أحدث المقالات

مقدّمة

يعتقد الكثيرون أنّ علم المنهج «قواعد عقليّة صرفة». ويبدو لي أنّ هذا الاعتقاد ليس صحيحاً على إطلاقه؛ لأنّ للمجتمعات في تعاملها مع النصوص المقدَّسة، أو التخاطبات بين الأفراد، قوانين اجتماعيّة ثابتة، وتُعَدّ طرفاً للفهم والتفهُّم والإفهام. ولأن علم أصول الفقه ـ علم منهجيّ ـ؛ لأنّ أهدافه ومراميه تمكين المجتهد من اكتشاف الحكم الفقهيّ للواقعة من الأدلّة المرجعيّة، فإنّ كثيراً من أبحاثة ليس فقط صنيع النصّ، كما يرِدُ ذلك في المدوَّنات المعروفة والمشهورة، بل هناك عوامل اجتماعيّة وعقليّة صاغت تلك القواعد المنهجيّة على مرّ الأزمان وصقلتها بالنقد والتقويم، حتّى أصبحت قوانين للاستنباط. لذلك يقرِّر الغزالي أنّ أشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع، وهو علم الفقه([1]). وإذا كان الغزالي يقرِّر أنّ أدلّة الأحكام أربعة (الكتاب والسنّة والإجماع ودليل العقل) فإنّه يسلسل المرجعيّات إلى ثلاثة:

أـ مرجعيّة النصّ.

ب ـ مرجعيّة التلقّي والفهم الاجتماعيّ.

ج ـ مرجعيّة النتاج العقليّ.

وفي خضم الأبحاث في مرجعيّة القرآن الكريم نلحظ قضيّة المحكم والمتشابه، لتشير تماماً إلى مرجعيّة عقل شريكه (المحكم) تستدعى لتقليب صحيح لاحتمالات المتشابه، وتستعين بالمحكم لضبط الاختيار، وكذلك الحال مدى تطرُّق التأويل إلى ظاهر ألفاظه، ومدى تطرُّق التخصيص إلى صيغ عمومه، ومدى تطرُّق النسخ إلى مقتضياته. على أنّ دائرة النسخ هي دائرة النصّ، فالقرآن ينسخ قرآناً، وينسخ السنّة، والسنّة تنسخ السنّة. وفي نسخ السنّة للقرآن خلافٌ. أمّا الإجماع والعقل فلا ينسخان النصّ، ممّا يدلّ على أولويّة تلك المرجعيّة. لذلك يقرِّر الغزالي أنّه لا يجوز نسخ النصّ بالقياس([2])، ولا عبرة لمَنْ ساوى بين التخصيص والنسخ، ولا اعتبار للقول الشائع: إنّ ما جاز التخصيص به جاز النسخ به.

ويظهر جليّاً أثر الفهم الاجتماعيّ في مسألة تحكيم الظواهر، ومنها: حجّيّة الظاهر القرآنيّ؛ إذ يقرِّر جمعٌ من العلماء أنّ التعامل على وفق الظاهر اللغويّ ناتجٌ قهريٌّ للسيرة العقليّة والبناء العقليّ، مقابل مَنْ يرى أنّ للقرآن ظاهراً وباطناً، والباطن له مخاطَبون خاصّون، فلا يخوض غيرهم فيه، ولا يعوَّل في الوصول إلى الحكم الشرعيّ بالاعتماد على الظاهر فقط.

ويتوسَّط الشيخ الأنصاريّ في حاشيته على قوانين القمّيّ بالقول: إنّ مَنْ يدّعي الإجماع على حجّيّة ظواهر الكتاب والأخبار لا يمكنه الادّعاء على جميع الظواهر؛ لأنّ هناك ظواهر ثبت أنّها غير مرادة([3])، بيد أنّ الفريق الأوّل لا يستدل بأنّ ذلك «هو ديدن العقلاء على طول التاريخ، أي إن قوانين الفهم الاجتماعيّ والعرف البشريّ هي المعتمدة في التعامل مع النصوص، بل يستدلّ بأن عدم اعتبار الظاهر إخلالٌ بكونه معجزة ترشد الخلق كلّهم إلى الحقّ».

بيد أنّ الموقف الصحيح في ما أعتقد أنّ القرآن الكريم له ظهورٌ في حدّ ذاته، لكنْ هناك علمٌ إجماليٌّ بوجود قرائن دالّة على خلاف الظاهر، كالمخصِّصات والمقيِّدات والقرائن على إرادة المجاز، التي تمنع من العمل بظواهره.

 

الردّ

إنّ تلك المبيّنات مجملات حكماً، وإنْ كانت ظواهر حقيقيّة. وحين أعوزت المنكرين لحجّيّة الظواهر الأدلّة العقليّة صاروا إلى مقولات التحريف (بالنقص)، والأخبار التي تنهى عن ادّعاء مَنْ لا يملك الأدوات أنّه يستطيع أن يقدِّم معرفة تفسيريّة، مثل: «لا يعرفه إلاّ أهله ومَنْ خوطب به»، واستدلّوا على النفي بما يصلح للإثبات، فقالوا: إنّ في القرآن مطالب عالية لا يستطيع كلّ أحد الوصول إليها. واستندوا إلى منع التوغُّل في المتشابه، وقالوا: الظاهر متشابه؛ بدليل اختلاف الظهور، لذلك قرنوه بالتفسير بالرأي.

وفي مجال السنّة الشريفة فإنّ جمهور العلماء قسَّموها إلى: المتواتر؛ والآحاد، وقسَّمها بعضٌ منهم إلى: المتواتر؛ والمشهور؛ والآحاد.

وقالوا: إنّ المتواتر ما رواه عدد يورث الاطمئنان الكامل بصحّة بالصدور، واجتهدوا في عدد رواته، واختلفوا في العدد؛ فمن قائل: أربعة؛ لأنّها أعلى نصاب للشهادة؛ ومن قائل: أربعين؛ أخذاً من الجمعة؛ واختار قوم السبعين؛ ومال قومٌ إلى أكثر من ثلاثمائة بعدد أهل بدر؛ لكنّ الغزالي يذهب إلى أنّ العدد يختلف بحسب الوقائع والأشخاص؛ لأنه يعتقد أنّ هذه كلّها تحكُّمات فاسدة باردة لا تناسب الغرض، ويقول: إنّه حتّى لو توفَّر عددٌ كبير جدّاً، ولم يحصل العلم بصدقهم، فيجب القطع بكذبهم.

وفي خضمّ الخلاف في مدى الإمكان أن ينتج الخبر الواحد (علماً)، بحيث يترتَّب عليه وجوب العمل، يقول العلماء بأنّه على ثلاثة أقسام: منها ما لا يفيد الظنّ؛ ومنها ما تساوت احتمالاته؛ ومنها ما يفيد الظنّ. وإنّ العقل أدلّ على الثالث، دون الأدلّة السمعيّة. وقد استدلّوا للأخذ بالأخير بدليل الانسداد، وأنّ العقل هو الدليل على الثالث دون الأدلّة السمعية، وأن ظروف النبيّ| لم تمكِّنه من إبلاغ أقواله للناس جميعاً([4]). لذلك استدلّوا على قبول الخبر الواحد والعمل به بالعقل والإجماع، فصارت المرجعيّة الاجتماعيّة والعقليّة هي الأصل في الجعل المنهجيّ. ومن ذلك مثلاً: رؤية الحنفيّة أنّ الخبر الواحد لا يصلح للتأسيس لحكمٍ تعمّ به البلوى، لذلك فهم لم يقبلوه أصلاً لحكم واقعة تعمّ بها البلوى، لكنّ الجمهور قبلوه.

وعندي أنّهما معاً ينطقان من خلفيّة الفهم الاجتماعيّ؛ فالقول الأوّل ينطلق من قاعدة عقليّة مفادها أن ما احتاجه الناس في يوميّاتهم ينبغي أن يشتهر أو يتواتر، فهناك مانع عقليّ أن ينقل آحاداً، بينما قال الجمهور: متى قبلنا الخبر عن المعصوم فيجب أن نقبله في عظيم الأثر وقليله،إلاّ إذا نقل ما تحيله العادة.

ولعل الإجماع ينطلق من قوانين (الفهم الجمعيّ للنصّ) أو الواقعة. فلقد استدلّوا للإجماع بالآيات، دون عمليّة فحص المقتضى المجتمعيّ، فاستندوا إلى قوله: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ وعدد آخر من الآيات التي كلّها يمكن حملها على غير الدلالة المدَّعاة، لذلك يقول الغزالي: إنّ الآيات المستدلّ بها ليست نافعةً في الغرض([5]).

واستدلوا بقول الرسول: «لا تجتمع أمّتي على خطأ». وهو في الدلالة محلّ نقاش. وهنا أيضاً تركوا المقتضى العقليّ الذي يستند إلى واحديّة أو تعدُّد العقول، أو إلى كثرة الممارسين للموضوع الواحد. فالأساس المعرفيّ هو أساس إحصائيّ (عدديّ).

وشذّ المالكيّة، فجعلوا الأساس تلقّي مجموعة من الناس إسلامهم عن النبيّ السيرةَ والأحكام ليكونوا هم فقط أهل الإجماع فقال المالكية: إنّ الحجّة فقط في إجماع أهل المدينة؛ لأنّهم سمعوا من التابعين، وهؤلاء سمعوا ورأوا الصحابة، وأولئك سمعوا ورأوا النبيّ|.

لكنّ هذا المعيار أو الأساس دعا أولئك إلى القول بأنّ مكة والمدينة والكوفة والبصرة هي كذلك مدن الإجماع؛ لوجود الصحابة والتابعين فيها، فردّ المالكية بأنّ المدينة هي الجامعة لهم.

وينحاز الغزالي في (المستصفى) إلى رؤية الشافعيّ، فيرى أنّ شرع مَنْ قبلنا من الأصول الموهومة. ويرى أنّ المجتمعات تجدِّد رؤاها، وتجديد الرؤى والحلول دليلٌ على إهدار هذا الأصل. وكذلك هو قول الصحابيّ ومذهبه. فهو ليس حجّةً عنده أبداً؛ لأنه يجوز عليه الغلط والسهو، ولم تثبت عصمته، ولا سيّما أنّه أجاز هو أن يخالفه المجتهدون([6]). ومنع الغزالي العالم من أن يقلِّد الصحابيّ، ومنع الغزالي اعتماد أصل الاستحسان. من هنا يظهر أنّ الفهم الاجتماعيّ للنصّ حاكمٌ على الأدلّة، فهو لا يجد سبباً لترجيح فهم الصحابي، وجعله فهما مرجعيّاً، ولكنْ لا يمكننا أن نفسِّر رفض الغزالي للاستحسان على أساس قوانين الفهم الاجتماعيّ.

واختلف العلماء في الإجماع السكوتيّ، وردَّه جمعٌ من العلماء؛ باعتبار عدم إمكان الإفادة من السكوت؛ لاحتمال الخوف أو الجهل أو عدم الاعتقاد بضرورة الموافقة على حكم.

ولعلّ منطق التبرير يدخل هنا، فنلاحظ أنّ كثيراً ممّا يطلق عليه الأغلبيّة الصامتة حاليّاً أريد لها أن تجبر على الرضا بموقف، فأجمع (حلفاء السلطات المتعاقبة) على اعتبار الإجماع السكوتيّ أصلاً من أصول الفقه.

أمّا ما اصطُلح عليه بالسيرة العقلانيّة، وما يُسمّى أحياناً بإيفاء العقليّ، فهي الميل العامّ عند العقلاء من البشر نحو سلوكٍ معيَّنٍ، دون أن يكون للشرع دورٌ إيجابيّ في تكوين هذا الميل، مثل: الظهور. فإذا سكتت الشريعة عن هذا الميل، ولم تردعه، اعتبر أصلاً، والمدار فيه على (العاقل النوعيّ).

 

الهوامش:

([1]) المستصفى 1: 3. «إنّ كتاب المستصفى أواخر إنتاجات الغزالي».

([2]) المستصفى 1: 251.

([3]) الأنصاريّ، الحاشية على القوانين.

([4]) المستصفى 1: 294.

([5]) المستصفى 1: 348.

([6]) المستصفى 1: 424.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً