أحدث المقالات




مَن سيرث تجربة فضل الله الاجتماعية ويضمن بقاءها وديمومة نموّها؟

ابراهيم بيرم

يروي بعض المتصلين بقيادة "حزب الله" أنه في اللقاء الاخير الذي جمع الامين العام للحزب السيد حسن نصرالله والمرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله والذي جرى قبل نحو شهر ونصف شهر من ارتحال الاخير، قال المرجع "لتلميذه" القديم: "اشعر بأنني قاب قوسين او ادنى من لقاء ربي، وعليه لا اجد الا انت الشخص المؤهل لاستكمال المسيرة وللسهر على الخط والائتمان عليه".

فاذا كان هذا الكلام هو في عرف البعض بمثابة اشهار للوريث للنهج السياسي والفكري للمرجع الذي بدأ رحلة حياته العملية داعية الى صحوة سياسية ومشروع تغييري، واذا كان القيمون على المكتب الشرعي للمرجع قد حسموا امر "توريث" النهج الشرعي له من خلال التذكير بفتوى مشهورة قديمة فحواها انه بالامكان الاستمرار في تقليد المرجع المتوفى ابتداء، فان السؤال المطروح بالحاح في الوسطين الشيعي واللبناني عموماً هو من سيكون في مقدوره "وراثة" المؤسسات الرعائية والصحية والتربوية الضخمة التي غرست غرسات صغيرة ونمت وصارت شجرة مكينة وارفة على يد السيد فضل الله وحده. وأبعد من ذلك، من سيكون في مقدوره الحفاظ على هذه المؤسسات الواسعة الانتشار والمتشعبة نامية مزدهرة وقادرة على الاستمرار والعطاء.

وللتدليل على اهمية هذه "التركة"، لا بد من الاشارة الى ان المرجع الراحل كان يشرف عمليا على مبرات (مدارس ايتام) يعيش ويتعلم فيها نحو 15 الف طالب و13 ثانوية ومدرسة يتعلم فيها نحو 20 الف طالب و3 معاهد للتعليم الفني المهني يتلقى العلم فيها نحو 3 آلاف طالب ودار للتربية والتعليم/ مؤسسة للمكفوفين والصم والبكم ومستشفى ضخم (مستشفى بهمن في حارة حريك) و3 مستوصفات ومراكز صحية ضخمة ودار للمسنين ومعهد للتعليم الشرعي (حوزة دينية) وعشرات المساجد (اهمها مسجد الامامين الحسنين) ومركز دراسات ابحاث واذاعة ودار نشر ومجلة فكرية ونشرات، اضافة الى مكتب خدمات اجتماعية (موازنته نحو 15 مليار ليرة سنوياً) ومكتب خدمات شرعية، وشبكات تكفل للايتام وصناديق خدمات ونذور وجمعيات الارشاد واملاك وعقارات وقفية تتعدى حدود لبنان. ولم يعد خافياً ان المرجع فضل الله خاض في الميدان الرعائي والاجتماعي تجربة غير مسبوقة في تاريخ الطائفة الشيعية في لبنان، إن من حيث الاتساع والشمولية او من حيث الدقة والتنظيم والشفافية حتى صارت هذه التجربة مثالاً يحتذى ينجذب اليها المسلمون على اختلاف مذاهبهم ليتعلموا بها ويقتدوا بنتاجاتها وعطاءاتها الى درجة ان بعض الخبراء والمطلعين وصفوها بأنها تجربة تتعدى قدرة مرجع واحد وعالم دين واحد على تحمل اعبائها وتبعاتها، واكثر من ذلك قدرته على ادارتها وملاحقة تفاصيلها ويومياتها بشكل ناجح، الا اذا كان هذا الانسان استثنائياً كما هي حال السيد فضل الله.

ويذكر بعض المرافقين لمسيرة المرجع فضل الله الرعائية انه على سبيل المثال لا الحصر تسلم  عام 1979 مبرة الامام الخوئي كواحدة من المؤسسات التي كان زرع نواتها الاولى الامام موسى الصدر بدعم من المرجع الشيعي الاعلى آنذاك السيد ابو القاسم الخوئي، وكانت عبارة عن مبرة صغيرة في حي صغير في الضاحية الجنوبية لا تستوعب اكثر من 250 طالباً، الا انه نجح لاحقاً في تأمين مكان بديل منها بين خلدة وعرمون على مساحة اكثر من 10 آلاف متر وصار بمقدورها ان تستوعب  اكثر من 5 آلاف طالب تعليماً (حتى نهاية المرحلة الثانوية) وايواءً.

ومن البديهي الاشارة الى ان هذه الرحلة الشاقة والشائكة وهذا الازدهار المشهود له لهذه التجربة الضخمة للسيد فضل الله ما كانت لتكون الا بفضل توافر جملة شروط للسيد نفسه قلما تتوافر لشخصية علمائية مثله في اي عصر او مصر. فالسيد استطاع، وبالتحديد بعد عام 1978، ان يكتسب تدريجا ثقة جيل شبابي كان يبحث عن مرجع فكري وفقهي وسياسي يستهدي به، ويرسي مداميك تجربة مختلفة، ولا ريب ان هذا الجيل الكبير الذي تربى على يديه مباشرة او بالواسطة كان عماد رحلته وأعمدة تجربته اللاحقة سواء في المجال الرعائي الخدماتي او في الميادين الاخرى المتعددة.

الى ذلك، شكلت النجاحات الاولى البكر للسيد في الميدان الرعائي والتربوي مادة جذب للشيعة في العالم العربي والعوالم الاخرى، لكي يجدوا لدى السيد ضالتهم المنشودة إن لجهة الثقة به وبحكمته وادارته وإن لجهة وضع عائدات الخمس والصدقات والنذور وما الى ذلك في "ذمته" وطوع تصرفه. ولقد نجح السيد لاحقاً بعد تأسيسه ادارة المبرات في انشاء دائرة خاصة مهمتها التواصل مع هؤلاء وتنظيم عملية الاستيفاء والجباية منهم. ولا شك في ان هذه الثقة المتعاظمة به من الشيعة العرب هي التي شجعت على سبيل المثال متمولاً شيعياً واحداً من الكويت هو السيد عبد الحسين بهمن على التكفل بمفرده ببناء مستشفى بهمن الضخم والحديث في حارة حريك والذي كلفت عملية بنائه عام 1996 اكثر من 13 مليون دولار.

ولا ريب ايضاً ان الثقة إياها التي ربطت بين السيد والنخب الشيعة المتعلمة هي التي جذبت طاقات علمية وهندسية وفكرية للتكوكب حوله وتقديم أفكار متطورة ومنتجة له، كمثل أفكار بناء مطاعم "الساحة" الشهيرة وملحقاتها، ومشاريع محطات الايتام، كشكل جديد مضمون من أشكال الرفد والدعم الماليين للمبرات ولبقية المشاريع والمؤسسات الرعائية والخدماتية الآخذة في النمو والاتساع أفقياً وعمودياً.

والأكيد ان السيد فضل الله كان يحاول ضمناً تقديم تجربة مميزة وجديدة وحضارية من نوعها في مجال ارساء مؤسسات مستديمة العطاء، انطلاقاً من أمرين اثنين نزلا منزلة كبرى في منظومة طروحات السيد ورؤاه التطويرية والتحديثية التي أتى جهاراً بها:

الاول: إن السيد كان يضع في أحاديثه وفي مجالسه الخاصة، وفي نتاجاته الفكرية ومقابلاته الاعلامية، ملاحظات سلبية على الاداء النمطي التقليدي للمرجعيات الشيعية في النجف الأشرف وسواه من حواضر الدراسة الحوزوية للعالم الشيعي، وهو الاداء المعتمد على "عرض" المرجع الواحد وعلى تفرده وبعض أفراد عائلته أو بعض أعضاء الحلقة الضيقة المحيطة به، بكل أمور المرجعية، وعائداتها وأبواب علاقة المرجع بالمقلدين. ولم يعد جديداً القول انه بناء على هذا الانتقاد الصريح للشكل التقليدي لدور المرجعية، كانت للسيد دعوته الشهيرة أولاً الى شيء اسمه "شورى الفقهاء" وفحواه انه بعد تشعب الاهتمامات وتطور سبل العلاقة بين المرجع المقلد والمقلدين لم يعد جائزاً ان تحصر كل أمور المرجعية وعلاقاتها بالمريدين بيد مرجع واحد مهما بلغت قدرات هذا المرجع وطاقاته، واتسعت دائرة اجتهاداته وعالميته، بل صار لزاماً ايجاد هيئة فقهاء ومراجع، يتخصص كل منها بجانب معين من جوانب الحياة المعاصرة، فتقدم للعالم الشيعي والعالم الاسلامي نموذجاً راقياً من المرجعيات الرشيدة المتسعة الآفاق والمنفتحة على قضايا العصر وتشعبات الحياة. وهذا ما سماه المرجع فضل الله لاحقاً "معالم المرجعية الرشيدة الجديدة" التي ينبغي أن تتكون لتأتي متصالحة مع العصر وقضاياه الملحة والمتناسلة يومياً.

ولم يعد خافياً ايضاً  ان السيد فضل الله كان يتحدث أحياناً كثيرة عن تنظيم يدنو من تجربة الفاتيكان، كمرجعية روحية ودينية للعالم الكاثوليكي.

الثاني: ان السيد فضل الله الذي سعى الى نموذج مختلف متميز عن المرجعيات الشيعية، كان يقارب دوماً في أحاديثه الخاصة مسألة افتقار المسلمين في لبنان، الشيعة على وجه التحديد، الى مؤسسات رعائية وتربوية وصحية واجتماعية تكون وقفيات وأوقافاً تؤمن لها الديمومة والنمو. ولا ريب ان السيد كان كسواه من علماء الشيعة ونخبها يعلم علم اليقين ان ثمة علماء شيعة بذلوا في مطالع القرن المنطوية صفحته، جهوداً جبارة في تأسيس تجربة رعائية وتربوية، مستندين الى دعم من الشيعة المقيمين والمغتربين على حد سواء، بغية ارساء مؤسسات رعائية، كمثل التجربة التي خاضها المرجع الشهيد الراحل السيد عبد الحسين شرف الدين في صور والتي أثمرت تجربة مؤسسة مدارس الجعفرية. ولكن هذه التجارب، على أهميتها، سرعان ما كان يصيبها الذبول والضمور، بفعل عاملين سلبيين اثنين: الاول عدم توافر جهة تدير المشروع والمؤسسة وتسهر عليهما بهدف حفظهما وصونهما من عوامل الاخفاق، والثاني وجود نظام خاص في الفقه الشيعي اسمه "الوقف الذري" والذي يعني ايكال أمر ادارة مؤسسة رعائية أو وقفية لذرية المرجع أو العالم الديني حصراً، وهو أمر ادى لاحقاً الى تبدد وضياع جهود وذبول تجارب كانت في حينها مضيئة وواعدة.

ولا شك في ان السيد فضل الله وسواه من الرموز الشيعية الدينية والسياسية يذكرون بمرارة، على سبيل المثال، مصير تجربة مؤسسات الامام الخوئي في بريطانيا وغيرها من دول العالم التي نهضت بفضل أموال مرجعية هذا الإمام، وما أصاب هذه المؤسسات من سلبيات وعلل، وما حكي عن ضياع ملايين الدولارات التي كانت باسم هذه المرجعية، بفعل غياب ادارة رشيدة ومنظمة تحسن ادارة هذه الاموال وتحافظ عليها وتنفقها في مصرفها الطبيعي.

وفي كل الاحوال، فإن  كل المعطيات تشير الى ان المرجع السيد فضل الله قد وعى في حياته كل هذه المحاذير، ووضع نصب عينيه التجارب التي اعترتها السلبية لمن سبقه في عالم المرجعية، وقد احتاط لهذا الامر كله، ووضع نظماً واطراً وآليات إدارية، تضمن لهذه المؤسسات التي بذل جهداً كبيراً في سبيل انهاضها ودفعها قدماً، الا ان على عائلة السيد فضل الله وتلك النخبة التي واكبته وكانت موضع ثقته، ان تعطي لمن يعنيهم الامر اشارات واضحة وشفافة تجعلهم يطمئنون الى ان هذه المؤسسات وان كان ارسى لَبِناتها الأولى عقل جبار واحد، حظي بثقة المريدين والمقلدين، الا ان هناك عقولاً عدة مستعدة لكي تصونها وتحول دون تراجعها وتجعلهم ايضاً يتواصلون معها ويرفدونها، كما لو كان السيد فضل الله لا يزال حياً يرزق.

ibrahim.bayram@annahar.com.lb    

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً