 من سورة الرحمن المباركة >متكّئين على رفرف خضر وعبقريّ حسان< نصّاً أصلياً لأي دليل كان، تكون القراءة أو القراءات الأخرى مثل mمتكئين على رفارف خضر وعباقري حسانn([32]) إمّا مسندة إلى الرسول الكريم 2 أو غير مسندة، فإذا كانت مسندة اتّخذت حكم التفسير بالمأثور، وهو في العادة بالخبر الواحد، وإلاّ كانت من اجتهاد القارئ، وهي لا تخرج عن حالتين: الأولى أن تحوز على شروط الصحة؛ فتكون اجتهاداً صحيحاً، وإلاّ فالحالة الثانية، وهي التفسير بالرأي، وهو مذموم.

ولتوضيح الصورة؛ نتناول موضوع وجوه اختلاف القراءات من زاوية أخرى، فكما نعلم، انبرى بعض العلماء، من أمثال ابن قتيبة والفخر الرازي وابن الجزري، إلى استقصاء القراءات، وقصروا وجوه اختلافها في الحالات التالية

1 ــ الاختلاف في الزيادة، حيث قرأ بعضهم الآية الكريمة >وما عملت أيديهم< (يس: 35)، (وما عملته أيديهم)، وهذه القراءة هي بالضبط ما نزل به الوحي القرآني من منظار الذين يؤمنون بتواتر القراءات ووحيانيتها وقرآنيتها، لذلك حُملت على هذه القراءة، فتحقّق لهم منهج تفسير القرآن بالقرآن، أمّا الذين يؤمنون بالنصّ الواحد ووجوب عدم تغيير المعنى، فلا يرون في العبارة الثانية التي تحتوي على الضمير قرآناً، على الرغم من الشبه الكبير الذي تحمله للآية القرآنية، وعليه فإنّ قراءتها هي قراءة للتفسير لا للقرآن، ونفس الحالة بالنسبة للكلمات أدناه.

2 ــ الاختلاف في النقصان، مثل الآية الكريمة: >إنّ الله هو الغنيّ الحميد< (لقمان: 26)، التي قُرِأت أيضاً: >إنّ الله الغنيّ الحميد<.

3 ــ الاختلاف في الزيادة والنقصان في آن، كما في >وطلحٍ منضود< (الواقعة: 29)، والتي قُرِأت: >طلع منضود<، أو >تكون الجبال كالعهن المنفوش< (القارعة: 5) >العهن المنفوش<.

4 ــ الاختلاف في التغيير الموضعي، كما في >فأذاقها الله لباس الجوع والخوف< (النحل: 112)، >فأذاقها الله لباس الخوف والجوع<.

ومن الجدير الإشارة إلى أنّ القراءات التي تتناول الاختلافات من قبيل([33])الإظهار والإدغام والروم والإشمام والتفخيم، الترقيق والقصر والإمالة والفتح والتحقيق، التسهيل والإبدال والنقل، لا تندرج في دائرة التفسير؛ وذلك لعدم تسبّبها في اختلاف أساسي ورئيس في اللفظ والمعنى.

وعلى هذا الأساس، يمكن ترميم تعاريف المختصّين في علم قراءة القرآن في ضوء ما قيل، فالزركشي([34]) ــ مثلاً ــ يعرّف علم القراءة بقوله: «الاختلاف المنقول عن القرّاء حول بعض ألفاظ وعبارات الوحي، أي اختلاف يتعلّق بحروف وكلمات القرآن وتشكيلها، مثل التخفيف والتشديد وغير ذلكn([35])، فيما التعريف الصحيح للقراءة الحقيقية يقع على النقيض من ذلك تماماً، فهي العلم بكيفية أداء كلمات القرآن ونطقها في حال عدم وجود اختلاف بشأنها، زيادةً أو نقصاناً أو تغييراً.

وبالاستناد إلى هذه الرؤية، يمكن تعرية الافتراءات الموجّهة ضدّ الشيعة عبر التاريخ، ومنها على سبيل المثال ما يختصّ بالآية الكريمة: >فإذا فرغت فانصب< (الشرح: 7) ([36]).

يقول الآلوسي في تفسيره روح المعاني([37]): وهل تحتاج الشيعة إلى تغيير القراءة للاستدلال على ولاية علي، ويعني بذلك كلام أئمّة الشيعة حول «فانصَب» التي قُرِأت «فانصِب»([38])، بينما يعدّ هذا الرأي تفسيراً([39]) فحسب، فالقراءة المشهورة «فانصَب» تدلّ على ذلك، لأنّه يقول استناداً إلى أحد المصاديق([40]): عندما تفرغ من أمر الرسالة الخطير، ينتظرك أمر خطير آخر، وهو الولاية.

استنتاج ـــــــ

اختلاف آراء الباحثين القرآنيين حول علاقة علم القراءة بعلم التفسير ومتعلّقاته اختلافٌ شكلي وظاهري؛ فدراسة علم القراءة وعلم التفسير في إطار أوسع، وكذلك تحديد المساحة الدقيقة لمعاني الكلمات القرآنية، والقراءة، والتفسير، بصورة عامة وجزئية، يساهم في رفع التناقض المذكور.

وتقسّم القراءة إلى قراءة حقيقية، أي ما يجب أن يكون، وقراءة واقعية، أي ما هو كائن؛ فالقراءة الحقيقية غير مقارنة للتفسير ومتعلّقاته، وهي علم آلي وجزء من مقدّمات التفسير، أمّا القراءة الواقعيّة فهي مقارنة للتفسير ومتعلّقاته، وترتبط بأسسه واتّجاهاته، وامتياز القراءتين يساعد على تقديم تعريف صحيح، وكذلك رفع بعض الشبهات والافتراءات.

*   *     *

الهوامش

(*) أساتذة مساعدون في كلية الإلهيّات والمعارف الإسلامية، وأعضاء الهيئة التدريسية في جامعة طهران.

[1] ــــ من جملة هؤلاء الشهيد الثاني، والشهيد الصدر، ومحمد باقر الحكيم، وهداية جليلي وآخرون.

[2] ــــ ومن هذا الفريق: أبو حيان الأندلسي، وجولدتسيهر، ومحمد حسين الذهبي، وأحمد إسماعيل نوفل، والإمام الخوئي، والأبياري و..

[3] ــــ انظر: أبو حيان الأندلسي (475هـ)، التفسير المحيط 1: 13، 14؛ والسيوطي، الإتقان في علوم القرآن 2: 1191؛ والآلوسي، روح المعاني 1: 4؛ والزرقاني، مناهل العرفان 2: 4؛ والذهبي، التفسير والمفسّرون 1: 14.

[4] ــــ للاستزادة حول المؤيّدين لهذه النظرية انظر: الذهبي، التفسير والمفسّرون 1: 41؛ ونوفل، مجاهد، المفسّر و التفسير: 36.

[5] ــــ في كتابه مقدمة معالم التنزيل، يصنّف البغوي (516هـ) مناهج التفسير إلى عقلية ونقلية، وقد شاع هذا النمط من التصنيف في ذلك الوقت، لقد أشرنا إلى عنصري: العقل والنقل، ونعتقد أنّ تطبيق النقل في المعارف الإلهية يتفرّع إلى القرآن بالقرآن والقرآن بالحديث و الخبر (المأثور)، أمّا تطبيق العقل في المعارف الإنسانية، فيتفرّع إلى استدلالي بأنواعه: الأصولي والكلامي والفلسفي والذوقي العرفاني والأدبي والعلمي التجريبي والإنساني؛ وانظر أيضاً: جعفر السبحاني، المناهج التفسيرية في علوم القرآن: 6.

[6] ــــ الذهبي، التفسير والمفسّرون 1: 36.

[7] ــــ هناك بعض الآيات تختلف في اللفظ وتتّفق في المعنى، كالآية الكريمة التالية: >أو يكون لك بيت من زخرف<(الإسراء: 93)، وبعض القراءات تختلف فيما بينها لفظاً ومعنى، حيث تبيّن إحداها معنى الأخرى، وهناك آيات تختلف مع بعضها في الزيادة والنقصان، انظر: الذهبي، التفسير والمفسرون 1: 36؛ وهذه القراءات في حال عدم ثبوت صدورها عن النبي الكريم 2 تدخل في إطار الاجتهاد الفردي، ومبدأ تطبيق العقل في المعارف الإلهية.

[8] ــــ مجاهد، المفسّر والتفسير: 264، والسبب وراء الدور التفسيري للقراءات هو حملها لأكثر من معنى، لذلك كان مجاهد يقول: عندما سمعت قراءة ابن مسعود للآية الكريمة: mفقد زاغت قلوبكماn، اتّضح لنا معنى الآية الكريمة: >فقد صغت قلوبكما<، انظر: تفسير مجاهد: 683، وكذلك يقول: لو كنت تعرّفت على قراءة ابن مسعود لكنت انصرفت عن أسئلة كثيرة طرحتها على ابن عباس، راجع: علي حسن عبد القادر، نظرات في تاريخ الفقه: 163؛ وسيرة ابن هشام 1: 231.

[9] ــــ انظر: الإمام الخوئي، البيان: 123، وكان السبكي يقول بتواتر القراءات العشر، الزرقاني، مناهل العرفان: 433، و كذلك أبو سعيد الفرج بن اللب مفتي الأندلس، كما في المصدر نفسه: 428، والمشهور عند الشيعة عدم تواترها؛ فراجع: الفضلي، عبد الهادي: 90، والشهيد الأول كان يعتقد بتواتر القراءات العشر، المصدر نفسه: 91؛ وينقل محمد جواد العاملي عن جامع المقاصد للمحقق الكركي تواتر القراءات السبع بإجماع علماء الشيعة. كما في روضات الجنات: 263، والمصدر نفسه: 92؛ ويقول العلامة الحلّي في منتهى الوصول، وتحرير الأحكام وتذكرة الفقهاء، والشهيد الأول في ذكرى الشيعة والموجز الحاوي وكشف الالتباس، بتواتر القراءات.

[10] ــــ يقول بدر الدين محمد الزركشي (794هـ): القرآن والقراءات حقيقتان متباينتان، فانظر: البرهان في علوم القرآن 1: 318؛ وكذلك السيوطي في الإتقان، النوع 22 ـ 27، ج1: 138؛ والخوئي، تفسير البيان: 160؛ ومن مؤيّدي هذه النظرية القسطلاني (الفضلي: 86)؛ والإمام الخوئي، تفسير البيان: 160؛ وصبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، وإبراهيم الأبياري، الموسوعة القرآنية، ج 1.

[11] ــــ الإمام الخوئي، تفسير البيان: 1 ـ 123، اشتهر عند الشيعة عدم تواتر القراءات، وأنّ القراءات منقولة بالخبر الواحد، ويقول بهذا الرأي أيضاً جماعة من علماء أهل السنّة، أمّا أدلة الإمام الخوئي على عدم التواتر فهي: 1. استقراء أحوال الرواة، 2. الطرق التي أخذ عنها الرواة قراءاتهم، 3. نقل كل قارئ القراءة الشخصية، 4. احتجاج كل قارئ على صحّة قراءته، 5. إنكار عدد من العلماء لبعض القراءات.

[12] ــــ الأبياري، الموسوعة القرآنية 1: 80، نقلاً عن الفضلي، تاريخ القراءات: 94، 105؛ وقد فنّد الزمخشري في مواضع عديدة القراءات، ويقول ابن قتيبة في كتاب تأويل مشكل القرآن: 42: يندر أن نجد من هذه الطبقة من تخلو قراءته من الخطأ؛ ويذهب الإمام الخوئي في تفسير البيان: 123 إلى أنّ القراءات نتيجة لاجتهادات القرّاء، وفي نفس المصدر: 151 يقول: رابعاً: إنّ احتجاج أيّ قارئ وتلامذته على صحّة قراءاتهم وقراءة أستاذهم، وإعراضهم عن قراءات الآخرين، لدليل قاطع وواضح على قيام القراءات على الاجتهاد وآراء القرّاء، فلو أنّها كانت متواترةً عن الرسول الكريم 2، لما كانت ثمّة حاجة للاستدلال والاحتجاج على صحّتها. خامساً: تفنيد بعض كبار العلماء لبعض القراءات يعتبر برهاناً على عدم تواترها؛ وفي المصدر نفسه: 152، يقول: لقد أنكر الزمخشري وأبو زيد والأصمعي ويعقوب الحضرمي والزجّاج قراءات بعض القرّاء؛ وانظر: الجزائري، التبيان: 87؛ مطبعة المنار، 1334هـ.

[13] ــــ يشرح الشهيد الثاني (966هـ) في منية المريد في آداب المفيد والمستفيد، كيفية تحصيله للعلوم القرآنية مثل علم التجويد والقراءة وغير ذلك من العلوم، ثمّ يقول: بعد فراغي من تحصيل هذه العلوم، شرعت بتفسير كتاب الله، فكانت تلك العلوم بمثابة مقدّمة لهذا العلم؛ وانظر: الطبرسي، مجمع البيان 1: 92، وعسكر حقوقي، التحقيق في تفسير أبي الفتوح، المقدمة: 40؛ والفضلي، تاريخ القراءات: 167، ويرى أنّ علم القراءة والتجويد يشكّل نقطة الاشتراك الرئيسة لدى بحث بعض الموضوعات، والخلاصة أنّه حيثما طرح علم التجويد تمّ الاستناد إلى علم القراءة.

[14] ــــ ضمن استعراضه العلوم اللازمة للمفسّر، يذكر السيوطي (911هـ) القراءات واحدةً من تلك العلوم التي يمكن أن تكون مقدّمةً للتفسير.

[15] ــــ الصدر، محمد باقر، المدرسة القرآنية: 17؛ وكما نلاحظ، فإنّ الشهيد الصدر يعتقد صراحةً بوجود علاقة تباين بين هذين الموضوعين، بينما نرى عميد زنجاني يقع في تناقض واضح في الصفحتين: 145 و 146 من كتابه أسس ومناهج تفسير القرآن، فهو يقول أولاً في ص 145: وبهذا أدخل أبو حيّان علم القراءة في دائرة علم التفسير، لكنّ الشهيد الصدر يخرجه من هذه الدائرة، وفي صفحات لاحقة، ينقل عن السيد محمد باقر الحكيم قوله في كتابه علوم القرآن: 74، أنّ الشهيد الصدر كتب عن علم التفسير ما يلي: في تعريفنا لعلم التفسير، قمنا بتحديد موضوعه، وهو القرآن الكريم، من حيث أنّه كلام الله تعالى؛ على هذا الأساس، يتبيّن أنّ إطلاق اسم علم الناسخ والمنسوخ أو علم أسباب النزول أو علم إعجاز القرآن على البحوث المرتبطة بهذه الموضوعات لا تعني عدم إمكان درجها جميعاً تحت لواء علم واحد، هو علم التفسير، ثمّ في تأييد ذلك يكرّر إشارته في السطور الأخير من الصفحة 145 وأوائل صفحة 146 إلى رأي الشهيد الصدر، معتبراً تلك العلاقة علاقة تداخل، والحال أنّ الشهيد الصدر قد يقصد من عبارة «على هذا الأساس» آراء المعارضين. ويضيف قائلاً: بحسب الشهيد الصدر فإنّ نطاق علم التفسير يشمل الموضوعات التالية، وفي 3 و4 يشير إلى سبب النزول والناسخ والمنسوخ، باعتبارهما من مقدّمات التفسير لا منه نفسه، وأنّ علم القراءة أيضاً في زمرتها.

[16] ــــ السيد محمد باقر الحكيم، علوم القرآن: 72، مطبعة الاتحاد؛ وعميد زنجاني، أسس ومناهج تفسير القرآن: 144.

[17] ــــ هداية جليلي، ميتدولوجيا التفاسير الموضوعية القرآنية: 90؛ ويطرح في المصدر نفسه: 92، نظريّةَ الشهيد محمد باقر الصدر التي يعرّج فيها على موضوع القراءات؛ وهو يرى أنّه على الرغم من أنّ موضوع المباحث القرآنية هو الآيات الكريمة، إلاّ أنّها لا تنطوي على تفسير أو تصوّر معيّن عن الآيات، بل تناقش موضوعات من قبيل نسخ الآيات وأحكامها.. وغير ذلك من الموضوعات.

[18] ــــ من البديهي، أن يكون حكم الذين يؤمنون بتمايز القرآن عن القراءة والقراءات باعتبارهما حقيقتين متباينتين مثل الزركشي والقسطلاني والإمام الخوئي وصبحي الصالح والأبياري، في تحديد هذه العلاقة مختلفاً عن القائلين بأنّ كلّ قراءة هي بمثابة قرآن، حتى ولو كانت شاذةً.

[19] ــــ وفي السياق عينه، من الطبيعي أن تختلف رؤية العلماء من أمثال الداوري وابن أبي سفرة، تفسير البيان: 162، القائلين بأن لا وجود لغير القراءات السبع (البيان: 110)، وأنّها مصداق للحديث الشريف الذي يقول بأنّ القرآن نزل على سبعة أحرف، نقول: من الطبيعي أن تختلف رؤية هؤلاء عن الذين لا يقبلون بهذا الرأي؛ فانظر: الفضلي، تاريخ القراءات: 109؛ والخوئي، البيان: 160، 161.

[20] ــــ عاملٌ آخر يترك تأثيره المباشر على الرأي النهائي في تحديد العلاقة، هو الإيمان بتواتر القراءات؛ فالسبكي يؤمن بتواتر القراءات العشر (البيان: 123)، وأبو سعيد بن اللب يكفّر من لا يقول بالتواتر، بينما يعارضهما ابن الجزري (البيان: 153)، وأبو شامة (البيان: 153)، والشيخ محمد سعيد العريان.

[21] ــــ على غرار ما سبق، فإنّ رؤية القائل بأنّ الكتابة والنطق والقراءة جزء من خصوصيات النصّ القرآني باعتباره كلام الله تعالى (عميد زنجاني: 144) لابدّ وأن تختلف عن رؤية من لا يؤمن بهذا الرأي، وبالتالي سينسحب ذلك على الموضوع الذي نحن بصدده.

[22] ــــ عندما ينظر المرء إلى القرآن الكريم نظرةً شمولية واسعة، ويؤمن بأنّه كلام الوحي ومن ثمّ ينقسم إلى قسمين: القرآن بالمعنى الأخصّ (الوحي القرآني) وتفسير وحياني (وحي بياني غير قرآني)، من المؤكّد أنّ رأيه سيختلف عن ذلك الذي يختزل القرآن الكريم في المعنى الأخصّ، وسينعكس هذا الاختلاف ـ في المحصّلة ـ على الرأي النهائي، وعلى سبيل المثال، يرى الإمام الخوئي في تفسير البيان: 225 أنّ دائرة الوحي أوسع وأشمل من القرآن، وأن ليس كل ما نزل هو قرآن، وأنّه يوجد ثمّة تباين في زوايا النظر بالنسبة لمسألة التأويل والتنزيل بين المتقدّمين والمتأخرين؛ انظر أيضاً: العلامة العسكري، مجلّة الحديث، العدد 20: 21، وكذلك الاستنباط من سورة الكهف >قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربّي لنفد البحر<.

[23] ــــ إنّ الذي يؤمن بأنّ أيّة زيادة أو نقصان أو تغيير هو بمثابة تحريف، وأنّ القرآن الكريم منزّه عن التحريف في أبعاده الثلاثة، لابدّ وأن تختلف رؤيته عن الذي يقول بهذه المسائل أو ببعضها.

[24] ــــ علم النفس التربوي: 342؛ والمهارات التعليمية: 22.

[25] ــــ Whole- Part relation

[26] ــــ انظر أيضاً في نفس الموضوع: فيلسين شاله، معرفة مناهج العلوم: 124، نظرية جول لاشليه: تقدّم الكلّ على وجود الأجزاء.

[27] ــــ ابن الجزري، منجد المقرئين: 3، نقلاً عن الفضلي، عبد الهادي، تاريخ القراءات: 79.

[28] ــــ الذهبي، التفسير والمفسّرون 1: 40؛ ومجاهد المفسّر والتفسير: 364.

[29] ــــ الجرجاني، دلائل الإعجاز: 295، تشكّل الأجزاء واتّساقها كوجه من وجوه الإعجاز.

[30] ــــ إنّ القرآن واحد إنّما نزل على حرف واحد، لكنّ الاختلاف يجيء من قبل الرواة، الفيض الكاشاني، الوافي 5: 272؛ ونوري، فصل الخطاب: 188.

[31] ــــ رجبي، محمود، بحوث في منهج تفسير القرآن: 27، 28، ترجمة: الصافي، حسين، وبحسب بعض الدراسات، فإنّ ثلاثة أرباع الآيات الكريمة لا يكتنفها أيّ اختلاف في القراءات. كما يذكر محمد علي لساني فشاركي في رسالته لنيل شهادة الدكتوراه والموسومة بالقرّاء السبعة ودراسة قراءة كل منهم، حيث يرى أنّ عدد حروف القراءات السبع هي 1561 حرفاً، وهذا يشير إلى عدم وجود خلاف حول ثلاثة أرباع حروف القرآن، وحول عدد الآيات التي لا يوجد دليل قوي على اعتبارها قراءةً معتبرة، يقول فشاركي بأنّ عددها ثلاثون، المصدر نفسه: 593، حيث يمكن في هذه الحالة الاستناد إلى هذه المساحة المشتركة، كذلك انظر: الكاشاني، تفسير الصافي 1: 61، 62، المقدّمة الثامنة.

[32] ــــ الفضلي، تاريخ القراءات: 118.

[33] ــــ من المتأخرين الذين أشاروا إلى هذه الملاحظة طه حسين وعلي الجندي ومحمد صالح السمك ومحمد أبو الفضل إبراهيم، ومن المتقدمين الضحاك وابن عباس.

[34] ــــ انظر كذلك: تعاريف ابن الجزري، منجد المقرئين: 3.

[35] ــــ الزركشي، البرهان في علوم القرآن 1: 38.

[36] ــــ يمكن تقسيم البحث في هذه الآية الكريمة إلى:

أ ـ البحث اللغوي: نَصَبَ = نصب وأعيا؛ نصب: رفعه و أقامه، نصب الأمير فلاناً، ولاّه منصباً.

ب ـ رأي علماء أهل السنّة من أمثال النيشابوري في الوسيط: 468، حول الآية الكريمة، هو إذا فرغت من صلاتك فانصرف إلى صلاة الليل، وبعد التشهّد أدع لدنياك وآخرتك. انظر: الفيض، الصافي 5: 344، ويقول الحاكم الحسكاني الحنفي ـ وهو من أعلام أهل السنّة ـ في شواهد التنزيل، نقلاً عن أبي بصير: يعني انصب عليّاً للولاية، (القرشي، أحسن الحديث)، ونقلاً عن الزمخشري: إذا كان الشيعة يقرأون فانصب ليثبتوا إمامة علي % فالناصبي أيضاً يمكنه يحتجّ بها، لكن لإثبات عداوة علي. ويقول الفيض في الصافي 5: 344، في الردّ على ذلك ـ مستفيداً من ترتيب الآيات ـ : تنصيب الإمام والخليفة بعد تبليغ الرسالة والفراغ من العبادة أمرٌ معقول، لا بل واجب، لئلا يقع الناس في الحيرة والضلال، لكن أي معنى يمكن أن يستشف من بغض علي وعداوته بعد تبليغ الرسالة والفراغ من العبادة، وذلك مع العلم بأنّ كتب أهل السنّة تزخر بحبّ علي %. الكنابادي، بيان السعادة 4: 263، وإذا أخذنا بنظر الاعتبار فارغب، التي تعني الموت، فإنّ تنصيب الخليفة يكون هنا واجباً.

ج ـ آراء علماء الشيعة، www.ju.edu-shareah/bschtalis.htm، بيان الجزاف في انحراف صاحب الكشاف، برهان الدين نيلي.

[37] ــــ الشيرازي، الأمثل 20: 275؛ ومغنية، محمد جواد، الكاشف 7: 582، أولئك الذين يسعون إلى تأجيج الخلاف بين المذاهب يستندون إلى هذه الآية؛ الكنابادي، بيان السعادة 4: 263؛ والفيض، تفسير الصافي 5: 344، نقلاً عن الحاكم الحسكاني الحنفي في شواهد التنزيل؛ والطالقاني، محمود، قبس من القرآن 4: 151؛ والنيشابوري، الوسيط: 468؛ والطبرسي، مجمع الجوامع 5: 507.

[38] ــــ الفيض، تفسير الصافي 5: 344، نقلاً عن الحاكم الحسكاني الحنفي في شواهد التنزيل.

[39] ــــ انظر: تفاسير الشيعة المذكورة في الهوامش، مثل: الكنابادي، بيان السعادة 4: 263..

[40] ــــ النيشابوري، الوسيط: 468، حيث يشير إلى الصلاة الواجبة وصلاة الليل وكذلك الدعاء
بعد التشهّد والدعاء لخير الدنيا، بوصفها مصاديق أخرى، لكنّ المقصود هنا المصداق الأتمّ والأكمل.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً