أحدث المقالات

هدر العقل العربي

د. حازم خيري

“النهر للمنبع لا يعود

النهر في غربته يكتسح السدود”

عبد الوهاب البياتي

 

بداية أراني متفقا مع قول الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت بفطرية العقل، وكونه أعدل الأشياء قسمة بيننا معشر البشر، فديكارت يقول فى مؤلفه الشهير “مقال عن المنهج([1]): “العقل هو أحسن الأشياء توزعا بين الناس (بالتساوي). إذ يعتقد كل فرد أنه أوتى منه الكفاية، حتى الذين لا يسهل عليهم أن يقنعوا بحظهم من شيء غيره، ليس من عادتهم الرغبة فى الزيادة لما لديهم منه. وليس براجح أن يخطيء الجميع فى ذلك، بل الراجح أن يشهد هذا بأن قوة الإصابة فى الحكم، وتمييز الحق من الباطل، وهي فى الحقيقة التى تسمى بالعقل السليم أو النطق، تتساوى بين كل الناس بالفطرة، وكذلك يشهد بأن إختلاف آرائنا لا ينشأ من أن البعض أعقل من البعض الآخر، وإنما ينشأ من أننا نوجه أفكارنا فى طرق مختلفة، ولا ينظر كل منا فيما ينظر فيه الآخر، لأنه لا يكفى أن يكون للمرء عقل، بل المهم هو أن يُحسن استخدامه. وإن أكبر النفوس لمستعدة لأكبر الرذائل مثل استعدادها لأكبر الفضائل. والذين لا يسيرون إلا جد مبطئين يستطيعون حين يلزمون الطريق المستقيم أن يسبقوا كثيرا من يعدون ويبتعدون عنه“.

ولندلف من مقولة ديكارت إلى القول بأن نصيب الإنسان العربي من العقل ليس أقل من نصيب غيره من إخوته فى الإنسانية، ولو ألقى تجار الآلام فى روعه غير ذلك. فالأرجح ـ كما أسلفنا ـ أن العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس. وعليه يصير مقبولا، ونحن بصدد الحديث عن العقل العربي، ألا نفرق بينه وبين غيره من عقول أمم الأرض. فالعقل الذى يسكن أجسادنا معشر البشر واحد، سواء كان صاحبه عربيا أو أفريقيا أو أوروبيا أو آسيويا أو أمريكيا! كل ما فى الأمر أننا معشر العرب نوجه أفكارنا فى إتجاهات خاطئة ونسلك طرقا جدبة، ناسين أنه لا يكفى أن يكون للمرء عقل، بل المهم ـ كما قال ديكارت ـ أن نُحسن إستخدامه، فهو بوصلتنا فى طريق الحياة، إن ضل ضللنا وإن أصاب أصبنا!

على أية حال، لنبدأ بحثنا بتتبع رحلة العقل عبر التاريخ، على أمل التعرف على مراحل تطوره، يحدونا ما أورده عابد الجابري فى كتابه “تكوين العقل العربي” بشأن العقل فى الثقافة اليونانية، وقوله بأن هراقليطس كان ـ فيما يذكر مؤرخو الفلسفة ـ أول من قال بفكرة “اللوغوس” أو العقل الكوني. فلكى يفسر هذا الفيلسوف اليونانى النظام السائد فى الكون، بعيدا عن الميثولوجيا والأساطير، قال بوجود “قانون كلى” يحكم الظواهر ويتحكم فى صيرورتها الدائمة الأبدية. كما قال الرجل بأن العقول البشرية تستطيع التوصل إلى معرفة صحيحة عن ظواهر الطبيعة إذا هى شاركت فى العقل الكلي، أي إذا هى اجتهدت فى البحث فى نظام الطبيعة وأدركت ما يتصف به هذا النظام من ضرورة وشمول. فهذا العقل الكوني أشبه ما يكون بـ “نار إلهية لطيفة“، بل هو “نور إلهى“، هو حياة العالم وقانونه. والنفس البشرية قبس من هذه النار الالهية، أى من هذا القانون الكلي الذى يسري فى الطبيعة ويحكمها، فعليها إذن أن تعرف هذا القانون وتعمل بموجبه([2]).

ويضيف الجابري فى كتابه المذكور أنه إذا كانت فكرة هراقليطس عن العقل الكلي تميل إلى إقرار نوع من وحدة الوجود، باعتبار أن العقل الكوني هذا محايث للطبيعة غير منفصل عنها، فإن تصور اناكساجوراس للـ “النوس” أى العقل الكلي، يختلف من حيث إنه جعل منه مبدأ مفارقا، غير مندمج فى الطبيعة ولا محايث لها. فاناكساجوراس يرى أن الأجسام مركبة من أجزاء متشابهة تقبل القسمة إلى غير نهاية من حيث المبدأ، ولكن مع افتراض وجود أجزاء فى غاية الصغر لا تنقسم، هى أشبه بالبذور الأولى، لا تُدرك بالحواس وإنما تُتصور بالعقل فقط. ولقد كان الكون فى أول أمره عبارة عن خليط فوضوى من هذه البذور، عبارة عن “كاوس“، أى عبارة عن عماء مطلق يشكل الكل الموجود([3]).

والعقل ـ طبقا لاناكساجوراس ـ هو الذى نظم كل شيء وهو العلة لجميع الأشياء. ذلك لأنه كى يتمكن ذلك الخليط الأولى، أو العماء الكلي، من الخروج من عطالته لابد من قوة محركة تقوم بالفصل بين الأجزاء ثم الوصل بينها وإعادة تركيبها. وهذه القوة المحركة سماها اناكساجوراس “النوس” أو العقل الكلي. وهى تدرك جميع الأشياء التى امتزجت وانفصلت وانقسمت، وهى التى بثت النظام فى جميع الأشياء التى ُوجدت والتى توجد الآن والتى سوف توجد. وهكذا فالعقل ـ طبقا لاناكساجوراس ـ يحكم العالم، فنظرية الفيلسوف اليونانى لا تترك أى مجال للصدفة، فكل شيء عنده نظام وضرورة. وإذا كان هناك ما يبدو، كأنه مجرد مصادفة، أى غير خاضع للحتمية والضرورة، فليس ذلك راجعا ـ فى رأيه ـ إلا إلى عجزنا عن اكتشاف سببه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فـ “النوس” ليس عقلا يفكر وحسب، هكذا بعيدا عن العالم متعاليا، بل إنه أشبه بالنفس: هو بالنسبة للعالم كالنفس بالنسبة للجسم، بل هو نفس كل ما له نفس، أو أن نفوس الكائنات الحية قبس منه، ومع ذلك فهو غير محايث للطبيعة إذ يظل مستقلا عنها خارجا عن دائرتها. إنه عبارة عن نفس مستقلة تصدر عنها نفوس مستقلة كذلك([4]).

ومهما يكن من أمر الاختلاف بين تصور كل من الفيلسوفين اليونانين هراقليطس واناكساجوراس للعقل الكلي (الذى يتنزل منزلة الاله فى الديانات التوحيدية) فإن القول بمحايثته للطبيعة أو انفصاله واستقلاله لا يغير من جوهر التصور اليوناني للعلاقة بين الطبيعة وهذا العقل الكلي وبينه وبين الإنسان. فعلى فكرة هراقليطس عن “اللوغوس” تأسست الفلسفة الرواقية، بل كل الفلسفات التى تميل إلى نوع من وحدة الوجود، أما فكرة اناكساجوراس عن “النوس” فقد كانت وراء فلسفة سقراط التى تأسست عليها فلسفة كل من أفلاطون وأرسطو. وطبقا لعابد الجابري، يظل الفكر الأوروبي الحديث، رغم كل ثوراته على “القديم” متمسكا بفكرة “العقل الكوني“، متصورا إياه على أنه “القانون المطلق للعقل البشري“.

ولعل فترة العصور الوسطى هى الفترة الأقل ثراء وخصوبة في رحلة العقل عبر التاريخ، رغم قول الفيلسوف المصري الراحل عبد الرحمن بدوى في كتابه المهم “فلسفة العصور الوسطى” إن العصور الوسطى لم تكن في الواقع غير دور من أدوار تطور العقل الإنساني وهو يسعى إلى تحقيق ممكناته، دور عامر بالتفكير الحي الخصب المناضل من أجل حرية العقل في التفكير والبحث عن الحقيقة واكتناه أسرار الطبيعة وتحقيق الوسائل المؤدية إلى تقدم الإنسانية!

يقول بدوى في كتابه إن العقل الإنساني وجد نفسه مغلقا عليه داخل أسوار متينة هى أسوار العقيدة الدينية، فكان عليه أن يقتصر على التجوال بين هذه الجدران. ولما بدأ يشعر بشيء من الحرية كان عليه مع ذلك أن يحدد موقفه من مسألة حق العقل بإزاء النقل، أعنى الصلة بين نفسه وبين مضمون العقيدة الدينية. وكان عليه في أول الأمر أن يقول بأن الاتفاق تام فيما بين ما يقول به العقل وما أتى به الدين، لأن الحق لا يتعدد، والفلسفة ما هى إلا البحث عن الحق، والحق هو الدين. لهذا نجد عند الآباء الأولين أن كلمة “لاهوت” وكلمة “فلسفة” أو “حكمة” تدلان على أمر واحد. ثم تطورت الصلة شيئا فشيئا، فحاول العقل أن يؤكد كيانه إزاء هذا المضمون. فبدأ أولا بالخضوع في شيء من الدهاء، بأن قال إن الحقيقة هى الحقيقة الإيمانية، غير أن هذه الحقيقة مجملة، فهي في حاجة إلى التفصيل والشرح، وكلاهما يتم عن طريق العقل. وهذا الموقف نراه واضحا في القرنين العاشر والحادي عشر، إذ نجد أنسلم ينشد من وراء استقلال التفكير أن يتعقل الإيمان، أي يفسره حتى يتعقله، ولهذا كان شعاره “أومن لأتعقل([5]).

وطبقا لبدوي، , وقف بطرس أبيلارد في القرن الثاني عشر مثل هذا الموقف وإن تقدم في سبيل تقرير نصيب العقل. فهو لا يزال يؤمن بأن عقيدة التثليث قابلة لأن يُبرهن عليها عقليا وهكذا كان لا يزال يقول إن الحقيقة الدينية تتفق في كل أجزائها مع ما يقضي به العقل. بيد أننا نجد عنده تقدما أكثر مما كانت الحال عليه عند أنسلم، ذلك لأن أبيلارد قال أيضا بوجود تعارض بين أقوال اللاهوت بعضها وبعض، وبين أقوال اللاهوت وأقوال الفلاسفة، وذلك في منهجه المعروف بمنهج “نعم ولا“. وما إن أقبل القرن الثالث عشر حتى بدأ يحدد أكثر فأكثر ميدان العقل ويميزه من ميدان الإيمان، تمييزا يمضي قدما لدى كبار الفلاسفة اللاهوتيين نحو التمييز الواضح البين بين ماللعقل وما للنقل، وهذا التيار يستمر قويا حتى نصل إلى دنس سكوت أريجين، فنرى ميدان النقل الذي يمكن إثباته بالعقل قد انحسر شيئا فشيئا وضاق مداه، فتوما الاكويني أبعد من ميدان البرهان العقلي عددا وافرا من العقائد الدينية التي ظن أسلافه أن من الممكن إثباتها بطريق العقل، مثل التثليث والتجسد والخلاص، فقال إنه ليس من الممكن أن يُبرهن عليها عقليا. وجاء من بعده سكوت أريجين فأنكر امكان إثبات خلود النفس إثباتا عقليا، بل أن براهين وجود الله وبيان صفاته لا تقبل كلها أن تكون عقلية، وكل ما يمكن أن يقال عن هذه البراهين هو أنها محتملة وليست قطعية([6]).

وبحلول القرن الرابع عشر انفصل ميدان العقل عن ميدان الدين انفصالا يكاد يكون تاما، بمعنى أن ما يأتي به الوحي قد لا يكون قابلا للبرهان العقلي، وما يقضي به العقل ليس من الضروري أن يكون الوحي قد جاء به. وكانت نتيجة هذا كله أن أصبحت مشكلة العقل والنقل مشكلة غير ذات موضوع، مما كان إيذانا بقيام الفلسفة الحديثة التي لن تحاول التوفيق بين العقل والنقل، بل تدع هذه المشكلة خارج نطاق البحث الفلسفي. هذا ما حصل في أوروبا المسيحية، أما فيما يخص العالم الإسلامي، فالآراء عديدة ومتباينة، ولا يتسع المجال لذكرها جميعا.

لذا نكتفي بأن نُورد رأيا قد يراه الكثيرون الأبرز والأكثر انسجاما مع القراءة المتأنية لما آلت إليه أوضاع عالمنا الإسلامي، وهو قول المفكر محمد أركون بأن المواجهة بين العقل الديني أو اللاهوتي/ الفقهي والعقل الفلسفي بلغت أوجها في الفترة الواقعة بين القرنين التاسع والحادي عشر الميلاديين. وولدت عندئذ أعمالا فكرية وأدبية رائعة ترهص بالحداثة أو تمثل ما كان أركون نفسه قد دعاه بالحداثة البدائية الأولية. ففي القرن العاشر مثلا استطاع الموقف الفلسفي أن يكسب مساحة اجتماعية وسياسية واسعة بما يكفى لتغذية تيار إنساني حقيقي يستوعب المرجعية الدينية دون أن يعترف لها بالأولوية (إلا فيما يخص سلوك العوام) ولا حتى بالأسبقية. ولكن هذا التيار الإنساني والعقلاني كان للأسف سريع الأفول. فبعد وصول السلوجوقيين إلى السلطة في القرن الحادي عشر أخذت الأطر الاجتماعية والسياسية للمعرفة تضيق وتفتقر. وراحت بالتالي تحبذ أولوية العقل اللاهوتي/ الفقهي على العقل الفلسفي. وما انفك هذا الاتجاه يتزايد ويتفاقم منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا عمليا. وهو ما دعا أركون إلى القول بأن تصفية الموقف الفلسفي من ساحة الفكر الإسلامي تصفية شبه كاملة، إن لم تكن كاملة بالمرة، إنما يُعد نتيجة طبيعية لأفول التيار الإنساني والعقلاني([7]).

ذكرنا سلفا أنه طبقا للجابري، يظل الفكر الأوروبي الحديث، رغم كل ثوراته على “القديم” متمسكا بفكرة “العقل الكوني“، متصورا إياه على أنه “القانون المطلق للعقل البشري“. وأرانى مقتنعا بعدم تعارض قول الجابري مع تأكيد أركون على أن العقل فى أوروبا الغربية بدءا من القرن السادس عشر أو السابع عشر راح ينطلق على أسس جديدة غير تلك التى كان يعرفها سابقا. فقد حرر سبينوزا وديكارت ـ طبقا لأركون ـ العقل الفلسفى من هيمنة العقل اللاهوتى المسيحى، إذ أعطى الرجلان الاستقلالية الذاتية للعقل البشري وللذات البشرية بعد ما انتزعاها من براثن العقل اللاهوتى القروسطى. بالطبع ليس ديكارت واسبينوزا وحدهما من فعل ذلك، وإنما كل الجيل الذى تلاهما أيضا، أى جيل فولتير وديدرو وروسو والموسوعيين وكانط والإنجليز من قبل. والمقصود بالاستقلالية الذاتية هنا أن الذات البشرية هى التى أصبحت تبلور الأخلاق وقواعد السلوك وتنظيم المجتمع على مسؤليتها الخاصة. أصبح التشريع وسن القوانين مسألة بشرية بحتة. وهذا شيء ما كان ليحدث فى العصور السابقة، ما كان الانسان ليجرؤ أبدا على أن يصبح هو معياريته الخاصة ويستقل عن المعيارية الخارجية عليه والتى تحكمت به طيلة قرون وقرون. وهكذ اختلفت مكانة العقل كليا عما كانت عليه فى العصور الوسطى، وانتقلت أوروبا الغربية من مرحلة العقل اللاهوتى القروسطى إلى مرحلة العقل الحديث الكلاسيكي، المرتكز على اليقينيات المطلقة([8]).

والآن، أما وقد وصل تتبعنا لرحلة العقل عبر التاريخ لنهايته، يبيت لزاما علينا القول بأن أوروبا تنتقل الآن من مرحلة العقل الحديث الكلاسيكي المرتكز على اليقينيات المطلقة إلى مرحلة العقل النسبي أو النقدى الذى يعود على نفسه باستمرار من أجل تصحيح مساره أو تعديله إذا لزم الأمر! وهو ما يدعوه البعض الآن بعقل ما بعد الحداثة، أى عقل أكثر تواضعا، لكن أكثر دقة وحركية فى آن معاً (عقل ما بعد انهيار الايديولوجيات الكبرى واليقينيات الراسخة). ولعل فى قول أركون بأن الفرق الوحيد بين عقل الحداثة وعقل ما بعد الحداثة هو أن الثاني وهو يبلور المعارف الجديدة يعرف أنه لن يصل إلى الحقيقة المطلقة، ويعرف أنه يصل إلى حقائق نسبية، مؤقتة، قد تدوم طويلا أو كثيرا، ولكنها حتما لن تدوم أبدا([9]). أقول إن قول أركون يشي بمأساة العقل العربي الذى أراه لا يزال بمحاولاته المتواضعه وأغلاله الثقيلة يسعى لولوج “الحداثة” وما أظنه يلجها بوضعه الراهن! ناهيك عن مرحلة “ما بعد الحداثة” التى يرفل الآن فى غلائلها العقل الغربي!

وللذات العربية أن تثور غيرة على ما قد تتصوره إهانة لكبرياء العقل العربي وكرامته، هذا إن اعتبرنا القول بتواضع وضآلة مساهمة العقل العربي فى رحلة العقل عبر التاريخ إهانة، ووللذات العربية أيضا أن ترمي كاتب هذه السطور بما يروق لها ويطفئ نيران ثورتها، بيد أنى أرجوها ـ وأُلح عليها في الرجاء ـ أن تمضى قُدما في قراءة البحث الماثل حتى نهايته، عسى أن تجد فيه ما يُهدىء روعها وينفى عنا ما قد تكون تلك الذات قد رمتنا به من تُهم بغير حق. أقول هذا وأنا أعلم علم اليقين أن الأمر ليس بالهين، فتجار الآلام فى عالمنا العربي لم ولن يملوا تعمية مواطنيهم عما يحدث من هدر للثروة العقلية العربية، تكريسا لمصالحهم ولو كان الثمن كبرياء وكرامة العقل العربي المغلول!!

أقول إن تجار الآلام، لا يعدمون الطرق والحيل للتغرير بضحاياهم، حتى أنى ـ مع ما أزعمه لنفسي من دراية كافية نسبيا بتلك الحيل ـ كثيرا ما راودني الشك في مسألة هدر العقل العربي!! فكثيرا ما سألت نفسي: هل هناك هدر فعلى للثروة العقلية العربية؟! أم أن الاتهام بالهدر اتهام جائر ليس له أساس من الصحة على أرض الواقع؟! غير أن الواقع حولى والتاريخ ورائي يؤكدان لى دوما أني ما ضللت الطريق وما تجنيت حين عمدت لرصد تلك الظاهرة الخطيرة، بوصفها مسئولة بصورة مباشرة عن خروجنا المخزي والمهين من التاريخ…

 

الاغتراب الثقافي وهدر العقل العربي:

الحق أني أدين بالشكر الوافر لذلك الشك الذى لطالما راودنى بشأن مسألة هدر العقل العربي ومدى اتساقها مع المعطيات التاريخية والمعاصرة، فبفضل هذا الشك ورغبة منى فى حسم موقفي تجاه هذه المسألة الشائكة، رحت ألتمس الحقيقة، تدعمنى فى ذلك بعض المقولات الفلسفية التى سبق لى أن اهتديت إليها أثناء بحوثى فى مجال الفكر الأنسني. بيد أني، وقبل اقدامى على تثمين مقولاتى تلك فى بحثي هذا، أرانى ملزما بتوضيح ما أقصده بـ “هدر العقل” على وجه الدقة، فالمصطلح يبدو فضفاضا ويحتاج مضمونه إلى صياغة دقيقة ومحكمة. فليس بكاف أن يتخذ المرء من تواضع وضآلة مساهمة عقل بعينه فى رحلة العقل عبر التاريخ ذريعة للقول بتعرض هذا العقل للهدر، فقد تكون للعقل مساهمة غير متواضعة وغير ضئيلة ورغم ذلك يكون قابلا لأن يُوصف بتعرضه للهدر!!

إن ما أسميه بـ “هدر العقل” إنما يحدث عندما يعتقد الإنسان، وأعنى بالانسان هنا المنتمين لأي من الثقافات أو الحضارات المختلفة، أنه قد استطاع بناء ثقافة أو أنه قد بُنيت له ثقافة ستعيش مدى الدهر، دون أن تخضع للنقد والتطوير، سواء امتلك هذا الانسان عقلا فلسفيا أو أنه امتلك عقلا لاهوتيا/ فقهيا. ومن ذلك وصف الشاعر اللاتينى الكبير هوراس أشعاره بأنها: “أبقى أثرا من البرونز، لن يُمس بسوء مهما مرت عليه من سنين“! فمن الضرورى على الانسان ـ أيا كانت ثقافته أو حضارته التى ينتمى إليها ـ أن يُثمن عقله، وذلك بالتزام التواضع عند النظر إلى ثقافته تلك أو حضارته، سواء كانت من صنع يديه أو من صنع غيره، فهى بالضرورة ليست أبدية أو محصنة ضد النقد والتطوير. فطبقا للفيلسوف الألمانى أرنست كاسيرر، تظل ثقافتنا أو حضارتنا مجرد قشرة خارجية تحيط طبقات عتيقة ذات أغوار بعيدة، وعلينا أن نُعد أنفسنا على الدوام لمواجهة أية اهتزازات عنيفة قد تهز عالمنا الثقافى أو الحضارى، وقد تعرضه للانهيار!!([10]).

وفى ضوء السرد الوارد سلفا لرحلة العقل عبر التاريخ، وبتطبيق تعريفنا السابق لمصطلح “هدر العقل” على العقل الغربي، يمكن القول بتعرض ذلك العقل للهدر ـ بنسب متفاوتة ـ عندما كان عقلا لاهوتيا فى العصور الوسطى وكذا عندما أصبح عقلا فلسفيا حديثا كلاسيكيا مرتكزا على اليقينيات المطلقة وقبل انتقاله إلى مرحلة العقل النسبي أو النقدى الذى يعود على نفسه باستمرار من أجل تصحيح مساره أو تعديله إذا لزم الأمر! وهو ما يدعوه البعض الآن ـ كما أسلفنا ـ بعقل ما بعد الحداثة، عقل ما بعد انهيار الايديولوجيات الكبرى واليقينيات الراسخة. ولعل فى قول محمد أركون المذكور سلفا بأن الفرق الوحيد بين عقل الحداثة وعقل ما بعد الحداثة هو أن الثاني وهو يبلور المعارف الجديدة يعرف أنه لن يصل إلى الحقيقة المطلقة، ويعرف أنه يصل إلى حقائق نسبية، مؤقتة، قد تدوم طويلا أو كثيرا، ولكنها حتما لن تدوم أبدا، ما يؤكد قولنا بتعرض العقل الغربي للهدر بنسب متفاوتة، قبل ولوجه الراهن لمرحلة “ما بعد الحداثة“، لقناعته آنذاك بكون يقينياته الثقافية، سواء تلك التى بُنيت له فى العصور الوسطى أو تلك التى بناها بنفسه فى العصر الحديث، أبدية ومحصنة ضد النقد والتطوير.

ويظل منطقيا القول بأن العقل اللاهوتى عبر التاريخ كان أكثر تعرضا للهدر من العقل الفلسفي، حتى قبل بلوغ الأخير مرحلة ما بعد الحداثة، فالهدر هنا نسبى بطبيعة الحال، وأظنه بلغ ذروته فى ظل العقل اللاهوتى الذى اعتقد دوما أنه قد ُشيدت له ثقافة مقدسة ومحصنة، من شأنها أن تعيش أبد الدهر دون نقد أو تطوير! فالنقد والتطوير فى عُرف هذا العقل خطيئة! وهو ما يصعب مقارنته بما حدث فى ظل العقل الفلسفى الحديث الكلاسيكي، فقد شيد ثقافته بنفسه، بيد أنه ـ للأسف الشديد ـ لم يفتأ أن وقع فى حبائل الايديولوجيات الكبرى واليقينيات الراسخة! معرضا نفسه للهدر ولو بدرجة أقل من هدر العقل اللاهوتى لنفسه!

كان ذلك هو الحال بالنسبة للعقل الغربي، فماذا عن العقل العربي، خاصة وأن هدره هو موضوع هذه الدراسة؟! الحق أن الأمر جدير ببعض التأنى، فالمسألة كما أسلفنا شائكة، فالبعض يرى أن تعهد مسألة هدر العقل العربي بالرصد والتحليل ينطوى على إهانة جليلة وإساءة فادحة لهذا العقل! وأملى أن أكون بحديثي السالف عن تعرض العقل الغربي للهدر قد أعفيت نفسي من الحرج، لأنه لا يُعقل أن يكون العقل الغربي قد تعرض للهدر على النحو المذكور، وكلنا يعلم مكانة ذلك العقل فى التاريخ وانجازاته الضخمة، فى حين يكون العقل العربي قد نجا من ذلك الهدر، وكلنا ـ أيضا ـ يعلم محنته التى أخرجته من التاريخ!!

والآن، ليسمح لى قارئي الكريم بأن أعضد حديثي الماثل فى عجالة بمقولاتي الفلسفية التى أراها مهمة والتى سبق لى أن اهتديت إليها أثناء بحوثى السابقة فى مجال الفكر الأنسني. وأنا وإن كنت قد أحجمت عن فعل ذلك إبان حديثي عن هدر العقل الغربي، فإنى الآن وقد انتقلت للحديث عن هدر العقل العربي أرى الحاجة ماسة لتلك المقولات، وذلك لسببين أذكرهما لاحقا..

ولتكن بداية حديثي، عن مقولاتي الفلسفية، مع مصطلح “الأنسنية” الذى شكل محورا لدراسة سابقة لى بعنوان “بناء الذات الأنسنية“، جاء فيها أن بناء الذات الأنسنية لا يعني سوى صياغتها بما يسمح لها بتحقيق أكبر قدر ممكن من التطابق بين أقوالها وأفعالها، شريطة انطواء تلك الأقوال والأفعال على تثمين للأنسنية القائلة بالإنسان كأعلى قيمة في الوجود، وهدفها الماثل في التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية، تحسبا لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. وكذا شريطة وقوع تلك الأقوال والأفعال في إطار الخصائص العامة للأنسنية([11]):

1- معيار التقويم هو الإنسان.

2- الإشادة بالعقل ورد التطور إلى ثورته الدائمة.

3- تثمين الطبيعة والتعاطي المتحضر معها.

4- القول بأن التقدم إنما يتم بالإنسان نفسه.

5- تأكيد النزعة الحسية الجمالية.

وطبقا للمعيار الأنسني الوارد الحديث عنه في الدراسة نفسها، يُعد الإنسان أنسنيا (ذاتا أنسنية) طالما أدرك الأنسنية وسعى لتبصير الغير بها، ولم يستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، وكذا يُعد الإنسان ذاتا حتى لو جهل الأنسنية، ولم يُدرك كنهها، أو أعرض عنها، لكنه في تلك الحالة يكون ذاتا مغتربة ثقافيا. فالشائع ـ خاصة في المجتمعات المتخلفة ـ هو تنازل الإنسان عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، إراحة لذاته وإرضاء لمجتمعه! وباستخدام المعيار نفسه، يُعد آخرا كل من يدرك الأنسنية ويستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، ويعمل جاهدا في الوقت نفسه للحيلولة دون أخذ الذات المغتربة ثقافيا بها كنهج حياة، وتعميتها عنها بشتى الوسائل والسبل، بهدف حرمان تلك الذات من جني ثمار الأخذ بالأنسنية.

ولقد انتهيت فى الدراسة المذكورة إلى القول بأن تطور التاريخ الإنساني لا يعدو كونه نتاجا لصراع ثقافي معقد، أطرافه الذات الأنسنية والذات المغتربة والآخر. أقول صراعا ثقافيا، استنادا لتعريف إليوت الأنثروبولوجي للثقافة بأنها طريقة شاملة للحياة، وهو ما يعني كون الصراع أعم وأشمل منه عند الماركسيين، فاحتياجات الإنسان ليست مادية فحسب، فهي تتجاوز الاحتياجات المادية، على خطرها وأهميتها. وأقول صراعا معقدا، لتعدد جبهاته وتداخلها…

فهناك الصراع بين الذات الأنسنية الساعية لتبصير الذات المغتربة بالأنسنية وتعرية دور الآخر في تكريس اغترابها، وبين الآخر المدرك للأنسنية والحريص على الحيلولة دون نجاح الذات الأنسنية في إقناع الذات المغتربة بالتخلي عن اغترابها، وكذا الحريص على الحيلولة دون أخذ الذات المغتربة نفسها بالأنسنية كنهج حياة، وهو صراع مؤلم، لا يتورع الآخر فيه عن استخدام أو إغراء الذات المغتربة باستخدام كافة الوسائل المستترة وغير المستترة لحسمه لصالحه. وهناك أيضا الصراع بين الذات الأنسنية والذات المغتربة، وهو صراع عدائي من جانب واحد، هو جانب الذات المغتربة، يغذيه الآخر كما أسلفنا ويؤججه، فهو يُلقي في روع الذات المغتربة أن قهر اغترابها يعني محو هويتها، وأن جهود الذات الأنسنية لحثها على قهر اغترابها والأخذ بالأنسنية، ليست سوى ممارسات عدائية في حقها، ترمي لمحو هويتها الثقافية وهدر ثروتها العقلية..!!

تلك هى مقولاتى الفلسفية التى أراها مهمة والتى سبق لى أن اهتديت إليها أثناء بحوثى السابقة فى مجال الفكر الأنسني. أوردتها ليعلم قارئي أن الحديث عن مسألة هدر العقل العربي ليس من السهولة بمكان. ولا يعنى احجامي عن الاستعانة بتلك المقولات إبان رصدى وتحليلي لمسألة هدر العقل الغربي عدم امكانية الافادة من هذا النهج الأنسني التفسيرى فى رصد وتحليل تلك المسألة، فالعكس هو الصحيح، غير أنى آثرت الاستئثار بتلك المقولات والافادة منها فى رصدى وتحليلي لمسألة هدر العقل العربي، وذلك لسببين أراهما من الأهمية بمكان: أولهما كون مسألة هدر العقل العربي هي الحالة الأكثر تعقيدا والأهم بالنسبة لكاتب هذه السطور، إذ أن محنة إغتراب العقل العربي لم تترك له ترف الاختيار!! والسبب الثانى هو رغبة كاتب هذه السطور فى تجنب التكرار والتطبيق المزدوج للنهج الأنسني التفسيري المذكور فى رصد وتحليل هدر العقلين الغربي والعربي…

والسؤال الذى يطرح نفسه بقوة: ما هي علاقة الاغتراب الثقافي للذات العربية بمسألة هدر العقل العربي، وأقصد به عقل تلك الذات بطبيعة الحال؟!

ذكرنا سلفا أن تطور التاريخ الإنساني لا يعدو كونه نتاجا لصراع ثقافي معقد، أطرافه الذات الأنسنية والذات المغتربة والآخر. وذكرنا كذلك أن المقصود بالاغتراب الثقافي هو تنازل الإنسان عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، إراحة لذاته وإرضاء لمجتمعه!! ونضيف الآن، أنه على خلاف الحال مع العقل الغربي الفلسفي فى عصر الحداثة، يكتسب العقل العربي بتنازله عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، ثقافة ليست هي ثقافته الحقيقية أو ليست هى ما يجب أن تكون عليه ثقافته حقا، أي أنه يصبح مستهلكا لثقافة ليست من صنعه. وذلك لكونه لم يزل حتى يومنا هذا فقهيا، شأنه فى ذلك شأن العقل الغربي اللاهوتى فى العصور الوسطى. بيد أن الموضوعية تقتضينا القول بأن ادراك العقلين الغربي الفلسفي فى عصر الحداثة والعربي الفقهى فى وقتنا الراهن لثقافتيهما على أنها أبدية ومحصنة ضد النقد والتطوير، يعني تشابههما فيما يتعلق بمسألة تعرضهما للهدر، رغم البون الشاسع الفارق بينهما فى نسب الهدر..!!

قلت إن الذات العربية عادة ما تلتمس راحتها فى اغترابها الثقافي، بفضل ما يلقيه تجار الآلام في روعها، فهم عادة ما يوهمونها بأن اغترابها الثقافي، ومن ثم هدرها لثروتها العقلية، فريضة يوجبها العقل الفقهي، ويطلبون إليها التنازل طواعية عن حقها في نقد وتطوير ثقافتها، تقربا إلى الله وزلفى!! وكذلك يطلبون إليها القبول بتخويل آخرين بأعينهم سلطة ممارسة هذا الحق نيابة عنها وعن غيرها، وغالبا ما يستندون في ذلك إلى حجج واهية. وفاتهم أنه لا يستقيم أن يُقبل من الإنسان هدر أثمن ملكاته وأروعها، فما العقل الإنساني ـ في أكثر الآراء رجحانا ـ إلا قبس الهي يسكن جسد صاحبه، ولولاه لعجز الإنسان عن أداء رسالته، ولظل يضرب في الحياة على غير هدى. ويظل الاعتقاد الراهن لدى الذات العربية بأنه قد بُنيت لها ثقافة ستعيش مدى الدهر، دون حاجة لاخضاعها للنقد والتطوير، دليلا حيا على نجاح تجار الآلام فى تغريب تلك الذات ثقافيا وفى هدر ثروتها العقلية على نحو مخيف، فما العقل العربي (الفقهي) الآن إلا قوة محافظة أساسا، تعمل على كبت أي تمرد على الأوضاع القائمة، وتدعو إلى الاحتفاظ بكل الثقافة السائدة، وتحارب كل ميل جذري إلى نقدها وتطويرها..!!

ويحدث أيضا أن تلتمس الذات العربية باغترابها الثقافي إرضاء مجتمعها، ومرجع ذلك أن تنازل تلك الذات عن حقها الطبيعي في نقد ثقافتها وتطويرها غالبا ما يتم في مجتمع يصطلح أفراده على تقدير واحترام المغترب، ويلتقون في اعتقادهم الراسخ بأن الثقافة السائدة هي الضمانة الحقيقية لصيانة هويتهم، وأنها أسمى من أن تمتد إليها أيديهم بالنقد والتطوير. فالمغتربون عادة ما يتنازلون بصورة جماعية عن حقهم الطبيعي في نقد ثقافتهم وتطويرها إلى من يرونه أحق منهم بذلك، وأقدر منهم على ارتياد ما يتصورونه طريقا وعرا ومحفوفا بالمخاطر. وغالبا ما يقف الآخر، وأقصد به كما أسلفت كل من يُدرك الأنسنية ويستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، ويعمل جاهدا في الوقت نفسه للحيلولة دون أخذ الذات المغتربة بها كنهج حياة، وتعميتها عنها بشتى الوسائل والسبل، بهدف حرمان تلك الذات من جني ثمار الأخذ بالأنسنية، وتكريس هدر ثروتها العقلية. أقول إنه غالبا ما يقف الآخر، عربيا كان أم غربيا، وراء إهدار الذات المغتربة لثروتها العقلية، وذلك عبر سعيه المحموم لتكريس الاغتراب الثقافي لتلك الذات البائسة…

والحق أن الآخر، خاصة الآخر العربي، لم يكن ليبلغ لبانته لولا وجود آليات بعينها تعينه على أمره. فالاغتراب في حاجة لدعم دائم من سدنته، وليس هناك ما هو أكثر ضمانا لديمومته من وجود دعم مؤسسي دائم ومنتظم له. فبدون مثل ذلك الدعم يصير من الصعوبة بمكان الحفاظ على الرسوخ الدائم لفكرتى الاغتراب والهدر في الأذهان. وغالبا ما تتخذ الصيغة المؤسسية أشكالا مختلفة، فالمؤسسية التي يقصدها الكاتب لا تعني بالضرورة بنايات ضخمة وجيش عرمرم من الموظفين وزخم بيروقراطي، ولكنها تتراوح ما بين تلك البنايات المهيبة وبين شخصيات بعينها، يُصيرها سدنة الاغتراب بحرفيتهم الدعائية ومهارة ترويجهم للاغتراب رموزا شبه مقدسة، يزعمون أن الباطل لا يأتيها من بين يديها ولا من خلفها، وهو ما يُيسر انقياد المغتربين إليها انقيادا أعمى…

وكما أن الصيغة المؤسسية تتخذ أشكالا مختلفة، يتسع نشاط تلك المؤسسات المعنية ليشمل مجالات عديدة. فتكريس الاغتراب الثقافي للذات، والهدر المحزن لثروتها العقلية، لا يتم عبر آليات محدودة كما قد يتوهم الكثيرون، ولكنه يتم عبر آليات عديدة ومتنوعة منها البوليسي، والتعليمي، والإعلامي، إلى جانب ما اصطلح على تسميته بالديني، نسبة إلى الدين والدين منه براء. ولنا أن نتصور كيف يغدو الاغتراب الثقافي ـ وما يصاحبه من هدر عقلي ـ زائرا ثقيلا حين تعوزه مثل تلك الآليات التي تفرضه أحيانا وتحببه أحيانا أخرى إلى الضحايا الأبرياء، فتصوره لهم على أنه إكليل غار فوق رؤوسهم. وفيما يلي رصدا موجزا لبعض أهم آليات تكريس الاغتراب الثقافي للذات وهدر ثروتها العقلية([12]):

1- مؤسسات العنف.

2- مؤسسات التلقين الإعلامي.

3- المؤسسات التعليمية.

4- محترفو التبرير الديني.

والمأساة أن مهارة الآخر، عربيا كان أم غربيا، في هذا المضمار لا تُبارى، فهو دائما ما ينجح في تكريس اغتراب الذات وهدر ثروتها العقلية واستعدائها على الذات الأنسنية، والذاكرة الإنسانية مليئة بالحوادث المؤكدة لذلك، وهي حوادث دموية ولاإنسانية في مجملها، يندى لها الجبين الإنساني. ولا غرو أن مأساة انقسام الذات على نفسها تضع المراقب في حيرة من أمره. فالجزء الأكبر من الذات يجهل أو يُعرض عن الأنسنية ويُباهي باغترابه الثقافي والهدر المخزي لثروته العقلية ويُعول في خلاصه على الآخر، بينما يتكبد الجزء الأصغر من الذات والمهمش دوما آلاما قاسية، فهو يدرك الأنسنية ويسعى جاهدا لتبصير الذات بضرورة الأخذ بها كنهج حياة، لكنه يواجه شراسة الآخر الذي غالبا ما يُوكل مهمة التنكيل به إلى الذات المغتربة! وهو ما يُسهم في تعقيد الصراع.

والتاريخ الإنساني الذي يرويه ـ في أغلب الأحيان ـ الآخر القوي ويلقنه للذات المغتربة الضعيفة في دأب وجلد يُحسد عليهما، لا يمل استعداء المغتربين على تلك النفوس النبيلة، التى تظهر في لحظات أو حقب متناثرة عبر العصور المختلفة، وتأبى إنسانية أصحابها ألا تستأثر لنفسها ـ أقصد تلك النفوس النبيله ـ بإدراك الأنسنية، وألا ترفل وحدها في غلائل ذلك الإدراك، في وقت تشقى فيه الذات المعذبة باغترابها، فنراها تعمل جاهدة على تعرية الآخر وتبصير الذات المغتربة بالأنسنية ومزايا الأخذ بها كنهج حياة، هادفة بذلك لرفع نير الاغتراب الثقافي والهدر العقلي عن كاهلها، وتعليمها أن آلامها ليست قدرا محتوما وإنما هي صناعة أيديها وأيدي الآخر. وهو ما يدفع الآخر، وما أقواه في كل زمان ومكان، لمناصبة تلك النفوس النبيلة والطاهرة العداء والتنكيل بها علاوة على اتهامه لها بكل رذيلة وإلحاق ذكرها بالاستهجان والإدانة والسب، حتى يهيئ للمرء أنها شياطين في صيغة بشرية، والحق أن أصحابها أشرف من وطأت أقدامهم ظهر الأرض، فهم دائما ما تحدوهم أغنية الايثار وانكار الذات([13]):

إذا لم أحترق أنا..

وإذا لم تحترق أنت..

وإذا لم نحترق نحن..

فمن إذن..

يجلو الظلمات!!

صفوة القول، أنه توجد علاقة طردية وثيقة بين الاغتراب الثقافي للذات العربية والهدر العقلي لتلك الذات. لأنه إذا كان الاغتراب الثقافي يعنى تنازل الإنسان العربي عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، إراحة لذاته وإرضاء لمجتمعه! فما أظن الاغتراب الثقافي بهذا المعنى يخلو من الهدر العقلي لذلك الانسان، أي إعتقاده الراسخ بأنه قد بُنيت له ثقافة ستعيش مدى الدهر، وكيف لا؟ وهى ـ من وجهة نظره ـ أبدية..محصنة ضد النقد والتطوير!! لذا، أقول إن الآخر، عربيا كان أم غربيا، فى صراعه الثقافى وفى سعيه المحموم لتعمية الذات العربية عن الأنسنية، عبر تكريسه إغترابها الثقافى، إنما يكرس هدر ثروتها العقلية، وذلك لعدم قناعته بمقولة سيزير: “فى موعد النصر متسع للجميع”.

 

مظاهر هدر العقل العربي:

إنتهينا فى تناولنا للعلاقة الوثيقة بين الاغتراب الثقافي للذات العربية وهدر الثروة العقلية لتلك الذات إلى القول بأن جذور هذه العلاقة تكمن فى تعريفنا لكل من مصطلحي الاغتراب الثقافي والهدر العقلي. فتعريفنا لمصطلح “الاغتراب الثقافي” بأنه تنازل الإنسان عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، إراحة لذاته وإرضاء لمجتمعه!! وتعريفنا لمصطلح “الهدر العقلي” بأنه إعتقاد الإنسان، سواء امتلك عقلا فلسفيا أو عقلا لاهوتيا/ فقهيا، أنه قد استطاع بناء ثقافة أو أنه قد بُنيت له ثقافة ستعيش مدى الدهر، دون أن تخضع للنقد والتطوير. أقول إن تعريفنا للمصطلحين على النحو المذكور يشي بأن الهدر العقلي يُعد ـ بحق ـ أحد العناصر المكونة للاغتراب الثقافي، غير أنه يمكن لهذا الهدر أن يتواجد بدون اغتراب ثقافي! وضربنا على ذلك مثلا بالعقل الفلسفي الغربي فى عصر الحداثة، فقد عانى الهدر دون الاغتراب الثقافي، لاعتقاده بأنه قد استطاع بناء ثقافة ستعيش مدى الدهر، دون أن تخضع للنقد والتطوير! مختلفا بذلك عن العقل اللاهوتى/ الفقهى الذى جمع إلى جانب الهدر الاغتراب الثقافي، لاعتقاده بأنه قد بُنيت له ثقافة ستعيش مدى الدهر، دون أن تخضع للنقد والتطوير….

ونظرا لهذه العلاقة الوطيدة بين الاغتراب الثقافي للذات العربية وهدر ثروتها العقلية، بات منطقيا استعانة كاتب هذه السطور بأمارات يراها ملازمة لأولئك الذين ينخرطون فى الإغتراب الثقافي ـ أقول بات منطقيا أن يستعين كاتب هذه السطور بتلك الأمارات وأن يعرضها كمظاهر لهدر العقل العربي. وقد وردت تلك الأمارات (بمتنها وهوامشها) فى كتاب للكاتب بعنوان “الاغتراب الثقافي للذات العربية“، عمد فيه لرصد وتحليل ظاهرة الاغتراب الثقافي للذات العربية…

 

1- إدمان لعبة إلقاء التبعة بالكامل على الآخر غير العربي:

عادة ما تتساءل المجتمعات عندما تتدهور أحوالها بصورة حادة، من الذي فعل هذا بنا؟ وهو سؤال يمثل ـ بطبيعة الحال ـ رد فعل إنساني شائع. والأكثر إرضاء لصاحب السؤال، خاصة إذا كان مغتربا ثقافيا، أن يلقي تبعة تدهور أحواله بالكامل على غيره، وهو ما دأب المغتربون على فعله في عالمنا العربي، مدعومين في ذلك بالآخر العربي، الذي حرص بدوره أشد الحرص على صرف الأنظار عن نفسه. لذا ظل المغتربون زمنا طويلا يفضلون إلقاء تبعة آلامهم على المغول، واعتبار الغزوات المغولية في القرن الثالث عشر مسئولة عن تدمير قوتهم وعما تلا ذلك في نظرهم من ضعف وركود! كذلك أدت نشأة القومية ـ وهى المستوردة من أوروبا ـ إلى نشأة رؤى جديدة، إذ أصبح بمقدور العرب أن يلقوا بتبعة آلامهم على الأتراك الذين حكموهم قرونا عديدة، دون التفكر فيمن مهد الطريق أمامهم لاسترقاق العالم العربي. وكذلك أدت فترة الاستعمار الأوروبي لمعظم مناطق العالم العربي في القرنين التاسع عشر والعشرين لبروز أسباب قوية لإلقاء التبعة عليه، إذ أن السيطرة السياسية الغربية، والتغلغل الاقتصادي، قد غيروا ـ إلى حد كبير ـ من وجه المنطقة ومن حياة أهلها، وأوجدوا مخاطر وتوقعات جديدة لم يسبق لأبناء العالم العربي بأي منها عهد في تاريخهم. ولكن الفترة البريطانية الفرنسية كانت قصيرة نسبيا، وكان طبيعيا أن يتحول دور الشرير الأوحد في العالم العربي إلى السوفيت والأمريكيين واليهود، خاصة بعد نجاح اليهود في إقامة دولتهم في فلسطين([14]).

 والحق أنه لا جدال في تورط الآخر غير العربي، بشكل فاضح وفج، في تكريس آلام الإنسان العربي وأوجاعه، غير أن ذلك لا يعني ـ بأي حال ـ إعفاء الآخر العربي من نصيبه في المسئولية، وهو ضخم وثقيل للغاية، فلولا ممارساته وسعيه الدائم لتغريب أبناء جلدته وإضعافهم ما جرؤ الآخر غير العربي على التلاعب بمصيرهم على النحو البادي في التاريخ العربي. صفوة القول أن إعفاء الآخر العربي أو على الأقل التهوين من دوره في تكريس الآلام العربية، وإلقاء التبعة بالكامل أو على الأقل في معظمها على الآخر غير العربي، يعد أحد أهم أمارات الاغتراب الثقافي للإنسان العربي ومجتمعه.

اغتيال المبدعين ومعاداة الإبداع:

إلى الذين لا يعملون ويؤذى نفوسهم أن يعمل الناس“، بتلك الكلمات البليغة صدر الدكتور طه حسين كتابه الثري”مع أبي العلاء في سجنه”، واضعا يده بذلك على واحدة من أهم أمارات الاغتراب الثقافي وأعظمها أثرا. فقد دأب المغتربون ـ أفرادا كانوا أم مجتمعات ـ على اغتيال المبدعين ومعاداة الإبداع عبر العصور المختلفة، باعتبار أن المبدع وإبداعه يمثلان خطرا داهما على اغترابهم، ومن ثم فعدائهم لهما لا حدود له، إذ أنه لا يطيب للاغتراب مقام في أرض تنزل المبدع والإبداع منزلة رفيعة. وكيف لنا أن نتحدث عن اغتيال المبدعين في العالم العربي دون أن نعرج على مأساة المبدع الفذ نجيب سرور، فقد حولته النخبة المصرية الحاكمة ـ في ستينيات القرن المنصرم ـ لنموذج ردع لكل من يسول له إبداعه التحليق في آفاق لم توطأ، أو التعبير عما يجول في صدره! ولندع الرجل يروى لنا ـ بعذوبته المعهودة ـ بعض مأساته في رسالة استغاثة إلى يوسف إدريس، جاء فيها ما نصه([15]): “…تقول بأنك جربت الموت مرة وأنت تُعالج في لندن، وهناك ـ من أبناء الخمسينيات والستينيات والسبعينيات ـ من جرب الموت مئات المرات. ثم أنت تعلم أنني جربته مرارا حتى مات في الموت! ..بل لابد أنك قرأت نعيى وأنا حي لا أرزق في روز اليوسف، ثم في صحف لبنان الحبيب. لقد تلقفوني فور عودتي من دمشق وأرسلوني..لكن مهلا، ليس في معتقل من المعتقلات الحكومية المعروفة والمزدحمة بالنزلاء، وإنما في مستشفيات المجانين، مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية!!

وهناك قسم سرى ـ قسم أول ـ مارسوا معي أحدث أفانين ووسائل التعذيب!.. وكان معي طلاب في الجامعة، وأوائل الثانوية العامة، وعمال في مصانع النسيج، وأساتذة في الجامعة، ومهندسون، وفلاحون، وعلماء ذرة منهم الدكتور إمام أستاذ الذرة بجامعة الإسكندرية…

..المهم أنني خرجت من مستشفى الأمراض العقلية بمعجزة حطاما أو كالحطام! ..خرجت إلى الشارع.. إلى الجوع والعري والتشرد والبطالة والضياع والى الضرب في جميع أقسام البوليس المخلص في تنفيذ أغراض الأعداء والمحسوب علينا من المصريين أو نحن العرب!..خرجت أدور وأدور كالكلب المطارد بلا مأوى، بلا طفلي وزوجتي..وظللت مجمدا محاصرا موقوفا. وبعيدا عن مجالات نشاطي كمؤلف مسرحي ومخرج وممثل، وبعيدا عن ميادين النشر كشاعر وناقد وزجال ومؤلف أغان. ثم وجدتني فجأة في مستشفى الأمراض العقلية للمرة الثانية، وبلغ مجموع المدد التي قضيتها في مستشفيات الأمراض العقلية، حتى مستشفى بهمان اليهودي النازي، أربع سنوات ونصفا!..اذكروا إسماعيل المهدوى الذي تم تدميره فعلا.. وعشرات ومئات المآسي والملاهي والقصص والغصص وشنق خميس والبقري الخ، ليس لها إلا قلمك الصقر!

..ثم ألا تخطيء مرة..علشان خاطري..فتزورني في مسكني المتواضع ؟.. فأنا طريح الفراش منذ أكثر من عام: نصف كسيح ونصف ضرير وأنوء بأعباء المرض بل تحالف الأمراض، ولا أملك إمكانية العلاج في مصر ولا في لندن ولا حتى في موسكو ولا في أي بلد من بلدان الوطن العربي. وأنوء بأعباء الأطباء وبالأسعار الجنونية للأدوية وأعباء الأسرة والولدين..لا لن أطلب منك أكثر من أن تشرب معي الشاي على الأقل لترى شهدي، ذلك الصبي وقد أصبح رجلا، والصبي فريد الذي يتمتع بذكاء مخيف يفوق ذكاء الكبار..والذي يجيد العربية والإنجليزية والروسية، والذي يضحك ويسخر من كل شيء والذي يكره اليهود، والذي يسأل عن آخر أخبار الحرب في لبنان، والذي يحب جميع الضيوف وينصت إلى حكاياتهم ويقص عليهم الحكايات..أقسم بشرفي أنني وعدته بأن أحضر له ملك القصة والحكايات، وهو أنت، ومنذ ذلك اليوم وهو يسأل عن عمه الدكتور يوسف إدريس!

الآن تذكرت، سأطلب منك بعد الشاي، أن تتدخل بنفوذك لدى أحد الناشرين الخصوصيين هنا في مصر أو في أي مكان من الوطن العربي، لكي يشترى منى كتابا أو مجموعة شعرية أو حتى الجزء الثالث والأخير من ثلاثيتي الشعرية ياسين وبهية، وآه ياليل يا قمر. وهو قولوا لعين الشمس.. بدلا من رقادها في حبال العنكبوت!..إنني في حاجة إلى أي مبلغ!”.

 

3- غياب العقلانية والشغف بالشكلية البسيطة:

ممّا يستدعي الاهتمام أن الآخر العربي كثيرا ما يقيس تقدمه بأعداد المصانع التي يبنيها والمنشآت المادية التي يخطط لها والمشروعات العامة التي ينفذها، وهذه كلها تقوم على المعارف الطبيعية، وهى وجه من وجوه العقلانية المتفتحة، ولكنه عندما يتوجه إلى الشؤون الإنسانية ـ وهى أجل وأولى ـ يعمد إلى تغييب العقلانية، في إطار سعيه المحموم لتكريس الاغتراب الثقافي، وذلك بحث مواطنيه على الانقياد الأعمى للأوهام والغرائز المناقضة للعقلانية. فإذا كانت الأخيرة تستند إلى الموضوعية والرؤية النقدية والجلد في طلب الحقيقة([16])، فان الآخر العربي دائما ما يروج لخلاف ذلك، رغم حاجة مواطنيه الماسة للعقلانية، لأنه إذا كانت العقلانية حصنا متينا في جميع المجتمعات المتقدمة، فهي في المجتمعات المغتربة ـ ومنها مجتمعاتنا العربية ـ أجدر بالإنشاء والعناية، لتأخر تلك المجتمعات عن نظيرتها المتقدمة مراحل طويلة، علاوة على حاجتها الماسة لقهر اغترابها واستعادة حقها الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة.

ولئن يكن الآخر العربي قد حارب العقلانية بين مواطنيه المغتربين، وروج للشكلية البسيطة كبديل لها، فانه آثر ـ ولا يزال يؤثر ـ نفسه بها، فنراه يقبل على تعاطيها بنهم لا ينتهي، وهو ما يبدو واضحا في إقباله على تربية كوادره وتنشئتها بطريقة مماثلة لتلك المعروفة في المجتمعات غير المغتربة([17])، مما يعني تعمده الآثم تكريس الاغتراب الثقافي لمواطنيه. والآخر العربي في ذلك أشبه ما يكون بتاجر المخدرات، فهو يروج بين ضحاياه سموما، يحجم هو ومن معه بقوة عن تعاطيها، حتى يتسنى له إحكام سيطرته على ضحاياه، فيدينون له بالولاء والطاعة، في حين يرفل هو في غلائل حريته، فيأتي بفعال لا يهدف من ورائها سوى صالحه الخاص، رغم تعارضها البين مع صالح مواطنيه.

 

4- العجز عن التعاطي مع الآخر غير العربي:

لقد دُفع بالعرب فتدافعوا خارج التاريخ، ليس فقط لأن عالمهم هو العالم الوحيد الذي استعمره الآخر غير العربي، فالتاريخ قد يصبر على قوم في هزائمهم، وقد يمد يده لمن يتخلف عن الركب، أما الذي لا يتسامح التاريخ فيه أبدا، فهو أن يدير القوم ظهورهم له ويمضوا متباعدين عنه([18])، وذلك تحديدا هو ما فعله العرب ولا زالوا يفعلونه بإحجامهم عن قهر اغترابهم الثقافي. فقد أعجزهم هذا الاغتراب ـ ولا يزال يعجزهم ـ عن جسر الفجوة الفاصلة بينهم وبين الآخر غير العربي، من خلال تعاطى كفء وخلاق معه. فلطالما أغراهم اغترابهم بأن الإغراق والتمادي في ثقافتهم الأسيرة، هو سبيلهم الوحيد للنجاة! وساعد الآخر العربي على تكريس تلك القناعة المضللة، بغرسه في الذهنية العربية أن الخضوع لآخر عربي هو السبيل الوحيد لنيل الاستقلال الحقيقي والتعاطي الكفء مع الآخر غير العربي. وفات الذات العربية أنها لم تجن من وراء خضوعها للآخر العربي سوى استقلالا سلبيا، لا تختلف رداءة أوضاعها في ظله كثيرا عن مثيلاتها في ظل الآخر غير العربي، فضلا عما يسببه الآخر العربي في تعاطيه مع الآخر غير العربي من آلام للذات العربية، مصدرها حرصه المحموم لحماية وتعزيز مصالحه الخاصة، حتى لو جاء ذلك على مصالح تلك الذات المغلوبة على أمرها. ولعل الغزو الأمريكي للعراق يعد تجسيدا واضحا لفشل الذات العربية، ممثلة في العراقيين المغتربين، في التعاطي الكفء مع الآخر غير العربي، نظرا لاعتمادها في ذلك وركونها إلى آخر عربي، لم يتورع عن الأضرار بمصالحها الحيوية، في سبيل تحقيق طموحاته ونزواته. فقد فات الآخر العربي في العراق، ممثلا في النخبة العراقية الحاكمة حينذاك، أنه لا يعيش في جزيرة معزولة أو في ملكوت خاص به، خارج النظام العالمي القائم. وفاته كذلك أن قواعد هذا النظام لم تعد تعتمد على القوة العسكرية وحدها. وحتى هذه الأخيرة فإنها لم تعد تقوم فقط على حجم القوات المسلحة وعتادها التقليدي، إذ لابد إن تستند القوة العسكرية إلى أمور أخرى مهمة وعديدة([19]).

   

5- افتقاد الرؤية النقدية أو الجبن العقلي:

يقول ادوارد سعيد أن ما يستوقفه كشيء ممتع هو كيفية الاحتفاظ بحيز في العقل ينفتح للشك ولجزء من السخرية الذاتية([20]). وأراه ما أراد بذلك سوى التحذير من مغبة افتقاد الإنسان للرؤية النقدية للأوضاع المحيطة به، خاصة الثقافي منها. فالنقد تثمين للحسن وتهذيب للقبح، وثقافتنا العربية الإسلامية مهما سمت لابد من إعمال النقد فيها، حتى يتسنى لنا أن نبصر موضع أقدامنا وأن نقهر اغترابنا الثقافي. وأغلب الظن أن مصدر مأساتنا ـ كعرب ـ هو ما تتسم به عقولنا من جبن، يحول بينها وبين امتلاك رؤية نقدية حقيقية وجادة للأوضاع المحيطة بنا، خاصة الثقافي منها. لذا، فان النقد البناء الذي يتحدث عنه ادوارد سعيد هو ـ بالضرورة ـ عين ما يحتاجه الإنسان العربي في تعاطيه مع ثقافته التي لا يلبث يرفل في غلائلها، إذا أُريد له الخروج من مأساة اغترابه الثقافي. فثقافة الإنسان العربي لا ينبغي أن تشكل نوعا من المحركات ذات مصدر وقود وحيد، تقود فكره وعمله في اتجاه واحد، لتنافى ذلك مع الطبيعة المتغيرة والمتطورة للحياة الإنسانية كما أرادها الله عز وجل. صفوة القول،ٍ أننا معشر العرب مرضى ثقافيا، بلوانا ذاتية بالكامل، ومشكلاتنا أنزلناها بأنفسنا، عبر تنازلنا المؤسف عن حقنا الطبيعي في نقد وتطوير ثقافتنا العربية الإسلامية، وعبر انقيادنا الأعمى لسدنة الاغتراب الثقافي داخل عالمنا العربي وخارجه .

 

6- اعتياد التناقض والرؤية التجزيئية للأمور:

ليس أقسى على الهارب من جحيم الاغتراب من رصد أمارة التناقض والرؤية التجزيئية للأمور، باعتبارها الأمارة الاغترابية الأكثر إثارة للألم والشفقة. فأما الألم فمصدره اعتقاد المغترب بحتمية ارتياده لتلك الأمارة، إذا ما أريد له التعاطي الكفء مع مجتمعه. وأما الشفقة فمصدرها اعتياد المغترب لها وتعايشه معها، حتى أنه ليعجز عن التعاطي الكفء مع من برء منها. ويظل النموذج الأكثر بروزا في هذا الصدد، هو موقف المغتربين إزاء العبادات والسلوكيات، فعادة ما يكتفي المغتربون بإعلان انتمائهم لديانة بعينها، دون العمل بمقتضياتها، وكذا خضوعهم الآلي للطقوس الدينية(القيام بالصلوات والصوم…الخ)، دون تعضيدها بالسلوك الملتزم، لاعتقادهم الزائف بأنها عناصر تثبت في ذاتها إيمانهم. ولا غرو أن التحليل الوافي لموقف المغتربين إزاء العبادات والسلوكيات، يشي باعتياد واضح للتناقض ورؤية تجزيئية للأمور. فأما التناقض فمصدره إقبال المغترب على اقتراف أفعال تتعارض بصورة فجة مع التزامه الصارم بالخضوع للطقوس الدينية! حتى أنه أضحى مألوفا بين المغتربين أن ينتهي الواحد منهم من صلاته، ثم يدلف بنهم إلى حياة الاغتراب، فيأتي من الفعال ما يسئ له ولدينه. ولعل في المقولة الشهيرة للإمام محمد عبده “رأيت في الغرب إسلاما بلا مسلمين، ورأيت في الشرق مسلمين بلا إسلام” تجسيدا واضحا لذلك التناقض الصارخ الذي يميز المغترب ثقافيا عن غيره. وليس التناقض هو الشيء الوحيد الذي يشي به موقف المغتربين إزاء العبادات والسلوكيات، فهو يشي أيضا بغلبة الرؤية التجزيئية على إدراك المغترب لديانته، فقد أضحى مألوفا أن يختزل المغترب ديانته في خضوعه الصارم للطقوس الدينية، ناسيا أو متناسيا، أن الديانة حزمة واحدة، ومن ثم فتجزئتها غير جائزة، علاوة على كون الخضوع الصارم للطقوس الدينية لا يغني ـ بشكل أو بآخر ـ عن الالتزام الصارم بالسلوكيات، من حيث أن الأخيرة تمس المجتمع بصورة مباشرة، وتؤثر فيه بقوة، في حين تظل الأولى بالأساس علاقة خالصة بين الإنسان وربه، فهو وحده عز وجل القادر على إثابة من أتاها ومعاقبة من تركها. صفوة القول أن الوقوع في شرك التناقض والرؤية التجزيئية للأمور يعد أمرا ملازما لمأساة الاغتراب الثقافي، ومن ثم يرتبط زوال تلك المأساة ـ بالضرورة ـ بمدى قدرة المغترب، فردا كان أم مجتمعا، على الهروب من جحيم اغترابه واستعادة حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة.

 

العود العربي إلى التاريخ:

قارئي الكريم، أما وقد فرغت من مطالعة عرضنا الموجز لبعض مظاهر هدر العقل العربي، فإني أستأذنك فى اعفاء نفسي وإياك من عبء رصد النتائج الوخيمة لهذا الهدر، تلك التي ينطق بها واقعنا المعاصر وتلك التي أسفرت في مجملها عن الخروج العربي المهين من التاريخ، وإلا كنت كمن يدفع بيديه أبوابا مفتوحة على مصاريعها!! وأراني، قارئي الكريم، بإعفاء نفسي واياك من عبء سرد تلك النتائج الوخيمة لهدر العقل العربي، والتى يعلمها القاصي والداني داخل عالمنا العربي وخارجه، أحرص ما أكون على تجاوز مسألة خروجنا المهين من التاريخ إلى مسألة أخرى أولى وأجدر بالاهتمام وهى العود العربي إلى التاريخ!

ولي أن أبدأ حديثي عن رؤيتي للكيفية الممكنة لهذا العود، بسرد قصة أراها مهمة على بساطتها، وأراها تجسيدا صادقا لمأساة هدر العقل العربي…

كنت قد التقيت، فى إحدى الأمسيات القاهرية، بمدرس بإحدى كليات الإعلام، وكان ذلك فى حضرة أحد أصدقائه الدارسين للفلسفة. وبرغم عدم تخصص هذا المدرس الجامعي الشاب فى الفلسفة إلا أني رأيت أنه من اللائق أن يتطرق نقاشنا إلى نواحي فكرية راقية وعقلانية، خاصة وقد علمت من هذا المدرس أنه يقوم بالتدريس، أى بناء العقول، فى أكثر من جامعة مصرية، فضلا عن اعارته لاحدى الجامعات العربية! وبالفعل بدأت النقاش كعادتى، بطرح بعض التساؤلات حول بعض الأمور المهمة ـ وليتنى ما فعلت ـ فى محاولة لاغراء الرجل بالحديث. وبالفعل كان لى ما أردت، غير أنى صُدمت، فقد بدا عقل الرجل فقهيا، بصورة تدعو للدهشة والأسى!! أفهم أن يكون الانسان متدينا ولكنى لا أفهم أن يمتلك مدرس جامعة عقلا فقهيا، يناصب الفلسفه والفلاسفة العداء!!

المهم، أخبرني المدرس الجامعي، فى نهاية جلستنا، والشبق الجنسي يملء عينيه، أنه يريد إجراء دراسة علمية حول دور الأعمال الدرامية فى دفع المرأة فى مجتمعنا إلى البغاء. إلى هنا ولا غرابة، بيد أنى لم أكد أسأله عن الأهمية المجتمعية للدراسة، حتى تردد وتلعثم فى الإجابة، ثم بادرنى قائلا إنها سبيله الوحيد للحصول على الترقية الجامعية!! لقد ظننت أنه أراد عمل هذه الدراسة للتعرف على دوافع البغاء لدى المرأة، حرصا منه على تحليل تلك الدوافع ورغبة منه فى إيجاد وسائل لمعالجة البغى، نفسيا وجسديا، تمهيدا لاعادة تأهيلها ودمجها فى المجتمع. بيد أن الرجل أضاف فى بلاهة يُحسد عليها: “إن البغي تظل بغي ولا سبيل لتطهيرها سوى الموت طبقا لما تقضى به عقيدتى الدينية..“!!

الحق أن سبب استيائي ليس سذاجة وجمود فهم المدرس الجامعى لعقيدته الدينية، وإنما ادراكى المؤلم لعبثية البحث العلمي فى مجتمعاتنا وعدم جدواه، فضلا عن تأكدى من اسهام القائمين علي البحث العلمي فى عالمنا العربي فى تعميق الهدر المحزن لعقول أبناء هذا العالم البائس. فالمفترض أن يكون البحث العلمي فى خدمة المجتمع، وليس أن يكون هدفا فى حد ذاته، كما أنه لا يصح أن يكون مجرد وسيلة للحصول على الترقية، كما تصور هذا العالم المزعوم!!

والسؤال الذى يطرح نفسه بقوة: كيف يتسنى لنا معشر العرب أن نساهم مساهمة حقيقية وفعالة فى الحضارة الانسانية؟! كيف يمكن أن يتحقق ذلك والعقل العربي الفقهي ـ حتى وهو فى أرقى صوره ـ بهذه الحالة من الرداءة والسوء؟!

الحل فى رأيي هو تدشين تيار ثقافي أنسني فى عالمنا العربي، يدرك أنصاره طبيعة الصراع الثقافي بينهم وبين الاغتراب الثقافي والأخروية، ومن ثم يعمدون ـ فى دأب وحرص ـ إلى تبصير الذات المغتربة بخطورة اغترابها وكذا تبصيرها بكون هذا الاغتراب اللعين مسئولا عن هدر ثروتها العقلية، ومن ثم إخراجها من التاريخ. داعين إياها لقهر اغترابها، عبر استعادتها لحقها المشروع فى امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، وكذا عبر تعاطيها الحذر مع آليات تكريس الاغتراب، فليس متصورا أن تظل الذات المغتربة مستهلكة لثقافة ليست من صنعها، كما أنه ليس متصورا أن تظل هذه الذات على اعتقادها الراسخ بأن ثقافتها ـ التى ليست من صنعها ـ مقدسة ومحصنة ضد النقد والتطوير، رغم ما يجسده هذا الاعتقاد من تحدى ساذج ومخيف لسنة كونية هى ديمومة التطور والتغير.

وأظن أن اعتقاد الذات العربية المغتربة فى أبدية ثقافتها وقدسيتها مرتبط ـ بصورة أو بأخرى ـ برؤية تلك الذات المغتربة للتاريخ العام، فلطالما ألقى تجار الآلام فى روعها حتمية التدهور المستمر للزمن، فالماضي أفضل من الحاضر، والحاضر أفضل من المستقبل. وهو ما يخالف بطبيعة الحال المنطق السليم، فالحاضر يمكن أن يكون أفضل من الماضي وكذا المستقبل يمكن أن يكون أفضل من الحاضر. وكيف لا؟! ونحن نجمع إلى جانب خبراتنا خبرات السابقين علينا، ومن ثم فقدرتنا على تحويل الأرض لمقام طيب وجميل أكثر من قدرة أبائنا وجدودنا، كما أن قدرة الأجيال القادمة على فعل الشيء نفسه تفوق قدرتنا..

أما فيما يتعلق بالأخروية البغيضة، فيُناط بأنصار التيار الثقافي الأنسني المنشود، السعي الحثيث والحذر لتجريد الآخر من أخرويته، وذلك عبر تفكيك آليات تكريس الاغتراب الثقافي للذات والتى يجيد الآخر توظيفها ويُحكم عبرها قبضته على الذات المغتربة، فيُبقيها مغلولة عاجزة عن تثمين قدراتها العقلية..

كما يُناط بأنصار التيار الثقافي الأنسني المنشود ارساء دعائمه فى عالمنا العربي المغبون، السعي الحثيث والحذر لادارة العلاقة مع الآخر، عربيا كان أم غير عربي، فبدون إدارة العلاقة، على نحو يجنب الأنسنيين الصدام مع الآخرين، العربي وغير العربي، يصير من الصعوبة بمكان قيام مثل هذا التيار الثقافي الأنسني المنشود، غير أن على الأنسنيين اقتناص كافة الفرص المتاحة للنيل من الأخروية وتعريتها، ولا أقول ترويضها، فهى تستعصي بالضرورة على الترويض، نظرا لأنانيتها وحرصها البغيض على الاستئثار بمغانم الأنسنية لنفسها ولمن يدين لها بالولاء، فالآخر على دراية واسعة بخطورة الأنسنية وقدرتها على اثراء أنصارها بشعور قلما توافر لغيرهم، وكيف لا؟! والأنسنيون يرفضون السعادة ـ إذا أُتيحت لهم ـ إذا لم يشعروا بالاطمئنان على اخوتهم فى الانسانية..

 

الهوامش:

 


[1]) رينيه ديكارت، ترجمة محمود الخضيرى، مقال عن المنهج، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000)، ص ص 69 ـ 70.

[2]) محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1989)، ص ص 18 ـ 20.

[3]) نفس المرجع، نفس الصفحات.

[4]) نفس المرجع، نفس الصفحات.

[5]) عبد الرحمن بدوي، فلسفة العصور الوسطى، (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1969)، ص ص 190 ـ 195.

[6]) نفس المرجع، نفس الصفحات.

[7]) نقلا عن: محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي (إعداد وترجمة)، العقل والعقلانية ـ نصوص مختارة، (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، سلسلة دفاتر فلسفية، العدد رقم 9، 2007)، ص ص 25 ـ 28.

[8]) نفس المرجع، ص ص 16 ـ 17.

[9]) نفس المرجع، نفس الصفحات.

[10]) ارنست كاسيرر، ترجمة أحمد حمدى محمود، الدولة والأسطورة، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب والمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، 1975)، ص 391.

[11]) راجع: دراسة للكاتب بعنوان “بناء الذات الأنسنية”، منشورة على شبكة الانترنت. وأيضا راجع للكاتب: الانسان هو الحل، (القاهرة: دار سطور للنشر، عام 2007).

[12]) راجع: حازم خيري، الاغتراب الثقافي للذات العربية، (القاهرة: دار العالم الثالث، عام ‏2006‏‏).

[13]) الأبيات للشاعر التركى العظيم ناظم حكمت، ترجمها للعربية الشاعر المصرى الراحل نجيب سرور.

[14])  برنارد لويس، ترجمة محمد عناني، أين الخطأ؟ التأثير الغربي واستجابة المسلمين، (القاهرة: دار سطور للنشر، 2003)، ص ص 235 ـ 250.

[15])  أنظر النص الكامل للرسالة: نجيب سرور، “رسالة إلى يوسف إدريس”، مجلة أدب ونقــد، (القاهرة: حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي)، السنة الرابعة، العدد 34، ديسمبر 1987، ص ص 117 ـ 130.

[16])  قسطنطين زريق، ما العمــل؟ حديث إلى الأجيال العربية الطالعة، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2004)، ص ص 66 ـ 68.

[17])  سمير أمين، الأمة العربية، (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1988)، ص 225.

[18])  فوزي منصور، ترجمة ظريف عبد الله وكمال السيد، خروج العرب من التاريخ، (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1993)، ص ص 6 ـ 7.

[19])  سعد الدين إبراهيم، الخروج من زقاق التاريخ ـ دروس الفتنة الكبرى في الخليج، (القاهرة؛ الكويت: مركز ابن خلدون؛ دار سعاد الصباح، 1992)، ص ص 164 ـ 166.

[20])  إدوارد سعيد، ترجمة حسام الدين خضور، الآلهة التي تفشل دائما، (بيروت: التكوين للطباعة والنشر والتوزيع، 2003)، ص 137.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً