أحدث المقالات

 ترجمة: مشتاق الحلو

نلاحظ في البحوث التي قدّمت لحدّ الآن حول العقل، أنّ المتكلمين يقصدون به معاني متفاوتة، وقد صرّح بعضهم بذلك، وبإمكاننا عدّ المعاني التالية من جملة المعاني التي أرادوها: bمجموعة العلوم والمعارف البشريةv، bالعقل غير المحدود بطرق العلوم الطبيعية والنظرية ولا المحكوم بقوانين المنطق وما وارء الطبيعة الأرسطيةv، bالعقل الجزئي الذي يرى ظواهر الأمورv، bالعقل الإلهي الكلّيv، bالقوة التي يمتلكها جميع البشر ويقبلون أحكامهاv، ونهايةً bالقوة التي تدبّر أمور الدنياv([1]).

أحد الأساتذة ـ وبعد بيان أنّ العقل عند أفلاطون, أرسطو، المتكلّمين، الفارابي([2]) ابن سينا([3]) ديكارت([4]) و… مختلف ـ يقول وهو محقّ فيما يقوله: bكلّ من يتكلّم عن العقل والمنطق، تحضر صورةٌ ما عن العقل في ذهنه، وإن كانت مبهمةً ومجملة، ذلك العقل يسمّى بالعقل المطلق أو الأصلي والأصيل، فهم في الحقيقة لا يتكلّمون عن العقل، ويا ليتهم كانوا يتكلّمون!v([5]).

نظراً لذلك، يسعى هذا المقال لتقديم دراسة حول معنى العقل، ويطلب من الآخرين الولوج في غمار هذا البحث، كي تتجلّى جوانبه أكثر فأكثر.

ومن الأفضل تحديد المراد من العقل أولاً في المصادر الإسلامية وفي مصطلح الفلسفة الإسلامية، ومن ثم نبحث العلاقة بين العقل والوحي([6])، فقبل كلّ شيء علينا تفكيك المعنى اللغوي للعقل.

المعنى اللغوي للعقل  ـــــــ

المعنى الأصلي للعقل هو: المنع، النهي، الإمساك والحبس([7])، وسائر الاستعمالات مأخوذة من هذه المعاني ومرتبطة بها، يقول الخليل: العقل نقيض الجهل([8])، ويرى الراغب أنّ العقل يطلق على قوّة مستعدّة لقبول العلم([9])، ويعتقد فارس بن زكريا أنّ وجه تسمية العقل جاءت من أنه يمنع الإنسان عن الكلام والفعل القبيحين([10])، ويعتبر الجرجاني العقل مانعاً صاحبَه من الانحراف عن الصراط المستقيم([11]).

نستخلص من هذا المرور السريع أنّ المعنى الأوّلي للعقل هو المنع، ويلاحظ في هذا المعنى بُعدان: بُعد bمعرفيّv وبُعد bقيميّv؛ فالعقل منشأ المعرفة التي تهدي الإنسان إلى الصراط المستقيم والأفعال الحسنة، لكنّنا نحتاج في الوصول إلى الصراط المستقيم إلى معرفة الاعتقادات الصحيحة والمطابقة للواقع، كما معرفة الحسن والقبيح من الأشياء والأفعال للتوصّل إلى الأفعال الحسنة، إذاً بإمكاننا القول بأنّ العقل هو ما يبيّن للإنسان العقائد الصحيحة والأفعال الحسنة.

وقد استخدم هذا المعنى اللغوي في القرآن والأحاديث، ولم يرد فيه مصطلح خاصّ عن الدين كحقيقة شرعية، كما سائر الموارد، غايته أنّ هناك تفاسير خاصّة لهذا المعنى، كما ذكرت قيود وأوصاف خاصة له تسمّى اصطلاحاً: bتعدد الدالّ والمدلولv.

نذكر أولاً من النصوص الشرعية ما يؤيّد المعنى اللغوي للعقل، ثمّ نأتي بالأوصاف الخاصّة التي أضيفت له.

أ ـ نصوص دينية تؤيّد المعنى اللغوي للعقل  ـــــــ

1ـ في العقائد  ـــــــ

تدعو آيات كثيرة من القرآن الإنسانَ للتدبّر في الآيات التكوينية([12])؛ وتعتبر عدم التعقل سبباً للكفر والانحراف([13])، وجاء في الأحاديث: bبالعقول يعتقد التصديق باللهv([14])، وكذلك bبها تجلّى صانعها للعقولv([15]). ونقل عن الإمام الصادق أنّه قال: b… فبالعقل عرف العباد خالقهم وأنّهم مخلوقون، وأنّه المدبّر لهم…v([16]).

وورد في الأحاديث أنّ من آثار العقل الرشد والهداية([17])، وجاء في الحديث النبوي: bإنّ العقل عقال من الجهلv([18])، ونقل عن أمير المؤمنين %: bبالعقل استخرج غور الحكمةv([19])، وbالعقل أصل العلمv([20])، وقال الإمام الصادق % في هذا الموضوع: bدعامة الإنسان العقل، ومن العقل الفطنة والفهم والحفظ والعلم و…v([21]).

وقد ورد العقل في الأحاديث مقابل الجهل أحياناً، كما جاء العلم مقابل الجهل أحياناً أخرى([22])، وقد يمكننا الجمع بين هاتين المجموعتين من الأقوال، والخروج بأنّ العقل منشأ العلم، وعلى هذا يمكننا اعتبار الجهل مقابل العقل. أمّا المسألة الأخرى التي يمكننا استنتاجها فهي أنّ تقابل العقل والجهل يثبت أنّ الجهل لا يعني فقدان مطلق العلم، بل فقدان العلم الصائب الذي يوصل الإنسان إلى الطريق الإلهي، فمن فقد هذا العلم، وإن كانت له علوم أخرى، فهو جاهل. إذاً هناك معنيان للجهل: الأول: فقدان مطلق العلم، والثاني: فقدان العلم الصائب.

 ويبدو أنّ ما ذكر بوصفه آثاراً للعقل، كالعلم والحكمة والمعرفة([23]) والتصديق بالله، قُصد به المعرفة المطابقة للواقع؛ من هنا يكشف العقل الصدق من الكذب، ويعُدّ حجّة إلهية([24])، وقد صرّح حديث المعراج المشهور أنّ من يستخدم عقله، لا يخطأ([25]).

2 ـ في الأخلاق والعمل ]السلوك[  ـــــــ

ورد في آية من القرآن الكريم: >ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون< يونس: 100.

 كما ذكرت الأعمال الصالحة والمكارم الأخلاقية آثاراً للعقل في أحاديث كثيرة، ويمكننا، على سبيل المثال، ذكر الموارد التالية التي وردت في الأحاديث كآثار للعقل: الأعمال الحسنة([26])، ترك المعاصي([27])، عبادة الله([28])، الحلم والتواضع([29])، الأدب والأخلاق الحسنة([30])، التقوى([31])، الإنصاف وترك الغضب([32])، القول الصواب([33])، وضع كلّ شيء في محله([34]).

يقول الإمام الصادق % في حديث معروف، عندما يُسأل عن العقل: bما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان، قال: قلت: فالذي كان في معاوية؟ فقال: تلك النكراء! تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل، وليست بالعقلv([35])، أي العقل يهدي إلى الحقيقة والصواب والإحسان، لا إلى الانحراف والضلالة.

ففي الشواهد التي ذكرنا، عُدّت الأفعال الحسنة من آثار العقل، وقد ورد في بعض الأحاديث أنّ الناس يعرفون الحسن والقبيح بالعقل([36])، وأنّ من يستخدم العقل لا يطغى، والعقل لا يصوّر المفسدة مصلحةً([37])، وسنورد شواهد أخرى من القرآن والسنّة في حديثنا عن علاقة العقل بالروح.

وكما لاحظنا، تذكر المعرفة الحسنة والسيّئة في بعض الأحيان من آثار العقل، وفي أحيان أخرى تذكر الأفعال الحسنة، فلعلّ المراد منها أنّ العقل يؤدّي إلى معرفة الحسن والقبيح، كما يحث الإنسان على العمل الحسن، فيكون القيام بالأعمال الحسنة من لوازم التعقّل.

محصّل الكلام، أنّ العقل في اللغة والقرآن والسنّة، من الناحية النظرية والاعتقادية، يُرشد الإنسان إلى المعرفة المنطبقة على الواقع والمعتقد الديني الصحيح، ومن الناحية العملية، يبيّن للإنسان الأفعال الحسنة والصائبة؛ فلا يكون احتمال الخطأ وارداً في العقل بهذا المعنى، فإذا لم يفهم العقل أموراً ما، وكانت خارجةً عن نطاق استيعابه، إلا أنّه لا يخطأ في المجالات التي يستطيع فهمها، من هنا، لم نلاحظ خلال بحثنا نماذج لخطأ العقل في المصادر الإسلامية. وسنذكر شواهد أخرى في تتمّة الحديث تؤيّد هذه الميزة في العقل.

ب ـ ميزات العقل الأخرى  ـــــــ

ذكرت الأحاديث ميزات متعددة للعقل، نستعرض أهمها:

1 ـ علاقة الروح بالعقل ]التحليل الوجودي للعقل[  ـــــــ

قلّما تناولت المصادر الإسلامية هذا الموضوع صراحةً، لكن يبدو من ملاحظة مجموع الآيات والأحاديث أنّ العقل ـ خلافاً لما هو شائع في الفلسفة الدارجة ـ ليس من خصائص الروح الذاتية؛ ولم يلاحظ في تعريف الروح، بل هو نور وهدية إلهية تشعّ على روح الإنسان، فيميّز به الحق من الباطل.

ونستعرض هنا الأحاديث التي تدلّ أو تشير إلى ذلك، والتي يذكر بعضها صفات أخرى للعقل أيضاً.

1 ـ1 ـ الأحاديث التي تمثل العقل بالنور الذي يسطع على الروح:

ورد في رواية عن الإمام الكاظم %: bإنّ ضوء الروح العقلv([38])، وجاء في حديث نبوي مذكور في المصادر الشيعية والسنّية: bالعقل نور في القلب، يفرق به بين الحق والباطلv([39])، وقد ورد في بعض المصادر لفظ القلب مكان الروح، ويقول حديث آخر: b… حتى يولد هذا المولود ويبلغ حدّ الرجال أو حدّ النساء. فإذا بلغ، كشف ذلك الستر، فيقع في قلب هذا الإنسان نور، فيفهم الفريضة والسنّة، والجيّد والرديء، ألا ومثل العقل في القلب كمثل السراج في وسط البيتv([40]).

1 ـ2 ـ الأحاديث التي تتحدّث عن خلق العقل([41]):

يوصف العقلُ في هذه الأحاديث بنعوت عديدة كالموجود المستقلّ، أول المخلوقات، وأحبّ الموجودات، ومن الواضح أنّ جميع هذه الأوصاف يدلّ على المراد.

1 ـ3 ـ ورد في حديث عن الإمام الباقر %: أنّ الروح والقلب موضع العقل([42]).

1 ـ4 ـ روي عن أمير المؤمنين %: أنّ آدم اختار العقل([43]).

1 ـ5 ـ وفي حديث آخر خبرٌ عن خلق بشر لا عقل لهم، ولا تكليف عليهم([44]).

1 ـ6 ـ يقول القرآن الكريم: >ونفس وما سوّاها * فألهما فجورها وتقواها * قد أفلح من زكّاها * وقد خاب من دسّاها< الشمس: 7 ـ10.

تصرّح هذه الآيات بأنّ الله بعد إتمام خلق الإنسان، ألهمه الفجور والتقوى، ويقول الإمام الصادق % في تبيين الفجور والتقوى: b… يبيّن لها ما تأتي وما تترك…v([45]).

وبما أنّ هذا الموضوع ذكر حول العقل أيضاً، يبدو أنّ الإلهام المقصود هنا، هو نفس إلهام نور العقل لروح الإنسان([46]).

2 ـ التمتع بالعقل وكماله  ـــــــ

كما لاحظنا في الآية الشريفة، يتمتّع الإنسان بالعقل والإلهام الإلهي بعد كماله، وتسمّى هذه المرحلة في الفقه سنّ التمييز، أي تمييز الحسن من القبيح، ويبدو أنّه مختلف من شخص لآخر، لكن في الغالب يكون في سنّ الثانية عشرة.

وقد مرّ في أحد الأحاديث أنّ بلوغ مرحلة الرشد، هو زمان التمتّع بالعقل، وجاء في حديث يفسّر آية: >ولمّا بلغ أشدّه واستوى آتيناه حكماً وعلماً< القصص: 14، أنّ bأشدّهv سنّ الثامنة عشر، وbاستوىv تعني ظهور الشعر على الوجه([47])، كما ورد في أحاديث أخرى أنّ منتهى العقل سنّ الثامنة والعشرين([48])، والخامسة والثلاثين([49])، والخمسين، والستين([50]).

ويمكن اعتبار ما أوردناه مؤيّداً للميزة الأولى ـ وهي علاقة الروح بالعقل ـ أيضاً.

3 ـ مراتب العقل  ـــــــ

يتمتّع الناس بدرجات متفاوتة من العقل، وقد ورد في أحاديث الفريقين أنّ درجات فضائل الإنسان تتناسب ودرجات تمتّعه بالعقل([51])، كما أنّ على الإنسان من تكليف وحساب إنما يقع على قدر ما يتمتع به من عقل([52])، فقد ورد في الأحاديث: b… فأعطى الله محمداً % تسعة وتسعين جزءاً [من العقل]، ثمّ قسّم بين العباد جزءاً واحداًv([53]).

4 ـ حجيّة العقل  ـــــــ

تعني الحجّة الدليل والبرهان الواضح؛ حيث لا تترك مجالاً للرفض، وقد جعل الله صنفين من الحُجج للناس: الأول، الحجة الظاهرية، وهي الأنبياء والأئمة (، والآخر، الحجة الباطنيّة، وهي العقل([54]).

والمهمّ هنا، هو أنّ العقل ـ وهو الحجة الباطنة ـ أساس لحجيّة الحجة الظاهرة؛ فالعقل هو الذي يوصل الإنسان إلى الله والدين والشريعة؛ فأساس أيّ دين إلهي، إثبات الخالق والنبوّة، ولا يثبتان إلا بالعقل.

من جهة أخرى، بعد اتّضاح حجية الدين، يرشدنا العقل إلى وجوب اتباع الخالق ورسوله([55])، ولذلك كان العقل أحد شروط التكليف، وسنتحدّث عن العلاقة بين الحجّتين: الظاهرة والباطنة، عند الكلام عن تعارض العقل والنقل، فحجية العقل وكونه أساساً للتدين يؤيّدان عصمته في رأي الكتاب والسنّة.

5 ـ علاقة الإرادة بالعقل  ـــــــ

اتّضح مما مضى أنّ العقل عطاء إلهي، وتختلف نسبة تمتّع الناس به، وقد أكّدت أحاديث كثيرة على أنّ العقل هدية من الله([56])، بل هو أفضل ما أهدى الله البشرَ من مواهب([57]).

السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو هل إرادة الإنسان دخيلة في التمتع بالعقل ومقداره؟

 يبدو أن الإجابة إيجابية؛ فأولاً: وإن كان العقل في حقيقته موهبة، لكنّ استخدامه واتّباعه أمر إرادي. وثانياً: إرادة الإنسان دخيلة في تقويته وتضعيفه.

بالنسبة للقسم الأول من الجواب، أودّ القول بأنّه كما للإنسان عقل، له شهوة وأهواء نفسانية أيضاً، وهو حرّ في اتباع أيّهما شاء([58])، فإذا اتّبع العقل، يكون حجّة له، وإذا اتّبع الشهوات، يكون حجّة عليه؛ ولذلك توبّخ آيات القرآن الكفّار على عدم تعقّلهم.

وأمّا القسم الثاني من الجواب، فنلاحظ تقسيم العقل إلى صنفين في بعض الأحاديث: صنف طبيعي، وهو موهوب من قبل الله، والآخر تجريبي، تتدخل إرادة الإنسان فيه([59])، كما تتحدّث بعض الروايات عن اكتساب العقل([60])، فقد عُدّ التعلّم والأدب وتبعية الحق([61]) من أسباب ازدياد العقل، وذكرت آفات كثيرة للعقل، منها: هوى النفس، العُجب، الطمع، التحدّث مع الجاهل، وشرب الخمر([62]).

ملخّص الكلام: أنّ العقل في الكتاب والسنّة ليس قوةً بشرية كي يحتمل الخطأ، بل هو إلهام ونور إلهي، تتسع به روح الإنسان؛ ولهذا النور صبغة معرفية، يمكن للإنسان بها تمييز الحق عن الباطل، والصواب عن الخطأ في المعتقد والعمل، ولذلك كان العقل حجةً باطنية، وأساساً للحجّة الظاهرية، كما وملاكاً للتكليف، ويسمّى هذا العقل بالعقل الفطري، أو العقل السليم، أو العقل الإلهي.

العقل في الاصطلاح الفلسفي والكلامي  ـــــــ

للعقل في مصطلح الفلسفة وعلم الكلام معنيان:

1 ـ الموجود المجرّد بالذات وبالفعل، وبعبارة أخرى موجود لا تعلّق له بالجسد أو النفس.

يتصوّر الفلاسفة وجود سلسلة من العقول تمثل واسطة الفيض الربوبي، ويستندون في ذلك إلى مقتضى قاعدة: bالواحد لا يصدر منه إلا واحدv، وقاعدة bإمكان الأشرفv، وأدلة أخرى([63])، أي لم يصدر من الله سوى موجود واحد، وهو العقل الأول، ومنه صدر العقل الثاني، وهكذا إلى العقل العاشر الذي يسمّى بالعقل الفعّال، وصدر عالم الطبيعة من هذا العقل، وهناك علاقة طوليّة بين هذه العقول، يحكمها قانون العليّة.

بعدما أثبت شيخ الإشراق([64]) العقول الطوليّة للمشائين، اعتبرها أكثر من عشرة، وأضاف إليها العقول العرضيّة وأرباب الأنواع، وبناءً على رأيه، هناك عقل عرضي أو bربّ النوعv قبال كلّ نوع مادي([65])، يدبّر أمره. وتسمّى الأنواع المادية bالأصنامv بالنسبة لهذه العقول، لكن ليس هناك رابطة عليّة بين هذه العقول عنده([66])، وقد تقبّل صدرالدين الشيرازي([67]) فكرة أرباب الأنواع، وقدّم صياغة أخرى لها، استفادها في أبحاثه([68]).

2 ـ العقل أحد قوى النفس الإنسانية، إذاً لا يكون العقل مستقلاً، بل متحداً مع النفس، ويعدّ من قواها وأحد مراتبها.

يقع العقل البشري قبال قوّة الخيال والوهم والحس، وبإمكانه إدراك الكليّات واستنباط الأمور النظرية من المقدّمات البديهية والمعلومة، ويكون هذا العقل من حيث مدركاته، على صنفين: نظري وعملي.

أمّا العقل النظري فله أربع مراتب: العقل الهيولاني، العقل بالملكة، العقل بالفعل، والعقل المستفاد([69]).

ويعتقد أغلب الفلاسفة، حول علاقة العقل الإنساني بالعقول العشرة، أنّ الكلّيات العقلية تكون في العقل العاشر، أي العقل الفعال، وهو الذي يفيض هذه الكلّيات على العقول البشرية؛ فللعقل الفعال دور معرفي مهمّ، إضافةً لما يؤديه من دور في وجود العالم، مع ملاحظة أنّ الفلسفة الإشراقية ـ كما مرّ ـ ترى كلّ شيء في العالم صادراً عن ربّ النوع الخاصّ به، أي عن أحد العقول العرضية.

فوارق المعنى اللغوي عن الاصطلاحي للعقل  ـــــــ

عند مقارنة العقل المذكور في القرآن والسنّة، بالعقل المصطلح، نجد فارقين أساسيين بينهما: فارق وجودي، وفارق معرفي.

1 ـ الفارق الوجودي الأنطولوجي بين المعنى اللغوي والاصطلاحي للعقل:

للعقل في الاصطلاح معنيان: أولهما، العقل المستقلّ الذي يكون طولياً وعرضياً، والآخر، العقل الإنساني الذي يمثل أحد قوى النفس ومراتب وجودها الذاتي، ومن هذا المنطلق يعرّف الإنسان بالحيوان الناطق.

أمّا العقل في المصادر الإسلامية فله معنى واحد، هو ما يتمتّع به الإنسان، وليس من مراتب النفس الذاتية، وتختلف نسبة استخدامه من شخص لآخر؛ وعليه فالعقل الفطري الإلهي والعقل البشري الاصطلاحي، موجودان من حيث الوجود، لكن هناك فوارق بينهما.

2 ـ الفارق المعرفي الإيبستمولوجي بين المعنى اللغوي والاصطلاحي للعقل:

يتمتع هذا الفارق بأهمية أكبر من الفارق الأول، ويرتبط بالجانب الوجودي للعقل أيضاً، فالعقل الاصطلاحي قوّة بشرية، تحتمل الخطأ، أمّا العقل الفطري السليم، فنور إلهي لا يحتمله، وهكذا نرى أنّ مدركات العقل الفطري واضحةٌ ووجدانية، ولهذا تسمّى بالحجّة، فبالعقل ومدركاته تتمّ الحجّة على الإنسان، ولا يبقى مجال للتنصّل من الحق، علماً أننا لا نقصد بالمدركات الواضحة، البديهيات المنطقية والرياضية والفلسفية، بل المقصود أنّ الإنسان إذا تعقّل، سيتوصل لأحكام العقل الفطري وجدانياً، وإن كان قد يُعرض عنها لأسباب متعدّدة، وهذا على خلاف الحال في العقل المصطلح فلسفياً وكلامياً، وسنعود لهذا الموضوع في تتمّة البحث.

تعارض العقل والوحي  ـــــــ

تعدّ الدراسات حول العقل من أهمّ وأقدم الأبحاث وأكثرها إثارةً للخلاف. لكن الدراسات التي تهتم بتعارض العقل والنقل تتمتّع بتلك الصفات أكثر من سائر مواضيع العقل، فإذا استطعنا تقديم منهج مقبول في هذا الصدد، ستترتّب عليه ثمرات مهمة، لكن بعض الإبهام ما زال يلفّ البحوث التي تتناول هذا الموضوع، ويبدو أنّ محلّ الخلاف لم يتحدّد بعدُ بشكل دقيق؛ لذا نبدأ كلامنا بعدّة مقدّمات.

مقدّمات لبحث التعارض بين العقل والوحي  ـــــــ

1 ـ من الممكن تصوّر هذا التعارض بأشكال مختلفة؛ فالدليل العقلي والنقلي، إمّا قطعيان أو ظنيّان، من جهة أخرى، المراد هو إمّا العقل الفطري أو العقل الاصطلاحي، ومورد التعارض إمّا في الأحكام العملية أو في العقائد.

إذن، يمكننا افتراض صور متعدّدة لهذا التعارض، لكن يبدو أنّ أهمّ صورة له هي التعارض بين العقل الاصطلاحي القطعي والنقل القطعي في الموارد العقائدية.

2 ـ يعترف الجميع بأنّ للقطع جوانب نفسية، فقد يطابق الواقع وقد لا يطابقه، فيسمّى في الحالة الأولى علماً، وفي الثانية جهلاً مركباً.

3 ـ يقرّ الباحثون بأنّ القطع حجّة للقاطع، ويجب عليه اتّباعه.

4 ـ المراد هنا هو القطع والظن النوعيّين، لا الشخصيّين، أي الأدلّة التي توجب القطع أو الظن عند عامّة الناس، من دون ملاحظة أدلّة أخرى، ومن الواضح أنّه لا يمكن لشخص اليقين بأمرين متعارضين، أو حتى الظن بهما، بل يحصل لديه يقين أو ظن لأحد الطرفين فقط، ويعتقد بمطابقته للواقع. وبعبارة أخرى، للبحث مقامان: مقام القطع، ومقام الحكم؛ فلا يتصوّر التعارض في مقام القطع، لكنّه محتمل في مقام الحكم ومن دون ملاحظة القطع، وفي هذه الحالة أيضاً، تتضح كيفية التعامل مع القاطع بعد الحكم بترجيح أحد الدليلين، فإذا كان القطع في صالح الدليل المرجّح، وجب القدح في مقدّمات ذلك الدليل؛ لإزالة قطع القاطع.

5 ـ يتّضح من النقاط التي مرّت، ولا سيما الأخيرة منها، أنّ بحث تعارض العقل والنقل يعود إلى تحديد دائرة العقل والدين، فإذا حددنا دائرتيهما، يكون من السهل تقديم أحد الأدلّة على الآخر، وفي الحقيقة لا يكون هناك تعارض، ففي هذه الحالة تنحصر الحجيّة بأحد الدليلين، وإنّما يحصل التعارض عندما يكون كلا الدليلين المتعارضين حجّة؛ وإذا كان هناك مساحة مشتركة بين الدائرتين، من الممكن حصول التعارض فيها، وفي هذه الحالة، يجب علينا البحث عن مرجّحات.

دائرة حكم كلّ من العقل والدين  ـــــــ

لا يمكن الأخذ ببعض أمور الدين تعبّداً، كالتي يتوقف أصل حجيّة الدين وحقانيّته عليها؛ كوجود الله وحجية الوحي؛ فلا يمكننا القول بأنّ الله موجود؛ لأنّه يقول: أنا موجود، أو يقول النبي: كلامي حقّ، فنأخذ بكلامه، وعليه فتقع هذه الأمور في دائرة عمل العقل؛ فإذا ما تجاوزنا هذه المسائل، يكون للدين فصل الكلام في الأمور جميعها، وإن كانت هناك أمور تركها الدين أو أوكلها إلى عقل الإنسان وتجربته.

من ناحية أخرى، يمكن للعقل إدراك بعض الأمور بصورة مستقلّة ومن دون الاستعانة بالتجربة أو الدين، كما يمكنه إدراك بعضٍ آخر بالاستعانة بأمور أخرى، فقد يستنبط العقل من مفاد الآية أو الرواية مستلزماتهما.

ويقع كلّ من هذين الصنفين من الإدراك على نوعين: واضح وبديهي، يدركه جميع العقلاء بسهولة إذا تدبّروه، ونوع قد يصل الناس فيه إلى بعض النتائج المختلفة، وقد يخطأ بعض فيه.

إذن، فمدركات العقل على أربعة أصناف: الإدراك المستقلّ الواضح، والإدراك المستقلّ غير الواضح، والإدراك غير المستقلّ البديهي، والإدراك غير المستقل ولا البديهي([70]).

يقع القسم الأول والثاني في دائرة العقل الفطري، كما يقع الآخران في العقل الاصطلاحي، وتقع الأمور التي لا يمكن للإنسان أخذها من الدين تعبّداً ضمن مدركات العقل النظري، وإن أمكن للعقل الاصطلاحي النشاط في هذا المجال؛ خاصّة في مقام الاحتجاج والدفاع عمّا توصّل إليه العقل الفطري، كما أنّ العقل الفطري يكشف بوضوح عن حسن الأفعال وقبحها في بعض المسائل العملية والأخلاقية، كقبح الظلم والتعدّي، وقبح العقاب بلا بيان؛ فإذا تجاوزنا هذه الأمور، لا يكشف العقل الفطري أمراً بشكل مستقل، وإنّما يمكنه استنباط اللوازم البيّنة للخطاب الشرعي فقط.

الإشكال المهم هنا هو وجود الاختلاف في مقدّمات الدخول في الدين، كإثبات وجود الله، فقد ذكر بعضهم قضايا كثيرة بوصفها مقدمةً للورود في الدين، وأغلبها أو جميعها مسائل نظرية تقع محلَّ خلاف.

ونردّ على هذا الإشكال بأنّ هذه الأمور وإن كانت بحاجةٍ إلى البرهان المصطلح من جهة العقل المنطقي والفلسفي، بيد أنّها بديهية من زاوية العقل الفطري، ويبدو أنّ الأنبياء دعوا الناس إلى الله والدين من منطلقٍ يختلف عن التنظير؛ فيذكّر الأنبياء الناس بميثاقهم الفطري والنعمة المنسية، وينبّهونهم إلى bدفائن العقولv([71]).

وعلى هذا الأساس، يغدو الناس عارفين لله بفطرتهم، وبتذكير من الأنبياء يلتفتون إلى هذه المعرفة، ويعرفون خالقهم بقلوبهم ويدركون حقّانيّته، وتبرز حينئذ الحجّة القلبية، وهي أقوى البراهين.

من ناحية أخرى، يدرك الإنسان بمشاهدته للعالم والتدبّر في آياته، أنّ هذا العالم كالبناء العظيم بحاجةٍ إلى معمار، ويتأكّد هذا الحكم البديهي بالتدبّر والتعقل في نظم العالم وترابط أجزائه، كما يلتفت الإنسان ـ بعد التخلّص من شوائب الدنيا والرجوع إلى الذات ـ إلى فقره الوجودي وتغيّره وتبدّله وتعلّقه وكونه مخلوقاً، ويحسّ بأنّه قائم بغيره، وهكذا يتوصّل الإنسان ـ بمعونة العقل الفطري ـ إلى المعرفة العقليّة بالله تعالى.

وقد بيّنا في موضع آخر فوارق هذا الموقف الفكري عن موقف الفلاسفة اليونانيين بشكل مفصّل([72])، ونتناول الآن دور العقل البشري والاصطلاحي في هذا المجال.

يمكننا ـ كما أشرنا سالفاً ـ ملاحظة مدركات العقل الفطري من زاوية العقل البشري؛ ويكون الخطأ والاختلاف في هذه الحالة محتملين، ويبدو أنّ النظرة الدينية تحتّم تبعية العقل البشري للعقل الفطري وللوحي أيضاً، وتوجب حركته بهدى من هاتين الحجتين الإلهيتين، وعليه بإمكاننا تفسير الاحتجاج والجدال بالتي هي أحسن، وعلى حدّ التعبير المعاصر، الدفاع العقلاني عن الدين، على هذا الأساس أيضاً([73]).

إنّ من يرفض الدفاع العقلاني عن الدين، يجب أن يلتفت إلى ما يستلزمه نفيه هذا؛ لأنه:

أولاً: أمر القرآن والأحاديث صراحةً بالجدال بالتي هي أحسن، ومحاججة المخالفين، كما وضعت شروط لهذا الأمر([74]).

ثانياً: إذا ما نفينا البحث العقلاني بشكل كامل، فما الذي نفعله قبال من يدّعي ـ بدوافع مختلفة ـ أنّ الدين ومعارفه غير عقلانيين ومستحيلين؟ هل نلتزم الصمت، أم نصرخ كـ bأوغسطينv([75]) وbأنسلمv([76]): bيجب أن تؤمن حتى تفهمv([77])، بينما المفترض أن يفهم الإنسان أولاً حتى يؤمن فيما بعد، وإن كان ذلك الفهم قلبياً وأبعد من الإدراك العقلي، لكن على أيّ حال، الحقيقة القلبية لا يمكنها أن تكون مخالفةً لصريح العقل؛ بحيث يعتبرها العقل مستحيلاً، إذاً علينا الردّ على الأسئلة والشبهات التي ترد على المعارف الدينية؛ فإذا لم نستطع إثباتها، علينا تبيين إمكانها ومعقوليّتها على أقلّ تقدير، وهذا من أهم الواجبات الستّة للمتكلّم الديني([78]).

وبناءً على ذلك، يغدو العقل الفطري الإلهي أساساً للدين، يوصل الإنسان إليه، ويريه ثبوت حقانيته، كما يتكفّل العقل البشري إثباتاً ـ من ناحية أخرى ـ مهمةَ الدفاع العقلاني عن الدين، ويردّ الاشكالات الواردة عليه، اعتماداً على العقل الفطري والتعاليم الوحيانية، فالخلاف ـ إذاً ـ كامنٌ في الموارد التي لا يتمكّن العقل فيها من الحكم بصورة قطعية، ويرد احتمال الخطأ في مدركاته فيها.

من ناحية عملية، نرى أيضاً اختلافاً كبيراً بين العلماء في هذه الأمور، ومحلّ النزاع هو: هل أنّ مدركات العقل المصطلح حجّة أم لا؟ ومن ثمّ إذا تعارضت استنتاجات العقل والوحي، فبأيّهما نأخذ؟

ما لا يجب إغفاله أنّ كثيراً من الفلاسفة اعترفوا ـ بشكل من الأشكال ـ بعجز العقل عن معرفة حقائق الأشياء جميعها، لذا فتحوا المجال للكشف والشهود أو الوحي، ومن أهمّ هؤلاء: ابن سينا، وشيخ الإشراق، وصدر المتألهين، الذين أسّسوا الفلسفة المشائيّة والإشراقيّة والحكمة المتعالية في الحضارة الإسلامية.

يعتقد ابن سينا بخروج الوقوف على الحقائق عن قدرة البشر، ويقول: نحن لسنا عاجزين عن معرفة حقيقة الرب والنفس والعقل فحسب، بل عاجزون حتى عن معرفة حقيقة الماء والتراب والهواء، ويمكننا ـ فقط ـ معرفة خواصّها وأعراضها([79])، وكذلك شيخ الإشراق، إذ بعد بيان هذا الأمر والاستدلال على استحالة تعريف الأشياء بصورة تامة بالجنس والفصل، يقول: إنّ مصدر الفلسفة الأساسي هو السوانح النوريّة([80])، ويتحدّث صدرالدين الشيرازي عن معارف لم يتوصّل إليها بالبرهان، بل بالرياضات الدينية وإشراق الأنوار الملكوتية، مصرّحاً بأنّ الحقيقة أوسع من العقل([81]).

تعارض العقل الفطري والنقل القطعي  ـــــــ

لا يمكن للعقل الفطري أن يتعارض مع النقل القطعي؛ فما يتوصّل إليه العقل الفطري بصورة مستقلّة محدود، إمّا لا يتطرّق له الدين، وإمّا إذا تطرّق له فلا يتعدّى حدود الإرشاد لحكم العقل وتأييده، كما أنّ الإدراك غير المستقل للعقل الفطري، ليس في الحقيقة سوى فهم الحكم الشرعي نفسه، فلا يقع في عرضه حتى يعارضه.

إذن، لا موضوع للتعارض هنا، حتى نبحث عن طريقة لرفعه، كما لا نرى عملياً تعارضاً كهذا، وعلى فرض وجود تعارض بين العقل الفطري والنقل، فإننا نرفض المنقول؛ لأنّ أساسه العقلُ الفطري، فإذا أضعفنا الأساس، انهار البناء كلّه.

تعارض العقل المصطلح والنقل القطعي  ـــــــ

يتعارض العقل المصطلح مع النقل القطعي، إمّا في الأحكام الشرعية أو في المعارف النظرية، ويبدو أنّ لا اختلاف في التراث الإسلامي ـ لا سيما الشيعي ـ في تقدّم النقل في المورد الأول، حيث تعدّ هذه الأمور من الغيبيات التي لا حجّة لمدركات العقل فيها، وغايته أن يستطيع العقل استنباط لوازم البيانات الشرعية بصورة غير مباشرة، علماً بأنّ هذا التعارض إنما حدث في التراث الفلسفي الغربي؛ لأنّهم يجيزون التشريع للعقل البشري، ويتدخلون في تفاصيل الأحكام العملية.

وثمّة رأيان ـ بصورة عامة ـ في المعارف الاعتقاديّة؛ فالرأي الغالب لدى الفلاسفة هو أنّ للعقل التدخل في المسائل النظرية الشائكة، وبإمكانه التنظير بصورة مستقلّة لمعرفة العالم وتحليله، ويلتزم كثير من الفلاسفة المسلمين بالعقل الفلسفي في مقام الإثبات والحكم، وإن استعانوا بالوحي في مقام الثبوت، وإذا لم يتمكّنوا من تقديم برهان فلسفي على مؤدّى الوحي، أوّلوه، كما أنّ نسبة استخدام الوحي مختلفة لديهم، والحقيقة أنّ طريقة تعامل الفلاسفة الإلهيين مع الوحي متفاوتة:

فمنهم من يعتبر الفلسفة والفيلسوف أعلى من الوحي وعالم الدين، كالفارابي وابن رشد([82])؛ ولهذا يتصوّرون الفيلسوف غير محتاج إلى الوحي والدين([83])، لكننا لا نرى مثل هذه الآراء بين المتأخرين.

ومنهم فريق آخر كتوما الأكويني([84]) يرى الكلام فوق الفلسفة([85]).

وعلى أيّ حال، تميّز هذه الجماعة بين الأمور العملية والنظرية؛ وتمنع تدخّل العقل في مجال العمل والأحكام العملية، وتعتبرها من الغيبيّات، أمّا في الأمور النظرية والاعتقادية، فتفسح المجال لتدخل العقل المصطلح، مع ملاحظة أنّ بعض الفلاسفة يعتقد بعدم مقدرة العقل على البتّ في بعض الأمور الخاصة؛ كالمعاد الجسماني في رأي ابن سينا، فيما يتدخل قسم آخر كصدرالدين الشيرازي في هذه الأمور أيضاً، ويتكلّم عن المعاد الجسماني مفصّلاً، ويستنتج أنّ المراد من الجسم ليس الجسم المادّي، بل الصورة البرزخية من الجسم التي توجدها النفس([86]).

أشرنا إلى اعتراف الفلاسفة المسلمين، بشكل عام، بعجز العقل عن معرفة الحقائق، وفي قبالهم الرأي العام للمتكلّمين والفقهاء الشيعة يقضي بأنّ العقل يسير تحت هدى الوحي بعدما أوصلنا إليه، ولا يخطو مستقلاً عنه لا في الأمور الاعتقادية ولا في الأمور العملية.

ويعتقد هؤلاء أنّ الأحكام المولويّة العملية، والأمور الاعتقادية المعقّدة ـ التي لا يتمكّن العقل الفطري من الحكم عليها ـ تقع ضمن نطاق الغيبيّات([87])، والوحي وحده من يمكنه الحكم فيها، وإن كان العقل مُخاطَباً للشرع، ويؤدّي هذا المعتقد بهم إلى شلّ حركة التنظير الفلسفي، إلا إذا كانت جميع عناصر المنظومة الفكرية مستقاةً من الوحي، وفي هذه الحالة أيضاً لا يتعدّى العقل دائرة الاستنباط والتبيين والتجميع والدفاع.

بناءً على ذلك، تبيين هذا الصنف من المعارف الاعتقادية يكون أحد الأهداف وراء إرسال الرسل، ولا يجوز اعتبار الهدف من ذلك، بيان الأحكام العملية فقط، ولا ننسى أنّ العرفاء يعتبرون العقل الفلسفي غير مجدٍ أيضاً، وإن كان بعضهم اشترط في صحّة الكشف والمشاهدة، مطابقتها للعقل([88])، لكنّ ذلك محلّ تأمّل.

وفي ختام البحث عن التعارض بين الدليل العقلي المصطلح والنقلي القطعي، يجدر بنا الالتفات إلى أمرين مهمين:

الأول: لا يتحقق القطع النوعي في الموارد النظرية المعقدة في الغالب، ففي مثل هذه الأمور تكون الآراء عادةً بعدد المفكرين والفلاسفة، ولو حصل قطع فيها، يكون شخصياً، وهو خارج عن موضوع بحث التعارض، إذاً ينتفي في مثل هذه الأمور وجود التعارض في مقام الحكم، لا في مقام القطع، ويبقى الكلام عن جواز تدخل العقل في هذا المجال، أو عدمه، فإذا كان الجواب سلبياً، فلا حجية للقطع الشخصي هنا، فمقدّماته مرفوضة وإن كان القطع حجّة، وعلى الآخرين القدح في مقدماته لإزالة القطع عن القاطع.

الثاني: حتى لو تحقّق هذا التعارض، يبقى التعارض بين العقل الاصطلاحي والعقل الفطري،وإنّما وجبت تبعية النقل القطعي بإلزام من العقل الفطري، إذاً العقل المصطلح يتعارض مع دليل الشرع والمنقول، لا مع الشرع نفسه؛ فكلّ ما بالعرض يعود إلى ما بالذات([89]).

قد يبدو أنّ العقل الفلسفي ينطلق من البديهيات الفطرية أيضاً، ويرجع بالنظريات إلى أصل امتناع التناقض؛ إذاً يمكننا القول بأنّ برهان العقل الفلسفي هو العقل الفطري، وحينئذ يصبح التعارض داخل العقل الفطري نفسه، لكن يبدو أنّ هذا الكلام غير صائب؛ والدليل على ذلك:

1 ـ لا يستخدم أصل امتناع التناقض عادةً كصغرى القياس أو كبراه، بل هو أصل صوري منطقي، وضامن لصحّة الاستدلال([90]).

2 ـ نحتاج إلى مقدمات أخرى في المسائل المعقّدة، حتى لو استخدمناه كمقدمة للوصول إلى نتيجة في المسار العقلاني.

3 ـ قد يرد خطأ ما في الحركة من المقدّمات إلى النتائج، حتى لو كانت جميع المقدمات فطريةً، فهذه الحركة فلسفيةٌ وفكرية، لا فطرية.

الخلاصة والنتيجة ـــــــ

وأخيراً، إنّ العقل والوحي نوران لا يستغنيان عن بعضهما، وكلّ الكلام كان حول كيفية الاستفادة منهما، والإطار العام المقبول لدينا هو أنّ الإنسان يتوصّل إلى نور الوحي بهداية من العقل الفطري، ومن ثمّ يتبع العقل ـ بكلا معنييه ـ الوحي؛ فالوحي يخاطب العقل الذي يفهمه ويستنبط لوازمه.

من جهة أخرى، يدافع العقل بكلّ ما أوتي من قوّةٍ عن الوحي، ويبيّن معقوليّته على أقلّ تقدير، وينفي استحالة المعارف الدينية، إذاً لا يتعارض العقل مع الوحي، فبعد تعرّفه عليه لا يخطو مستقلاً في المسائل المعقّدة والفكرية؛ لهذا لا نرى في التراث الديني أيّ كلام عن هذا التعارض، والكلام فقط عن صواب إدراكات العقل أو عدم صوابها.

*    *     *

الهوامش



(*)  عضو الهيئة العلمية لمركز دراسات الثقافة والفكر الإسلامي في طهران، حائز على دكتوراه في الفلسفة، ومناصر معروف للمدرسة التفكيكية.



[1] ــــ لملاحظة التعاريف التي ذكرناها راجع: مجلّة نقد ونظر، العدد الثاني: 10، 15، 16، 31، 197.

[2] ــــ أبو نصر محمد الفارابي (950م)، فيلسوف وعالم ولد في فاراب، وتوفي في دمشق.

[3] ــــ أبو علي ابن سينا (980 ـ 1037م)، فيلسوف وطبيب ولد في أوزبكستان، وتوفي في همذان.

[4] ــــ رينيه ديكارت (Rene Des Carte) (1596 ـ 1650م)، فيلسوف ولد في لاهاي، وتوفي في استكهولم.

[5] ــــ نقد ونظر، العدد الثاني: 23.

[6] ــــ استفدنا في هذا المقال، وفي بحث تعارض العقل والوحي على التحديد، من مقدمة كتاب توحيد الإمامية القيّم، لمفسّر القرآن وأستاذ المعارف التوحيدية آية الله محمد باقر الملكي الميانجي، كما استفدنا من إمكانات مؤسّسة دارالحديث، ونستغل الفرصة هنا لشكر مسؤوليها المحترمين.

[7] ــــ راجع: الجوهري، الصحاح 5: 1769؛ الفيّومي، المصباح المنير: 422، 423؛ فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللغة 4: 69.

[8] ــــ معجم مقاييس اللغة 4: 69.

[9] ــــ الراغب الإصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن: 577.

[10] ــــ معجم مقاييس اللغة 4: 69.

[11] ــــ الجرجاني، التعريفات: 65.

[12] ــــ راجع: آل عمران: 118؛ المؤمنون: 80؛ النور: 61؛ الحديد: 17؛ البقرة: 164؛ الرعد: 4؛ النمل: 12 و67؛ الروم: 24 و28؛ و..

[13] ــــ راجع: الأنبياء: 67؛ البقرة: 170، 171؛ المائدة: 58؛ الأنفال: 22؛ كذلك راجع: تحف العقول: 44؛ كنـز الفوائد 2: 31؛ الفردوس 2: 150 و3: 217.

[14] ــــ توحيد الصدوق، تصحيح السيد هاشم الحسيني الطهراني: 40.

[15] ــــ نهج البلاغة، الخطبة: 186؛ ولمطالعة الموضوع مفصّلاً راجع: رضا برنجكار، معرفت فطرى خدا (معرفة الله الفطرية)، طهران، مؤسسة نبأ، 1374هـ. ش، القسم الأول.

[16] ــــ الكافي، تصحيح علي أكبر الغفاري 1: 29.

[17] ــــ نهج البلاغة، الحكمة: 421؛ غرر الحكم، ح7078؛ كنـز الفوائد 2: 31.

[18] ــــ تحف العقول: 15.

[19] ــــ الكافي 1: 28.

[20] ــــ غرر الحكم، ح1959 و816.

[21] ــــ الكافي 1: 25؛ علل الشرايع: 103.

[22] ــــ إضافةً للموارد المذكورة راجع: الكافي 1: 14، 21؛ تنبيه الخواطر 2: 14؛ غرر الحكم، ح1736.

[23] ــــ في اللغة والمصادر الإسلامية شواهد كثيرة على هذا الموضوع، لكنّ المقام لا يسع لتناولها، وقد صرّح بهذا الأمر الراغب في مفرداته تحت كلمة العلم والحكمة، وكذلك العلامة الطباطبائي في الميزان 2: 248.

[24] ــــ الكافي 1: 25.

[25] ــــ إرشاد القلوب: 205.

[26] ــــ الخصال 2: 633، الحديث 400.

[27] ــــ الكافي 1: 18؛ غرر الحكم، ح1737، 6393، 7340.

[28] ــــ الكافي 1: 11.

[29] ــــ تحف العقول: 28.

[30] ــــ إرشاد القلوب 1: 199؛ غرر الحكم، ح1280.

[31] ــــ الكافي 8: 241.

[32] ــــ أعلام الدين: 127.

[33] ــــ تحف العقول: 323؛ غرر الحكم، ح4776، 7091، 9416، 10961.

[34] ــــ نهج البلاغة، الحكمة 235؛ كنـز الفوائد 1: 200.

[35] ــــ الكافي 1: 3، 11؛ وحول آثار العقل، راجع: جنود العقل والجهل في الكافي 1: 21.

[36] ــــ الكافي 1: 29.

[37] ــــ راجع: إرشاد القلوب 1: 205.

[38] ــــ تحف العقول: 396.

[39] ــــ إرشاد القلوب 1: 198؛ ربيع الأبرار 3: 137؛ كذلك راجع: عوالي اللئالي 1: 244، 248.

[40] ــــ علل الشرائع: 98.

[41] ــــ راجع: الكافي 1: 10، 21، 26، 28؛ الخصال 2: 427؛ معاني الأخبار: 313؛ روضة الواعظين: 7؛ الاختصاص: 2440؛ عوالي اللئالي 1: 248؛ الفقيه 4: 267؛ المحاسن: 192؛ حلية الأولياء 7: 318؛ تأريخ بغداد 13: 40.

[42] ــــ علل الشرائع: 107.

[43] ــــ الكافي 1: 10؛ إرشاد القلوب: 198.

[44] ــــ بحار الأنوار 93: 41.

[45] ــــ الكافي 1: 163؛ تفسير القمّي 2: 424؛ بحار الأنوار 24: 72.

[46] ــــ لملاحظة تفسير الآية مفصلاً، راجع: توحيد الإمامية: 22 ـ 25.

[47] ــــ توحيد الإمامية: 23.

[48] ــــ الكافي 6: 46؛ الجعفريات: 213.

[49] ــــ من لا يحضره الفقيه 3: 319.

[50] ــــ الاختصاص: 244؛ وحول اكتمال العقل، راجع: غرر الحكم، ح4169؛ كنـز الفوائد 1: 200.

[51] ــــ الكافي 1: 16، 24؛ تحف العقول: 44؛ كنـز العمال، ح7055؛ ربيع الأبرار 3: 137؛ حلية الأولياء 1: 362؛ تاريخ بغداد 8: 360.

[52] ــــ المحاسن 1: 308، 608؛ الكافي 1: 11، 12، 26؛ معاني الأخبار 1: 2؛ إرشاد القلوب 1: 199؛ الجعفريات: 148.

[53] ــــ بحارالأنوار 1: 97.

[54] ــــ الكافي 1: 13، 16، 25؛ تحف العقول: 283، 285، 331.

[55] ــــ الكافي 1: 29.

[56] ــــ الكافي 1: 23؛ تحف العقول: 330؛ كنـز الفوائد 1: 56؛ إرشاد القلوب 1: 198؛ جامع الأحاديث: 101؛ غرر الحكم، ح227، 3545؛ شعب الإيمان 5: 388، 7040؛ الفردوس 3: 155، ح4419.

[57] ــــ الكافي 1: 12؛ إرشاد القلوب 1: 99؛ تحف العقول: 293؛ كنـز العمال، ح7053.

[58] ــــ بحارالأنوار 60: 299.

[59] ــــ مطالب السؤال: 49؛ المفردات: 577.

[60] ــــ تاريخ اليعقوبي 2: 98؛ الفردوس 5: 325.

[61] ــــ لكثرة الأحاديث، نذكر مصدراً واحداً لكل مورد: تحف العقول: 364؛ الكافي 1: 20؛ أعلام الدين: 298.

[62] ــــ لنفس السبب أعلاه، راجع حسب الترتيب: نهج البلاغة، الكتاب 3؛ نهج البلاغة، الحكمة 212 و219؛ كنـز الفوائد 1: 199؛ نهج البلاغة، الحكمة: 252.

[63] ــــ أقام صدر الدين الشيرازي اثني عشر دليلاً على هذا الموضوع، والقاعدتان اللتان ذكرناهما هما الدليلان الثاني والثالث، راجع: الأسفار 7: 263.

[64] ــــ شهاب الدين السهروردي (1191م)، فيلسوف إشراقي كبير، شافعيّ المذهب، ولد في سهرورد وقتل في حلب بتهمة الإلحاد.

[65] ــــ يعتقد صدرالدين الشيرازي أنه لا يتّضح من كلام شيخ الإشراق أنّ العقول العرضية قبال الأنواع أو قبال أفراد النوع الواحد، راجع: الأسفار 2: 62، الإشكال الأول.

[66] ــــ راجع: مجموعة تأليفات شيخ إشراق، تصحيح: هنري كوربان 2: 139، 154 فما بعد (كتاب حكمة الإشراق).

[67] ــــ صدر الدين الشيرازي (1571 ـ 1640م)، متكلّم وفيلسوف شيعي، ولد في شيراز، وتوفي في البصرة.

[68] ــــ راجع: الأسفار 1: 307 و2: 46 فما بعد، و8: 332.

[69] ــــ راجع: العلامة الحلي، كشف المراد، تصحيح: آية الله حسن زاده آملي: 234، 235؛ صدر الدين الشيرازي، المبدأ والمعاد: 258؛ العلامة الطباطبائي، نهاية الحكمة: 248.

[70] ــــ يجب أن نقرّ بأنّه من الصعب إعطاء ضابط دقيق للتمييز بين هذه المدركات وتعيين مصاديقها، ويبدو أنّ الناس أنفسهم، لو تركوا تحفظاتهم، لاستطاعوا التمييز بين هذه المدركات بصورة وجدانية؛ أي حسب التعبير المنقول عن الرسول 2: b..استفت نفسك..v. راجع: مسند ابن حنبل 4: 228، وقريب منه في الإسناد: 322.

[71] ــــ نهج البلاغة، الخطبة الأولى.

[72] ــــ راجع: رضا برنجكار، مبانى خدا شناسى در فلسفه يونان واديان الهى (أسس معرفة الله في الفلسفة اليونانية والأديان الإلهية)؛ كذلك الفصل الأول من كتاب معرفت فطرى خدا (معرفة الله الفطرية).

[73] ــــ راجع: المصدرين أعلاه، بحث الاحتجاج والصفحات الأخيرة من كتاب معرفت فطرى خدا (معرفة الله الفطرية).

[74] ــــ راجع: النحل: 125؛ معرفت فطرى خدا، بحث الاحتجاج.

[75] ــــ Augustine أوغسطين القدّيس (354 ـ 430م)، ولد بطاجسطا (في الجزائر) لأب وثني وأم مسيحيّة، وتوفي في إيبونا.

[76] ــــ Anselm، القديس أنسلم (1033 ـ 1109م) رئيس أساقفة كنتربري.

[77] ــــ راجع: اثين جيلسون، عقل ووحى در قرون وسطى (العقل والوحي في القرون الوسطى)، ترجمه للفارسية: شهرام بازوكي، طهران، مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرهنكى: 10.

[78] ــــ راجع: كيهان انديشه (عالم الفكر)، العدد 60: 150.

[79] ــــ راجع: ابن سينا، حدود يا تعريفات (الحدود أو التعاريف)، ترجمه للفارسية: مهدي فولادوند، طهران، نشر سروش، 1366هـ. ش: 17؛ التعليقات، تصحيح: عبد الرحمن بدوي، مكتب الإعلام الإسلامي: 34.

[80] ــــ مجموعة مصنفات شيخ الإشراق 2: 12، 13.

[81] ــــ مقدمة الأسفار، منشورات مصطفوي 1: 8 ـ10.

[82] ــــ أبو الوليد محمد بن رشد (1126 ـ 1198م)، فيلسوف وطبيب وفقيه، ولد بقرطبة ومات في المغرب.

[83] ــــ راجع: الفارابي، فصول منتزعة، تحقيق: فوزي متري نجار، طهران: انتشارات الزهراء، 1405هـ: 98، مسألة تقديم الفيلسوف على النبيّ كتقديم عالم الطبيعيّات على الكاهن: 65، مسألة تقديم الفيلسوف على العالم الديني؛ وكتاب المدينة الفاضلة، بيروت: دار المشرق: 125؛ ابن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، تصحيح مصطفى عبد الجواد عمران، مصر، المكتبة التجارية، 1388هـ: 31، 32، مسألة تشبيه الطبيب وص 16.

[84] ــــ Tohma D’Aquin,saint القديس توما الأكويني (ح 1224 ـ 1274م)، فيلسوف ولاهوتي إيطالي.

[85] ــــ جيلسون، روح فلسفه قرون وسطى: 11.

[86] ــــ صدرالدين الشيرازي، المبدأ والمعاد، تصحيح جلال الدين الآشتياني: 373 فما بعد؛ خاصة الصفحات 382 ـ 384، 390، 395.

[87] ــــ حول الغيب وتفسير آياته، راجع: توحيد الإمامية: 41 ـ 44.

[88] ــــ راجع: آخر صفحات من تمهيد القواعد.

[89] ــــ راجع: توحيد الإمامية: 40، 41.

[90] ــــ راجع: بول فولكيه، ما بعد الطبيعة، ترجمه للفارسية: يحيى مهدوي: 85، 87.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً