أحدث المقالات

نظرية المعرفة وواقع التطبيق
 

إيمان شمس الدين

شكلت المعارف البشرية ومصدرها عند الإنسان مادة جدلية شغلت المفكرين مدة زمنية ليست قليلة بل مازالت محور بحث وتمحيص وإعادة نظر بين كل من المفكرين الغربيين ونظرائهم الإسلاميين.

ولعلنا في هذه العجالة لسنا في صدد تسليط الضوء على هذه النظرية من جديد أو إعادة نقد بعض مبانيها عند الفلاسفة الغربيين لأن ذلك مورده في بحوث أخرى عند أهل التخصص.

إلا أن ما سنسلط عليه الضوء هو مدى تماهي كل مدرسة مع ما تبنته من أسس فكرية بنت عليها نظريتها المعرفية وما انتجته كل مدرسة على أرض الواقع كنتيجة لهذا الفكر المعرفي.

فالغربيون أمنوا بأن المصادر الرئيسية للمعرفة عند الإنسان هما الحس على مستوى التصور والتجربة على مستوى التصديق وأنكروا دور العقل في ربط العلاقات والاستنتاج (قانون العلية العام) بل أنكروا أيضا دور الوحي أو ما أسموه الميتافيزيقيا.

أما الإسلاميون فقد آمنوا بأن الحس والتجربة هما من مصادر المعرفة الرئيسية إلا أن العقل والوحي هما من مكملات هذه المصادر بل من أهمها.

والمتتبع لواقع التطبيق العملي لهذه النظريات لا يستطيع إلا أن يكون منصفا في توصيف مدى تماهي كل مدرسة مع ما تبنته في نظرية المعرفة.

فالمدرسة الغربية كانت أصدق ما يكون مع نفسها فهي أبدعت في توظيف نظرية المعرفة لتطوير واقعها المعاش والنهوض به إلى أعلى مستوياته المادية ورغم أنها أنكرت دور العقل في المعارف البشرية إلا أنها وظفته دون وعي منها في الاستنتاجات والخروج بنظريات حاكت واقعها الاجتماعي وتماهت معه ولسنا بصدد النقد والتقييم هنا لهذه النظريات بقدر ما نحن بصدد التركيز على تماهي المدرسة الغربية بين نظرية المعرفة التي آمنت بها وكيف وظفتها على أرض الواقع .نعم لا ننكر أبدا سقوط الغرب في شرك إنكار الوحي كمصدر مهم من مصادر المعرفة مما أدى إلى بروز خلل واضح ومهم في كثير من نظرياتهم.

ورغم أن العقلانية والإنسانية وغيرها من المدارس ظهرت إلا أنها أخفقت في سد الثغرات البارزة والمهمة في نظريات الغرب.

ولكن أبدع الغربيون في توظيف مصادر المعرفة التي اعتبروها المصادر الرئيسية كالحس والتجربة في تطوير الحياة الإنسانية في بعدها المادي بل كان لهم فضلا أيضا في تطوير النظريات الاسلامية والتي جاءت كرد فعل على بعض نظرياتهم المنحرفة.ورغم أنهم أنكروا دور العقل لكنهم وظفوه دون وعي منهم أو إذعان في بناء نظريات اجتماعية وإنسانية حاكت واقعهم وحلت كثيرا من مشاكلهم ولو بشكل آني مادي غير معنوي.ورغم هشاشة كثير من هذه النظريات إلا أنهم كانوا صادقين مع ما آمنوا به في نظرية المعرفة.

أما المدرسة الإسلامية التي تبنت نظرية المعرفة بشكل رصين ومتكامل واعتمدت على كل من الحس والتجربة والعقل والوحي كمصادر رئيسية للمعرفة إلا أنها لم تكن صادقة على المستوى العملي.فرغم تسليطها الضوء على أهمية العقل ودوره في بناء المعارف الإنسانية واستقراء الوحي بما يعود بالنفع على واقع الأمة المعرفي في بعدها المعنوي وحتى المادي إلا أنها اهملت دور العقل والتجربة بشكل كبير كترجمة عملية لرفد المعارف البشرية.

فالحس هو بوابة المعرفة العقلية التي ترفده بالمعلومات الأولية والتي ينطلق منها للتفكر والتدبر الأنفسي والآفاقي في آيات الله تعالى مستضيئا بنور الوحي ليترجم نظرياته إلى واقع عملي تجريبي يرفد الحياة البشرية بالخير والمنفعة ويبقيها على اتصال بمركز الوجود ومحوره ألا وهو الله تعالى,إلا أن الواقع العملي مغاير لذلك تماما,إذ أن الواقع العقلي والتجريبي عطلا إما بقصد أو عن غير قصد كمصادر معرفية رئيسية وهامة.

وتحولت الأمة من أمة فاعلة ومبدعة ومنتجة إلى أمة منفعلة ومستهلكة,وأصبح الغرب يصدر لنا رؤاه وما يريده فهو ينتج نظريات ضخمة في الاجتماع والسياسة والاقتصاد والمعارف العلمية والنظرية المختلفة ويرفد بها واقعه الحياتي بل يصدرها لنا كنوع من إحلال ثقافي فكري ومن موقع قوة نتيجة توظيفه الجيد لما آمن به من كون الحس والتجربة هما المصادر الرئيسة للمعارف البشرية  ونقوم نحن بالرد عليها وتفنيدها بدل ان نكون السباقين في تصدير وبلورة الرؤية الإسلامية ورفد المعارف البشرية في بعديها المادي والمعنوي.

وأعتقد أن هناك فجوة كبيرة بين نظرية المعرفة عند الاسلاميين وواقع تطبيقها فالغربيون أنكروا دور العقل في المعارف البشرية ولكن استخدموه في المجالات التي آمنوا بأنها المصادر الرئيسية للمعرفة كالحس والتجربة على أقل تقدير دون إقرار منهم بذلك.

أما الاسلاميون فرغم إيمانهم بدور العقل المحوري في رفد المعارف البشرية إلا انهم في واقع الامر قيدوه بطريقة حدت من قدرته الحقيقية وضيقت من أفقه المعرفي الواسع والقادر على الارتقاء بالمعرفة البشرية حتى على الواقع التجريبي.

فبدل ان يكون الوحي هو الخطوط الفسفورية التي تحدد معالم الطريق للعقل لينطلق بحرية مقننة ومنضبطة دون أن يخرج عن هذه الخطوط أصبح السجن الذي قيد العقل بحدوده الضيقة دون أن يسمح له بالتفكير بصوت عال وبحرية في الافق وسعة في المجال الزماني والمكاني.

ولسنا ننكر أيضا إخفاقنا على المستوى التجريبي رغم إيماننا به كمصدر من مصادر المعرفة.

وما نحتاجه فعليا هو إعادة تفعيل مصادر المعرفة الرئيسية بشكل فعلي وليس انفعالي لنعيد صياغة وبلورة رؤانا ومعارفنا الإسلامية بشكل يتماهى من جهة مع الأصالة ومن جهة أخرى مع الخلود.لنعطي للحس قيمته الحقيقية في رفد العقل بالمعارف الأولية ليترجمها في ضوء الوحي إلى تجارب عملية تحمل الخير للإنسان خاصة أن الدين جاء لخدمته والارتقاء به ولكنه يحتاج من الإنسان أن يخرج خيرات الدين من القوة إلى الفعل مما يجعل حاجتنا لإعطاء  العقل وجوده الفاعل في عالم الوحي ودوره البناء في إعادة بناء نظريات واقعية وعملية تنهض بأمتنا على كافة المستويات.               

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً