أحدث المقالات







إسلام عبد العزيز







 

فضل الله وكتابه

"نعتقد أن للقرآن الدور الأساس في تحديد طبيعة التصور الذي أراد الله تعالى للإنسان أن يأخذ به في نظرته للأنبياء ودورهم وحركتهم في الحياة، وكذلك بالنسبة إلى الأولياء بالأولوية، ولهذا التصور دوره في تحديد طريقة تعاطينا مع ما ورد من روايات تتحدث عن بعض الخوارق…".

 

لعل هذه الفقرة بعمومها هي الفكرة المحورية في الكتاب الأخير للمرجع الشيعي سماحة السيد محمد حسين فضل الله، والذي صدر أخيرا عن دار الملاك ببيروت في 103 صفحات من القطع الصغير، تحت عنوان "نظرة إسلامية حول الولاية التكوينية"، والذي يؤكد توجه الرجل المتأبي على أي موروث يشتم منه رائحة مخالفة للمضمون القرآني.

 

والسيد "فضل الله"معلوم عنه أنه مختلف، ومشهور عنه كفقيه أنه صاحب خطوات سابقة على أقرانه داخل البيت الشيعي، جرأته الفقهية -والفكرية أيضا- جرت عليه ويلات كثيرة ليس أشدها حرمانه من المرجعية الرسمية..

 

ولذلك فإن الكتاب يهدم فكرة تمثل أصلا من أصول الاعتقاد لدى جمع غفير من علماء الشيعة وجماهيرها، مع أن الأصل بحسب فضل الله ذاته أن "الولاية التكوينية ليست من المعتقدات الأساسية لدى الشيعة الإمامية، ولا هي من أصول الإيمان ولا من أركانه، وإنما هي من الفروع الاعتقادية النظرية التي تخضع للدليل والبرهان إثباتا ونفيا..".

 

وفحوى الولاية التكوينية أن الله جعل لأنبيائه ورسله بل ولبعض الأئمة -حسب اعتقادهم- ولاية كونية يتصرفون من خلالها في الكون كما يشاءون، فيغيرون الأشياء ويجمدون الأسباب، ولديهم سلطة شرعية لإدارة شئون الناس وحكمهم.

 

ونظرية الولاية التكوينية على هذا النحو أخذت تتسع لدى البعض لدرجة أنه اعتقد أن الله ترك الكون للأنبياء والأئمة يصرفون حركته الظاهرة والخفية، وأخذت لدى آخرين تضيق لتبقى في دائرة المعجزات.

 
 

المنهج في العنوان

 
 

اللافت في الكتاب ليس كونه نقدا من الداخل لبعض التصورات التي طمست روح المذهب الحقيقي، كما يرى فضل الله، أو لكونها صادرة عن مرجع بحجم "فضل الله" داخل الجسد الشيعي، بل اللافت حقا عنوان الكتاب ذاته!.

 

فهو "رؤية إسلامية…" وليس "وجهة نظر شيعية أخرى…" مثلا أو "تصور آخر للولاية التكوينية.." أو "الولاية التكوينية في الميزان الشيعي" أبدا، فالكتاب يظهر من البداية أنه يتعامل مع الفكرة -الولاية التكوينية- خارج إطار المذهب، خارج الإطار الضيق الذي يمكن أن يفرض أمورا تمثل قيدا على الفقيه المفكر حين ينطلق إلى آفاق الإسلام الرحبة، فوق المذهب وفوق الحزب وفوق الطائفة!.

 

القضية إذن ميزان جامع رحب لا يتقيد بمذهب، وفي نفس الوقت هو مرجعية كل المذاهب، إنه النص القرآني باتساعه ورحابة أفقه وحزمه وحسمه في الوقت ذاته..

 

وتلك هي الأهمية الحقيقية لمقاربة هذا الطرح، وغيره من أطروحات "فضل الله" الأخيرة، التي ما فتئ يؤكد فيها على توضيح طبيعة العلاقة بين النص القرآني والنص النبوي، وكذا الموروث المذهبي، مشددا على أن السنة لا تؤسس مضمونها بعيدا عن القرآن، وبالتالي فإن وجهة السنة وحدود دلالتها ينبغي أن تتحرك في فلك المضمون القرآني وحدود دلالاته ومقاصده العليا، ولا يستلزم هذا بالضرورة حديثا عن حجية السنة أو استقلالها بالتشريع من عدمه، فهذا ليس مقصودا من هذا التحليل.

 

المسألة إذن لا تمثل فيها "الولاية التكوينية"، ولا "ولاية الفقيه" ولا غيرها من القضايا نقطة مركزية، بل النقطة المركزية بالأساس هي طريقة التفكير ومنهج التعامل مع النص القرآني، وطبيعة التعاطي مع موروث الروايات الحديثية في كلا المذهبين.. السني والشيعي.

 

وبالمناسبة فإن المطالع لحركة التجديد داخل منظومة العلوم الإسلامية سيجد هذا المنحى قد بدأ يبزغ وإن كان على استحياء، نظرا لتجذر مثل تلك الموروثات وصيرورتها بتقادم الزمن من البدهيات التي لا تقبل مجرد نقاش.. وقديما قالوا إن ممالأة الجماهير أشد جرما من ممالأة الحكام.

 

 هيمنة النص القرآني

 

"لابد من الإشارة هنا إلى أن القرآن عندما يكون دليلا على نفي الولاية التكوينية، فإنه لا يمكن بعد ذلك قبول ما ينافي القرآن مما ورد في إطار السنة، ويدل على ثبوتها؛ لأن ما خالف كتاب الله فهو زخرف لا بد من طرحه أو تأويله، إذا كان التأويل ينسجم مع طبيعة اللغة العربية في تعبيراتها واستعمالاتها..".

 

بهذه الفقرة، يؤكد فضل الله بصورة واضحة على منهجه في التعامل مع تلك الاعتقادات وغيرها، فالقرآن عنده أصل الانطلاق وأساس البداية، منه يبدأ وإليه يعود، وهذا ما اتضح بصورة جلية في ثنايا الكتاب.

 

65 آية قرآنية في مقابل 10 روايات، ونقلين فقط عن مصادر شيعية هم الإمام الخميني، والشيخ محمد جواد مغنية.. تلك محصلة الاستدلالات داخل كتاب فضل الله الأخير "نظرة إسلامية حول الولاية التكوينية".

 

هذا التحديد يؤشر على شيء غاية في الأهمية يتعلق بحضور النص القرآني وهيمنته داخل الكتاب وعقلية كاتبه، بطريقة جعلت كل نص حديثي أمامه سبعة نصوص قرآنية تقريبا طبقا لهذه الأرقام، مع ضرورة الإشارة إلى أن نصوص الروايات تم إيرادها لسببين:

 

الأول: إما لنقدها، وإيراد تأويلات لها تخرجها عن مضمون ما يستشهد بها أصحابها عليه، فضلا عن "غمزه" لضعف تلك الروايات أساسا من جهة السند.

 

الثاني: وإما في معرض الاستشهاد بها على معنى قرآني بالأساس كما الروايتين المذكورتين في نقده وإنكاره لمعنى تفويض الأنبياء والأئمة أمر تدبير شئون الكون، مؤكدا على أن هذا الاعتقاد "يقارب الكفر أو الشرك"، فأورد رواية عن الصدوق في أخبار الرضا بسنده إلى ياسر الخادم قال: قلت للرضا: ما تقول في التفويض؟ فقال: "إن الله تبارك وتعالى فوض إلى نبيه أمر دينه، فقال: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} أما الخلق والرزق فلا".

 

والرواية الثانية التي أوردها هي قوله: ما رواه الصدوق في كتاب الاعتقادات "أن زرارة قال لأبي عبد الله: إن فلانا يقول بالتفويض، فقال: وما التفويض؟ قلت: يقول إن الله عز وجل خلق محمدا وعليا ثم فوض الأمر إليهما فخلقا ورزقا وأماتا وأحييا، فقال: كذب عدو الله، إذا رجعت إليه فاقرأ عليه الآية التي في سورة الرعد: "أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار…" فانصرفت إلى الرجل فأخبرته بما قال الصادق فكأنما ألقمته حجرا، أو قال فكأنما خرس".

 

نحن إذن أمام ما يمكن أن نسميه "انقلابا" على منهج تفكير سائد داخل الكيان الشيعي، جعل أقوال الأئمة والمراجع فضلا عن أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكما ومرجعا أعلى، يتم على ضوئه فهم النص القرآني والتعامل معه..

 

ويأتي هذا الكتاب استمرارا لتأسيس فضل الله حالة جديدة داخل الفكر الشيعي، تجعل من النص القرآني هو البداية ونقطة الانطلاق، يتم البناء عليها والتعامل مع النصوص الأخرى أيا ما كانت داخل إطارها، خاصة فيما فيه خلاف جوهري، وتأتي أمور العقائد على الرأس منه.

 

التوحيد أصل

 

من أكثر ما يشغب به على الشيعة هو عدم نقاء عقيدة التوحيد لدى قطاع عريض منهم، بسبب ترسبات كثيرة تم دخولها على أصل فكرة التشيع وقت نشوئها، تولدت عنها أفكار ربما تصل في بعض الأحيان إلى إخراج من يعتقدها من دائرة الإسلام بالكلية، حسب مراجع شيعية، وليست فتاوى سنية سلفية!.

 

فالكتاب يحاول التأكيد على التوحيد الصافي، الذي يثبت لله عز وجل كل صفات الكمال والجلال، ولا يعطي لمخلوق أيا كان وضعه داخل الإطار التشريعي امتيازا بعيدا عن الإرادة الإلهية، متخذا من القرآن هاديا بالأدلة سالفة العدد، وجاعلا العقل حكما على بعض التصورات التي لا يمكن استساغتها.

 

فمثلا يستعرض الكتاب احتمالات عديدة لتفسير مفهوم الولاية التكوينية، ويتضح في استعراضه مدى حرصه على النقاء التوحيدي، حين يقول مثلا: "إن للولاية دورا تنفيذيا وإداريا يتمثل في سد النقص في المولى عليه، فالأب يكون وليا على الطفل على أساس أن الطفل لا يستطيع أن يتحرك بما يصلحه.. وهذا الاحتمال باطل في المقام؛ لأن الله سبحانه وتعالى أقام الكون على نظام دقيق خال من أي نقص أو ثغرة..".

 

ويعود ليتساءل مرة أخرى سؤالا استنكاريا: "هل هناك نقص في إدارة الله تعالى للكون حتى يأتي بالأنبياء ليدبروا له الكون؟" ويجيب: "لا.. ليس هناك نقص البتة، فهو الغني المطلق عن عباده وهم الفقراء إليه..".

 

حتى وهو يتحدث عن نقطة التقاء اعترف أنها ليست مقصود القائلين بالولاية التكوينية، وهي أن معناها "أن الله أعطى الأنبياء والأئمة القدرات التكوينية التي يحتاجونها في حدود الوسائل التي يمكن أن يستخدموها، فيتصرفون في الأشياء في هذه الدائرة..".

 

وبعد تأكيد على أن هذا المعنى موضوع تسالم؛ لأنه باختصار حديث عن المعجزة، تراه يضع هذا الاحتراز تأكيدا على فكرة صفاء التوحيد التي يراها، فيقول: "مع ملاحظة أنه حتى في موارد المعجزة لا دليل على أن النبي أعطى لنفسه القدرة على الخلق أو الإحياء أو ما إلى ذلك، وإنما جرى ذلك بقدرة الله تعالى…".

 

العقل مؤازر

 

وتلك من أهم الأفكار المفصلية أيضا داخل الكتاب، وهي من ميزاته في الوقت نفسه.. فالمزج بين النص كأصل للانطلاق، وتوظيف العقل في مكانه الصحيح لابد أن يعطي نتيجة متزنة، وهو توظيف غريب بعض الشيء عن بعض أدبيات الحالة الشيعية، التي كثيرا ما كانت تسلم للنص الموروث بعيدا عن العقل.

 

الخطاب العقلي لم يَضِع داخل الكتاب فيما يمكن أن يُظَنَّ أنه "زحمة" النص، حيث تم توظيفه توظيفا يؤازر النص ويصنع معه مزيجا جيدا، فتحت عنوان "في إمكان الولاية التكوينية ووجه الحاجة إليها" من حيث هو عنوان متوجه للعقل بالدرجة الأولى، يتنحى النص كدليل فيما يقارب الصفحات العشر.

 

يقول: "لعل من المهم أن نتوقف عند نقطتين أساسيتين؛ الأولى: في البحث عن مدى إمكان تقبل العقل لفكرة الولاية التكوينية؛ لأن حكم العقل بالاستحالة كاف في إخراج المسألة من دائرة البحث عن الدليل، أو الجانب الإثباتي كما يقول علماء الأصول، وعندئذ لابد من عملية توجيه لما يمكن أن يلوح منه ثبوت مثل هذه الفكرة المنفية بحكم العقل؛ لأن الدليل لا يمكن أن يصطدم بالعقل القطعي..".

 

الخلاصة أن الكتاب على صغر حجمه، فإنه يمثل خلاصة -فيما أرى- لمنهج تفكير وطريقة تعاطٍ، هي كما قلنا تمثل خروجا في كثير من مفرداتها على منهج حملة المباخر داخل البيت الشيعي، وهي بالطبع ممزوجة بتجربة فضل الله الشخصية، التي أرى فيها نموذجا مستفزا على المستوى البحثي، يستحق الدراسة لإظهار طبيعة الفقيه حينما يخرج عن إطار المذهبية الضيقة..

 
المصدر: اسلام اون لاين
 

 

 
Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً