أحدث المقالات

عندما ألغى كمال أتاتورك الخلافة الإسلامية 1924م، أصيب العالم الإسلامي بصدمة كبيرة في الوعي العام،لإلغاء الخلافة، في الوقت الذي كان الغرب قد احتل معظم أو هيمن على الكثير من البلاد العربية، كانت الخلافة في ذلك الوقت، قد تراجعت وأصبحت كما قيل عنها ( الرجل المريض)، بسبب صراعاتها مع أوروبا، ودخولها في حروب لا ناقة فيها للمسلمين ولا جمل، واستتبع ذلك أن العالم الإسلامي وقع في نفس الإشكالات التي وقعت فيها الخلافة العثمانية، حيث التخلف قد ساد معظم هذه البلاد العربية، وتراجعت نهضويا وتنمويا، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تتقدم وتنهض على كل المستويات.
وهذه بلا شك من أخطاء زعامات الدولة العثمانية المتأخرين، الذين ساهموا في تراجع الخلافة الإسلامية لأسباب ليست محل مقالنا، حسب البعض من المسلمين هذا التراجع على الإسلام وتعاليمه، وهو منها براء، لكن إلغاء الخلافة الإسلامية، لم يكن عملاً إيجابياً لأسباب كثيرة، فقد كانت تمثل رمزاً للعالم الإسلامي، وكان بالإمكان إصلاح الأخطاء التي وقعت منها خاصة الحروب التي دخلت فيها مع أوروبا، خاصة الحربين الكونيتين، مع محور ألمانيا وايطاليا،لكن كمال أتاتورك، كان يحمل فكراً مغايراً لفكر الأمة وهويتها، لكنه لم يظهر ذلك إلا عندما استقوى نفوذه السياسي والعسكري، ثم نصّب حاكما!، والدليل على ذلك أنه لم يكتف بإلغاء هذا الرمزية الإسلامية، بل قام بمنع حتى الأذان والطربوش، وإلزام الأتراك بالزى الأوروبي،ووقف التشريعات الإسلامية والقوانين الإدارية المرتبطة بالقيم والمرجعية الدينية، واستبدالها بقوانين غربية !!،و يعتقد أتاتورك أنه بهذا العمل يرضي الغرب أو يتقدم مثله، ولذلك قام بتقليده في كل شيء، وفرض علمانية متطرفة قاسية على الشعب التركي، والعمل على إنهاء الهوية،واستبدالها بهوية أوروبية، لكن الذاكرة المسلمة أدركت أن هذه الخطوة شكلت صدمة كبيرة لارتباطها بالأمجاد الإسلامية وبالخلافة الراشدة وعصر الفتوحات الكبيرة.
وفي عام 1925 أي بعد عام واحد على إلغاء الخلافة الإسلامية، أصدر الشيخ على عبد الرازق كتابه الشهير (الإسلام وأصول الحكم)، الذي لا يتجاوز المائة والعشرين صفحة، طرح فيه رأياً غير مسبوق، وهو أن الإسلام دين روحي فقط، وأنه لم يؤسس دولة في العصر الأول الإسلامي، وأن أفعاله (ص) كانت من مهامه النبوية، وليست من المهام السياسية، ومما قاله علي عبِد الرازق في هذا الكتاب " أن محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما كان إلا رسولاً لدعوة دينية خالصة للدين، لا تشوبها نزعة ملك، ولا دعوة لدولة، وأنه لم يكن للنبي صلى اله عليه وسلم ملك ولا حكومة، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يقم بتأسيس مملكة، بالمعنى الذي يفهم سياسة من هذه الكلمة ومرادفاتها، وما كان إلا رسولاً كأخوانه الخالين من الرسل، وما كان ملكاً و مؤسس دولة ولا داعياً إلى ملك "(ص76،66) ـ مضيفاً في فقرة أخرى من الكتاب ـ " أن الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون وبريء من كل ما هيأوا حولها من رغبة ورهبة، ومن عز ومن قوة. والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة. وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا، لنرجع فيها إلى إحكام العقل، وتجارب الأمم وقواعد السياسة.
كما أن تدبير الجيوش الإسلامية، وعمارة المدن والثغور،ونظام الدواوين لا شأن للدين بها، وإنما يرجع الأمر فيها إلى العقل والتجريب، أو إلى قواعد الحروب أو هندسة المباني وآراء العارفين"، (ص105،104 ). والواقع أن هذا الرأي الذي طرحه على عبد الرازق يعتبر سابقة في الفكر الإسلامي بما طرحه في هذا الكتيب، ذلك أن الإسلام وان كان لم يعتبر الدولة والسلطة جزءاً من الدين، لكن الدولة والسلطة ضرورة من ضرورات
تطبيق شرائع الدين، لأن الإسلام عقيدة وشريعة، وهذه الشريعة لا بد لها من الدولة والسلطة، وقد تحققت هذه الدولة في العصر الراشدي وما بعده، وهذه مسألة بديهية وضرورة عقلية للأمة وللمجتمع، لتطبيق الدين وتنفيذ أوامره وتكليفاته التشريعية. ولم يقل أحد أن الدولة والسلطة أمراً إلهياً، والفقهاء المسلمون في أغلبهم اعتبروا الإمامة من الفروع وليست من الأصول.
وهذا الذي قاله عبد الرازق فيه خلط عجيب بين الرؤية الإسلامية للدولة، وما كانت عليه الكنيسة المسيحية قبل تجريدها من صلاحياتها في القرن السابع عشر الميلادي. وهناك الكثير من مواقف للخلفاء الراشدين، تبرز أن الخليفة أو أمير المؤمنين،رأيه ليس معصوما ولا مقدسا، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه، قال في اليوم التالي لتوليه الخلافة، حيث وقف يحدد برنامجه السياسي بـ بمقاييس العصر :" أيها الناس: إني قد وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة. والضعيف فيكم قوي عندي حتى أزيح عنه علته إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله ".، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه قال في إحدى المناسبات:" لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة ". والتاريخ الإسلامي يحفل بالكثير من المواقف التي تبرز مدنية الدولة، ولا عصمة ولا قدسية لزعماء الأمة وسياساتهم، ولم يقل أحد بذلك، عدا الرسول (ص) بموجب الوحي الإلهي.
فالإسلام ليس كهنوتاً ولا أحد ادعى أن الدولة في الإسلام تعتبر أمراً إلهياً، إنما الإسلام أقام دولة وسلطة مدنية، تقوم بواجباتها السياسية والاجتماعية في المجتمعات الإسلامية، وهذه من سنن الحياة الطبيعية لكل الأمم والشعوب، وقد اتسمت بأسماء متعددة الخلافة ـ الإمارة ـ الإمامة ـ السلطنة ـ المملكة ـ الجمهورية في عصرنا الحالي. وقد رد على الشيخ علي عبد الرازق العديد من العلماء والباحثين، بعد صدور كتابه هذا، ومن هؤلاء الذين ردوا على هذا الكتاب العلامة محمد الطاهر بن عاشور في كتابه (نقد علي لكتاب الإسلام وأصول الحكم ) والشيخ أحمد الخضر حسين في كتابه (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم)، والشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية في كتابه[ حقيقة الإسلام وأصول الحكمٍ]ـ حيث فندوا كل ما قاله عبد الرازق، بعيدا عن النقد التعنيف أو التشهير أو التكفير، وسنشير إلى بعض هذه الردود في سياق هذا المقال.
والإشكالية أن صاحب كتاب (الإسلام وأصول الحكم) طرح حججا غير سليمة في رؤيته هذه، خاصة ما قاله، أن الإسلام دين لا دولة ـ رسالة لا حكم، ذلك أن الخلافة، أو الرئاسة السياسية للمسلمين ليست منصبا دينيا، أو جزءا من رسالة النبي(ص)، أنّ المحتجّين لها أو لطابعها الديني إنما يؤسِّسون ذلك على الإجماع، وليس على الكتاب أو السُّنة. وقد سلّم الشيخ بالمشروعية التي يصنعُها الإجماع حتى في الشؤون غير الدينية. لكنّ الإجماع ليس مثل الكتاب والسُّنة، وليس مصدراً يجعل من الأمر المُجْمَع عليه من أصول الدين. وإنما كانت فائدةُ هذا الإجماع التاريخي أنه جعل نَصْبَ الخليفة
واجباً، وهذا الوجوبُ هو وجوبٌ عقليٌّ وشرعي. والطريف أنّ مستند الشيخ عبد الرازق في الإجماع العقلي والشرعي على نَصْب (الإمام وليس الخليفة!) كان بشكلٍ رئيسيٍّ ما ورد في مقدمة ابن خلدون، ثم ما أورده المتكلمون المتأخّرون من تعظيمٍ لشأن الخلافة في الدين. وبذلك، وما دام رأيُهُ أنّ الخلافة ليست من الدين، فإنه قد صعّب الأمر على نفسه بالاعتصام بالنصوص الكلامية التقليدية، مُهمِلاً نصوصاً تقليديةً أُخرى أهمّ، وما أورده منها ما استنتج منه الاستنتاجات الصحيحة، لأنه جاء خالطاً خلْطاً غير ضروري بين الإمامة أو السلطة بحدّ ذاتها، وبين الخلافة. فمنذ أيام الماوردي (- 450 هـ)، بل قبل ذلك، يقول الفقهاء إنّ إقامة الإمام أو الإمامة واجب عقلاً وشرعاً، وهم يعنون بالإمامة ليس الخلافة أو إمارة المؤمنين المحدَّدة، بل السلطة السياسية، شأن ما قاله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في مواجهة المحكِّمة أو بعضهم والذين قالوا: لا حُكْم إلّا لله، فقد أجابهم : لا حُكْم إلّا لله، وفي الأرض حكّام. لا بد للناس من أميرٍ، يجمعُ الفيء، ويجاهد العدو، ويأخذ للضعيف من القوي، حتّى يستريح بَرٌّ ويُستراح من فاجر. وهذا واضحٌ تماماً ليس لدى الماوردي فقط، بل ولدى مُعاصره إمام الحرمين والغزالي والآمدي.. وكلُّ الفقهاء والمتكلمين من المعتزلة والأشاعرة والحنابلة والإباضية والماتريدية. فهم يقولون بضرورة السلطة والسلطان بالعقل (لحفظ نظام حياة الناس)، وبالشرع لحفظ الدين على أُصوله المستقرة (وهم يعنون بذلك الاستقرار كما سيتبيَّن)، ثم يقولون مباشرةً بعد ذلك إنّ الإمامة (أو اتخاذ السلطان أو الرئيس) ليس من أصول الدين ولا من التعبُّديَّات، ولذا فإنّ نَصْبَهُ قائمٌ على الاختيار من أهل الشورى أو من أهل الحلّ والعقد أو من أهل الاختيار".(1) فالشيخ عبد الرازق خلط بين وجود نظام الخلافة، وبين اختيار الخليفة، ولم يميز بين الاثنين عمداً أو توهماً، ذلك أن اختيار خليفة للمسلمين لا يندرج ضمن النظرية الكنسية من حيث أن هذا منصب له قدسية، بما عرف عن النظام البابوي في الدول المسيحية، وهو ما يسمى بالحق الإلهي في الحكم في النظم الأوروبية قبل عصر الأنوار كما يسمى. كما أن الشيخ علي عبد الرازق قد ناقض نفسه بنفسه عندما قال في هذا الكتاب أن (الإسلام دين فحسب) لكنه اعترف في الكتاب نفسه، أن الرسول لم يكن رسولا فحسب، بل أنه كان حاكماً، حيث قال ما نصه " من أجل ذلك كان سلطان لنبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى رسالته سلطاناً عاماً، وأمره في المسلمين مطاعاً، وحكمه شاملاً، فلا شيء مما تمتد إليه يد الحكم إلا وقد شمله سلطان النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نوع مما يتصور من الرياسة والسلطان إلا وهو داخل تحت ولاية محمد صلى الله عليه وسلم على المؤمنين" ص69 من كتاب ( الإسلام وأصول الحكم).
فكيف تلتقي مقولته أن الإسلام ديانة روحية فقط لا حكم، ثم يقول ( فلا شيء مما تمتد إليه يد الحكم إلا وقد شمله سلطان النبي ) ! وقد استشهد علي عبد الرازق بالعديد من الآيات والأحاديث التي سردها في هذا الكتاب لتأييد رأيه، بأن الإسلام دين فحسب، لكن هذه الآيات التي استند إليها عبد الرازق ـ كما يقول معارضوه، وأهمها : " وما أرسلناك عليهم وكيلا " ( الإسراء: 54 )، والآية " وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا " ( الإسراء : 105 )، والآية " فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر " ( الغاشية : 21، 22 )… الخ، هذه الآيات إنما نزلت بمكة، ومعلوم أن العمل على إنشاء دولة لم يكن بمكة ( حيث كان الرسول رسولا فحسب يقتصر عمله على مجرد نشر دعوته )، إنما كان إنشاء الدولة بالمدينة بعد أن هاجر الرسول إليها.
ويرون: إنه كان مما يقضي به واجب الأستاذ عبد الرازق – إذ يستند إلى تلك الآيات القرآنية – أن يفسرها على ضوء أسباب نزولها والظروف التي أحاطت بها، فلما كانت هذه الآيات قد نزلت بمكة حيث كان الرسول يعاني الكثير من إعراض المشركين عنه ومن إيذائهم له ولأتباعه من المؤمنين، فقد نزلت هذه الآيات ( كما يقول الأستاذ الكبير الشيخ الخضر حسين ) مواساة الرسول وتذكيره ببيان مهمته في ذلك الحين وهي مجرد البلاغ والإنذار. ثم إن هذه الآيات إنما تنفي أن يكون الرسول وكيلاً أو مسيطراَ على الذين أبوا قبول دعوته من المشركين لا على من آمن به من المسلمين.
أما الحديث الذي استند إليه الأستاذ عبد الرازق، وفيه يقول الرسول للرجل الذي أخذته الرعدة لدى المثول أمامه : " هون عليك فاني لست بملك ولا جبار "، فإنما يقصد بذلك أن الرسول ليس ملكاً ولا جباراً كالملوك الذي يعرفهم ذلك الرجل ويرهبهم ويخشى سطوتهم وجبروتهم، فالرسول إنما بقصد به تهدئة ذلك الرجل وإزالة الخوف عنه.
أما عن الحديث الذي يستند الأستاذ عبد الرازق إليه : " أنتم أعلم بشؤون دنياكم ".
فقد ورد في تأبير النخل، وكان الرسول قد أمر سائليه عن تأبيره ألا يؤبروه فتركوا تأبيره، فترتب على ذلك أن فسد التمر وأصبح شيصا، فلما ذكروا ذلك للرسول قال لهم : " أنتم أعلم بشؤون دنياكم " أي أنه لم يرسل ليبين للناس كيف وفي أي وقت يزرعون أو متى يؤبرون النخل أو لا يؤبرونه، إلى غير ذلك من الأمور الدنيوية التي يعرفها الناس بالتجربة .
فهذا الحديث لا موضع له في الواقع في هذا المقام، وبعبارة أخرى أنه لا مكان له في مقام الاستدلال على أن الرسول لم تكن له ولاية الحكم"(2).
ويستغرب العديد من الباحثين إصدار هذا الكتاب بعد إنهاء الخلافة الإسلامية مباشرة، مع أن الشيخ علي عبد الرازق له بعض الآراء في محاضرات ومناقشات تناقض ما قاله، بل أن البعض، ومنهم السياسي والقانوني المصري سعد زغلول ـ مع علاقته المتينة بعلي عبد الرازق، كونهما ينتميان إلى حزب الوفد المصري الليبرالي، إلا أنه انتقده بشدة على ما قاله في هذا الكتاب ـ مع ليبراليته المعروفة ـ ورغم أن سعد زغلول كان في موقع المعارضة من الملك فؤاد في ذلك الوقت الذي قيل أنه كان يطمح إلى الخلافة بعد إلغائها من قبل أتاتورك،يقول سعد زغلول:" لقد قرأت كتاب [ الإسلام وأصول الحكم ] بإمعان، لأعرف مبلغ الحملات عليه من الخطأ والصواب. فعجبت : أولاً كيف يكتب عالم ديني بهذا الأسلوب، في مثل هذا الموضوع ؟!. لقد قرأت كثيراً للمستشرقين ولسواهم، فما وجدت ممن طعن منهم في الإسلام حِدَّة كهذه الحدة في التعبير، على نحو ما كتب الشيخ علي عبد الرازق.. لقد عرفت أنه جاهل بقواعد دينه، بل بالبسيط من نظرياته، وإلا فكيف يدعي أن الإسلام ليس ديناً مدنياً ؟! ولا هو بنظام يصلح للحكم ؟! فأية ناحية من نواحي الحياة لم ينص عليها الإسلام ؟! هل البيع ؟ أو الإجارة ؟ أو الهبة ؟ أو أي نوع آخر من المعاملات ؟؟ ألم يدرس شيئاً من هذا في الأزهر ؟! أو لم يقرأ أن أمماً حُكِمَت بقواعد الإسلام فقط عهوداً طويلة كانت أنضر العصور ؟! وأن أمماً لا تزال تُحكم بهذه القواعد، وهي آمنة مطمئنة ؟!.. فكيف لا يكون الإسلام مدنياً ودين حكم ؟!.. أين كان هذا الشيخ من الدراسة الدينية الأزهرية ؟!. والذي يؤلمني حقاً أن كثيراً من الشبان الذين لم تقو مداركهم في العلم القومي، والذين تحملهم ثقافتهم الغربية على الإعجاب بكل جديد، سيتحيزون لمثل هذه الأفكار، خطأ كانت أو صواباً، دون تمحيص ولا درس.و كم وددت أن يفرق المدافعون عن الشيخ بين حرية الرأي، وبين قواعد الإسلام الراسخة التي تصدى كتابه لهدمها ".(3) ومن التخبطات التي وقع الشيخ علي عبد الرازق أنه قال من سيرة النبي(ص)أننا ما " عرفنا أنه تعرض لشيء من سياسة تلك الأمم الشتيتة، ولا غير شيئا من أساليب الحكم عندهم، ولا مما كان لكل قبيلة منهم من نظام إداري أو قضائي.. ولا سمعنا أنه عزل واليا، ولا عين قاضيا" (ص85). لكن الذي يحيّرك في كلام الشيخ عبدالرازق، أنه ناقض هذا الكلام بشكل صارخ في نصوص هذا الكتاب فيقول:" لاحظنا حال القضاء زمن النبي (ص) غامضة ومبهمة من كل جانب، حتى لم يكن من السهل على الباحث أن يعرف هل ولىّ صلى الله عليه وسلم أحدا غيره القضاء أم لا ". وينسى علي عبد الرازق العبارات التي قالها آنفا، أو ربما التي لم يقتنع بها في الأصل، فيضيف بعدها مباشرة " هناك ثلاثة من الصحابة يعدهم جمهور العلماء ممن ولي القضاء في زمن النبي (ص)، قال بعضهم وقلد رسول الله (ص) القضاء لعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وينبغي أن يضاف إليهم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، فقد كان في عمله، على ما يظهر، نظير معاذ بن جبل سواء بسواء" (ص40).
ويعلق د/ عبدالاله بلقزيز على تناقضات علي عبد الرازق فبقول: " يقف مثلا أمام دلالة القضاء في الإسلام وتولية النبي صحابةً يقضون بين الناس نيابة عنه. ومع أنه لا يبدي تسليماً بصحة مثل تلك التولية، يسوق ما أجمع عليه جمهور العلماء من وقائع تدل على أن النبي ولى ثلاثة من صحابته قضاة في الأمصار ( عمر بن الخطاب، علي بن أبي طالب، معاذ بن جبل )، فيضيف إليهم أبا موسى الأشعري من دون أن ينتبه إلى ملاحظته النقدية التحفظية على حال القضاء في العهد النبوي". ويرى عبدالاله بلقزيز أن الارتباك واضحا في الرؤية العامة لما يريده المؤلف في رصد التجربة النبوية "ذلك ما يستفيده قارئ علي عبد الرازق، يحاول الأخير تبديد الاشتباه وبيان غياب لحظةٍ سياسية فيهما. لكن القارئ نفسه لا يملك مقاومة الشعور بأن
حجة عبد الرازق لم تكن قوية بما يكفي لتأسيس موقفه على النحو الرصين. إذ كان يخالطهما الكثير من الارتباك، ناهيك بتناقضات لم تكن تسمح لخطابه في المسألة بالتماسك، فحين يكتب أن الجهاد " كان آية من آيات الدولة الإسلامية، ومثالاً من أمثلة الشؤون الملكية " ويعززه بالتأكيد الصريح أن النبي إذا كان قد " لجأ إلى القوة والرهبة، فذلك لا يكون في سبيل الدعوة الى الدين " ( لأننا " ما عرفنا – يقول عبد الرازق – في تاريخ الرسل رجلاً حمل الناس على الإيمان بحد السيف، ولا غزا قوماً في سبيل الإقناع بدينه ". ينتهي إلى نفي الصفتين السياسية والدينية عن الجهاد من دون أن يثبت طبيعته، وتحديداً نوع صلته بالسياسة والدين ! والأمر نفسه نلحظه حين يتحدث عن التدبير المالي النبوي، فإذ يوحي بأنه فعل سياسي، نافياً أن يكون جزءاً من الرسالة، ينتهي إلى إسقاط الماهيتين السياسية والدينية عنه من دون أن يثبت له ماهية أو يقرر له صلة بأي من السياسة والدين!"(4).
لكن لماذا سكت علي عبد الرازق 40 عاما عن الرد على منتقديه؟ وهل صحيح أنه تراجع عما قاله في هذا الكتاب، لبعض أصدقائه القريبين ؟ وهل تأثر ببعض المستشرقين في فترة دراسته بالمملكة المتحدة ؟ وهل لعبت المخابرات البريطانية دورا في تشويه الخلافة العثمانية في الحرب الكونية الثانية من خلال بعض المستشرقين ؟ وسيكون لنا حديث عن هذه الأسئلة في مقال آخر بإذن الله.

________________________________________________

الإحالات:
1 ـ حوار وردود حول كتاب الإسلام وأصول الحكم ـ تقديم د/ رضوان السيد ـ
جداول للنشر بيروت ـ ص11،10
2ـ الشريعة الإسلامية كمصدر أساسي للدستور ـ د/ عبد الحميد متولي ـ منشأة
المعارف ـ الإسكندرية ـ ص61،60.
3ـ الإسلام والتحديات المعاصرة د/ محمد عمارة ـ نهضة مصر ـ القاهرة ـ ص 433،434.
4 ـ عبدالاله بلقزيز ـ العرب والحداثة.. دراسة في مقالات الحداثيين ـ
مركز دراسات الوحدة العربية ـ ص 138ـ 141

 


Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً