أحدث المقالات




 

يقدّم الكتاب الجديد لسماحة آية الله العظمى، السيّد محمد حسين فضل الله) دام ظلّه( ، الصّادر عن دار الملاك في بيروت، نظرةً فقهيّةً جديدةً حول مسألة ثمار البحر، حيث إنّ المشهور لدى فقهاء الإماميّة، حرمة أكل حيوانات البحر، إلا ما كان من صنف السّمك الّذي له فلس(قشر)، وهذا ما استقرّت عليه الفتوى لدى معظم الفقهاء المتأخّرين منهم، حتى غدا هذا الحكم راسخاً في أذهان العامّة والخاصّة، وربّما عدّ من منفردات الإماميّة.

 إلاّ أنَّ الحرمةَ ـ في رأي سماحة السيّد ـ ليست تامّةً، ولا هي من الواضحات أو الضّرورات، والتّحقيق العلميّ لا يساعد عليها، وبالتّالي، فثمّة وجه وجيه للقول بالحليّة، كما مال إلى ذلك بعض المحقّقين من الفقهاء.

 يشير سماحة السيّد إلى أنّ الأصل الأوّليّالمستفاد من القرآن الكريمهو حليّة كلّ ما خلق الله من طعامٍ أو شراب، فلا يحرم من ذلك إلاّ ما دلّ الدّليل على حرمته بالنصوص القرآنية.

 والنّصوص العامّة الواردة في الحليّة على ثلاثة أنواع:

فهناك عمومات الحلّ التي تثبت حليّة كلّ ما في الأرض، وهناك ما يدلّ على حليّة كلّ ما يطعمه الإنسان، وهناك ما يدلّ على حليّة مطلق صيد البحر وطعامه. وهذه العمومات إذا تمّت، ولو في نوعٍ منها، فإنّها ستشكّل مرجعاً لدى الشّكّ، كما تثبت الدّراسة أنّه لا مخصّص لهذه العمومات المذكورة..

 

عمومات حلّ ما في البحر:

 تدلّ الآيات القرآنيّة على عمومات حلّ ما في البحر، قال تعالى: ﴿أحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ﴾[المائدة: 96]، حيث إنّ الآية قد علّقت الحليّة على ما يصطاد من البحر، من دون تقييدٍ بنوعٍ خاصّ منه. فيفهم منه عرفاً، أنّ صيد البحر هو الموضوع للحكم.

وقال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[النّحل: 14]، وقال في محكم كتابه: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[فاطر: 12].

إنّ المستفاد من هاتين الآيتين الشّريفتين، أنّ واحدةً من أهمّ فوائد البحار ومنافعها، الّتي سخّرها الله للإنسان، هي أن يأكل منها لحماً طريّاً، وهذا التسخير بإطلاقه شاملٌ لكلّ حيوانات البحر وما فيه من أسماك وحيتان وغيرها، فكلّ ذلك محلّل ومباح للإنسان.

حكم حيوان البحر من غير السّمك:

يستعرض سماحة السيّد الأدلّة الموجودة في هذا المقام، ليخلص إلى أنَّه ليس هناك دليلٌ تامّ على حرمة الحيوان البحريّ الّذي لا يكون من جنس السّمك. ويناقش سماحته الأدلّة الّتي تورد للدّلالة على الحرمة، ليلاحظ أنّ تحقّق الإجماع على الحرمة غير محرز، كما يشير إلى أنّ كلاً من المحقّق الأردبيلي في كتاب "مجمع الفائدة والبرهان" ، والمحقّق السبزواري في "الكفاية"، والفيض الكاشاني في "المفاتيح"، والمحقّق النراقي في "المستند"، يظهر منهم التّشكيك في حرمة غير السّمك  من أنواع الحيوان…

 

السّمك الذي لا فلس له:

أمّا السّمك الّذي لا فلس له، فإن سماحة السيّد يتحفّظ في حرمته ، لأنّ المسألة ليست من المسائل الضروريّة، بل من المسائل الاجتهاديّة النظريّة، والنّاشئة من مدارك وأدلّة معروفة وموجودة بين أيدي الفقهاء، ولا يكفي أن يتسالم جيل أو أكثر على مسألة معيّنة حتى تدرج في لائحة ضرورات المذهب، ولا سيّما مع وجود من يفتي من الفقهاء بحلّيّة ما لا فلس له من السّمك.

ويستعرض سماحة السيّد بعض أقوال الفقهاء في المسألة، حيث يتّضح أنّها ليست من الضّروريات، كما يظهر من الشّيخ الطّوسي في كتاب النّهاية، وإنما هي مسألة خلافيّة، وهذا ما جعل بعض المتأخّرين يوافقون الشّهيد الثاني والمحقّق في تحفّظاتهما، ويرون أنّ الحكم هو الكراهة لا الحرمة.

كما أنّ الروايات المتعرّضة لحكم السّمك الّذي لا فلس له، يمكن تقسيمها إلى طائفتين أساسيّتين: إحداهما ظاهرة في الحرمة، والأخرى تدلّ على الإباحة، ما يعني وجود تعارضٍ في الرّوايات ينبغي حلّه. ولدى استعراض طرق الأصحاب في حلِّ هذا التّعارض وعلاجه، يتبيّن لنا أنّ هناك ثلاث نظريّات لعلاج هذا التّعارض وحلّه. والنظريات الثلاث هي التّالية:

الأولى: نظرية الحمل على التقيّة، حيث تطرح الرّوايات الدالّة على الحليّة لموافقتها للعامّة..

والثّانية، نظرية الجمع العرفي والحمل على التّحريم، وهو ما ذهب إليه صاحبُ المستند المحقّق النراقي، حيث جعل القول بالحرمة هو مقتضى الجمع بين الرّوايات.

أمّا الثّالثة، فهي نظريّة الجمع العرفي والحمل على الكراهة، وهي مذهب صاحب الشّرائع وصاحب المسالك ومن تبعه، كالمحقّق السّبزواري والكاشاني وغيرهما..

 

الوجه المختار في الجمع:

وبعد مناقشة النظريتين الأوليين، لا يبقى لدى سماحة السيِّد إلا نظريّة الجمع العرفيّ التي تقتضي بحمل روايات التّحريم على الكراهة، وهو جمعٌ قريب ووجيه، ولكن تبقى الشّهرة الفتوائيّة العظيمة على التّحريم الّتي تجعل الفقيه يتوقّف في المقام، ولذا فقد يقال: إنَّ الاحتياط سبيل النّجاة؛ وأن المسألة من المشكلات على حدّ تعبير المقدّس الأردبيلي (قده). إضافةً إلى ذلك، فإنّ ثمة ارتكازاً في أذهان الشّيعة على الحرمة، حتى غدت مسألةً متسالماً عليها ومفروغاً منها.

لكن سماحته لا يقبل هذه التحفظات معتبراًإنّ الشّهرة المذكـورة ـ فضلاً عن عدم حجيّتها ـ ليست تعبديّةً، وإنّما مستندة إلى ترجيح أخبار الحرمة على أخبار الحلّ؛ لموافقة الثّانية للتقيّة. لكنّ ذلك التّرجيح يبقى ضعيفاً، لمخالفته العموم القرآنيّ الّذي يكون قرينةً على ضرورة التصرّف في ظاهر الرّوايات المخالفة له، حيث يتمّ حمل روايات التحريم على الكراهة، وبذلك تنسجم مع القرآن.

كما أنّ الارتكاز على الحرمة ليس بحجّة أيضاً، لأنّه انطلق من فتاوى الفقهاء في العصور المتأخّرة الّذين أجمعت كلمتهم على القول بالحرمة، والارتكاز إنّما يكون حجّةً إذا كان ممتدّاً إلى زمن الأئمّة، والامتداد إلى ذلك العصر غير ثابت، بل إنّ سؤال بعض أقرب أصحاب الإمام الصّادق(ع)، مثل محمد بن مسلم وزرارة، عن حكم ما ليس له قشر من السّمك، يوحي بأنّ التّحريم لم يكن معروفاً وواضحاً أو متسالماً عليه في زمن الإمام(ع)، فلو كان السّائل غير زرارة وغير محمّد بن مسلم، لأمكن القول عندئذٍ بعدم علمه بالأمر، لاحتمال كونه بعيداً عن مجتمع الشّيعة والأئمّة، وأمّا سؤال من هو بمثابة عمدة الإمام، فإنّه يعطي انطباعاً بأنّ المسألة لم تكن بهذا المستوى من الجزم الّذي ادّعاه بعض العلماء من الأجيال اللاحقة..

ويشار في المقام إلى ملاحظة مهمّة على مستوى الذّوق الفقهيّ العرفي، وهي أنّ السمك طعام أساسي وشبه ضروريّ للمسلمين، ولا سيّما في المناطق البحريّة، مما يستبعد معه الفقيه صدور التّحريم عن النبيّ(ع)، لأنّ ذلك قد يثير ضجّةً لديهم، لما قد يلزم منه من الحرج الشّديد العام، وخصوصاً أنّ القرآن يوحي بذلك في آية ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ…[الأنعام: 145]، وكذلك في حديثه عن حلّية صيد البحر من دون تقييد ﴿أحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ﴾[المائدة: 96]، بالرّغم مما ذكروه من الإشكالات على ذلك.

 




Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً