أحدث المقالات

د. الشيخ حسين الخشن(*)

8ـ التوسُّع في القاعدة

لا يخفى أنّ الكثير من السلبيّات المشار إليها قد نتجَتْ عن التوسُّع الذي أجراه الفقهاء على قاعدة التسامح في أدلة السُّنَن، ومعظم توسُّعاتهم ممّا لا يساعد عليها الدليل. ويمكن تصنيف هذه التوسُّعات إلى نوعين:

أـ التوسُّعات الفقهيّة

 وهي توسُّعاتٌ كثيرة، جعلت مئات الفروع تندرج في قاعدة التسامح، بمعنى أنه لولا القاعدة فلن نجد دليلاً على هذه الفروع. وإليك أهمّ هذه التوسُّعات:

أـ الخروج عن مفاد أخبار القاعدة في ما نصَّتْ عليه من إعطاء الثواب على الأعمال التي تضمّنتها الأخبار الضعيفة، لتشمل كلّ خبرٍ ضعيف تضمَّن أمراً أو ترغيباً بعملٍ ما، فيفتى باستحبابه، ولو لم يتضمَّن الخبر ثواباً.

وهذا توسُّعٌ كبير جدّاً، والأكثر على الأخذ به، وإنْ رفضه بعضهم، كالشيخ محمد بن الحسن بن الشهيد الثاني([1]).

ب ـ الحكم بالاستحباب استناداً إلى فتوى الفقهاء أنفسهم، فقد لا يكون في المسألة مستندٌ روائي، ولو ضعيفاً، ومع ذلك يحكم بالاستحباب؛ اكتفاءً بشهرة الفتوى([2])، بل اكتفاءً بفتوى فقيهٍ واحد([3])؛ بذريعة شمول قاعدة «مَنْ بلغ» لها.

وهذا التوسع لا يقلّ عن سابقه في سعة ما شمله من فروعٍ فقهية. والأقوى أنّه توسُّعٌ غير مبرَّر، ومخالفٌ لقوله×: «وإنْ كان رسول الله لم يقُلْه»، الظاهر في أنّ إبلاغ الثواب كان بواسطة خبرٍ ينقل كلامه| مباشرةً وحسّاً، لا حَدْساً وبالواسطة.

ج ـ توسعة القاعدة لحالات ورود الروايات الضعيفة الظاهرة في الوجوب، على اعتبار أنّ الخبر الضعيف إذا كان قاصراً عن إثبات الحكم الإلزاميّ فهو لا يقصر ـ ببركة قاعدة التسامح ـ عن إثبات الاستحباب([4]).

د ـ توسعة القاعدة لحالات ورود الخبر الضعيف الظاهر في الحرمة، فإنه إذا كان لا ينهض لإثبات التحريم فيفتى بالكراهة؛ للتسامح في دليلها([5]).

وهو توسُّعٌ ضعيفٌ؛ لعدم مساعدة أخبار «مَنْ بلغ» عليه.

هـ ـ التوسُّع للكراهة، فقد أفتَوْا بالكراهة في موارد دلالة الخبر الضعيف عليها.

وبرَّره بعضهم بأنّ ترك المكروه مستحبّ. وهو تبريرٌ ضعيف([6]).

وقد رفض بعض الفقهاء هذا التوسُّع، أو استشكلوا فيه([7]). والوجهُ في ضعف هذا التوسُّع، وكذا سابقه، أنّ الظاهر من الثواب على العمل هو الثواب على الفعل، لا على الترك، وليس الترك مستحبّاً شرعياً؛ لعدم انحلال الحكم إلى حكمين([8]).

ولا يعنينا هنا البحث التفصيلي في التوسُّعات المتقدِّمة، فمحلُّ ذلك في الأصول أو في القواعد الفقهية، حيث يتمّ بحث تلك القاعدة. على أننا بعد رفض القاعدة من أساسها يكون ما بُني عليها من توسُّعاتٍ باطلاً.

و ـ شمول القاعدة للروايات المرويّة من طرق السُّنّة([9]) في شتّى الفروع الفقهية، والحقيقة أنّ هذا توسُّعٌ كبير للغاية عَرَفَتْه القاعدة، بما جعلها شاملةً للتراث الحديثي غير الإمامي، وعلى رأس ذلك الأخبار المروية من طرق السنّة. وأخبارهم وإنْ كانت في نظر المشهور غير حجّةٍ([10])، ولا يعتمدون عليها، ولكنّ الوارد منها في خصوص السُّنَن وما يلحق بها يمكن بنظرهم الاعتماد عليها؛ لشمول أخبار «مَنْ بلغ» لها. وقد نصّ على ذلك غير واحدٍ من الفقهاء.

 قال الشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي: «ولهذا لم يزَلْ علماؤنا المتقدِّمون والمتأخِّرون يتداولون نقل صحاحهم ورواياتهم بالرواية، وصار ذلك متعارفاً بينهم، حتّى اتصل إلينا من طرقنا وطرقهم. وإنما نقلها أصحابنا لما يترتَّب عليها من جواز العمل بالسُّنَن والأدب والمواعظ وكلّ ما لا يتعلَّق بالأحكام وصفات ذي الجلال والإكرام، على ما اشتهر بين العلماء. ويمكن أن يستدلّ لذلك بحديث: «مَنْ بلغه شيءٌ من أعمال الخير فعمل به أعطاه الله ذلك، وإنْ لم يكن الأمر على ما بلغه»؛ ولما تفيده من الاعتبار والشواهد في بعض الموارد، كما نبيِّنه في موضعه، إنْ شاء الله تعالى»([11]).

وقال الميرداماد: «اختصّ جواز العمل بالحديث الضعيف بما يكون في مستحبّات أبواب العبادات؛ ومن ثَمَّ ترى الأصحاب ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ في كتبهم الاستدلاليّة رُبَما يحتجّون في سنن العبادات ووظائف المستحبّات بأحاديث من طرق العامّة»([12]).

والأمثلةُ على ذلك كثيرةٌ:

منها: ما أشار إليه الشهيد الأوّل، قال في بيان مستحبّات الصلاة على الميت: «قال الفاضل: وليكونوا ثلاثة صفوف؛ لما روي عن النبيّ|: «مَنْ صلّى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب». قلتُ: الخبر عامّي، ولكنّ فضائل الأعمال رُبَما تثبت بالخبر الضعيف»([13]).

ومنها: ما ذكره الشيخ البهائي، قال: «وقد اشتهر بين أصحابنا رضوان الله عليهم، وسيَّما المتأخِّرين، استحباب قراءة سور المفصَّل في الصلاة، وهي ثمان وستون سورة، من سورة محمد| إلى آخر القرآن، وأنه يستحبّ تخصيص الصبح بمطوَّلاته، وهي من محمد إلى عمّ، والعشاء بمتوسِّطاته، وهي من عمّ إلى الضحى، والظهرين والمغرب بقصاره، وهي من الضحى إلى آخر القرآن. وهذا شيءٌ ذكره الشيخ&، ولم نطَّلع في ما وصل إلينا من الأحاديث المرويّة من طرقنا على ما يتضمّن ذلك، بل أصولنا المتداولة في زماننا خاليةٌ عن هذا الاسم أيضاً، وهذا التفصيل إنما هو مذكورٌ في كتب الفروع، وقد رواه العامّة بطريقٍ فيه عمر بن الخطّاب. ولعلّ وجه ذكر أصحابنا له في كتب الفروع أن من عادتهم قدَّس الله أرواحهم التسامح في دلائل السُّنَن، والعمل فيها بالأخبار الضعيفة؛ تعويلاً على الحديث الحَسَن المشهور الدالّ على جواز العمل في السُّنَن بالأحاديث الضعيفة»([14]).

ومنها: ما ذكره الشيخ المجلسي، تعليقاً على ما أورده والده من رواياتٍ مرويّة من طرق السُّنّة في التحذير من الغيبة، قال: «وأما ما أورده الوالد (قدِّس سرُّه) في رسالته من الأخبار، التي يظهر منها عموم المنع، كلّها من أخبار العامة، فلا تصلح لإثبات حكمٍ شرعي، وعذرُه في إيرادها أنه إنما ذكرها في سياق الترهيب، وشأنهم التسامح في مثله»([15]).

ومنها: صلاة الرغائب.

ب ـ التوسُّعات غير الفقهيّة

 وهذا النوع يهمُّنا التوقُّف عنده؛ لصلته ببحثنا. وبحَسَب ما لاحظنا في كلام الأعلام يمكن رصد العديد من التوسُّعات غير الفقهية، بحيث يمكن القول: إنّ قاعدة التسامح قد أرخَتْ بظلالها على الفكر والفقه والتاريخ والسيرة والوَعْظ والإرشاد. لقد دخل التسامح إلى الروايات ذات البُعْد العقائدي، وإلى بعض الروايات ذات الدلالات العرفانية، وإلى المجال الأخلاقي، وكذلك إلى المجال الطبي، ناهيك عن المجال التاريخي. ورصدُ التوسُّعات الجارية في كلّ هذه المجالات يحتاج إلى تتبُّعٍ، ولكنّي سوف أكتفي بالإشارة إلى ثلاثة توسُّعات:

 

1ـ قضايا التاريخ

 قال آقا بزرگ الطهراني، تعليقاً على ما فعله الدربندي في كتابه «أسرار الشهادة»، من إدخال بعض ضعاف الأخبار: «ومن شدّة خلوصه وصفاء نفسه نقل في هذا الكتاب أموراً لا توجد في الكتب المعتبرة، وإنما أخذها عن بعض المجاميع المجهولة؛ اتكالاً على قاعدة التسامح في أدلة السُّنَن، مع أنه لا يصدق البلوغ عنه بمجرّد الوجادة بخطٍّ مجهول»([16]).

أقول: تطبيق قاعدة التسامح في المجال التاريخي إما أن يكون:

1ـ بلحاظ الآثار الشرعية المترتِّبة على بعض القضايا التاريخية.

2ـ أو بلحاظ نقل التاريخ وروايته، باعتبار أن النقل هو أمرٌ يقع موقع التساؤل عن حكمه الشرعي.

3ـ أو بلحاظ معرفة التاريخ وما جرى خلاله من أحداث، وهذا الأخيرُ له فوائد كثيرة.

أما الأوّل، أعني تضمُّن النقل التاريخي سُنَناً شرعية، فيجري عليه ما يجري على كافّة الأخبار الناقلة للسُّنَن.

وأما الثاني، أعني نقل التاريخ صِرْفاً وحكايته، فمعلومٌ أن نقل الأحداث غير الثابتة والأخبار الضعيفة غيرُ جائزٍ؛ لأنه قولٌ بغير علمٍ، ولا حجّةٍ، وهو منهيٌّ عنه، كما سنذكر في التوسُّع الآتي، ومع ذلك يمكن تبريره بأحد توجيهين:

التوجيه الأوّل: التمسُّك بقاعدة التسامح، وذلك بتوجيه أن مفاد هذه الأحداث التاريخية، كمجريات يوم كربلاء مثلاً، وإنْ لم يكن حكماً شرعياً مستحبّاً؛ ليُتَسَامح في دليله، ولكنه موضوعٌ لما هو مستحبٌّ، فإنّ البكاء على الحسين بن عليٍّ’ يكون مستحبّاً، ويترتَّب عليه الثواب الكثير، ويصير هذا النقل سبباً لما يكون حكمه الاستحباب([17]).

ولكنْ يُلاحَظ عليه: إنّ أخبار مَنْ بلغ ـ لو تمَّتْ دلالتها ـ تدلّ على التسامح في دليل الحكم الشرعي نفسه، لا دليل ما يكون موضوعاً للحكم.

التوجيه الثاني: ما ذهب إليه بعض الفقهاء من جواز نقل الحوادث التاريخيّة، التي لم يقُمْ دليل عليها، بعنوان الحكاية، لا بعنوان الورود أو الجَزْم، فنقلها بصورة الجزم لا مبرِّر له([18]).

 سُئل السيد الخوئي: «هل يجوز للخطيب الحسينيّ أن ينقل القضايا التي لم يثبت وقوعها، بعنوان أنّها واقعةٌ، كزواج القاسم بن الحسن× من سكينة بنت الحسين×، أم لا بُدَّ من التثبُّت في نقل ما أثبته العلماء وطرح ما طرحوه؟ فأجاب: لا يجوز النقل بعنوان الورود، وأما بعنوان الحكاية عن كتابٍ أو شخصٍ فلا بأس به»([19]).

وقال الميرزا هاشم الآملي: «…إذا كان التعبير في نقل المصيبة بعنوان: (نُقل كذا أو كذا)، ويكون هذا النقل أيضاً من باب الرجاء، فلا إشكال فيه، فما هو المُشكِلُ يكون النقل بعنوان الجَزْم»([20]).

ورُبَما يُقال بعدم حاجة الناقل إلى استخدام تعابير من قبيل: روى فلان، أو جاء في الكتاب الفلاني، بل يكفي عدم قصد كون الخبر مطابقاً للواقع.

ونلاحظ على هذا التوجيه الذي طرحه العَلَمان (الخوئي والآملي) بملاحظتين:

الملاحظة الأولى: إنّ هذا التوجيه ناظرٌ إلى إعطاء حلٍّ شرعي للناقل بما يسوِّغ له رواية الخبر دون الوقوع في محذورٍ شرعي. وهو بهذا اللحاظ توجيهٌ سليم، لكنّنا نضع له شَرْطاً، وهو أن لا يتمّ إيهام الناس من خلال طريقة الطرح بأنّ ما يُطْرَح عليهم هو حقائق تاريخية؛ لأن ذلك يُعدَّ من أنواع الكذب، فإنّ الكذب ليس هو رواية أو نقل ما تعلم أنّه خلاف الواقع دون تنبيه المستمع إلى ذلك فحَسْب، بل هو عُرْفاً شاملٌ لنقل ورواية ما لم تعلم أنه مطابقٌ للواقع مع الإيحاء للمستمع بكونه مطابقاً له، ولا يخفى أنّه عندما يتمّ تداول الروايات في الفضاء الشعبي العامّ بعنوان النقل من كتابٍ فغالباً ما يكون ذلك بقصد الحكاية عن الواقع، لا مجرّد الإخبار عمّا ورد في كتاب، ولو قصد الناقل ذلك فإن المتلقّي لا يلتفت إليه، ولا سيَّما مع تكرار النقل أو الإيحاء من خلال قَسَمات الوجه وطريقة التعبير بكون الخبر معتبراً ومطابقاً للواقع. والذي يدفع الخطيب إلى ذلك أنه لا يرغب في تسرُّب الشكّ إلى كلامه، وعامّة الناس لا يلتفتون إلى أنّه بقوله: «روى فلان» ونحوه لا يضمن لهم صحّة النقل، ويجعل العُهْدة على الراوي، وهذا ما يجعل الخبر يلقى رواجاً إلى حدّ التصديق به، وتصوُّر أنّه يمثِّل الحقيقة، ولذا يصعب بعد ذلك نقده؛ بسبب ترسُّخه في الأذهان، والخطيب هو مَنْ أسهم في هذا الترسُّخ.

ومنه يتّضح أن عدم قصد المطابقة لا يكفي، بل هو أكثر إشكالاً من طريقة النقل من كتاب، والإحالة إليه.

الملاحظة الثانية: إنّ إشكالية نقل الأخبار من الكتب غير المعتبرة وروايتها للناس لا تنحصر بالإشكال الشرعيّ الذي يقع فيه الناقل، وأنه في حال نقل على نحو الجَزْم فقد قَفَا ما ليس له به علمٌ ووقع في الكذب، ومن هنا نحاول إيجاد مخرجٍ شرعي له بأن لا ينقل الخبر بعنوان الورود والجَزْم، وإنما ينقل من كتابٍ. إنّ الإشكاليّة أوسع من ذلك بكثيرٍ، وهي دون شكٍّ تتعدّى هذا الحدّ؛ فهي ـ من جهةٍ ـ تتَّصل بالصورة الحقيقية لتاريخنا الإسلامي، والتي هي صورةٌ لها انعكاسها على مفاهيمنا وقِيَمنا ومُثُلنا العليا، وتمسّ أحياناً قضايا الاعتقاد والتشريع، وتتّصل بتربيتنا الدينية؛ وهي ـ من جهةٍ أخرى ـ تتّصل بكيفية ردّة فعل الجمهور المتلقّي لهذه الصورة والمستمع لهذا الخطاب، أكان جمهوراً إسلاميّاً أو غير إسلاميّ، فما هو التأثير والصدى الذي يتركه مثل هذا الخطاب العامّ غير المتثبِّت في نقل وقائع التاريخ، وجلُّ اعتماده على الأخبار غير المعتبرة، ولو نقلها المُخْبِر بعنوان: جاء في الكتاب الفلاني، أو ذكر الراوي الفلاني؟ هل تمّ رصد تلك الآثار والتداعيات؟ إنّ ما نلاحظه هو نفور كثيرٍ من المسلمين، فضلاً عن غيرهم، من مثل هذا الخطاب، واتِّهامه باعتماد الخرافة في تثقيف الناس، والكذب في نقل الأحداث والوقائع.

إنّ من الغرابة بمكانٍ أن تجد في الأمّة مسارَيْن يتحرَّكان بشكلٍ متوازٍ في التعامل مع هذا التاريخ؛ فثمة مسارٌ تحقيقي ينطلق به بعض المحقِّقين والباحثين؛ وفي موازاته مسارٌ آخر لا شغل له بالتحقيق والبحث، ولا يستفيد إلاّ لماماً من جهود المحقِّقين ونتائج أبحاثهم، بل رُبَما رآها غير مفيدةٍ؛ لكونها تأتي على حساب خطابه العاطفي الذي يعتمد الإثارة.

وأما الثالث، أعني معرفة التاريخ وما جرى خلاله من أحداث، فلا مجال للتعامل معه بتساهلٍ وتسامحٍ، ولا سيَّما بملاحظة ما اكتنفه من تلاعبٍ ودسٍّ وطمسٍ وتزوير للحقائق. هذا ناهيك عن أنّ معظم كُتّاب التاريخ كانوا يؤرِّخون للسلاطين، ويكتبون وفق أهوائهم.

والدعوة إلى التوثُّق من الخبر التاريخي لن تؤدّي إلى سدّ باب المعرفة بأحداث هذا التاريخ، وخفاء حقائقه، كما قد يزعم البعض؛ وذلك لأنّه بالإمكان تحصيل الوثوق به بنحوٍ من أنحاء الاعتبار. ولعلّ من أوسع الأبواب التي يمكن من خلالها الوثوق بالأخبار التاريخية تجميعَ القرائن والشواهد المتعدِّدة، بما يبعث على الوثوق بوقوع الحادثة أو عدم وقوعها. وما لم نتحرَّ من صدق الخبر واعتباره فلا يصحّ الإخبار عنه، وتثقيف الناس به.

هذا، ويمكن القول: إنّ الوثوق بالخبر التاريخي أقلّ مؤونةً وكلفةً من الوثوق بالخبر العَقْدي، والفقهي أيضاً. وبالإمكان طرح عدّة مستويات لاعتبار الخبر:

الاعتبار الكلامي: وذلك لأنّ القضيّة إذا كانت تتّصل ببيان مفهومٍ عقيديّ فلا بُدَّ عند المشهور من العثور لها على دليلٍ قطعي، عقلياً كان أو نقلياً.

 الاعتبار الفقهي: بمعنى الاعتماد على خبرٍ موثوق أو صحيح يرويه الثِّقات، وذلك عندما يكون المفهوم المطروح متّصلاً ببيان حكمٍ شرعي.

الاعتبار التاريخي: عندما يتّصل الأمر بنقل حادثةٍ تاريخيّة لا علاقة لها ببيان حكمٍ شرعيّ أو مفهومٍ عَقْدي فهنا قد يكفينا الاعتبار التاريخيّ، بمعنى أن يكون للحادثة التي تُقدَّم إلى الناس مصدرٌ تاريخي معتبرٌ ومعتدٌّ به، ولا يكون المضمون مخالفاً لضوابط وشروط قبول الخبر. والتشدُّد هنا لا يوازي التشدُّد الذي نشترطه في الاعتبار العَقْدي أو الفقهي.

والحقيقة أنّ عمليّة البحث التحقيقي والجهد التنقيبي في المصادر التاريخية المعتبرة قد توصل الباحث إلى الكثير من الحقائق المدفونة في هذا الركام التاريخي، ويتمكَّن بالاعتماد على أساليب البحث العلمي من تمييز الغثّ من السمين.

2ـ المواعظ والقصص

قال الشهيد الثاني: «وجوَّز الأكثرُ العملَ به ـ أي بالخبر الضعيف ـ في نحو: القصص، والمواعظ، وفضائل الأعمال، لا في نحو: صفات الله المتعال، وأحكام الحلال والحرام. وهو حَسَنٌ، حيث لا يبلغ الضعف حدّ الوضع والاختلاق؛ لما اشتهر بين العلماء المحقِّقين من التساهل بأدلة السُّنَن، وليس في المواعظ والقصص غير مَحْض الخير؛ لما ورد عن النبيّ| ـ من طريق الخاصّة والعامة ـ أنه قال: «مَنْ بلغه عن الله تعالى فضيلة فأخذها وعمل بما فيها؛ إيماناً بالله ورجاءَ ثوابه، أعطاه الله تعالى ذلك، وإنْ لم يكن كذلك»([21]).

وقال الشيخ الأنصاري: «المُراد بالخبر الضعيف في القصص والمواعظ هو نقلها واستماعها وضبطها في القلب، وترتيب الآثار عليها، عدا ما يتعلَّق بالواجب والحرام. والحاصل: إن العمل بكلّ شيءٍ على حَسَب ذلك الشيء. وهذا أمرٌ وجدانيّ لا يُنْكَر. ويدخل حكاية فضائل أهل البيت^ ومصائبهم، ويدخل في العمل الإخبار بوقوعها من دون نسبةٍ إلى الحكاية على حدّ الإخبار بالأمور الواردة بالطرق المعتبرة، بأن يقال: كان أمير المؤمنين× يصلّي كذا، ويبكي كذا، ونزل على مولانا سيّد الشهداء× كذا وكذا. ولا يجوز ذلك في الأخبار الكاذبة، وإنْ كان يجوز حكايتها؛ فإنّ حكاية الخبر الكاذب ليس كذباً، مع أنه لا يبعد عدم الجواز، إلاّ مع بيان كونها كاذبةً»([22]).

وتعليقاً على كلام العَلَمين (الشهيد الثاني والأنصاري) نقول: إنّ فضائل الأعمال يُراد بها ثواب العمل المسنون، فمردُّها إلى ما تقدَّم من التسامح في أدلة السُّنَن، ولكنْ ما المراد بالتسامح في المواعظ والقصص؟

أقول: إن المواعظ تارةً تكون نصوص أخبار ينقلها الواعظ للناس؛ وأخرى تكون كلماتٍ بليغةً من إنشائه أو إنشاء غيره، شعراً أو نثراً أو أحداثاً معيَّنة واقعية أو قصصاً افتراضيّةً ينقلها للناس بهَدَف وَعْظهم وتنبيههم، دون أن تكون مضامين أخبار منقولةٍ عن النبيّ| أو الأئمّة^ أو غيرهم. أما الثاني فلا مشكلة فيه، ولو حصل فيه شيءٌ من التسامح؛ وأما الأوّل، وهو المقصود بكلمات الفقهاء المتقدِّمة، فلا وجه للتسامح فيه، كما استقرب بعض الفقهاء المعاصرين، قال: «لا يبعد أن يكون المراد بالتسامح فيها (المواعظ والقصص) هو التسامح في نقلها، من دون نسبتها إلى الرواية، فلا يتقيَّد بثبوتها بطرق معتبرة، كما عليه دَيْدَن الوعّاظ وخطباء المنبر الحسيني في عصورنا هذه. ولكنّ الوجه فيه غيرُ ظاهرٍ مع ما هو المفروغ عنه ظاهراً من حرمة الإخبار من دون علمٍ»([23]).

وما ذكره صحيحٌ؛ فإنّ الإخبار بغير علمٍ منهيٌّ عنه شرعاً، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ (الإسراء: 36)، كما أنه قبيحٌ عقلاً، قال المحقِّق الإصفهاني: فإنّ «نشر الفضيلة التي لا حجّة عليها، وذكر المصيبة التي لا حجّة عليها، قبيحٌ عقلاً، ومحرَّمٌ شرعاً، فكيف يعمّها أخبار مَنْ بلغ؟!»([24]).

على أنّ التساهل في مجال الوعظ والقصص قد فتح الباب على مصراعَيْه، فغدا منبر التوجيه والإرشاد بشكلٍ عامّ مرتعاً لشبه الأمِّيين والجَهَلة، الذين يتلون على الناس الأخبار الخرافية والقصص الخيالية، ما ساهم ـ من جهةٍ ـ في بناء جيلٍ من الخرافيين، وساهم ـ من جهةٍ أخرى ـ في التنفير عن المذهب وأتباعه، كما نلاحظ في أيّامنا، حيث استغلّ خصومُ خطّ أهل البيت× ما تتضمَّنه مواعظ الكثير من الخطباء من قصص خرافية، ونشروها عبر وسائلهم الإعلاميّة التحرضيّة؛ بهَدَف الإساءة إلى المذهب وتوهينه.

وأما قول الشهيد الثاني: «وليس في المواعظ والقصص غير مَحْضِ الخير» فهو كلامٌ غير دقيقٍ؛ إذ الأمر يختلف بنوعية الموعظة وما تتضمَّنه، فكثيرٌ من المواعظ والقصص تشتمل على معانٍ غير صحيحة أو مفاهيم قلقة. ولعلّ الوُعّاظ في زمانه كانوا من أهل العلم، الذين لا يذكرون في مواعظهم إلاّ مَحْض الخير!

3ـ بعض قضايا العقيدة، كفضائل المعصومين (عليهم السلام)

 وهذا النحو من التوسُّع ـ لو قيل به ـ سوف يكون أغرب توسُّعٍ عَرَفَتْه القاعدة، فهل من قائلٍ بإمكان التسامح في الأخبار الواردة في قضايا الاعتقاد؟

يظهر من كلامٍ لبعض الفقهاء المعاصرين قبوله بهذا التسامح، مساوياً بين الأخبار ذات المضامين العَقْدية وبين أخبار المستحبّات، ومتجاوزاً ما هو معروفٌ بين الأعلام، من أنّ خبر الواحد ليس حجّةً ولا يعوّل عليه في أصول العقائد فيما لو كان صحيح السند، فضلاً عمّا لو كان ضعيفاً. قال ما نصُّه: «وهذا التدقيق والتحقيق والتثبُّت؛ لاستحصال الاطمئنان بصدور الحديث عن المعصوم، يتأكَّد في ما يتعلَّق بالأحاديث المرتبطة بالحكم الإلزامي، مثل: الواجب والحرام، أو المعاملات والأمور الماليّة والحقوقيّة والسياسيّة، في حين أنّ التعامل مع الأحاديث الأخرى ـ كالمتحدِّثة عن أصول العقائد والمستحبّات ـ لا يحتاج إلى هذا المقدار من التحقيق والدقّة»([25]).

إنّ ما يثير الاستغراب في هذا الكلام ـ لو حُمِل على ظاهره ـ هو أنّ التحقيق والتثبُّت المطلوب في الأخبار ذات المضامين الفقهية يستدعي تثبُّتاً بدرجةٍ أعلى في الأخبار ذات المضامين العَقْدية. وأمّا مساواة أخبار أصول العقائد بأخبار المستحبّات فهو أشدُّ غرابةً. وقياسُ إحداهما بالأخرى قياسٌ مع الفارق؛ لأنّ أخبار أصول العقائد تؤسِّس للبناء المعرفي الذي لا يكمل إسلام الشخص وإيمانه إلاّ به، بينما المستحبّات هي مجرّد نوافل عمليّة، لا يخدش الإخلال بها في استقامة المسلم وعدالته، فضلاً عن إيمانه وإسلامه.

هذا، ولكنْ رُبَما يُقال: إنّنا نستبعد أن يكون ظاهر الكلام مراداً له، فهو قد صرَّح في موارد أخرى بأنّ خبر الواحد ـ حتّى لو كان صحيح السند ـ لا يصحّ الاستناد إليه في إثبات المعتقدات، بل لا يمكن إلزام المكلَّف بالاعتقاد بمضمون الخبر الوارد في المجال العَقْدي([26]). وعليه؛ فإمّا أنه حصل خطأٌ طباعي أو نحوه في الكلام المذكور؛ أو أنه يقصد بعدم التدقيق في أخبار أصول العقائد أنّه حيث كانت مضامينها ثابتةً بالدليل العقلي فلا يحتاج معها إلى التثبُّت في أخبارها.

إن أخبار الفضائل تساهم في تكوين تصوُّرات عَقْدية، فلا بُدَّ من التثبُّت فيها. نعم، قد يُقال: إن مستندها هو ما رُوي عنهم: «نزِّهونا عن الربوبيّة، وقولوا فينا ما شئتم».

وقد أسلَفْنا نقل كلام المحقِّق الإصفهاني، الذي قال فيه: «نشر الفضيلة التي لا حجّة عليها، وذكر المصيبة التي لا حجّة عليها، قبيحٌ عقلاً، ومحرَّمٌ شرعاً، فكيف يعمّها أخبار مَنْ بلغ؟!»([27]).

وقصارى القول: إنّه لو قبلنا الأخذ بأخبار «مَنْ بلغ» في مورد السُّنَن، وصرفنا النظر عمّا دار من نقاشٍ أصوليّ حول مدى دلالتها على قاعدة التسامح المذكورة، إلاّ أنّه لا مجال ـ بحالٍ ـ لتعميم مفادها إلى غير دائرة السُّنَن، كما فعل كثيرون؛ لأنه لا مبرِّر لهذا التعميم، الذي شكّل غطاءً سمح بتسلُّل أخبار الغلوّ والخرافة إلى الأذهان والعقول، وأعاق انطلاق جهودٍ أو بحوثٍ جادّة هدفُها غربلة التراث وتصفيته من الموضوعات.

وقال بعض العلماء، اعتراضاً على هذا التوسُّع: «كيف يسوغ للعلماء أن يتساهلوا في دين الله، فيروون عن رسول الله| ما لم يقُلْه؟! إذ بإمكانهم أن يرفعوا منزلة السخيف، ويخفضوا قدر الشريف، أَوَليسَتْ أحكام الله والفضائل تعطي صورةً عن الدين الإسلامي الحنيف؟ فإنْ لم يُتشدَّد بأدلة السُّنَن أعطَتْ صورةً مباينة وخاطئة…»([28]).

9ـ شروط جريان القاعدة

ثم إنه بناءً على القبول بقاعدة التسامح، فقد تُذْكَر بعض الشرائط لإجرائها. ويهمني الإشارة إلى شرطين؛ لأنهما يتّصلان بقضيّة التوسُّعات التي تحدَّثنا عنها وأشَرْنا إلى بعضها، وإسقاط شرطيّة ما سيُذْكَر، يعني توسُّعاً إضافيّاً في تطبيق القاعدة.

وإليك الشرطان المذكوران:

 

أـ كفاية احتمال صدق الخبر

هل يُؤخَذ بقاعدة التسامح في الأخبار الضعيفة، التي يكون احتمال الصدق فيها ضعيفاً وواهياً؟

يبدو من بعضهم التمسُّك بإطلاقها لصورة كون الاحتمال ضعيفاً، وكلّ مَنْ قال بأنه يُعمل بالقاعدة ما لم يعلم بكذب الخبر ووضعه فظاهره الاكتفاء بالاحتمال الضعيف.

لكنّ الشيخ الأنصاري يشترط أن لا يكون الاحتمال موهوماً، قال: «هل يعتبر في الرواية الضعيفة أن تفيد الظنّ أو يكفي فيها أن لا تكون موهونةً أو لا يعتبر ذلك أيضاً؟ وجوهٌ، منشأها إطلاقات النصوص والفتاوى، وإمكان دعوى انصراف النصوص، التي هي مستند الفتاوى، إلى صورة عدم كون مضمون الرواية موهوماً، أو إلى صورة كونه مظنوناً. والاحتمال الأوسط أوسط»([29]).

وما اختاره الشيخ هو الأظهر، وهو مختار الشيخ البهائي في «الأربعون حديثاً»، قال: «وظاهر الإطلاق أن ظنّ صدق الناقل غير شرطٍ في ترتُّب الثواب، فلو تساوى صدقه وكذبه في نظر السامع، وعمل بقوله، فاز بالأجر. نعم، يشترط عدم ظنّ كذبه بقيام بعض القرائن»([30]).

والوجهُ في صحة ما ذكراه استبعادُ تحقُّق عنوان البلوغ الذي تحدَّثَتْ عنه الروايات بالخبر الموهوم، ولا أقلّ من أنّ قوله|: «مَنْ بلغه» منصرفٌ عن صورة ظنّ كذب الراوي؛ والقرينة على ذلك أنّ التشدُّد الشرعي الملحوظ إزاء مصادر تلقّي الخبر، وكذا إزاء صفات المخبر من الوثاقة والصدق…، يخلق جوّاً متشرِّعياً رافضاً للعمل بأخبار الكذّابين وغير الثقات، ومتحسِّساً إزاء هذا الأمر. وفي ضوئه لو كانت روايات «مَنْ بلغ» مطلقةً وشاملةً لصورة احتمال صدق الخبر، وكان الاحتمال موهوناً، لشكَّل ذلك استثناءً صادماً للجوّ التشريعي المذكور، الأمر الذي يثير حفيظة المتشرِّعة، ويدفعهم للإكثار من الأسئلة حول هذا الاستثناء وحدوده، مع أننا لم نجِدْ شيئاً من ذلك في الروايات، الأمر الذي يدلِّل على عدم شمول روايات «مَنْ بلغ» لصورة احتمال صدق الخبر.

ولا يخفى أنّ الاكتفاء بالاحتمال ـ ولو ضعيفاً ـ قد شكَّل مسرباً لدخول تراث الكذّابين والوضّاعين إلى الفضاء الشرعي، على اعتبار أن الكذّاب قد يصدق أحياناً، ولا يقطع بكذب رواياته بأجمعها، وبهذا نكون قد فتَحْنا باب الوضع على مصراعَيْه، وأضفَيْنا عليه غطاءً شرعيّاً. وعليه، لا مبرِّر لهذه التوسعة في القاعدة لصورة احتمال صدق الراوي مع كون الاحتمال ضعيفاً. ولعلّه لأجل ذلك ذهب المازندراني إلى حمل أخبار «مَنْ بلغ» على صورة ظنّ السامع صدق الخبر، قال: «كأنّ المراد أنّ مَنْ سمع روايةً صادقة بحَسَب ظنِّه، دالّةً على الثواب المترتِّب على فعل شيءٍ أو تركه، فصنع ذلك الشيء وأتى به؛ طلباً لذلك الثواب، كان له أجر ذلك الشيء، وإنْ لم يكن المسموع على ما بلغه»([31]).

وأما ما قد يذكر من أن البلوغ لا يصدق إلاّ على الوصول من خلال الطريق المعتبر؛ ويشهد بذلك كلمة البلوغ في اللغة؛ فإنها بمعنى وصول الشيء إلى الغاية أو المشارفة على ذلك، كما ذكر الراغب الإصفهاني([32])، وعليه فالخبر إذا لم يصِلْ بطريقٍ معتبر فلا يصدق عليه البلوغ، فهو ضعيفٌ ومردودٌ؛ لأنّ:

أـ البلوغ يصدق على الخبر الضعيف الظنّي كما يصدق على الخبر الصحيح؛ ألا ترى أننا نقول: بلغني كلامٌ أو خبرٌ كاذب. وحيثيةُ وصول الشيء إلى منتهاه لو فرض دخالتها في مفهوم البلوغ، لغةً أو عُرْفاً، لا تمنع من صدق البلوغ على الخبر الضعيف، فالخبر الصحيح يبلغ ويصل إلى منتهاه، وكذلك الخبر الضعيف.

ب ـ ولو سلِّم بأن المراد ببلوغ الثواب بلوغه بواسطة الخبر الصحيح فإنّ في أخبار «مَنْ بلغ» قرينةً تقتضي التعميم بما يشمل بلوغه بالخبر الضعيف؛ والقرينة هي ما تضمَّنه ذيل الحديث، أعني قوله: «وإنْ كان رسول الله| لم يقُلْه»، فهذه الفقرة بإطلاقها تشمل الخبر الضعيف. نعم، قد عرفْتَ أن ضعف الخبر إنْ وصل إلى مستوىً كان احتمال الصدق فيه واهياً فلا يكون مشمولاً لأخبار «مَنْ بلغ».

ب ـ انتفاء احتمال الحرمة

إنّ موارد تطبيق القاعدة تارةً تكون مقطوعة التحريم؛ وأخرى محتملة التحريم. أمّا في الصورة الأولى فإذا ورد خبرٌ ضعيف يعطي ثواباً على العمل المحرَّم فلا رَيْبَ في أنّ أخبار «مَنْ بلغ» لا شمول لها لذلك؛ لأن لازم شمولها لصورة كون الفعل ثابتَ التحريم، ومخالفاً للسنّة القطعيّة، هو لزوم تحليل الحرام، وإشاعة البِدَع، وتخريب الدين. قال العلاّمة المجلسي&: «وأما الفقهاء والمحدِّثون من الأصحاب ـ رضوان الله عليهم فإنما نقلوا هذه الأحاديث وما ضاهاها في كتبهم المدوَّنة لأعمال اليوم والليلة ـ مع اعترافهم بضعف سندها ـ؛ تعويلاً على قاعدة التسامح في أدلة السُّنَن، المبتنية على أحاديث «مَنْ بلغ»، زَعْماً منهم أنّها تشمل كلَّ حديثٍ رُوي فيه ثوابٌ على عملٍ، مطلقاً، وإنْ كان العمل مخالفاً للسنّة القطعية. وليس كذلك، وإلاّ لكان مفادها تصويب البِدَع، والحكم بمشروعيتها، والكذب المفترع([33]) على أئمّة الدين وحُماته. وهذا ـ كما ترى ـ مخالفٌ لضرورة المذهب»([34]).

وأما في الصورة الثانية، أعني كونها محتملة التحريم، فما عليه بعض الفقهاء هو عدم إجراء القاعدة أيضاً، فيكون إجراؤها مشروطاً بانتفاء احتمال التحريم، وبعبارةٍ أخرى: إنما تجري في موردٍ يكون احتمال الاستحباب غير مجامعٍ لاحتمال التحريم، فيدور الأمر بين الإباحة والاستحباب، أو الكراهة والاستحباب, وهذا الشرط في محلِّه أيضاً؛ ويمكن الاستدلال عليه بأنّ حديث الإمام× عن «بلوغ الثواب» منصرفٌ إلى الثواب المَحْض، لا الثواب المشوب بالعقاب الناتج عن احتمال التحريم. وقوله× في بعض الروايات: «ففعله رجاء ذلك الثواب» ظاهرٌ([35]) وناظرٌ إلى صورة عدم وجود احتمال الحرمة.

هذا لو أخَذْنا بتفسير أخبار «مَنْ بلغ» وفقاً للوجه الأوّل من الوجوه الخمسة المتقدِّمة، والذي بموجبه دلَّتْ الأخبار على القاعدة؛ وأما بناءً على أقرب الوجوه في تفسير القاعدة، وهما: الوجه الثالث (مطعَّماً بالرابع)؛ أو الوجه الخامس، فالأمر يغدو أكثر وضوحاً. أما على الوجه الثالث، القائل: إنّها إرشاد إلى حكم العقل بحُسْن الانقياد، فإن العقل يحكم بذلك في موردٍ يكون في الانقياد صرفُ احتمالِ النَّفْع، وأما إذا كان فيه ـ بالإضافة إلى احتمال النَّفْع ـ احتمال الضَّرَر فلا يحكم بحُسْنه. وأما على الوجه الخامس، القائل: إنّ نظر الروايات إلى جعل الثواب على العمل المفروغ كونه طاعةً في مرتبةٍ سابقة، فهذا يعني أن احتمال الحرمة منتفٍ جَزْماً.

ومن خلال ما تقدَّم يتَّضح أنّ تمسُّك الشيخ الأنصاري بمطلقات الأخبار الواردة في القاعدة؛ لإثبات جَرَيانها حتى مع وجود احتمال التحريم، هو في غير محلِّه، قال: «الظاهر إطلاقها وعدم تقييدها بعدم احتمال الحرمة. نعم، ما اشتمل منها على التعليل برجاء الثواب ظاهرٌ في صورة عدم احتمال الحرمة. لكنك قد عرفْتَ أن المعتمد في الاستدلال هو إطلاق غيرها، والمطلق هنا لا يحمل على المقيّد، كما لا يخفى. اللهمّ إلاّ أن يُدَّعى انصراف تلك الإطلاقات أيضاً إلى غير صورة احتمال التحريم»([36]).

والوجهُ في ضعفه ـ بالإضافة إلى صحّة الانصراف المذكور ـ أنّ هذه الأخبار هي في صدد بيان حقيقةٍ واحدة، فما اشتمل عليه بعضُها هو قرينة لبيان تلك الحقيقة، فلا ينعقد الإطلاق في الخبر الثاني.

10ـ عنوان رجاء المطلوبيّة

ثم إنّ الفقهاء، ولا سيَّما الرافضين لقاعدة التسامح في أدلة السُّنَن، قد فتحوا باباً للعمل بما جاء في الخبر الضعيف، دون الإفتاء به ونسبته إلى الله تعالى. وهذا الباب هو أنّ مجرّد الاحتمال وإنْ كان لا يبرِّر الإفتاء بالاستحباب، ولا الإتيان بالعمل بعنوان الورود، لكنّه كافٍ في الإتيان بالعمل رجاء المطلوبيّة. وقد درج الفقهاء المتأخِّرون الرافضون لقاعدة التسامح على دعوة مقلِّديهم إلى الإتيان بالمستحبّات المذكورة في الرسائل العملية بقصد رجاء المطلوبيّة؛ لأنّ استحبابها لم يثبت عندهم بالدليل([37]). والعبد الذي يأتي بما يحتمل أنه مطلوبُ المولى لا رَيْبَ أنه يستحقّ المدح والثناء عقلاً، وهكذا العبد الذي يجتنب ما يحتمل أنه مكروهٌ ومبغوضٌ للمولى.

وطبيعيٌّ أن يخرج عن ذلك ما لو قطع بكذب الرواية؛ فإنها إذا كانت مكذوبةً لا مجال شرعاً للإتيان بالعمل الذي تضمَّنَتْه، ولو بعنوان الرجاء؛ لانتفاء احتمال المطلوبيّة. فالعمل بقصد الرجاء يتوقَّف على احتمال صدور الخبر عن النبيّ| أو الإمام×.

لكنْ ثمّة ملاحظةٌ نريد أن نسجِّلها في المقام، وهي أنّ فتح هذا الباب، وهو الإتيان بالعمل بقصد «الرجاء»؛ لمجرد الاحتمال غير الناشئ من منشأ يُعْتَدّ به عقلائياً أو شرعاً، ونظيره: الإتيان بالعمل لا بقصد الجزئيّة في الموارد التي يكون قصدها مضرّاً، إنّ هذا وذاك لا يخلوان في بعض الصور والحالات من شائبة الابتداع، ومنشأ الشبهة أنّه مع كون العمل المأتيّ به بعنوان الرجاء عملاً عبادياً ـ كما في صلاة الرغائب مثلاً ـ، ولا يُراد الإتيان به بصورةٍ عفويّة، بل يُراد تكريسه كـ «سُنّة» عمليّة يتمّ المواظبة عليها بكيفيّتها الخاصّة غير الثابتة، ويُحَثّ الناس على أدائها في المساجد([38])، فإنّ احتمال الحرمة والحال هذه سيدخل في البين؛ لقوّة احتمال أن يكون هذا التكريسُ العملي ـ وإنْ لم يترافق ذلك مع قصد الورود ـ لصلاةٍ لم تَدْعُ الشريعة إلى تكريسها مصداقاً لعنوان الابتداع في دين الله تعالى، ومع ورود هذا الاحتمال لا يصحّ العمل؛ لأنّ احتمال المطلوبيّة يقابله احتمال المبغوضية، وهذا ما يجعل المورد خارجاً عن مفاد روايات «مَنْ بلغ»، وبعبارةٍ أخرى: إنّ ما دلّ على حرمة الابتداع والتشريع في دين الله شاملٌ ـ ولو على نحو الظنّ والاحتمال ـ لصورة التكريس العملي الواسع «للصلاة» أو «العبادة» التي لم تثبت شرعيّتها بدليلٍ يُعْتَدّ به، الأمر الذي يجعل احتمال المطلوبية مزاحَماً باحتمال المبغوضية.

الهوامش

(*) باحثٌ إسلاميّ، وأستاذ الدراسات العليا في الحوزة العلميّة. له أعمالٌ متعدِّدة. من لبنان.

([1]) قال: «وما يُقال: من أنّ أخبار السُّنَن يُتسامح فيها؛ لحديث: «مَنْ بلغه شيءٌ من الثواب على عملٍ…، الحديث»، ففي نظري القاصر أنّ الظاهر من الخبر هو أن يبلغ الإنسان شيءٌ من الثواب على عملٍ، لا نفس العمل الذي فيه الثواب، ليدخل المستحبّ؛ حيث إنّ من لوازمه الثواب، فإنّ هذا وإنْ احتمل، إلاّ أنّ ما قلناه قد يُدَّعى ظهوره، وينبِّه عليه أنّهم لم يستدلّوا به في الواجب إذا ثبت بخبرٍ ضعيف، مع أنّ الثواب فيه حاصلٌ. ولو قيل: إنّ ثواب الواجب مقرونٌ بكونه واجباً، فإذا لم يثبت لا يكون واجباً، فلا ثواب. قلتٌ: فكذا المستحبّ. واحتمالُ أن يُقال: إنّ فعل الواجب بقصد مطلق الثواب للخبر الضعيف لا مانع منه فيه: إنّ فعل المستحبّ إنْ كان لمطلق الثواب، لا ثواب المستحبّ». استقصاء الاعتبار في شرح الاستبصار 4: 446.

([2]) على سبيل المثال: علَّل بعض الفقهاء استحباب الوضوء لحمل المصحف بالتعظيم. ذكرى الشيعة 1: 193. وعلَّق عليه المحقِّق الخوانساري بالقول: «ولا يخفى أن إثبات الحكم به مشكلٌ، لكنْ لا بأس بالقول به (استحباب الوضوء لحمل المصحف)؛ للشهرة بين الأصحاب (رضوان الله عليهم)، بناءً على التسامح في أدلة السُّنَن». مشارق الشموس: 43. وذكر الميرزا القمّي أنّ صاحب المسجد الراتب أَوْلى من غيره في إمامة الصلاة؛ لأن «كلام الأصحاب في ذلك يكفي؛ للتسامح في أدلة السُّنَن». غنائم الأيام 3: 173. مثالٌ آخر: قد أفتى بعض الأصحاب باستحباب قضاء الصوم عمَّنْ فاته بسبب المرض ومات في مرضه، يقول الميرزا القمّي: «فلم يبْقَ إلاّ الاعتماد على فتواهم؛ للمسامحة في أدلة السُّنَن، وإلاّ فلم نقِفْ على ما يدلّ على ذلك، بل الأخبار الصحيحة المصرِّحة بنفي القضاء ظاهرةٌ في عدم مشروعيّتها، كما مرّت». غنائم الأيام 5: 384.

([3]) قال الوحيد البهبهاني: «إنهم يكتفون في مقام الاستحباب بفتوى فقيهٍ واحد». مصابيح الظلام في شرح شرائع الإسلام 6: 356.

([4]) ومثاله: ما ذكره السيد محمد العاملي في المدارك: «إنه قد دلّ الخبر على وجوب أن يتيمّم من أجنب في المسجد الحرام، وقيل: الحائض كالجُنُب في ذلك؛ لمرفوعة محمد بن يحيى، عن أبي حمزة، عن الباقر×، حيث قال فيها، بعد أن ذكر تيمُّم المحتلم للخروج: «وكذلك الحائض إذا أصابها الحيض تفعل كذلك». وأنكر المصنِّف [المحقِّق] في المعتبر الوجوب؛ لقطع الرواية؛ ولأنه لا سبيل لها إلى الطهارة، بخلاف الجُنُب، ثمّ حكم بالاستحباب. وكأنّ وجهه ما ذكره& من ضعف السند، وما اشتهر بينهم من التسامح في أدلة السُّنَن». مدارك الأحكام 1: 22.

([5]) على سبيل المثال: ورد في رواية محمد بن يحيى، رفعه، قال: «قال أبو الحسن الرضا×: الشاة إذا ذبحت وسلخت أو سلخ شيءٌ منها قبل أن تموت فليس يحلّ أكلها». تهذيب الأحكام 9: 59. وقد أفتى بعض الفقهاء بحرمة سلخ الذبيحة قبل موتها. لكنْ قال المجلسي: «والأقوى الكراهة، وهو قول الأكثر؛ للأصل؛ وضعف الرواية بالإرسال، فلا يصلح دليلاً على التحريم، بل الكراهة؛ للتسامح في دليلها». بحار الأنوار 62: 302.

([6]) قال السيد الكلبايكاني: «قاعدة التسامح جاريةٌ في أدلة السُّنَن، وفي المكروهات؛ رجاءً لدرك ثواب تركها». إرشاد السائل، 201.

([7]) قال الشيخ محمد بن الحسن ابن الشهيد: «والتساهل في أدلة الكراهة محلُّ تأمُّلٍ». استقصاء الاعتبار في شرح الاستبصار 1: 127.

([8]) بداية الوصول في شرح كفاية الأصول 7: 38.

([9]) وتجدر الإشارة إلى أنّنا لا نرفض الاستشهاد بروايات السنّة، بل يمكن الاستدلال بها في بعض الحالات، والاستشهاد بها في حالاتٍ أخرى، ولا سيَّما على مبنى الوثوق؛ فهي من أسباب تحصيل الوثوق. وقد أشَرْنا في كتاب فقه العلاقة مع الآخر المذهبي 1: 56 إلى أن فقهاء الشيعة قد تمسَّكوا بالعشرات من الروايات المروية من طرق السنّة، وحاولنا تفسير هذه الظاهرة.

([10]) لنا كلامٌ في ذلك، ولا سيَّما على مبنى الوثوق، حيث إنّ بالإمكان الاستشهاد بها؛ لكونها تسهم في تحقيق الوثوق والاطمئنان.

([11]) وصول الأخيار إلى أصول الأخبار: 94.

([12]) الرواشح السماوية: 189.

([13]) ذكرى الشيعة 1: 448.

([14]) الحبل المتين: 228.

([15]) بحار الأنوار 72: 236.

([16]) الذريعة إلى تصانيف الشيعة 2: 279.

([17]) مجمع الأفكار ومطرح الأنظار (من تقريرات درس الميرزا هاشم الآملي) 3: 378. ولكنّه علّق عليه: «ولكنْ يُشكل ذلك إنْ كان النقل بنحو العلم بالمخبر به».

([18]) قال الشهيد الثاني: «ومريدُ روايةِ حديثٍ ضعيفٍ أو مشكوكٍ في صحته، بغير إسنادٍ، يقول: رُوي، أو بلغنا، أو ورد، وجاء، ونحوه من صيغ التمريض. ولا يذكره بصيغة الجَزْم، كـ: قال رسول الله|، وفعل، ونحوها من الألفاظ الجازمة؛ إذ ليس ثمَّ ما يوجب الجزم». الرعاية في علم الدراية: 165.

([19]) صراط النجاة 1: 440.

([20]) مجمع الأفكار ومطرح الأنظار (من تقريرات درس الميرزا هاشم الآملي) 3: 378.

([21]) الرعاية في علم الدراية: 94.

([22]) رسائل فقهية: 158.

([23]) المحكم في أصول الفقه 4: 160.

([24]) نهاية الدراية 2: 546.

([25]) انظر: أنوار الولاية: 27.

([26]) انظر: منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر× 3: 265.

([27]) نهاية الدراية 2: 546.

([28]) دعوة إلى الإصلاح الديني والثقافي: 85، المجمع العالمي لأهل البيت^، ط1، 1427هـ.

([29]) رسائل فقهية: 157.

([30]) الأربعون حديثاً: 201 ـ 202.

([31]) انظر: شرح أصول الكافي 8: 117.

([32]) قال: «البُلُوغ والبَلاَغ: الانتهاء إلى أقصى المقصد والمنتهى، مكاناً كان أو زماناً، أو أمراً من الأمور المقدَّرة، ورُبَما يعبَّر به عن المشارفة عليه وإنْ لم ينتهِ إليه، فمن الانتهاء: ﴿بَلَغَ أَشُدَّه وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ (الأحقاف: 15)، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ﴾ (البقرة: 232)، و﴿مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ﴾ (غافر: 56)». مفردات ألفاظ القرآن: 60.

([33]) أخذ هذا المصطلح مما جاء في الحديث عن أبي عَبْدِ الله الصادق× قال: «إِيَّاكُمْ والْكَذِبَ الْمُفْتَرِعَ، قِيلَ لَه: ومَا الْكَذِبُ الْمُفْتَرِعُ؟ قَالَ: أَنْ يُحَدِّثَكَ الرَّجُلُ بِالْحَدِيثِ فَتَتْرُكَه وتَرْوِيَه عَنِ الَّذِي حَدَّثَكَ عَنْه». الكافي 1: 52.

([34]) بحار الأنوار 84: 101.

([35]) كما نبَّه عليه الشيخ الأنصاري في رسائل فقهية: 156. ولكنّه مع ذلك تمسَّك بالإطلاق، كما سيذكر في كلامه.

([36]) رسائل فقهية: 156.

([37]) يقول السيد الحكيم: «إن كثيراً من المستحبّات المذكورة في أبواب هذه الرسالة يبتني استحبابها على قاعدة التسامح في أدلة السُّنَن. ولمّا لم تثبت عندنا فيتعين الإتيان بها برجاء المطلوبيّة. وكذا الحال في المكروهات، فتترك برجاء المطلوبية». منهاج الصالحين 1: 17. ونحوه ما ذكره السيد الخوئي في منهاج الصالحين 1: 12، والسيد السيستاني في منهاج الصالحين 1: 19.

([38]) وقد لاحَظْنا في زماننا هذا اهتماماً حادثاً وغريباً في أمر هذه الصلاة، حيث يتمّ الإعلان عنها والدعوة إليها من خلال وسائل الإعلام المختلفة.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً