أحدث المقالات

حيدر حب الله([1])

 

الفكر الإسلامي المعاصر بين سؤال النهضة والهويّة

سؤال النهضة هو السؤال الذي شغل المفكّرين المسلمين منذ أواسط القرن التاسع عشر الميلادي، ليدفعهم للتفكير في النهوض بالأمّة الإسلامية بعد تراجعها المرّ على المستويات الحضارية والفكرية وغيرها.

أما سؤال الهوية، فهو السؤال الذي عاد إلى الواجهة وبقوّة منذ الستينيات والسبعينيات ليبدي لنا الأمة مأزومةً قلقة في وضع لا تحسد عليه.

في سؤال النهضة أمارس النقد للذات، أمارس التفتيش عن أسباب التراجع والتقهقر، أمارس الطروحات الجديدة غير المكرورة؛ لأن المكرورة لو كانت مفيدةً اليوم بوضعها الحالي لما كنّا على الحال التي نحن عليها.

أما في سؤال الهوية، فأنا أخاف على نفسي، وأنتقد غيري الذي أحمّله مسؤولية ما يحصل في الواقع الإسلامي الكبير.

السيد الشهيد محمّد باقر الصدر (1400هـ) جاءت أعماله كلّها للجواب عن هذين السؤالين؛ فقسم من أعماله يمكننا أن نحسبه على سؤال النهضة، أي هو محاولات نقدية في الداخل الإسلامي ووضع حلول للمشاكل الموجودة في تفكيرنا، وفي واقعنا في حياتنا الاجتماعية والسياسية، وفي رؤانا وقراءتنا. أما القسم الآخر من جهوده ومحاولاته فكان بهدف الحفاظ على الهوية والدفاع عنها أمام المخاطر القادمة من الخارج.

ولكي نصف أعمال السيد الصدر، نجده في بعض أعماله منشغلاً بهمّ الهوية، وفي بعضها الآخر منكباً على همّ النهضة وقيامة الأمة الإسلامية، وأكبر مشكلة يعاني منها المفكّر المسلم تكمن في قدرته على التوفيق بين همّ الهوية وهمّ النهضة، لماذا؟

لأنه في همّ النهضة يغلب علينا نقد ذواتنا وتحميل أنفسنا المسؤولية، فنردّد دوماً: نحن تخلّفنا، نحن تراجعنا، نحن نعاني من خطأ ما في تفكيرنا وفي عقلنا الجمعي. أما في همّ الهوية فنتّجه إلى الخارج، أنا أدافع، أضع مربّعاً وأضع هويتي داخل هذا المربع، هويتي الحضارية والإسلامية والمذهبية، أو على تيارات أُخرى هويتي القومية وغير ذلك. أنا أقف داخل المربّع وعلى أطرافه وأقوم بالاشتباك مع الأحداث التي تقع.

هنا يكمن السؤال التالي: كيف يستطيع المفكّر المسلم من جهة أن ينتقد واقعه الداخلي وينتقد نفسه ويملك جرأة ذلك ويحلّ هذه المشكلات الموجودة، وفي الوقت عينه يدافع عن هذا الواقع أمام الآخرين، أمام الغرباء، أمام الغزو الثقافي، أمام العولمة، أمام المشكلات التي تأتيه من خارج المناخ الجغرافي والاجتماعي الذي يعيشه. إنّ قدرة المفكّر المسلم على التوازن هنا هي عنصر النجاح في هذا الموضوع؛ فنحن وجدنا أشخاصاً أفرطوا في انتقاد واقعهم الداخلي حتى ذهبوا إلى الاتجاهات الغربية، وصاروا يتنكّرون لمجتمعهم الإسلامي من شدّة إفراطهم في نقد هذا الواقع، لقد صاروا غرباء عن واقعهم، وصار طابعهم العام انتقاد الحالة الإسلامية والعربية والقومية والاجتماعية الموجودة في داخلنا، وتنزيه الآخر عن أيّ مشكل.

من جهة أُخرى، نجد بعضنا ينزّه نفسه عن أيّ معضل ويحيل مشاكلنا الداخلية على الخارج، فكل مشاكلنا عنده هي من الغرب، أما نحن فلا نعاني من أيّة مشكلة، ومن ثم لا يجب علينا إعادة النظر في أيّ شيء من قضايانا الداخلية: الفكرية والاجتماعية والثقافية وغيرها.

إنّ القدرة على الجمع بين هذين الهمّين هو عنصر نجاح المفكّر المسلم، وأعتقد أن السيد محمّد باقر الصدر نجح في الجمع المذكور إلى حدّ جيد، فلم يفرط في الدفاع، ولا استغرق في النقد، بل جمع بينهما واستطاع أن يحلّ بعض المشكلات الموجودة ضمن وضعنا الداخلي، وبعض الإشكاليات الموجودة على مستوى الدفاع عن هذا الوضع.

ولكي أفهرس أبرز معالم النهضة والهوية عند السيد الشهيد الصدر على مستوى هذين الخطّين، أستطيع أن أذكر سبع خصائص فكرية تتميز بها مدرسته، قسم من هذه الخصائص يعود إلى الجواب عن سؤال النهضة، وقسم آخر منها يعود إلى الجواب عن سؤال الهوية، قسم منه نقدي، وقسم آخر منه دفاعي.

1ــ البُعد المنهجي، إعادة تكوين منهاجيات التفكير

البُعد المنهجي أو منهاجية التفكير، قضية خضعت لتطوّر فكري في حياة السيد الصدر، فقد اعتقد الصدر أن طريقة تفكيرنا في معالجة الأُمور تعاني من مشكلة المنهج الفكري نفسه، وعلينا أن نصلح هذه المشكلة ونسدّ هذه الثغرة، السيد الصدر لم يقل: إنّ هذا المنهج الفكري الذي نحمله خاطئ بأكمله، إلا أنه اعتقد بأنّ فيه بعض الثغرات الخاطئة وعلينا أن نسدّها، لقد اعتقد أنّ المنطق الأرسطي لا يستطيع أن يجيب عن كلّ مشاكلنا اليوم، وربما إعمال المنطق الأرسطي في الدراسات الإنسانية وفي العلوم الاجتماعية يصيب هذه العلوم نفسها ببعض المشاكل، لقد اعتقد الصدر بأن المنطق الأرسطي أو الفلسفة العقلية الصرفة غير قادرة على أن تحفظ لنا هويتنا، وغير قادرة على أن تسدّ الثغرات الموجودة في واقعنا؛ فاتجه لإعادة النظر في المنهج الفكري الذي نتّبعه، فلم يعارض المنطق الأرسطي ـ خلافاً لما يتصوّره بعضنا من أنه ضدّ المنطق الأرسطي، فهذا الكلام غير صحيح ـ وإنما اعتقد بأنّ بالإمكان أن نؤسّس مزدوجاً منطقياً، أي أن نستفيد من أكثر من منهج منطقي في دراستنا الإسلامية، وأن لا نبقي هذه الدراسات حكراً على منهج منطقي واحد، فإذا نوّعنا المناهج المنطقية ومناهج التفكير في الدراسات الإسلامية والدينية فإنّنا سوف نحصل على ثروة إضافية، وستتراكم أمامنا المزيد من المعلومات والمكتشفات؛ من هنا، اتجه الشهيد الصدر إلى البحث عن منطق الاستقراء وحساب الاحتمال، للكشف عن آليات جديدة لدراسة علومنا الإسلامية.

لا أريد هنا أن أبحث في كلّ نظرية من نظرياته؛ لكن باختصار نشير إلى أنّ الصدر طبّق منطق الاحتمال ومنهم الاستقراء في علم الكلام في كتاب «موجز أُصول الدين»، وكذلك في الاستدلال على وجود الله تبارك وتعالى كما سوف نرى، وطبّقه أيضاً في أُصول الفقه؛ في الإجماع والشهرة، كما نشّطه في علم الرجال والحديث لدى دراسته شخصية بعض الرواة الذين قيل بأنهم لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة. لقد استخدم الصدر منطقاً جديداً فقدّم لنا ثراءً جديداً في نظامنا المعرفي، فلم يقل بأنّ المنطق الأرسطي غير قادر على أن يقدّم لنا الخيرات في المجال الفكري، لكنّه اعتقد أنّ بإمكاننا أن ننوّع مناهجنا المنطقية؛ فأيّ مشكلة في أن يكون عندنا أكثر من منهج منطقي؟! أيّ مشكلة في أن تستفيد دراستنا الإسلامية من أكثر من عُدّة معرفيّة؟! لا توجد مشكلة إطلاقاً، بل تجربة السيد الصدر أثبتت أنّ بإمكاننا خدمة الدين وسدّ الكثير من الثغرات عبر هذا التنوّع المنهجي.

إذن، أوّل قضية عالجها السيد الشهيد هي قضية المنهج الفكري وأسلوب التفكير الذي نستخدمه، كان يريد الجواب عن السؤال التالي: أيّ أسلوب يفترض أن نستخدم في حلّ مشكلاتنا الفكرية التي نعاني منها؟ هل هناك ضرورة أن نحصر أنفسنا داخل مربّع منطقي واحد أم بالإمكان أن ننفتح على مدارس منطقية جديدة، وأن نتحرّر من أن نكون محكومين لمنطق واحد، ومن ثم نثري فكرنا الديني ونثري معلوماتنا الإسلامية؟!

لقد اعتقد الصدر ما كان يراه محمّد إقبال ـ وبالمناسبة موضوع المنطق الاحتمالي الاستقرائي كان قد أشار إليه من قبلُ محمّد إقبال في كتابه «تجديد الفكر الديني» طبعاً مع فارق بسيط، وهو أن إقبال كان يحمّل المنطق الأرسطي مسؤولية تخلّفنا وهذا ما لا نراه عند السيد الصدر في حدود اطّلاعي ـ من ضرورة الانفتاح على مناهج المنطق الاستقرائي.

هذا المعلم والخاصّية في فكر السيد الصدر تحاول أن تجيب عن بعض أسئلة النهضة، وفي الوقت نفسه تخدم قضايانا الدينية الداخلية.

2ــ الكلّيانية والتعالي النظري

الكلّيانية والنظرانية ـ إذا جاز التعبير ـ سمة أخرى من سمات التفكير عند الصدر؛ فنحن نرى أنّ الصدر انتقد في دراساته ما سمّاه بالفقه الفردي الانكماشي، فالفقيه اليوم ـ مثلاً ـ في الاتجاهات الفقهية المدرسية يعالج المسألة الجزئية الفلانية، ويعالج المسألة الجزئية الثانية، والثالثة والرابعة، فهو دائماً محكوم بمسألة تلو مسألة، ينتقل من واحدة إلى أُخرى، كذاك الذي ينتقل من جزيرة إلى جزيرة عبر جسر، ولا ينتقل من جزيرة إلى أخرى عبر الطائرة؛ لهذا فهو لا يطلّ على المشهد من الأعلى؛ ليرى كلّ هذه الجزر والجسور، بل يتحرّك من جزيرة إلى أُخرى، فينتهي من مسألة ليبدأ بأختها، فهو ينظر وهو على الأرض، وهذا هو الفقه التجزيئي الفردي الذي عبّر عنه السيد الصدر بالفقه الانكماشي.

لقد لاحظ الصدر أنّ الأمة الإسلامية في زمنه ليست بحاجة ـ فقط ـ إلى حلّ القضايا الجزئية التفصيلية، بل بحاجة أيضاً إلى تكوين نظريات، أي يجب أن يتحوّل عقلُنا من عقل تجزيئي يلاحظ القضايا الفكرية التفصيلية إلى عقل متعالٍ مشرف من الأعلى، كما يقول جلال الدين الرومي في شعره:

عندما تجد همّاً احتضنه بعشق

وانظر من أعلى الربوة إلى دمشق([2])

أي لا تنظر إلى دمشق وأنت على بابها، فربما لا تجد شيئاً يعجبك، وربما لا يكون المنظر خلّاباً، لكن اصعد إلى التلّ وإلى الربوة وانظر إلى دمشق منها فستجدها مدينةً جميلة.

أراد السيد الشهيد أن يخرجنا والفكر الإسلامي من مأزق التجزيئية، من مأزق التنقّل من مفردة إلى مفردة، وعدم القدرة على إيجاد حلول كبرى، والعجز عن ابتكار نظريات عظمى قادرة على النهوض بالمجتمع وتحريكه، فقد تكون هناك جزيئيات صغيرة يمكن حلّها، لكننا لا نستطيع أن ننظم حزمة الآلاف من هذه الجزيئيات الصغيرة التي تتحرك ضمن هذا المربع أو تلك الدائرة، لهذا نكونبحاجة للانتقال بالعقل المسلم من مرحلة التفكير التجزيئي الفردي الصغير ـ وهي مرحلة مشكورة وضرورية كما يقول السيد الشهيد، ولا غنى عنها بوصفها مرحلةً أولى ـ إلى مرحلة العقل المشرف المتعالي على كلّ التفاصيل الجزئية الصغيرة، ليكوّن منها صورةً ورسماً كاملاً، أي من مرحلة لملمة أجزاء الفسيفساء إلى مرحلة تكوين الصورة من خلالها.

هذا هو الذي دفع السيد الصدر إلى أن يفكّر بالفقه المجتمعي وبفقه النظرية، لقد لاحظ أنني ربما أبقى أدرس كتاب المكاسب وأبحاثه عشر سنوات أو عشرين سنة، وأدرّسها وأبحثها وأجتهد فيها، لكن مع ذلك قد لا أقدر على أن أقدّم فقه نظرية اقتصادية؛ لأن القضية ليست فقط في أن تجتهد في الجزئيات، وإنما أن تقدر بعد اجتهادك فيها على أن تكوّن صورة أكبر شاملة؛ فالفقيه المسلم والمفكّر المسلم لم تعد مشكلته مشكلة أفراد، وإنما مشكلة المجتمع بأكمله، صارت مشكلته مشكلة الأمة بأكملها، فيجب أن نفكّر على مستوى حلّ مشكلة أمّة وليس على مستوى حلّ مشكلة أفراد، هذا التفكير على مستوى حلّ مشكلة أمة يستدعي الانتقال بالعقل من المرحلة الفردية التجزيئية الصغيرة إلى المرحلة الشاملة النظرية الكلية الكبيرة، وهذا بالضبط ما فعله السيد الشهيد؛ فكأنه شعر بأنّ مشكلتنا في أننا نبقى في هذا الجزيء الصغير المنتقل من باب فقهي إلى باب فقهي، دون أن نستطيع أن نبلور رؤية كلّية للحياة. وهذه نقطة أساسية أراد السيد الشهيد من خلالها أن ينقذ هذا العقل المسلم من الغرق في التفاصيل، لكي يجعله في رحابة الرؤى الكلية والقواعد العامّة، لكي تستطيع علومنا الإسلامية أن تدير المجتمع كما تدير الفرد، أن تدير الأمة كما تدير الآحاد، فبعقلية إدارة فرد لا يمكن إدارة أمة، ولا دولة.

هذا معلم آخر أيضاً أساسيّ ومهمّ للغاية سعى له السيد الصدر لتكوين فقه مجتمعي، وفقه دولة، وفقه اقتصادي، وفقه سياسي، لا لتكوين فقه فردي قد يكون له علاقة هنا بالسياسة أو علاقة هناك بالاقتصاد أو علاقة ثالثة له بالحياة الاجتماعية.

3 ــ الانتقال من الفرضيّة إلى العملانية

نقصد من العملانيّة أو البعد العملي، الانتقال بالفكر الديني من الدراسات النظرية البحتة إلى الدراسات العملية، وهذه أيضاً نقطة أساسية؛ لأن أكثر المفكرين النهضويين منذ القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا يعيبون على فكرنا الإسلامي ببعض مفاصله خلال عصور الانحطاط، أنها أغرقت في التجريد والاستغراق خارج نطاق الواقع، كأن المفكّر المسلم جلس في زاوية من زوايا بيته وأخذ يفترض مشكلةً ربما لا وجود لها في الخارج، ثم يبدأ بحلّها، فلا المشكلة لها وجود ولا الحلّ نحن بحاجة إليه الآن.

سأعطي مثالاً واقعيّاً معاصراً، توجد بعض الدراسات الفقهية المتعلّقة بالبنك يسعى كتّابها لدراسة معاملة بنكية ومصرفية ما، فيفرضون لها ـ مثلاً ـ سبع فرضيات ويبدؤون بحلّ هذه الفرضيات، ولو أتعبوا أنفسهم قليلاً وذهبوا إلى البنك لما وجدوا سوى فرضية واحدة اليوم من هذه الفرضيات المخترعة؛ فلماذا أشغل نفسي بسبع فرضيات لا وجود لها وأصرف جهداً من طاقتي ومن إمكاناتي لحلّ مشكلة لا وجود لها في واقع المسلمين اليوم؟ فلو وجدت غداً فسيأتي جيل الفقهاء الذي يعالجها.

وهذا ما يشير إليه الإمام الخميني في بعض أبحاثه، حينما ينتقد الفكرة الشائعة التي تقول بأننا نبحث بعض المسائل في أُصول الفقه لشحذ الذهن، أفهل نضبت المشكلات العملية التي نشحذ بها ذهننا حتى نذهب إلى مشكلات لا وجود لها؟!

هنا نجد المفكّر المسلم ـ مثل السيد الشهيد محمّد باقر الصدر ـ يريد أن ينتقل بالعقل المسلم من هذه المرحلة التجريدية التي يحلّق فيها فوق الأرض ليحلّ فيها مشكلات لا وجود لها، إلى مرحلة عملية. فماذا فعل؟

حتى أُصول الدين، حتى علم الكلام، انظروا كيف كان السيد الشهيد يسعى لإدخاله في التركيب الاجتماعي، وفي الحياة الاجتماعية، فالنظرة الاجتماعية إلى أُصول الدين التي كتبها السيد الصدر، والنظرة الاجتماعية إلى العبادات التي تحدّث عنها، تمثل توظيفاً لهذا الفكر الإسلامي في حياتنا العملية، وعدم البقاء والغرور بمجرد التفوّق الفكري والتحليلي، وإنما النزول إلى أرض الواقع لحلّ المشكلات.

من هذه النقطة بالذات، ننظر إلى السيد الشهيد في اهتمامه بالأولويات، وهو ما كان تحدّث عنه الشهيد مرتضى مطهري أيضاً، فنحن نعاني من خلل في ميزان تنظيم الأولويات، لقد مثّل المطهري لذلك بمثال حين قال بأن هناك من يذهب لزيارة الإمام الحسين×، وعلى الحدود العراقية الإيرانية يكذب لكي يُفسح له في المجال لعبور الحدود، إنه يرتكب الحرام لأجل المستحب، هنا يختلّ ميزان الأولويات، وهو يشبه إلى حدّ كبير ميزان الحرارة الذي إذا اختلّ انهارت كلّ المعايير في الجسم، هنا يصبح الإنسان مستعداً لشغل نفسه سنين في موضوعات لا قيمة لها ويترك موضوعات ضرورية جداً لاعتبارات وهمية كاسدة.

لهذا جاء المفكّر المسلم ـ مثل السيد الصدر ـ وأخذ أصول الدين وعلم الكلام، ذلك العلم الذي أخذ طابعه التجريدي النظري، وأراد أن يقحمه في حياتنا الاجتماعية. انظروا كيف حاول أن يدخله في حياتنا الميدانية في مقدّمة كتاب فلسفتنا حين قال بأن الرؤيا الكونية بالنسبة إلينا هي معيار نستطيع من خلاله أن نغيّر واقع حياتنا الاجتماعي والسياسي والشخصي..

هذا النوع من التفكير يمنحنا قدرة تنشيط القضايا الأكثر تجريديةً في حياتنا العملية، إنه الانتقال بالعلوم التجريدية لتتحوّل إلى علوم واقعية عملية تستطيع تغيير حال المسلمين نحو الأفضل.

4ــ الواقعيّة أو الرحلة من الواقع إلى النص إلى الواقع

المثال الأبرز الذي أريد أن استخدمه هنا في البعد الواقعي هو التفسير الموضوعي، فالسيد محمّد باقر الصدر أراد أن يغيّر طريقة رجوعنا إلى النصوص، وأن يلفت نظرنا إلى آلية جديدة، فنحن ندرس في العلوم الإسلامية حينما نصل إلى مرحلة معينة باباً فقهياً، وننتقي مسألة فقهية نبحث فيها، وهنا أجد أنّ أمامي نصوصاً قرآنية وحديثية، وأجد أمامي كلمات العلماء والفقهاء عبر الزمن، أجد أمامي كلّ هذا الزخم من التراث، ثم أبدأ بتحليله، فأنا من البداية إلى النهاية مع هذه النصوص، وإذا أردنا رسماً لهذا المشهد فنحن نرسم سهماً دائرياً من النص إلى النص.

يقول السيد الصدر بأنني لا أذهب إلى النص، ولماذا أذهب إليه؟! فلنذهب إلى الواقع أوّلاً، أي إلى واقع الحياة الإنسانية، وإلى هموم الإنسان المسلم المعاصر ومشكلاته وأزماته وعناصر تخلّفه وسبب تردّي حاله، ثم آخذ الأسئلة من هذا الوضع القائم، فأنا في البداية واقعيٌّ، أي أنطلق من الواقع وأبدأ به، وآخذ الأسئلة والهموم منه، ثم أذهب إلى النص، وأجثو على ركبتي أمام الكتاب والسنّة لأقول لهما: ما الذي يمكنني أن أستفيده منكما في حلّ المشكلات الواقعية؟ أنا أبدأ من الواقع إلى النص، ثم بعد أن أحصل على الجواب من النصّ، أبدأ رحلة العودة من النص إلى الواقع، فأحمل ما أخذته من هذا النص المقدّس، وأذهب إلى الواقع لإصلاحه وفق هذه القيم الدينية التي أعطاني إياها النص.

إذن، حركتي من الواقع إلى النص، ثم من النص إلى الواقع، وليست حركتي من النص إلى النص، وكأن الواقع لا قيمة له عندي، مثل ما يسمّى بفقه الأرأيتيين، وهي جماعة ظهرت في القرن الثاني الهجري أطلق عليها في حينه الأرأيتيون، وفي بعض الروايات عن أهل البيت ما يشير إليهم، وقد سمّوا بالأرأيتيين لأنهم كانوا عندما يطرحون مسألةً فقهية يقولون: أرأيت لو كان كذا وكذا فما هو الحكم؟ فكانوا يستخدمون هذا التعبير فسمّوا به.

أنا أريد أن أنتقل من «أرأيت لو كان كذا» إلى «أرأيت كيف حصل هذا، فأعطني الجواب». هذا هو المشروع في التفسير الموضوعي وغيره من مشاريع الصدر، أي النظر إلى مشكلات واقعنا المعاصر بكل تفاصيله، ثم أخذ هذه المشكلات وحملها لتوجيهها أسئلةً إلى النصّ لأخذ الجواب منه، ثم العودة في رحلة الرجعة إلى الواقع الذي يصلحه في ضوء النص.

إذن، هذا هو البعد الواقعي في فكر السيد الصدر، أي الانطلاق من الواقع إلى النص والعودة من النص إلى الواقع، فالواقع تكرّر مرتين في البداية وفي النهاية، هو البداية وهو النهاية، لكنه ليس الحكم، بل الحكم هو النص في القضايا الدينية.

إننا نعتقد أن فكرة التفسير الموضوعي بهذه الطريقة تجمع ـ من جهة أولى ـ بين الكلّية النظرانية، أي الخاصية الثانية؛ لأنها تريد أن تعطي رؤية كلّية لموضوع قرآني ما، وبين الواقعية؛ لأن الموضوعية في كلمة «التفسير الموضوعي» كما يستوحى من بعض تعابير السيد الشهيد يقصد منها ما يقابل الذاتية، أي الواقع الخارجي، بل هو يصرّح أنني أبدأ من الواقع، ثم آخذ أسئلته إلى النص القرآني.

وعليه، أراد السيد الشهيد أن يحلّ مشكلة «لا واقعية الفكر» التي ابتلى بها المفكّر المسلم عدّة قرون من الزمن، لينقله إلى مرحلة الواقعية ليستطيع من خلال ذلك إصلاح حال هذه الأمة ورفع مستواها الفكري والاجتماعي والإيماني.

5 ــ الإحيائية وإعادة استحضار الغائب

الإحيائية خاصيةٌ يشترك فيها كثير من المفكّرين غير السيد الشهيد الصدر منذ القرن التاسع عشر، حيث يعتقد الكثير من العلماء النهضويين الكبار أن واحدة من أهم مشاكل هذه الأمة أن بعض فرائضها وقيمها غائبة عن حياتها؛ لذلك أطلقوا ما يسمّى بالفرائض الغائبة، أي تلك الفرائض والقيم التي غفل عنها المسلمون، لقد شعر هؤلاء المفكّرون النهضويون بأن هناك قيماً وأفكاراً ونظريات في داخل هذا التراث الإسلامي مشكلة المشاكل فيها أنها ميتة، فأتوا لإحيائها.

إذا قرأنا تجربة السيد الصدر سنجد عنصر الإحياء واضحاً، مثل إحياء فكرة الدولة الإسلامية، وإحياء مفاهيم تطبيق الشريعة، وإحياء مقولة الإسلام يقود الحياة، وإحياء مفهوم الجهاد، وإحياء مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحياء مفاهيم العمل النسوي، إلى غيرها مما كتب فيه السيد الشهيد أو تحدّث عنه، إنها سلسلة من المفاهيم النهضوية الكبرى القادرة على تغيير واقعنا وسدّ الكثير من الثغرات، وقد أسهم الصدر في إحياء العديد من هذه المفاهيم واشتغل عليها وقدّم فيها الكثير، وكلّكم يعرف ماذا قدّم في الفقه السياسي، وفي الفقه الاجتماعي وغير ذلك.

6 ــ الدفاعية أو مشروع الممانعة الحضاريّة

في الدفاعيّة لا يفرط المفكّر المسلم المتوازن في نقد الداخل، تماماً كما لا يفرط في نقد الخارج ويعفي نفسه من المسؤولية. السيد الشهيد رغم كلّ هذه المحاولات النقدية لمناهج التفكير عندنا؛ لتجريدتنا وعدم واقعيتنا، لعدم كوننا عمليين، لابتعادنا عن فقه النظرية والفكر النظري عموماً.. رغم ذلك كلّه كان دفاعياً من بداية حياته إلى نهايتها، من mفلسفتناn في دفاعه عن الفكر الإسلامي في مقابل الاتجاهات الماركسية والمادية الديالكتيكية والتاريخية، إلى mالأسس المنطقية للاستقراءn الذي جمع فيه بين نقد مناهجنا المنطقية وبين الإتيان بمناهج منطقية جديدة قادرة أيضاً على الدفاع عن قيمنا ومفاهيمنا، ولذلك حينما نصل إلى الصفحتين الأخيرتين من كتاب «الأسس المنطقية للاستقراء» نعرف أن كلّ هذا الجهد المنطقي الضخم أريد له أن يخدم الدفاع عن قضية «الله سبحانه وتعالى»، عن قضية الوجود الإلهي، وعن قضية وجود ما فوق المادّة وما فوق الطبيعة، في مقابل اتجاهات المادية التي كانت تغزو العالم الإسلامي في تلك الفترة.

هنا يظهر إحساس المفكّر المسلم بأنه مسؤول عن الدفاع عن أمّته وقضاياه وفكره ودينه، وهذه من العناصر الأساسية التي امتاز بها السيد الشهيد الصدر، لا أقول: امتاز بمعنى أن الآخرين لم يمتازوا، أنا لا أشرح امتيازات منحصرة بفرد كما يقولون، ولكن امتيازات أستطيع أن أقول: اختلفت شدّة وضعفاً بين المفكّرين النهضويين.

إذن، جمع السيد الصدر بين الدفاع عن قضايا الأمّة والفكر الديني وبين نقد بعض المعالم الخاطئة والكشف عن بعض الثغرات السلبية في الفكر الديني، وهذا ما يشكّل معلم التوازن في الجواب عن سؤالي: النهضة والهوية معاً.

7 ــ النقديّة وهواجس تفتيت التكلّس الداخلي

هناك علماء معروفون بأنهم نقّادون، لا أريد أن أعطي أمثلة حتى لا يصير النقاش فيها، بعضهم يقول: الشيخ محمّد جواد مغنية رجل مسكون بهاجس النقد، فأوّل كتاب ألّفه كان نقد الواقع الاجتماعي في جبل عامل، وهذا يعني تبلور حسّه النقدي في مرحلة مبكرة، وكما هناك مفكرون دائماً نجد النقد في كتبهم، كذلك هناك آخرون يتجنبون هذا النقد الداخلي، فمثلاً بعض الذين يكتبون في التراجم إذا وصلوا إلى عيب لشخص ما يريدون ترجمته يحاولون أن يقولوا: لا نعمل مشكلة مع فلان، أو لماذا أذكر هذا؟ ربما فيه إشكال شرعي!!

السيد الصدر في اللحظة التي كان فيها في قمّة الدفاعية ـ كما أشرنا ـ كان أيضاً ينتقد واقعنا، فتجربته يعرفها الجميع أكثر منّي، تجربته في نقد واقعنا الحوزوي، وفي نقد مناهج التعليم، وتجربته في نقد بعض الظواهر الاجتماعية الموجودة في حياتنا. هذه العقلية النقدية التي كان يحملها إزاء بعض الظواهر تتجلّى في أكثر من كتاب ومحاولة، ولكنه يمتاز عن الكثير بأن هذا النقد الذي كان يمارسه كان هادئاً، وكان يحتاج إلى نفس طويل؛ لأن طريقة النقد التي امتاز بها تعطينا إيحاءً واضحاً بأنه كان مستعدّاً لنفس طويل لكي يحقّق الغاية من هذا النقد، في مقابل بعض العلماء الذين ينتقدون بطريقة أشدّ وأصرح، ويعتقدون بأننا بحاجة إلى أن نقفز لكي نصل إلى نتيجة النقد، أما السيد الشهيد فظروفه التاريخية التي كان يعيشها في العلاقة مع النظام الحاكم في العراق في تلك الفترة، والأزمة التي كانت تعيشها الأمة المؤمنة والحالة الإسلامية بشكل عام في مواجهة المدّ الأحمر.. ربما هذا كلّه دفعه إلى أن يختار المراحلية البعيدة الطويلة النفس في معالجة النقد الداخلي لقضايانا، سواء الحوزوية الداخلية أو الاجتماعية الخاصّة.

أين نحن من مشروع الصدر؟! هل توقفت العقلانية الدينية المحدثة؟!

أعتقد أن هذه السمات السبع الموجودة في فكر السيد الشهيد محمّد باقر الصدر: المنهجية، والكلّيانيّة، والعملانية، والواقعية، والدفاعية، والإحيائية، والنقدية.. لو قرأناها بإمعان فسوف نتمكّن من الإجابة عن هذا السؤال: هل حقاً ساهم السيد الصدر في تقديم جواب الفكر الديني عن سؤالي: النهضة والهوية أم لم يقدر على ذلك؟

أعتقد أن الجواب صار أكثر وضوحاً في ذهننا، فقد قدّم مساهمات كبيرة في هذا المجال، لكن ليس المهم أن نتعرّف عليها بقدر ما المهم أن نكملها. ويحلو لي أن آخذ في نهاية هذه الكلمة هذا التشبيه أو المثال الذي ذكره بعض المفكّرين لنتعلّم منه، وقد كرّرته عدة مرات، يقول المثال: إن هناك أباً له أولاد وعنده مصنع، وهذا المصنع فيه عمّال، يقوم بإعطائهم مبلغاً من الأجر الشهري، في السنة الأولى زاد لهم عشرة في المائة، وفي السنة الثانية زاد عشرةً أُخرى، وفي الثالثة زاد عشرةً ثالثة على أجورهم، ثم توفي الوالد بعد عشر سنوات وورث الأولاد المصنع، وانقسموا إلى قسمين: فريق نصيّ أو حرفي، وآخر منهجي موضوعي.

فالفريق الأوّل يقول: والدنا أعطى قبل وفاته مبلغاً معيّناً من الأجر، إذاً فنحن نعطي عين هذا المبلغ إلى الأبد، فهذه هي سياستنا إلى يوم الدين؛ لأننا نتعبّد بما كان يفعله والدنا، ولا نعرف هل كان سيزيد عن السنة الماضية في السنين اللاحقة أو لا؟

أما الفريق الثاني فيقول: لا، ليس هذا اتّباعاً لسيرة والدنا وسنّته، وإنما المطلوب أن نأخذ من مسيرة تجربته مع هؤلاء العمال وظيفتَنا وحركتنا، فما هي المسيرة؟ كان يزيد عشرةً في المائة كلّ عام، فنستمر في مشروعه.

هذا ما نحتاجه اليوم في تعاملنا مع مفكّرين كبار مثل السيد محمّد باقر الصدر الذي قدّم ما احتاجت الأمة إلى تقديمه قدر مُكنته وجزاه الله خيراً عن الإسلام والمسلمين، أما الجيل الثاني والثالث، أمّا نحن اليوم، جيل التسعينيات والألفين، وجيل الألفين وعشرة، وجيل الألفين وعشرين… هذه الأجيال القادمة هل تريد أن تقف وتشتغل ـ فقط ـ بالشرح والتعليق، أم تريد أن تستمرّ وتواصل المسيرة؟! إذا وقفت فقد فعلت عكس ما كان يريده السيد الشهيد الصدر؛ لأنه لو كان يفكّر بطريقة الوقوف لما تقدّم على الذين سبقوه، فما يريده منّا الصدر اليوم هو أن نستمرّ بأخذ طريقته في العمل، وليس نتائج عمله التي توصّل إليها فقط. هذه الطريقة إذا أخذناها وهذه الشخصية إذا تمثلناها وتماهينا معها واستمرّينا في مشروعها بإمكاننا أن نقدّم المزيد المزيد، فكلّ جيل يقدّم ما يجب عليه أن يقدّم، وينتقد بالنقد الموضوعي البنّاء الجيل السابق ولا يقدّسه، وهكذا يكون حوار الأجيال وتقدّمها جيلاً بعد جيل، إلى أن ترجع هذه الأمة الإسلامية إلى حالها الطبيعي، وإلى مواقع عزتها وكرامتها، إن شاء الله تعالى.



 
 


[1]. نصّ المحاضرة التي ألقيت في مدرسة الإمام الخميني التابعة لجامعة المصطفى العالمية في إيران بتاريخ 9 4 – 2009 م.

[2]. المثنوي، الكتاب الثالث، البيت: 3755.

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً