أحدث المقالات

مدخل في عرض الموضوع

البحث في مقاصد الشريعة ومصالح الأحكام الشرعية ومدى استفادة العقل منها في استنباط الأحكام الشرعية، ذو تاريخ سابق عند علماء أهل السنّة، وإن كانت الظاهرية تخالف هذه الرؤية من خلال تأكيدها على عدم الرجوع إلا إلى ظاهر السنّة([1])، ولكن المدارس الفقهية الأخرى أخذت على عاتقها هذا الاتجاه بقبولها القياس والعمل به([2])، مضافاً إلى أنهم جعلوا القياس مصدراً للاستنباط، فقد اتخذ أبو حنيفة وأحمد بن حنبل الاستحسانَ مصدراً للاستنباط أيضاً، وبعضهم وإن ردّ الاستحسان كمالك والشافعي، لكنّه جعل بدله المصالح المرسلة مصدراً آخر([3]).

نظرية مقاصد الشريعة عند الشاطبي

بذل الشاطبي (790هـ)، الفقيه الشافعي، جهداً بالغاً في بحث مقاصد الشريعة وكيفية إفادتها لاستنباط الأحكام الشرعية، فصنّف كتاب <الموافقات> للتنظير لها وتنقيح قواعدها([4]). ويمكن تلخيص نظريته في الأصول التالية:

1 ـ الفصل بين بابي العبادات والعادات، وهو أول أصل اعتمده الشاطبي في نظريته؛ فقد ذهب إلى أنّ ما كان خارجاً عن محيط العبادات ـ المعبّر عنه بمحيط العادات ـ فإن للعقل مجالاً مفتوحاً للبحث والكشف فيه عن مصالح الأحكام ومقاصدها. يقول الشاطبي: وإن كان لبعض العادات مصالح لا يدركها العقل ولكن يكفي ما يحصل عليه العقل من تلك المصالح في الاستفادة منها في عملية الاستنباط، وهذا هو المعيار والملاك في تحقّق الاجتهاد.

2 ـ سلك الشاطبي مسلكاً معتدلاً لدور العقل في استنباط الأحكام؛ فمع اعتقاده بمقدرته على تعيين المصالح، رأى في الوقت نفسه ضرورة اتّباع إرشادات الشارع لتعيين المصالح والمفاسد، قال: إن العقل يحتاج لهداية الشارع وبمساعدة ما تبيّنه الشريعة من قواعد يعرف العقل تفاصيل المصالح الدنيوية، ولو لم يكن يحتاج إلى الشريعة في ذلك لزم عدم الحاجة إلى إرسال الرسل والأنبياء.

3 ـ يرى الشاطبي أنّ هدف الشريعة ومقصدها العام في دائرة العبادات هو تقوية انقياد العبد لربّه وتعظيم المقام الإلهي، وجميع الأحكام إنما تفسّر باتجاه تحقيق هذا الهدف. ويرى عدم إمكان الحصول على مناطات الأحكام العبادية وعللها الجزئية غير مصلحة الانقياد والتعظيم للمقام الإلهي، قال: لا ينبغي البحث في هذا المجال بل لابد من التسليم بأصل التعبّد والأخذ بالظواهر.

4 ـ يرى الشاطبي أنّ أهم مقاصد الشريعة في قسم العادات هو حفظ توازن المسيرة الإنسانية في حركتها وعدم وقوعها في الإفراط أو التفريط، ففي نظره أنّ الشريعة بتشريعاتها ترسم لنا طريق الاعتدال.

5 ـ مع اعتقاد الشاطبي بعدم وجود طريق للاستحسان في العبادات، وإنما هي تابعة للنص، لكنّه يرى أن للعبادات مقاصد كلّية وشامخة، والاعتماد المفرط على ظواهر النصوص أوجب صرف أنظارنا عن الأهداف الشامخة للعبادات والغفلة عنها، ويقول بعدم إمكان مناقضة الأحكام الشرعية الفرعية والجزئية في جميع الموارد للقواعد والمقاصد الأساسية، فإذا أدى عملنا على وفق ظاهر الشريعة إلى التنافي مع المصلحة الثابتة من الحكم، فإنّ عملنا يؤول إلى عمل غير شرعي؛ لأنّ مقصد الشارع وغرضه من التشريع تحقيق المصالح والمحافظة عليها لا العمل على مطلق الظاهر، ومن باب المثال، ليس من الصحيح أن تكون مصلحة الصلاة مجرّد التقرب، وكون مجرّد مساعدة المساكين مصلحة للزكاة.

6 ـ في تعارض النصّ مع مقاصد الشريعة اتخذ الشاطبي مسلكاً معتدلاً أيضاً، إنّه يرى هنا أنّ الراسخين في العلم هم أصحاب القدم الثابت في الدين ولا يرجّحون نصاً أو معنى على آخر، ودائماً يحتاطون بعدم الإخلال بنصّ أو معنى في سبيل الأخذ بمعنى أو نص آخر.

نظرية مقاصد الشريعة عند الإماميّة

لم يكن لهذه المسألة ـ أي مصالح الأحكام ومناطاته ـ مكانة مقبولة في فقه الشيعة، ولم يتعرّض إليها إلا في موارد قليلة؛ فإن فقهاء الإمامية من خلال تأكيدهم على خفاء مصالح الأحكام وأنه لا ينالها عقل البشر([5]) لم يتعرّضوا لكشف مناطات الأحكام ومصالحها إلا في موارد قليلة، وبسبب الخشية من الوقوع في القياس الذي أكّد الأئمة المعصومون على اجتنابه([6]) ابتعدوا قدر الإمكان عن منهج استنباط العقل. ولكن لابدّ من الاعتراف بأنّهم بالغوا في هذا الاحتياط وتأخروا عن التأمل في أهداف ومقاصد الشريعة وإن كان بعض فقهاء الشيعة في العصور المتأخرة ـ مثل الشهيد الأول([7]) ـ لم يغفل عن بحث مقاصد الشريعة ومناطات الأحكام، ولكن لا يوجد أحد من علماء الشيعة بيّن ـ وبشكل واضح ـ دور مقاصد الشريعة ومصالح الأحكام، في الوقت عينه الذي يتجنب فيه الوقوع في القياس وفي الإفراط العقلي واتخاذ مناطات الأحكام أساساً يعتمد عليه.

نظام المصلحة في الشريعة

نستطيع القول: إن أكثر القواعد المجموعة في كتب القواعد الفقهية مثل قاعدة <نفي العسر والحرج> وقاعدة <لاضرر> تبيّن لنا ترجيح المصالح في الأحكام الشرعية، فها هي الشريعة تتجنّب تكليف المكلفين في جميع الأحكام فلا تحمّلهم ما يوجب المشقة والحرج، وتتنازل الشريعة عن الحكم الأولي الذي تهتم به من أجل التسهيل ورفع العسر عن المكلّف، ويدلّ على هذا المبدأ الهامّ أنّ التسهيل والتخفيف والرفق بالمكلف من المصالح العقلائية ومن أصول التشريع الإسلامي، ومن المسلّم به عند فقهاء الإمامية أن بعض أحكام الشريعة مثل العقود والإيقاعات إنما مستندها هو إمضاء الشارع لطريقة العقلاء وعاداتهم وآدابهم الجارية في عرف زمان الإمضاء على أساس المصالح التي يراها العقلاء([8]).

ومن أمثلة فكرة رعاية الشريعة للمصالح تدرّج الأحكام في التشريع وترقب حدوث مناسبة عملية لتشريع الحكم رعايةً للمصلحة([9]). وتأكيد فقهاء المسلمين على رعاية مصلحة النظام الذي يقوم عليه المجتمع وتقديم هذه المصلحة على سائر الأحكام والتشريعات مثالٌ آخر على هيمنة هذه الفكرة على التشريع الإسلامي([10]).

والأحكام الإرشادية ـ وهي الأحكام التي منشؤها عقل الإنسان، وقد أمضاها الشارع ووافق عليها ـ بابٌ آخر في أحكام الشريعة يحكي مسايرة الشريعة للمصالح العقلائية، ولا يدلّ على أن التشريع الإسلامي ليس أجنبيّاً عن المصالح الثابتة عقلاً فقط، بل تشمل دلالته على موافقة التشريع لهذه المصالح في كثير من الحالات([11]).

أهداف الشريعة ومقاصدها العامّة في دائرة الأحكام غير العبادية

يبحث الإنسان جاهداً ـ ووفق ميوله النفسية وظرفه ومقتضياته الخارجية، ومن خلال استخدامه لتفكيره وعقله ـ عن ما يرفع حاجاته المادية والروحية حتى يصل إلى الحياة المنشودة، والشريعة الإسلامية تسعى لهداية الإنسان في سلوكه وتوجيهاته إلى السير على الطريق الصحيح المنسجم مع الفطرة، ونتائج هذا السعي ـ المتكوّنة من خلال إصلاح ما توصّل إليه الإنسان من تدابير حياته أو من خلال تكميلها أو إمضائها أو إلغاء الانحرافات والسلوكيات غير الصحيحة ـ تأسيس الأصول والأحكام الاقتصادية والاجتماعية والقضائية المنسجمة مع الفطرة والحاجات الأساسية المتأطرة بإطار الشريعة لتُجعل في متناول الإنسان.

ويمكن القول بنظرة عامّة: إنّ الأهداف والمقاصد الحاكمة في دائرة الأحكام غير العبادية تتلخص في أربعة أهداف هي: 1 ـ تلبية الحاجات المادية والمعنوية، بحيث
تكون متوازنة. 2 ـ رفع منزلة الفكر الإنساني مع حفظ شخصية الإنسان وعزته وكرامته. 3 ـ المحافظة على جميع حقوق الناس على أساس العدل وجعل الانسجام بين حقوق الفرد وحقوق المجتمع. 4 ـ ترسيخ نظام القسط وإقامة علاقات عادلة بين البشر جميعهم على مختلف الصعد الاجتماعية والسياسية..

ولابد من رصد بعض مقاصد الشريعة ومصالح الأحكام في فقه الإمامية في ثلاثة أقسام: العلاقات المالية والاقتصادية، القضاء والشهادات، الحدود والديات.

1 ـ أهداف الشريعة في العلاقات المالية والاقتصادية

هناك الكثير من الروايات تحث المؤمنين على تقوية الحالة الاقتصادية؛ فتدعو إلى الاتّجار وإلى العمل الزراعي والمهني واحتراف الأعمال([12])، وكذلك توصي برفع الهمّة في الأعمال الاقتصادية ومباشرة كبار الأمور وعدم الاكتفاء بصغارها([13])، كما تحذّر من الكسل والخمول عن كسب المعيشة([14])، ذلك كلّه يدلّ على أنّ الإسلام يريد من المجتمع أن يكون ساعياً بجهد بالغ ونشاط لتنمية الاقتصاد على مختلف الأصعدة، فيتحوّل ارتفاع مستوى الرفاهية العامّة والنماء الاقتصادي إلى نتيجة طبيعية لمثل هذه السياسة، وعلى هذا يتبيّن أنّ الرفاهية العامة والنمو الاقتصادي في نظر الشريعة أمرٌ مطلوب ومستحسن.

ويمكن التعرّف على ثلاثة أهداف في العلاقات الاقتصادية والمالية ـ إضافةً إلى هدف تأمين حاجات المعيشة لآحاد الناس ـ وهي: 1 ـ حفظ السلامة الجسمية والنفسية والفكرية والمعنوية للفرد والمجتمع. 2 ـ المحافظة على حقوق الإنسان، ورفض التعدّي على حقوق الآخرين. 3 ـ تأمين وسائل المعيشة والحياة والرفاهية.

 

الهدف الأول: حفظ السلامة الفردية والعامّة

هناك روايات كثيرة تؤكّد على إنفاق الثروة المالية في سبيل الخير والمعروف وعلى أعمال البرّ([15])، وتمنع الشريعة البيع والشراء للتباهي والتفاخر الذي يجرّ إلى الفساد، كما تحرّم ما يُقصد منه الفساد من المكاسب التي لها دور كبير في نشر الفساد الأخلاقي، ولا يصحّ في الشريعة إنتاج الملوّثات غير الطاهرة والتبادل بها([16]). وقد أحلّ القرآن الكريم الطيبات وحرّم الخبائث (الأعراف: 157).

وتوجد رواية قيّمة في كتاب تحف العقول تشير إلى بعض أصول التكسّب، ورد فيها ما ملخّصه: إن كلّ أعمال التكسب التي فيها صلاح الناس وقوامهم جسمانيّاً وروحيّاً محلّلةٌ ومشروعة، وكل الأعمال التي يحصل منها الضرر والفساد على الإنسان جسمانيّاً وروحيّاً فهي محرّمة ممنوعة([17]). وبناء على هذا المبدأ الأساس فإنّ جميع الأعمال الاقتصادية ـ أعم من التبادل التجاري، والهبة، والعارية، والصناعة، والإنتاج ـ تقسم إلى قسمين: المجاز وغير المجاز.

ويكن حصر أنواع الأعمال المضرّة بثلاث مجموعات:

1 ـ الأعمال المضرّة على الصعيد الفكري، مثل إنتاج أو بيع الصليب وكتب الضلال وما يشتمل على الأباطيل والخرافات، وأي وسيلة تقوّي الكفر والشرك([18]).

2 ـ الأعمال المضرة على الصعيد الجسمي والروحي والمعنوي، مثل التعامل مع الخمر والقمار واللهو والغناء([19]).

3 ـ الأعمال التي تهدّد سلامة المجتمع وأمنه، كالربا والرشوة والاحتكار([20]).

إنّ حفظ السلامة الكاملة من جميع الجوانب للفرد والمجتمع وإيجاد مجتمعات نشيطة وفعّالة وسالمة يشكّل أحد الأهداف والمقاصد الأساسية للشريعة. وإن كان الإنسان يبتعد عن الخطر بطبعه وبالفطرة، لكن كثيراً ما تتغلّب عليه الرغبات النفسية والنزعات الشهوانية؛ فتحمله على الإتيان بأعمال تسبّب له ـ تلقائياً ـ الضرر الجسدي والروحي؛ فمن دون سدّ أبواب الإنتاج والاتجار والتكسب التي تجرّ إلى الفساد والأضرار الفكرية أو الجسدية أو الروحية سيكون كل سعي لإيجاد مجتمع سالم ناقصاً وقليل الفائدة. والإسلام من خلال تحريمه لكل أنواع المعاملات الاقتصادية التي يكون لإنتاجها ومتعلّقاتها الآثار السلبية على جسم الإنسان وفكره وروحه، أو التي تؤدي إلى الإخلال بعلاقات المجتمع.. أظهر تدبيراً حكيماً ببيانه لسبيل الصواب الهادف إلى تأسيس مجتمع بشري سالم.

الهدف الثاني: المحافظة على الحقوق الاجتماعية للفرد

المقصد الثاني للشريعة الإسلامية في الاقتصاد هو تفادي وقوع الظلم والتعدي المالي والاقتصادي على الآخرين، ومع النظر في الروايات والأحكام نستطيع القول: إنّ الشارع قد رسم لنا عدّة أصول ومبادئ لتأمين حقوق المجتمع لجميع الأفراد بمختلف مستوياتهم:

1 ـ المنع من تضييع حقوق الآخرين باستغلال عدم قدرتهم وجهلهم وعدم معرفتهم لحقوقهم. ومن الأمثلة الشرعية المعتمدة على هذا المبدأ حكم المحافظة الكاملة مع أخذ الاحتياط على حقوق الأيتام في المعاملة([21])، وحكم المنع عن الغش في المعاملة([22])، وقاعدة نفي الغرر([23])، والمنع عن الخداع والتدليس في النكاح([24])، ومنع غبن الآخرين، وجعل خيار الغبن للمغبون.

2 ـ مبدأ المنع عن استغلال المنصب والموقع الأفضل لجلب النفع المجحف بالآخرين، وبناء على هذا الأصل لابدّ من عدّ أي معاملة فيها استغلال لاضطرار الآخرين من المعاملات غير الجائزة. وإن كان الفقهاء قد احتاطوا في هذا المورد، ويرون أن المعاملة وإن أوجبت الضرر على الفرد المضطرّ جائزة([25])، غير أن إطلاق العنان للأفراد الانتهازيين للانتفاع ظلماً أو لإلهاب حياة الآخرين بسبب اضطرارهم لا ينسجم مع أصل منع التعدي والإجحاف الذي هو من المقاصد الأصيلة للشريعة. والنهي عن الاحتكار في الروايات مبني على هذا الأصل أيضاً([26])، فمن خلال رؤية مقاصد الشريعة لا يوجد أي تبرير للتردّد في حرمة ذلك؛ وإذا أدى عمل المحتكرين إلى إضرار الناس والإخلال باقتصاد المجتمع، وأخذ الرشوة الذي يساوي الكفر بالله في الروايات يعدّ من أمثلة استغلال الموقع لتضييع حقوق الآخرين أيضاً([27])، ووفق هذا المبدأ يحرم أخذ جوائز السلطان الجائر وهداياه بسبب الارتباط به وبعمّاله([28]).

3 ـ مبدأ أن لا يوجب الانتفاع الاقتصادي لفرد حرمان الآخرين من الثروة الطبيعية؛ وعلى هذا الأساس يمنع استهلاك الثروة الطبيعية العامة أكثر من الحدّ اللازم إذا سبّب ذلك الاستهلاكُ تضييعَ حقوق الآخرين؛ ولذا تشير آيات القرآن الكريم إلى أنّ الأرض وخيراتها إنما تخصّ جميع الناس، قال تعالى:>وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ< (الرحمن: 10)، وإعمار الأرض والانتفاع بعطاياها لجميع الناس، قال تعالى: >هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا< (هود: 61)، وعلى هذا الأصل والمفاد القرآني فإن الانتفاع بالموارد الطبيعية حقّ بالقوة لجميع الناس على حدّ سواء، ولا يكون هذا الحق الذي هو بالقوة فعلياً إلا عن طريق السعي والعمل الجادّ؛ إذاً ليس للإنسان أن يستفيد من المنافع الطبيعيّة إذا استلزم ذلك فوات حقوق الآخرين بالقوة ومنعهم منها، فلا يجوز مثلاً لشخص أن يعمر مساحات كبيرة من الأرض أو يملكها من خلال الاستعانة بالسلطة السياسية أو إذا كان يمتلك أدوات إنتاج حديثة إلا في حال عدم حرمان الآخرين من حقهم الطبيعي من الأرض ومعادنها وسائر الثروات الطبيعية.

4 ـ مبدأ لزوم التعويض للانتفاع المستوفى من الآخرين وأن لا يقلّ عن الاستحقاقات العرفية؛ فقد أجاز القرآن الكريم تسخير واستعمال بعض أفراد الناس للبعض الآخر (الزخرف: 32)، لكن لابد من الإنصاف في هذا الاستعمال، فيضع المستخدم طاقته الفكرية أو الجسدية بيد الآخرين عوض الحصول على الثروة والمال، وإذا كانت إحدى المعاملات غير عادلة، كأن تستلزم صرف بعض الجهد الفكري أو الجسدي لشخص في خدمة شخص آخر دون أن يتسلّم ما بإزاء جهده ـ وتكون من غير عوض ـ فإنّ هذه الاستفادة غير عادلة وغير مشروعة بل هي مصداق لأكل المال بالباطل الذي منعه القرآن الكريم (البقرة: 188)، ولا ينفع فيها الرضا الناشئ من الاضطرار كما تقدّمت الإشارة إليه؛ إذ المشروعية لا تسبغ على العمل بهذا الرضا؛ لأنّ ماهية الظلم لا تزول به؛ فمواجهة الإسلام الجادّة للتعامل بالربا والسعي الحثيث لإزالة جذوره من المجتمع لما في هذا التعامل من الظلم والاستغلال غير الصحيح للسلطة؛ لأن الشخص يحصل على الربح بسبب تفوّقه في الإمكانات الاقتصادية؛ لذا كانت حرمته في الشرع شديدة (البقرة: 275)، والأدلة العقلائية تدلّ على صحة تشريع حرمته أيضاً؛ فمن جهة يتسبّب الربا بنشر الفقر والحرمان، كما تتكدّس ـ من جهة أخرى ـ الثروة وتختزن عند آخرين، ويتبدل استعمال المال من وسيلة يقوم بها المجتمع إلى عامل إخلال في اقتصاده، ولا يصح في النظرة العقلائية أيضاً حصول الربح من غير عمل. ومع ملاحظة هذه المصالح يتضح أن كل حيلة ومحاولة لتصحيح المعاملة الربوية مع حفظ روح الربا السلبية والمضرّة ما هي إلا تبديل لشكل الربا وصورته الظاهرية، ولا يمكن من خلالها إضفاء الشرعية عليه.

فهذه المبادئ والقواعد يستفاد منها عدم شرعية أيّ عمل يكون فيه استخدامٌ للثروة المالية والاقتصادية بوصفها وسيلة لإخلال اقتصاد المجتمع وعاملاً لنشر الفقر والحرمان. ومقابل ذلك يحكم بجواز استثمار المال عن طريق المشاركة في الإنتاج والعمل الاقتصادي السالم، كادّخار الأموال في البنوك للمشاركة في الأنشطة الاقتصادية السالمة شريطة عدم ترتّب آثار الربا عليها، وقد اتضح أنه لا يمكن تحديد الآثار من خلال الصورة والشكل الظاهري للعقود.

الهدف الثالث: المحافظة على المصالح العامة للمجتمع

المقصد الثالث للشريعة في المعاملات هو هداية الأنشطة الاقتصادية إلى مصالح عموم الناس ومنافعهم وإلى تأمين الحياة المناسبة للمجتمع ورفاهه المادي على نحو تحقيق حصوله للفرد والمجتمع. ودراسة الأحكام المتعلقة بهذه القسم تهدينا إلى مبادئ وقواعد تحقق بعض الأهداف الآنفة، وهذه المبادئ هي:

المبدأ الأول: لابد أن تكون الأنشطة والعلاقات الاقتصادية غير مقويّة ولا داعمة لاستحكام الشرك وقدرة الظالمين المترفين، وكذلك الحال بالنسبة إلى الظلم والطغيان والفساد؛ فلا يمكن مكافحة هذه المصاديق لقدرات الباطل من غير إزالة جذورها الاقتصادية والمالية المقوّمة لها. وبناء على هذا فإن كل عمل اقتصادي بلحاظ حقيقته الداخلية يساعد على تثبيت وتقوية عوامل الانحطاط أو يكون نتاجه في خدمة هذه العوامل، فهو في نظر الشريعة الإسلامية عمل غير جائز، وعلى العكس، بما أنّ حكومة الصالحين عاملٌ لنموّ المجتمع وتقدّمه فلابد من الأنشطة الاقتصادية التي تساعد على إيجاده وتثبيته؛ وقد ورد في رواية تحف العقول: إن العمل لأجل الحكّام الظالمين حرام؛ لأن حكومتهم توجب تضعيف الحق، وأما العمل مع ولاة العدل فهو سعي في طريق الله؛ وذلك لأن في ولاية العادل وولاته أحياء كلّ حق وكل عدل وإماتة كل ظلم وجور وفساد، فلذلك كان الساعي في تقوية سلطانه والمعين له على ولايته ساعياً إلى طاعة الله ومقوياً لدينه([29])؛ وعلى هذا المقطع من الرواية فإنّ كل عمل يوجب رشد المجتمع وصلاحه ورقيه الاقتصادي والثقافي والمعنوي جائز، وباختصار كلّ ما يجرّ إلى إحياء الحق فهو جائز، أما ما يوجب انحطاط المجتمع وفساده أو ضعفه وخموده فهو ممنوع.

المبدأ الثاني: الوقاية من تمركز السلطة الاقتصادية بيد جماعة قليلة في المجتمع؛ فالمستفاد من القرآن الكريم تشريعه تخصيص بعض الأموال للمصالح العامة وخروجها عن ملكيه الأفراد بطريقة عقلائية، كما في الآية السابعة من سورة الحشر، وهي الآية المستند هنا، والتي تفيد أن ممّا يخالف المصلحة العامة ولا ينسجم مع الإسلام هو وجود جماعة محدودة من الأثرياء لديها السهم الأوفر من الأموال والثروة الاجتماعية ولهم القدرة على نمائها فتكون لهم السيطرة على سائر الأنظمة السياسية والاقتصادية للمجتمع من خلال إمكانياتهم الاقتصادية، وكذلك الآية الرابعة والعشرون من سورة التوبة، تبين بوضوح شدّة الردع عن هذه الظاهرة، لهذا جعلت الشريعة الأنفال والفيء والمنافع الطبيعية للأمور العامة وتحت تصرف الحكومة الإسلامية، وهو ما يصنّف من المصالح والتدابير الإسلامية المتخذة بهذا الصدد، من هنا يمكن القول: إن مركزة الثروة بيد فئة ضئيلة من الناس مبدأ مرفوض في القرآن الكريم، وفي حالة عدم كفاية الأنفال والفيء للوقاية من تمركز الثروة الاقتصادية وتداولها بيد الأثرياء، يمكن إجراء حكم الأنفال على أقسام أخرى من الثروات الطبيعة مثل شمول الحكم للصناعات الكبيرة أو جعل أنحاء أخرى للملكية مثل الملكية التعاونية في عدل الملكية الخاصة.

المبدأ الثالث: إرجاع النشاط الاقتصادي لعموم المسلمين؛ ففي الوقت الذي كانت فيه النساء تتمتع بأقل الحقوق الإنسانية في المجتمعات البشرية، كان الإسلام قد أعطاهنّ كامل الحقّ في ممارسة النشاط الاقتصادي الحرّ دون تمييز واختلاف، وأجاز لهنّ منافسة الرجل في جميع المجالات الاقتصادية كالإنتاج والصناعة والتجارة، باستثناء الإماء والعبيد الذين يكون ناتج عملهم لأسيادهم، ومن خلال هذا المبدأ نستنتج أنّ جميع طبقات المجتمع يجب أن يتساووا في الاستفادة من التسهيلات الاقتصادية العامة التي تقدّمها الدولة.

المبدأ الرابع: ضرورة تمتع جميع طبقات وأفراد المجتمع في العيش الكريم الذي يتناسب مع شأنهم الاجتماعي، فيجب أن لا يشعر أيّ عضو من أعضاء المجتمع الإنساني بالحاجة المادية والمعنوية من الناحية المعيشية، سواء كان مسلماً أو غير مسلم؛ فقد جعل الله سبحانه وتعالى للفقراء سهماً في أموال الأغنياء، بل جعلهم شركاء في أموال الأغنياء. إنّ تعيين سهم خاص من المال باسم الزكاة لرفع حاجة المحرومين، واعتبار ذلك ركناً من أركان الإسلام، وتخصيص قسم من الخمس للسادة الفقراء، أكبر دليل على اهتمام الشريعة الإسلامية برفع الحرمان والحاجة من المجتمع، وهذا لا يعني تأمين الحاجات الأولية الأساسية للإنسان فقط؛ بل يعني الارتفاع بالمستوى المعيشي إلى الحدّ المتوسط، أو أكثر قليلاً بحيث يتناسب مع المستوى الاجتماعي العام. وإذا نظرنا إلى مصالح الأحكام الموجودة في الروايات([30])، أمكننا القول: إنّ الأموال إذا لم تستطع تحقيق هذا الهدف فيجب أن نسلك طرقاً أخرى، أو نقوم بتوسيع متعلّقات الزكاة كما فعل أمير المؤمنين % في تقريره الزكاة على الخيل([31]).

المبدأ الخامس: رعاية الاعتدال في الاستهلاك والاستفادة من الثروة والنعم الإلهية؛ لأنّ النزعة الاستهلاكية إذا سادت مجتمعاً فسينسحب ذلك إلى حرمان بقية طبقات المجتمع، وحرمان المجتمعات الأخرى، بل إنّ الإسراف في الاستهلاك يؤدي إلى حرمان الأجيال المستقبلية الأخرى؛ لإفضائه للضغط على موارد الطبيعة التي تتعلّق بجميع البشر في جميع الأجيال، وفي الحقيقة إنّ ذم الإسراف الوارد في التعاليم الدينية، والأمر بالاعتدال([32]) كان من أجل الحفاظ على الثروات الطبيعية التي تتعلّق بجميع الأجيال القادمة، إضافة إلى أنّ زيادة الاستهلاك يؤدي إلى زيادة تلوّث الطبيعة. وقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق % أنه قال: <المال مال الله يضعه عند الرجل ودائع، وجوّز لهم أن يأكلوا قصداً ويعودوا بما سوى ذلك على فقراء المسلمين>([33])، كما أنّ الإسراف في الاستهلاك لطبقة من طبقات المجتمع، والحرمان المادي لطبقة أخرى يعارض مقصد العدالة الاجتماعية التي هي من المقاصد العليا للإسلام.

وخلاصة الأمر: إنّ الأصول التي يمكن استخراجها من المصادر الإسلامية والتي يمكن أن تكون عنواناً للمعايير والقواعد الحاكمة على العلاقات والأنشطة الاقتصادية، هي: 1 ـ حظر النشاطات الاقتصادية التى تؤدي إلى الفساد الأخلاقي. 2 ـ منع النشاطات الاقتصادية التي تؤدي إلى فساد العقل. 3 ـ منع النشاط الاقتصادي الذي يُضعف المعتقدات الدينية والايمان. 4 ـ منع الأعمال الاقتصادية التي تُضعف البدن. 5 ـ حظر أيّ نوع من أنواع سوء الاستفادة من جهل الإنسان، والاحتيال. 6 ـ منع استغلال اضطرار الإنسان. 7 ـ منع النشاطات الاقتصادية في ظلّ الأزمات الاقتصادية في المجتمع. 8 ـ منع استغلال النفوذ الاجتماعي في الإضرار بالآخرين اقتصادياً. 9 ـ المنع من الاستفادة أكثر من الحاجة الفعلية للثروات الطبيعة والتي تؤدي إلى تضييع حقوق الآخرين والأجيال القادمة. 10 ـ منع تسخير الآخرين دون مقابل. 11 ـ منع تقوية الظالمين عن طريق النشاطات الاقتصادية. 12 ـ الالتزام الكامل بالعهود الاقتصادية. 13 ـ تأمين الفرص الاقتصادية للجميع بصورة متساوية. 14 ـ الاستفادة من الإمكانات والخدمات من قبل جميع أفراد المجتمع. 15 ـ منع تركيز الثروة في يَد الأقلية. 16 ـ استفادة المحتاجين من ناتج عمل الأغنياء. 17 ـ الاعتدال في استخدام مصادر الثروة والنعم الإلهية والنهي عن الإسراف في الإنتاج. 18 ـ منع الأعمال الاقتصادية غير العادلة كأكل الربا. 19 ـ المنع عن الإسراف وتجاوز الحدّ وتضييع الأموال.

دور الزكاة في تحقيق الأهداف الاقتصادية للشريعة

وضع الإسلام مسؤولية رفع حرمان الفقراء على عاتق المسلمين أنفسهم، وذلك عن طريق تخصيص قسم من الأموال، ومشاركة الفقراء في أموال الأغنياء. فجعلها مسؤوليةً مباشرة، وجعل دور الدولة واسطةً في إيصال الأموال إلى الفقراء، وهناك روايات متعدّدة تدلّ على مشاركة الفقراء في أموال الأغنياء، بل اعتبرت الزكاة مالاً للفقراء وحقاً مسلّماً لهم. ومن هذا المنطلق، ليس للأغنياء الحقّ في أن يمنّوا على الفقراء؛ لأنهم في الحقيقة إنما يدفعون سهم شركائهم في الأموال. والروايات التي اعتبرت سقف استفادة الفقراء من الزكاة هو رفع جميع حاجاتهم حتى الوصول إلى المنزلة الاجتماعية اللائقة.. أشارت إلى مسألة مهمّة وهي رفع التمييز الطبقي في المجتمع؛ ولذلك لابد أن يتمتع أولاد العوائل المحرومة من جميع الإمكانات اللائقة واللازمة من أجل رفع المستوى المادي والمعنوي والعلمي والثقافي لهم، أسوةً بسائر أفراد المجتمع([34])، بل لقد أجيز للمحرومين والفقراء الاستفادة من الزكاة في القيام بمناسك الحج، والتحرّر من العبودية، والاستفادة من المسكن المناسب، والخادم في حال الضرورة([35]).

موارد تعلّق الزكاة من حيث المقاصد والمصالح

من المباحث المهمّة في مسألة المصالح ومقاصد الأحكام، انحصار تعلّق الزكاة بالموارد التسعة التي أفتى بها فقهاء الشيعة. ومن الواضح أنَّ قسماً كبيراً من الثروات، ومجموعة كبيرة من الأغنياء لا يشملهم حكم الزكاة، بل إن هذا الحكم يغطّي مجموعة قليلة من أصحاب الثروة، وما يدعو إلى التساؤل هو نتائج هذه الرؤية؛ لأنَّ الآثار العديدة التي أشارت لها الروايات لمعطي الزكاة مثل: اختبار الأغنياء والرأفة والرحمة على أهل المسكنة والحث لهم على المواساة، وأداء شكر نعم الله عز وجل والطمع في الزيادة، وتكفير الذنوب.. سوف تشمل هذه المجموعة القليلة ويُحرم باقي الأغنياء من هذه الصفات([36]). والإشكال الآخر هو وجود روايات صريحة تشير إلى أنَّ هذا الحكم (الزكاة) يلبّي جميع حاجات المحرومين والمساكين، وأنّ تحديد مقدارها هو علم الله سبحانه وتعالى بكفاية ذلك([37]). ونحن نعلم اليوم أنّ هناك أعداداً ضخمة من المحرومين في المجتمع الإسلامي، وهم بحاجة إلى أمور أساسية وضرورية كالمسكن المناسب، والعمل، والدراسة، والعلاج، وإمكانات المعيشة الأخرى، وجميعهم يحتاجون لعيش كريم بمستوى الكفاف لا يمكن تلبيته عن طريق مصارف الزكاة المذكورة، والشيء الوحيد الذي يؤمّن حاجة المسلمين المحرومين في جميع نقاط العالم هو تعلّق الزكاة بجميع أو القسم الأعظم من أموال التجارة والإنتاج.

إنَّ مقارنةً بسيطة بين حكم الزكاة والخمس، ومع الأخذ بنظر الاعتبار أن مقدار الخمس هو ضعف مقدار الزكاة ـ بالإضافة إلى أنه يشمل جميع الدخول السنوية ـ ومع ذلك فإنّ نصفه يختص برفع حاجات قسم خاص ومحدود من فقراء المجتمع الإسلامي وهم الهاشميون، دليل آخر على هذا المدّعى. فإذا أخذنا بنظر الاعتبار مصالح الحكم لا يبقى مجال لانحصار الزكاة في الموارد التسعة المذكورة إلا القول باختصاصها بظروف زمانية خاصة، والشاهد على هذا المدّعى عفو النبي 2 عما سوى هذه الأشياء.

2ـ مقاصد الشريعة في مجال القضاء والشهادات

يمكن تلخيص مقاصد الشريعة العامّة في باب القضاء في الموارد التالية:

1 ـ الدفاع عن حقوق أفراد المجتمع بصورة متساوية دون تمييز، والمنع من تضييع الآخرين لها.

2 ـ رعاية شخصية الإنسان وكرامته من مختلف أفراد المجتمع قضائيّاً.

3 ـ إيجاد الأمن والطمأنينة بين أفراد المجتمع ورفع الخوف والقلق فيما يخصّ إحقاق حقوقهم عن طريق الحق والعدالة.

4 ـ إقامة نظام قضائي قادر على كشف الحقيقة، وإزالة الاختلافات، وكشف الجرائم بأقلّ نسبة من الخطأ.

5 ـ تضييق الخناق على المجرمين، ومنع التجسّس وإشاعة الفحشاء في الجرائم الأخلاقية.

وللوصول إلى تحقيق أهداف الإسلام في القضاء بالحقّ والعدل، فقد أخذ بنظر الاعتبار ثلاثة أساليب في أصول المحاكمات، وشرائط القاضي، والقوانين الجزائية والحقوقية، وقام بتشريع الأحكام الخاصّة في ضوء تلك القوانين. أما الأصول والسياسات التي شرّعها الإسلام والتي تنضوي تحت هذه الأقسام الثلاثة طبقاً للمصالح الاجتماعية، ولتحقّق المقاصد المذكورة سابقاً، فهي: 1 ـ تصدي الإنسان العادل واللائق لمقام القضاء.
2 ـ وثاقة الشهود وعدم وقوعهم في مظانّ الاتهام. 3 ـ إثبات الجرم على أساس الإقرار أو قيام البيّنة. 4 ـ تعدّد الشهود أكثر من الحدّ الطبيعي في موارد الاشتباه في الشهادة،
أو تكميلها بشهادات أخرى. 5 ـ وجوب أداء الشهادة وحرمة كتمانها. 6 ـ تشريع القسامة. 7 ـ التشدّد في إقامة الشهادة في الاتهامات الجنسية.

ولمزيد من تعميق هذه المقاصد والأهداف العليا، نقول:

1 ـ من الشروط المعتبرة في القاضي، عدالتُه واتصافه بالصفات الروحية والمعنوية التي تبعده عن الذنوب والمخالفات الكبيرة([38])، وهذا الشرط المهم كفيل بصيانة الأحكام الصادرة عن القاضي من تأثير المال، والسلطة، والعلاقات العائلية والقومية والمذهبية. وقد أجاز الإسلام القضاء والتصرّف في دماء وأموال وأعراض الناس للأشخاص الذين يتصفون بصفات التقوى والعدالة فقط، حيث يمكن من خلال تلك الصفات أن يتغلّب القاضي على جميع العوامل المذكورة سابقاً. إنّ وجود نظام التربية الروحية والمعنوية الفعّال وقدرة الإسلام الكبيرة استطاعتا أن تلزم القضاة المسلمين بمثل هذا الشرط الصعب؛ ومن هذا المنطلق ساوت الروايات الإسلامية بين أخذ الرشوة من قبل القاضي والكفر بالله سبحانه وتعالى، بل اعتبرته خارجاً عن دائرة الإسلام([39])، كما أمر الإسلام بتساوي سلوك القاضي مع المتهمين حتى في النظرة والكلام، ومنع القضاء في حالة الغضب؛ وهو ما يؤكد على لزوم سلامة حكم القاضي من أي شائبة تعكّر صفاء العدالة، سواء كانت شعورية أو لا شعورية([40])، وعلى هذا الأساس فإنّ موضوع عدالة القضاء من أهم المصالح في باب القضاء، ولابد أن تكون حاكمة على جميع الأحكام والتشريعات، أي أنّ كل حكم يخالف هذه القاعدة يسقط عن دائرة الاعتبار.

2 ـ إنَّ الدور الذي يلعبه الشهود في كشف الحقيقة جعل شرط <الوثاقة التامة> فيهم أمراً لازماً وضرورياً([41])، وأنّ شهادة أيّ شاهد سوف تفقد قيمتها إذا كان الشاهد محلّ اتهام([42])؛ من هنا عدّت شهادة من يكون أحد طرفي الدعوى كالشريك والأجير والعبد فاقدةً للاعتبار، كما أنّ وجود عداوة سابقة يمنع من الشهادة أيضاً([43]).

من جانب آخر، كل من يعرف الحقيقة ويدعوه صاحب الحق لأداء الشهادة يجب عليه الحضور في المحكمة لأداء الشهادة([44])، وهذا ما يعطي القضاء فرصةً كبيرة للوصول إلى الحقيقة ويستطيع من خلالها جبران النقص الحاصل من اعتبار شرط الوثوق أو العدالة للشهود.

3 ـ إنَّ هدف حصول القاضي على الحقيقة وتقليل احتمال الخطأ جعل الإسلام يقبل شهادة النساء ويساويها في بعض الأحيان بشهادة الرجال، وقد نحتاج في موارد أخرى إلى تكميلها بزيادة الشهود؛ فالآية الشريفة تقول: >وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى< (البقرة: 282)، فقد اعتبر سبب معادلة شهادة امرأتين برجل واحد هو مساعدة المرأة على التذكّر في حال النسيان. ومن خلال هذه الآية والروايات الأخرى يتبين أنَّ علة زيادة عدد الشهود في النساء هو تقليل احتمال الخطأ في شهادتهنَّ، وقد ورد بيان هذا الحكم في إحدى الروايات في تفسير الإمام العسكري %، حيث قال فيها: <إذا ضلّت إحداهما عن الشهادة فنسيتها ذكّرت إحداهما الأخرى بها، فاستقاما في أداء الشهادة>([45])، وهذا الحكم هو في الحقيقة دعم للمرأة في القيام بشرط الشهادة الصحيحة. وبعبارة أخرى: إذا ما نسي أحد الأشخاص بعض جزئيات الحادثة حين الشهادة فإنَّ شهادته تسقط عن الاعتبار. أما بالنسبة إلى النساء فإنَّ المرأة يمكنها رفع الإبهام والشك عن طريق الاستعانة بالمرأة الأخرى.

4 ـ أشارت بعض الروايات إلى ملاك عدم قبول شهادة النساء في أمر الطلاق، فقد جاء في كتاب علل الشرائع عن أبي الحسن الرضا % أنه قال: <علّة ترك شهادة النساء في الطلاق محاباتهنَّ النساء؛ فلذلك لا تجوز شهادتهنَّ إلاّ في موقع الضرورة>([46])، أي أنّ المنع من شهادتهنَّ في هذه المسألة هو محاباتهنّ بنات جنسهنَّ في هذه المسألة.

5 ـ أما بالنسبة إلى قبول شهادة النساء في مورد القصاص والقتل فهي مختلفة نوعاً ما، فبعض الروايات سلّمت بقبول شهادتهنَّ وعلّلت ذلك بعدم إمكان ضياع دم امرء مسلم هدراً؛ لأنَّ عدم قبول شهادتهنَّ في بعض هذه الموارد يؤدي إلى إفلات القاتل من قبضة القانون([47])، وفي مقابل هذه الرواية هناك رواية أخرى عن الإمام الصادق % في هذه المسألة قال فيها: <تجوز شهادة المرأة في الشيء الذي ليس بكثير من الأمر الدون، ولا تجوز في الكثير>([48]). والآية 282 من سورة البقرة تشير أيضاً إلى احتمال وقوع النسيان من قبل النساء؛ ولذلك فإن مصلحة الحكم في الموضوعات التي تؤدي إلى صدور الحكم بالقتل والقصاص تستوجب مزيداً من الاحتياط، وأحد الطرق لحلّ الاختلاف بين هذه الروايات هو أن نقبل الرواية الأخرى (قبول شهادة النساء) على وقوع القتل لإثبات الدية، ولا نكتفي بشهادة النساء في النوع الثاني من الموضوعات أي إثبات القصاص، وهذا الرأي ينسجم مع مصالح الشريعة في باب الاحتياط في الأمور المهمّة، كمسألة الدم من جهة عدم ضياع دم مسلم هدراً.

6 ـ ولتحقيق الهدف الآخر للشريعة، وهو الحيلولة دون هروب المجرم من العقاب، اقترح الإسلام طريقاً استثنائياً في خصوص إثبات الجنايات الكبرى كالقتل، فإذا فقد المدّعي البينة لإثبات دعواه فإنَّ المدعى عليه يمكن تبرئته من التهمة إذا أقسم؛ ولأهمية مسألة القتل وللحيلولة دون فرار أيّ شخص من قبضة العدالة، وضعت الشريعة الإسلامية قانون <القسامة>، أي شهادة خمسين شخصاً مع الحلف لإثبات الجرم على المتهم([49]). وهناك رواية في وسائل الشيعة تشير إلى علّة تشريع هذا الحكم، وتقول: <وصارت البيّنة في الدم على المدعى عليه واليمين على المدعي؛ لأنه حوط يحتاط به المسلمون؛ لئلا يبطل دم امرء مسلم، وليكون ذلك زاجراً وناهياً للقاتل لشدّة إقامة البينة على المحجور عليه، لأنَّ من شهد على أنه لم يفعل قليل وأما إنْ جعلت خمسين رجلاً فلما في ذلك من التغليظ والتشديد والاحتياط لئلا يهدر دم امرء مسلم>([50])، وهذه الرواية تؤيد مرّةً أخرى قيام الأحكام القضائية على أساس المصالح الاجتماعية، وقد بُيّنت فيها بعض المصالح، مثل عدم ضياع دم امرء مسلم، وعدم ضياع حقوق أفراد الأسرة والحيلولة دون هروب القاتل الذي قد يكون بارعاً في عدم ترك أيّ أثر للجريمة. وهذه الطريقة خطوة وقائيّة؛ لأنَّ مسألة القسامة جعلت إمكان الفرار من العدالة مسألة صعبة؛ فالقاتل لا يمكن أن يلوذ بالفرار من العقاب بالاعتماد على التخطيط الدقيق، ومن جهة أخرى فإنّ زيادة عدد الشهود إلى خمسين نفراً قلّل كثيراً من التواطئ على الكذب، وأوجد نوعاً من الاطمئنان بصحّة شهادتهم على الشخص الذي عجز عن إقامة أيّ نوع من الأدلّة على براءته.

7 ـ يحتاج إثبات الزنا إلى عدد مضاعف من الشهود، خلافاً لبقية الجرائم الأخرى، وقد ذكرت مصلحتان في الروايات لهذا الحكم:

الأولى: المنع من إشاعة الفساد والسعي لستر الجريمة، جاء في الرواية: <وجعل ما دون الأربعة شهداء مستوراً على المسلمين>([51])، والصعوبة في هذه المسألة هي أنه إذا تخلّف أحد الشهود الأربعة في وقت أداء الشهادة فإنّ الشهود الثلاثة يجب أن يُجلدوا، وإعلان هذه الجريمة نفسها يساعد على إشاعتها إضافة إلى أنه يضرّ بكيان الأسرة.

الثانية: إنّ هذا الحكم إنما يختصّ بالذين لا يمتنعون ولا يبالون بالقضايا الأخلاقية، ولا يسترون على أنفسهم؛ فهناك روايات متعدّدة عن الرسول 2 والإمام علي %، تؤكّد على أنهما كانا يتجاهلان إقرار المذنبين بمثل هذه الذنوب([52]). روي عن الإمام الرضا % في جواب رسالة محمد بن سنان، فكتب: <لشدّة حدّ المحصن؛ لأنّ فيه القتل فجعل الشهادة مضاعفة مغلّظة>([53]). يعني أنّ المصلحة وعلّة التشدّد في شهادة زنا المحصن هو العقوبة القاسية، ومع ذلك فإنّ هناك عدداً قليلاً قد ابتلوا بمثل هذا الذنب. وعلّة تجنب الشارع زيادة عدد المحكومين بهذا العقاب إما أن يكون رعاية المصلحة العامّة في تقليل المحكومين بهذه العقوبة الشديدة، أو إيصالها إلى أقلّ نسبة من احتمال الخطأ.

 

3ـ مقاصد الشريعة في القوانين الجزائية والجنائية (حدود، قصاص، ديات)

من مقاصد الشريعة في القصاص عقاب الجاني وإقامة العدل في المجتمع، وشفاء غيظ أقارب المجني عليه، وتطهير المجرم، ومنع الجرم والحيلولة دون ارتكاب الجرائم من قبل الآخرين.

وهنا بعض هذه المقاصد في الأحكام الجزائية والجنائية:

1 ـ وضعت بعض الحدود الإلهية في مقابل الحقوق الخاصّة لأفراد المجتمع، والبعض الآخر في مقابل التعدّي على الحقوق العامة والمصالح المادية والمعنوية للمجتمع، وبعض الحدود ذات حقيقة مزدوجة كالسرقة. أما وظيفة الدولة في مورد القسم الأول فهي أن تمنع بعض المتمرّدين من إظهار أيّ ردود فعل عكسية وإجرائها من قبل الدولة بصورة صحيحة، وفي المجموعة الثانية فإن إمام المسلمين باعتباره <أمين الله على خلقه>([54]) قد أخذ على عاتقه وظيفة الدفاع عن المصالح العامة للمجتمع، وإقرار الأمن والعدالة، وإيجاد الجوّ الأخلاقي والمعنوي النظيف، وحراسة الحقوق العامة والتصدّي للمتخلّفين.

2 ـ إنّ محاسبة الدولة على التعدي على الحقوق الخاصة إنما يتحقق إذا اشتكى أصحاب الحقّ فقط؛ لأنَّ هدف الحكومة بالنسبة إلى حقوق الناس هو إرجاع الحق إلى أصحابه وإقامة الحق والعدل، أما هدفها بالنسبة إلى الحقوق العامة فهو تنبيه الخاطئ، ومنع الآخرين من التعدّي، وإصلاح الآثار السلبية في المجتمع؛ فإذا ما تحقّقت هذه الأهداف دون عقاب ومحاكمة فإن الشرع لا يصرّ على إقامة ذلك. أما إذا كان الجرم علنياً ووصل إلى المحكمة، فلا يوجد طريق آخر لمنع إجراء الحدود حتى بالنسبة للدولة الإسلامية، إلا إذا أقرّ المجرم بجرمه قبل إلقاء القبض عليه في المحكمة، وفي هذه الصورة يكون الحكم مشفوعاً بالرأفة والتسامح.

ورد في الرواية أنه: <إذا نظر (الإمام) إلى رجل سرق (له) أن يزبره وينهاه ويدعه، قلت: وكيف ذلك؟ قال: لأن الحق إذا كان لله فالواجب على الإمام إقامته وإذا كان للناس فهو للناس>([55])، وقد اعتبرت هذه الرواية السرقة نقضاً للحقوق الخاصّة بالناس؛ لأنها تؤكد على أن وظيفة الإمام في التصدي للسارقين هو منعهم من القيام بالسرقة
حين القيام بهذا العمل فقط. وهناك روايات أخرى اعتبرت حدّ السرقة بعد مراجعة
صاحب الحقّ للقاضي من حقوق الله سبحانه وتعالى كما هو الحال في حدّ شرب الخمر والزنا، فلا يحتاج إلى طلب صاحب الحق. ومن جملة تلك الروايات رواية الحلبي عن الإمام الصادق %، عندما التمس صفوان النبي 2 أن يعفو عن قطع يد من سرق رداءه، فقال النبي 2: <هلا كان هذا قبل أن ترفعه إليّ>([56])؛ حيث نستنتج من هذه الرواية أنّ السرقة قبل رجوعها إلى الإمام مسألة شخصية؛ ولذلك يمكن أن يعفو عنها صاحب الحقّ، أمّا بعد إرجاعها إليه فتصبح مسألة عامة خارجة عن اختيار صاحب الحقّ نفسه؛ فتتحوّل إلى الإمام والدولة الإسلامية، ومن هذا النوع رواية البرقي في مسألة السارق الذي حضر عند الإمام علي % وأقرّ بذنبه فقال: <إذا أقرّ الرجل على نفسه فذاك إلى الإمام إن شاء عفا وإن شاء قطع>([57]). وهناك روايات أخرى أيضاً في مسألة كتمان الذنوب والجرائم التي تؤثر على عفّة المجتمع إذا كانت غير معلنة، تقول الرواية: <فوالله لتوبته فيما بينه وبين الله أفضل من إقامتي الحدّ عليه>([58]).

3 ـ أما بالنسبة إلى تشديد الحكم وتخفيفه، فهو إنما يكون في ظلّ تحقيق أهداف الشريعة؛ فهناك فرق في إقامة الحدّ في جرائم الفساد الجنسي بين من يتمكّن من إشباع غريزته الجنسية عن طريق مشروع ومن يفتقد هذا الطريق؛ فعقوبة الأول الرجم والثاني الجلد، ورواية حريز تشير إلى حكمة الفرق بين العقوبتين: <الذي يزني وعنده ما يغنيه>([59])، أي أنّ الشخص الذي يزني وعنده ما يُشبع غريزته الجنسية حكمه الموت، وكذلك الشيخ الذي يزني فإن عقوبته تكون أشدّ؛ لأنه قد تجاوز فترة الشبق الجنسي([60])، وكذلك من يُقدم على جريمة الزنا بحيث يراه عدّة أشخاص؛ لأنّ ذلك يكشف عن استهتاره بالقيم الإسلامية والحدود الإلهية.

4 ـ أما حكم الإسلام بالنسبة الاغتصاب، وهو تعدٍّ على الشخصية الإنسانية، فهو الموت، وكذلك الذي يستغلّ الفرصة التي يوفّرها له الإسلام فيعتدي على عفاف المسلمات بالزنا فإنّ عقوبته الموت أيضاً، وهناك رواية عن محمد بن مسلم عن الإمام الرضا % في بيان علّة الحكم بالموت على من يحكم عليه ثلاث مرات جلداً، حيث تقول الرواية: <علّة القتل في إقامة الحدّ في الثالثة لاستخفافهما وقلّة مبالاتهما بالضرب حتى كأنه مطلقاً لهما الشيء>([61])، أي أنّ من عوامل تشديد العقوبة على الشخص عدمَ اهتمامه بالحدود الإلهية وشعوره بالحرية المطلقة من أيّ قيد.

5 ـ من أهداف الشرع تضييق الخناق على الجناة، وإنَّ تشريع القصاص وفسح المجال لعائلة المقتول للاقتصاص من المجرم يؤمّن هذا الهدف؛ فقد ورد عن الإمام السجاد % في بيان الآية الشريفة: >وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ<([62]) أنّه قال: <ولكم يا أمّة محمد في القصاص حياة؛ لأنَّ من همّ بالقتل فعرف أنه يقتصّ منه فكفّ لذلك عن القتل كان ذلك حياة الذي همّ بقتله، وحياة لهذا الجاني الذي أراد أن يقتل، وحياة لغيرهما من الناس إذا علموا أنَّ القصاص واجب لا يجترون على القتل مخافة القصاص>([63])؛ ولذلك فإنَّ إيجاد الأمن في المجتمع يتحقّق بمجرد تحويل الاقتصاص إلى أولياء المقتول، ولا يحتاج إلى إجرائه في جميع الحالات، والإسلام رغّب أولياء المقتول بالعفو.

6 ـ والحكمة من تشريع الحدود الإلهية كالقصاص، إقامة العدل والحيلولة دون وقوع البشر في وحل الذنوب والجرائم؛ فطبقاً للروايات الواردة.. حدّ الله سبحانه وتعالى للإنسان حدوداً، وجعل عقوبةً لتجاوز هذه الحدود([64])، وإن وظيفة تشريع الحدود الإلهية هي الدفاع عن الحقوق الإنسانية، أي أنّ إقامة الحدود الإلهية نوعُ دفاعٍ عن نظام العدل في مجال التشريع والتكوين، ورد في الرواية: <يبعث الله رجالاً فيحيون العدل فتحيى الأرض لإحياء العدل>([65])، وفي روايات أخرى اعتبر إجراء الحدود سبباً لطهارة المجرم من الذنب وزوال العقوبة الأخروية: <علّة ضرب الزاني على جسده بأشدّ الضرب لمباشرته الزنا واستلذاذ الجسد كلّه به، فجعل الضرب عقوبةً له وعبرةً لغيره>([66]).

7 ـ إنَّ إجراء الحدود إذا لم يؤمّن أهداف الشريعة ومقاصدها أحياناً أو أدّى إلى نتائج عكسيّة، فقد أعطت الشريعة الإسلامية الإمام والدولة الحقَّ في توقيف هذه الحقوق؛ فقد روى الشيخ الطوسي عن الإمام علي % أنه قال: <لا أقيم على رجل حدّاً بأرض العدو حتى يخرج منها مخافة أن تحمله الحميّة فيلحق بالعدو>([67])؛ فمن خلال هذا الهدف والمصلحة المنصوصة في هذه الرواية يكون لإمام المسلمين أن يوقف إجراء الحدود إذا ما لاحظ من خلال الرؤية العميقة والحكيمة أنّ إجراءها يؤدي إلى مفاسد أكبر؛ لأنّ النكرة في سياق النفي تفيد شمول الحكم لجميع الأفراد، ويثبت لزوم رعاية كامل المصالح في إجراء الحدود الإلهية.

إنَّ تسامح النبي الأكرم 2 والإمام علي % في إجراء الحدود في حقّ العاصين الذين اعترفوا بذنوبهم، وطلبوا إجراء الحدود عليهم، يدلّ دلالةً واضحة على أنه إذا تحققت أهداف الشارع من دون إجرائها فله (الشارع) أن يغضّ الطرف عن إجرائها، وإنّ العفو عن ذنوب العاصين الذين أقرّوا بذنوبهم أو الذين هربوا حين إجراء الحدود، مثالٌ آخر على رعاية جانب المصلحة من جانب الشريعة.

الاختلاف في القصاص بين المسلمين وغيرهم

من المباحث المثيرة للاهتمام في دراسة رؤية الشريعة لجانب المصلحة في باب القصاص، اختلافُ حكم قصاص المسلمين عن غير المسلمين، فطبقاً لما ورد في الروايات، إذا تعمّد أحد المسلمين قتل غير المسلم فلا يقتصّ منه، لكن إذا حدث العكس فيجب أن يقتص من غير المسلم أو يدفع الديةَ كاملة، والرواية الواردة في الكافي تقول: <المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم>([68])، وهذا الاختلاف لا يوجد بين المسلمين؛ لأنّ المسلمين تتكافؤ دماؤهم، وإن اختلفوا في الطبقة الاجتماعية أو منزلة الإيمان والتقوى، وهذا التساوي ينعدم بين المسلمين وغير المسلمين، لكنّ هذا التمييز لا يرجع إلى الاختلاف في الدرجة الإنسانية؛ بل إنّ غير المسلم الذي لم يتلوّث بحضيض الشرك يتمتع بكامل الحقوق والمنزلة الإنسانية؛ ولذلك يتمتّع المسلمون وغيرهم بمستوى معيشي كافٍ، ولابد أن تتوفّر لهم الحياة الآمنة المستقرّة.

إنّ المساواة بين المسلمين وأهل الذمة في المحاكم وأمام القانون، وهو أصل إسلامي مسلَّم، يؤيّد هذا الأمر؛ ولذلك تصدّى الإسلام وبشدة لكلّ ما يهدّد أمن غير المسلمين، فقد ورد في الحديث: <وسألته عن المسلم: هل يقتل بأهل الذمّة وأهل الكتاب؟ قال: لا، إلا أن يكون معتاداً لذلك>([69])؛ فعقوبة <اعتياد القتل> للمسلم الذي يهدّد أرواح غير المسلمين يشير وبصورة واضحة إلى رعاية الإسلام الحقوق الإنسانية لغير المسلمين وما تفوّه به أمير المؤمنين % عندما اعتدى معسكر معاوية على امرأة ذمّية غير مسلمة، حيث قال: <فلو أنّ امرءاً مسلماً مات دون هذا أسفاً ما كان عندي ملوماً بل كان عندي به جديراً>، يبيّن المكانة الإنسانية الكبيرة لغير المسلمين في الإسلام([70]).

ومع ذلك، لا يستفيد غير المسلمين من تمام المزايا التي يتمتع بها المسلمون في المجتمع الإسلامي؛ مع أنهم يعتبَرون مواطنين في الدولة الإسلامية، والإسلام ينظر لهم نظرةً إنسانية ويحميهم ويرأف بهم، دون الأخذ بنظر الاعتبار انحرافهم العقائدي والأخلاقي والسلوكي؛ ولذلك يمكن ملاحظة الاختلاف بينهم وبين المسلمين في حقوق المواطنة التي لا ترجع إلى الشخصية الإنسانية للفرد. ومن الحقوق التي لا تنبع من الحقوق الإنسانية هو حقّ القصاص؛ فإنّ القصاص قانونٌ وضع على أساس المصالح الاجتماعية؛ ولذا ليس له مكانة متساوية في جميع الأنظمة الحقوقية؛ لأنّ بعض المدارس الحقوقية تشرّع ذلك وبعضها لا تقبله، فما يقتضيه الشأن الإنساني هو الدفاع عن أرواح البشر وعدم هدر دمائهم؛ والإسلام يوفّر الأمن للمسلمين وغير المسلمين على حدٍّ سواء، ويضمن إعطاء الدية لأولياء الدم من غير المسلمين.

إنَّ دفع الدية للمسلم الذي قتل مسلماً آخر، بل وحتى عن طريق غير المسلم، يؤيّد هذه النقطة بالذات، وهو أنّ القصاص لا يرتبط بالشأن الإنساني، وأنّ هناك بدلين مقابل دم الإنسان: أحدهما نفس القاتل، والثاني الدية. وكذلك فإن وجوب رفع الدية هو بسبب إراقة دم غير المسلم لما له من منزلة إنسانية، ولكن لا يجوز الاقتصاص من المسلم في مقابل غير المسلمين.

أين يكمن المقصد في التمييز في الدية بين المرأة والرجل؟

يمكن فهم سبب اختلاف مقدار دية المرأة والرجل إذا عرفنا أنّ الإسلام لا ينظر إلى تساويهما في المنزلة الإنسانية فقط، كما لا يميّز بينهما في المرتبة والمنزلة الاجتماعية الثانوية، كما ورد في الآية:>إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ< (الحجرات: 13)، من هنا يتبيّن أنه لا تفاوت بين المرأة والرجل في القيمة الإنسانيّة. والأمر الذي يؤيّد ذلك هو عدم الاختلاف بينهما في حكم القصاص، وحصره في مقدار الدية، وهو ما يقوم على أساس اجتماعي واقتصادي بحت، فدليل دفع الدية إلى أفراد عائلة القتيل، مع قدرتهم على الاقتصاص والعفو، ليس له إلاّ بُعد مادي؛ فإذا قتل الرجل فإنّ أفراد أسرته فقدوا بقتله السند الذي يؤمّن معيشتهم، ولابدّ أن يملأ هذا الخلأ والنقص في تأمين الحياة المادية، ويقلّل من الصعوبات التي تمرّ بها العائلة، وهذا الأمر لا وجود له في قتل المرأة من جانب الرجل أو امرأة مثلها؛ لأنَّ أفراد العائلة لا تفتقد سندها المادي الذي يؤمّن معيشتها، وإذا ما قرّر أفراد عائلة المرأة قتل القاتل، فيجب أن يدفعوا إلى عائلته نصف الدية بنفس الدليل الذي ذكرناه. ومن الممكن أن يكون إعطاء نصف الدية لعائلة القاتل سبباً في صرفهم عن القصاص، وفي هذه الصورة يؤيّد الإسلام أولوية العفو. وبعبارة أخرى: إن إعطاء نصف الدية من قبل عائلة المرأة القتيلة إلى أسرة القاتل للاقتصاص منه، هو من أجل جبران النقص المادي الحاصل بسبب فقدان ربّ العائلة، وكذلك أخذ الدية كاملةً من قبل عائلة المقتول هو من أجل النفقة التي كان يوفّرها لهم.

هذا بالنسبة إلى دية القتلة، أما بالنسبة إلى <دية الجرح وقطع العضو> فإنّ الاختلاف بين الرجل والمرأة في مقدار الدية إنما يكون في الحالة التي تكون أكثر من ثلث الدية الكاملة فقبل هذا المقدار، أي عندما يكون مورد الجرح لا يخلّ بقدرة الإنسان، فإنّ دية الرجل والمرأة تكون متساوية. وفي تحليل هذه المسألة يمكن أن يقال: بما أنَّ الرجل هو المسؤول عن تأمين نفقات الأسرة في الإسلام، وهذه المسؤولية مرفوعة عن المرأة فلابدّ في الجراحات الشديدة التي تقع على الرجل بحيث تسلبه القدرة على العمل والفعالية أو تقلّلها، أن تكون ديته أكثر من دية المرأة؛ لتقلل من هذا النقص، أما في حالة الجرح الذي يكون أقلّ من ثلث الدية، والتي لا تقلّل من قدرة الرجل على تأمين نفقات الأسرة، فلا يوجد دليل على اختلاف مقدار دية المرأة عن الرجل.

*     *     *

الهوامش


(*) عضو الهيئة العلمية بجامعة طهران، من إيران.



([1]) الشاطبي، الاعتصام 1: 386.

([2]) الشوكاني، إرشاد الفحول 1: 296.

([3]) شرح المعتمد 1: 55.

([4]) راجع: الموافقات، ج1 ـ 2.

([5]) موسوعة الإمام الخوئي 20: 416؛ والتنقيح 4: 121؛ ونهاية الدراية 2: 130.

([6]) راجع: الكافي 1: 54، باب البدع والرأي والمقاييس.

([7]) الشهيد الأوّل، القواعد والفوائد 2: 138، و1: 38، 60 ـ 64، 141 ـ 144.

([8]) منتهى الدراية 7: 366.

([9]) مصادر الفقه الإسلامي: 12.

([10]) بحر العلوم، بلغة الفقيه 2: 14.

([11]) الرشتي، بدائع الأفكار: 212، (آل البيت، 1313هـ).

([12]) وسائل الشيعة 17: 63، الباب21، وجوب الكدّ على العيال من المال الحلال؛ والكافي 5: 113.

([13]) وسائل الشيعة 17: 72، الباب25، باب استحباب مباشرة كبار الأمور.

([14]) المصدر نفسه: 58، الباب18.

([15]) المصدر نفسه 17: 33، باب7.

([16]) المصدر نفسه، الأبواب: 5، 16، 25، 26، 35، 42.

([17]) الحراني، تحف العقول: 333.

([18]) وسائل الشيعة 17: 81، أبواب ما يكتسب به.

([19]) المصدر نفسه.

([20]) المصدر نفسه.

([21]) الكافي: 128، باب أكل مال اليتيم، ح5.

([22]) المصدر نفسه: 168.

([23]) النعمان، دعائم الإسلام 2: 21.

([24]) الطوسي، تهذيب الأحكام 7: 422.

([25]) الطوسي، الاستبصار 3: 71.

([26]) المصدر نفسه 3: 114.

([27]) وسائل الشيعة 27: 222.

([28]) الكافي 5: 105.

([29]) تحف العقول: 332.

([30]) الكافي 3: 497.

([31]) وسائل الشيعة 9: 77.

([32]) غرر الحكم: 360 ـ 396.

([33]) تفسير العياشي 2: 13.

([34]) وسائل الشيعة 9: 232، خبر أبي بصير.

([35]) المصدر نفسه: 235، الباب 9.

([36]) المصدر نفسه 9: 1، خبر محمد بن سنان.

([37]) المصدر نفسه، صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم.

([38]) المصدر نفسه 27: 11، الباب الأول.

([39]) الكافي 5: 126.

([40]) وسائل الشيعة 27: 211، أبواب آداب القاضي.

([41]) الاستبصار 3: 12، الباب التاسع.

([42]) الصدوق، من لا يحضره الفقيه 3: 40.

([43]) المصدر نفسه.

([44]) الكافي 7: 380.

([45]) وسائل الشيعة 27: 245.

([46]) المصدر نفسه: 268، ح50.

([47]) المصدر نفسه: 150.

([48]) المصدر نفسه، ح 22.

([49]) المصدر نفسه 29: 151، الباب التاسع.

([50]) المصدر نفسه: 235.

([51]) المصدر نفسه 28: 15.

([52]) المصدر نفسه: 36، الباب السادس عشر.

([53]) المصدر نفسه 27: 238.

([54]) تهذيب الأحكام 10: 44.

([55]) الكافي 7: 262.

([56]) وسائل الشيعة 27: 38.

([57]) المصدر نفسه 28: 41.

([58]) الكافي 7: 188.

([59]) المصدر نفسه: 178.

([60]) المصدر نفسه: 177.

([61]) الصدوق، علل الشرائع 2: 546.

([62]) البقرة: 179.

([63]) وسائل الشيعة 29: 54.

([64]) الكافي 7: 195.

([65]) المصدر نفسه: 174.

([66]) وسائل الشيعة 28: 94.

([67]) تهذيب الأحكام 10: 40.

([68]) الكافي 1: 403.

([69]) وسائل الشيعة 29: 107.

([70]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 2: 74.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً