أحدث المقالات

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين ومن سار على دربه إلى يوم الدين وبعد ،
كلما اقتربنا من القرآن العظيم وعشنا مع آياته النورانية ، كلما ازداد القلب رحابة ، وازداد العقل تفتحا ، وازدادت الروح تألقا ،﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ [1]
إن سنة الله في خلقه ومنذ أن خلق آدم عليه السلام هو تعرض الإنسان على صعيده الذاتي كدائرة ضيقة والمجتمع كدائرة أوسع للأزمات ، تتفاوت في حدتها وقتها ، ويتفاوت الإنسان والمجتمعات في إدارة هذه الأزمات والتغلب عليها.
ولعل المرادف للأزمات في القرآن الكريم هو (الابتلاء)، حيث أن هذا المصطلح هو المرادف للأزمة ، وقد آثرنا أن يكون عنواننا من العناوين المعاصرة لندرك أن العناوين الجديدة تجعلنا نعتقد أنها لم ترد في القرآن ولم تكن هناك معالجة قرآنية لها، وقد جاء القرآن بالوصف الدقيق والعلاج الناجع لها , ولعلنا في هذا المبحث نخص الجماعة المؤمنة بوصف الأزمات التي تتعرض لها ، أسبابها ، وسبل علاجها ومواجهتها.
أولا : أنواع الأزمات التي تتعرض لها الجماعة المؤمنة :
1- تسلط الكافرين على المؤمنين وصرف قلوب المؤمنين عن مواجهتهم.( الأزمة السياسية ) :
يقول عز وجل ﴿ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ﴾ [2] لقد وردت هذه الآيات في سورة آل عمران ، وصفا لحال المؤمنين في غزوة أحد حين عصى المؤمنين أمر نبيهم واختلفوا ، كانت النتيجة هزيمتهم وصرف قلوبهم عن مواجهة الكفار ، ليكون بمثابة عقاب رباني .
ونحن اليوم لا يوجد وصف أكثر من هذا الوصف القرآني لحالة التشرذم والخلاف والاختلاف بينها ، كان من نتائجها تسلط الظالمين على هذه الأمة ، بل أقسى ما في هذا الابتلاء ليس تسلط الكافرين بل هو صرف قلوب المؤمنين عن مواجهة الكافرين ، لقد كان الوصف القرآني دقيقا فقال ﴿ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ﴾لقد انشغل المقاتلون بجمع لغنائم طمعا بالدنيا ، واختلفوا وعصوا نبيهم ، فاجتمع الكفار عليهم ليوجهوا لهم ضربة صاعقة ، هزت أركانهم وفرقت جموعهم وثبت من ثبت وفر من فر من ميدان المعركة حاملا معه خيبته واهتزاز دينه وفقدان دنياه.
لقد كان النبي صلوات الله عليه وعلى آله بين ظهرانيهم ، وكان درس أحد من الدروس القاسية للمؤمنين في تلك اللحظة لتشكل قاعدة للجماعة المؤمنة ، ونحن اليوم لم نعتبر من هذا الدرس القاسي ، فالوصف القرآني للأزمة هو واقع يتمثل اليوم بحال الأمة الإسلامية ، معاصي واختلاف وتشرذم ، وصرف قلوب المؤمنين عن مواجهة أعدائهم من الكفار والمنافقين.
2- الخوف والرعب الشديد .(الأزمة العسكرية ) :
﴿ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً ﴾ [3] .
لقد جاء القرآن معبرا بشكل دقيق عن حال المؤمنين ، وحالة الخوف التي وصلوا إليها ، حين أطبق العدو وحاصر المؤمنين كان التصوير القرآني دقيقا ومعبرا ، وهو يصف مشاعر المؤمنين وحالهم ، حتى وصلت القلوب الحناجر من شدة خفقانها خوفا ، بل وصل الحد إلى اهتزاز الإيمان واليقين بالله , و نحن نعيش نفس الأزمة ، تكالب الكفار والظالمين ، من كل مكان مستهدفين المؤمنين والموحدين ، نتساءل ما هو حال أبناء الأمة إذا استثنينا الصادقين والمخلصين نتساءل أين مليار مسلم مما يجري من قتل وتعذيب وجرأة على دينهم وأعراضهم وأرضهم ومقدساتهم من المرارة اليوم أن نصف حال هذه الأمة التي ضاقت بالمرجفين والمنافقين والمطبعين والممهدين لأعداء الله في ديار الإسلام.
لقد شكلت الأنظمة العربية اليوم بضعفها وهوانها جسرا لدخول الأعداء إلى عمق الأمة ، في حين عجز الحركات الإسلامية قادها إلى المزيد من التراجع وتغيير المواقف.
3- الخوف والفقر والضعف.( الأزمة الاقتصادية ) :
يقول عز وجل ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾[4] .
لقد أشار القرآن الكريم بشكل واضح ما ستتعرض له الأمة من خوف وفقر وجوع ونقص في الأموال والثمرات .
على الرغم من حجم الثروات التي يتمتع بها العالم الإسلامي اليوم نجد أنه أسير للاقتصاد الغربي ، فلم يعد بمقدور المسلمين أن يستقلوا باقتصادهم عن الغرب ، ولو قامت أمريكا بمنع القمح عن تصدير القمح لبعض البلدان الإسلامية ستصاب بالجوع .
أي حال وصل إليه المسلمين!
إن دخل المواطن المسلم من أدنى الدخول في العالم ، ولديه بلاد من أغنى بلاد العالم ثروة …كيف يحدث ذلك ؟!
إن وصف هذه الظاهرة وهذه الأزمة الاقتصادية وردت في القرآن الكريم وأسبابها وسبل علاجها.
4- الجهل والتخلف العلمي والفكري . ( الأزمة الثقافية والفكرية ) :
يقول عز وجل ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾[5]
لقد جاء القرن منددا بأولئك الذين يسيرون وهم هائمين على وجوههم لا يعقلون شيئا ولا يعلمون ، لقد كانت الأزمة العقلية والفكرية هي من أكبر الأزمات التي تواجه المجتمع المؤمن .
كيف يمكن أن ينهض المجتمع والجهل يعشش في أركانه وزواياه ، لذلك حرص الأعداء على إبقاء حالة الجهل على الأمة الإسلامية ، وحين سمح بالانفتاح العقلي من المأساة أنه استطاع أن يسيطر وستولي على العقول ويوجهها كيفما شاء.
أن أزمة الفكر والثقافة هي من أخطر الأزمات التي تواجه الأمة الإسلامية اليوم ، نظرا لتنوعها وتعددها .
ثانيا : أسباب الأزمات التي تتعرض لها الجماعة المؤمنة :
إن ظاهرة الأزمات والابتلاءات هي ظاهرة طبيعية في التاريخ الإنساني ، لكن الجماعة المؤمنة تختلف وتتميز عن الجماعات الإنسانية الأخرى بكون هذه الأزمات هي تدبير إلهي ، وتربية للجماعة المؤمنة لترتقي وتنهض بنفسها من قيود الجهل والظلام والالتصاق بالأرض ، ولتقوم بمهامها الموكلة إليها من التبليغ والهداية ، ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ﴾ [6] .
 إن هذه الأمة تحتاج إلى التربية الربانية في كل حركاتها وسكناتها ، بحيث تكون مؤهلة لدورها الريادي للبشرية.
وقد وضع الله عز وجل القواعد والأسس التي تقوم عليها الجماعة المؤمنة ، مبينا ما يمكن أن تتعرض له الجماعة المؤمنة في حال بعدها وتجاوزها على تعاليم وأحكام الله عز وجل ، والابتلاءات والمحن والأزمات هي الثمن الذي على الجماعة أن تدفعه مقابل تخليها وتراجعها ووجود المنافقين فيها.
ولنجمل أسباب الابتلاءات والمحن بالآتي :
1- التمييز بين المؤمنين والمنافقين ، بين الصادقين والكاذبين :
يقول عز وجل ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾ [7] إن إعلان الإيمان لا يكفي وحده إن لم يكن صادقا ، فإعلان الإيمان هو بداية الإعلان عن الاستعداد لمواجهة المحن والابتلاءات المتنوعة والمختلفة.
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [8] .
ويقول عز وجل ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ﴾[9] ، إن الإخلاص هو عنوان الجماعة المؤمنة ، وأي خلط ستتعرض الجماعة المؤمنة للابتلاءات والأزمات ليمحص الله المخلصين الصادقين من الكاذبين.
لذلك على الجماعة المؤمنة أن تكون جاهزة ومستعدة لمثل هذه الابتلاءات التي تميز الصفوف ، وتكشف الوجوه الحقيقية ، فالمحن هي التي تكشف معادن الناس ، وصدق الناس.
وحين تتميز الصفوف يتنزل نصر الله عز وجل وبالنظر لما تتعرض له الجماعات والحركات الإسلامية نستوعب حجم الابتلاءات والمحن ، وكم أولئك الذين يسقطون في طريق الدعوة إلى الله عز وجل نسأل الله الثبات على الحق .
2- تبديل الإيمان بالكفر ، والجحود بنعم الله ، وارتكاب الذنوب والمعاصي:
يقول عز وجل ﴿وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾[10] .
إن الكفر والارتداد عن دين الله هو سبب نزول الابتلاءات والمحن ، فإن لم يكن هناك مصلحون ومغيرون حتما سيتنزل البلاء ، فالتخلي عن الدور في الدعوة إلى الله سبب في تنزل البلاء في ظل تفشي الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
يقول عز وجل ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [11]
إذا توفر الإصلاح والدعوة إلى الله ارتفعت الأزمات والمحن ، أما إذا انتفى الإصلاح فلينتظر المجتمع الأزمات والابتلاءات .
اليوم حجم الإفساد والظلم يندى له الجبين في المجتمعات الإسلامية ، بل إن الترويج للفساد أصبح مسألة طبيعية لا تثير المؤمنين في مواجهتها والحد منها .
الا ترون الفضائيات ومدى السقوط الأخلاقي الذي وصلت إليه ، أينما حطت عيونك اليوم في المجتمع تصاب الغثيان أمام حالة التردي والانهيار الأخلاقي وحجم الإفساد.
إن الصوت الخافت في مواجهة هذه الأزمة الأخلاقية التي تجتاح العالم الإسلامي والارتداد عن دين الله بتقليد ومحاكاة الغرب لننتظر المزيد من الأزمات .
3- نسيان ذكر الله عز وجل:
يقول عز وجل ﴿ ْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء ﴾[12] ، إن الابتعاد عن منهج الله والغفلة ، ستورث العداوة والبغضاء ، ولعمري إن هذه الأزمة الحقيقية التي تعيشها الأمة الإسلامية .
ألا ترون حجم الفتن والخلافات بين الجماعات إلى حد استحلال الدماء والأعراض لم نعد نرى إلا اليسير من الدعوة إلى الرجوع لله عز وجل وتحكيمه فيما ينشب من خلاف وشجار ، متجاهلين قوله ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا ﴾ [13] فحين نسوا وتناسوا ذكر الله كانت النتيجة أزمة الخلاف وأزمة الجهل يقول عز وجل : ﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ ﴾فلا يوجد تقوى تقينا شر الفتن ولا يوجد علم يحفظ الأمة من هذا المستنقع الآسن.
نحن أمام أسباب حقيقية مدعاة لوقوع الأزمات والابتلاءات .
ثالثا: سبل الوقاية وعلاج الأزمات :
لم تتنزل المحن والابتلاءات والأزمات دون أن يكون هناك مخرج وحلول كفيلة بالخروج من هذه الأزمات ، فالله عز وجل يقول﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً *إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ﴾[14]
لقد حدد القرآن الكريم الخطوات والوسائل التي يمكننا فيها مواجهة الأزمات والتغلب عليها ، وقد تمثل بالآتي :
1- التوازن وعدم الانهيار والاستسلام ، واليقين بفرج الله:
إن الجانب النفسي هو من أهم الجوانب التي أشار لها القرآن ، بحيث أن العامل النفسي هو الأخطر في مواجهة الأزمات ، لذلك حرص على مخاطبة النفوس وتثبيتها عند المحن والابتلاءات ، وتدريبها على أن هذه الأزمات ستنتهي حتما ، وإن اعتقد البعض أنها ستطول .
وهنا جاء قول الله عز وجل معقبا على مشاعر المؤمنين وهم في خضم الأزمة ، حيث اهتزاز الإيمان والثقة وسيطرت الأوهام والظنون ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ﴾ [15] ، وفي معرض آخر ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا ﴾ [16] ، إن الأزمة مهما اشتدت ستكون نهايتها الفرج والنصر،﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً *إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ﴾ [17] ، حتى إذا ضاقت حلقاتها واستحكمت فرجت وكنت أظنها لا تفرج.
إن الاستعداد النفسي واليقين أن هذه الأزمة لها نهاية ، تملأ قلب المؤمنين بالأمل والعمل والحركة للخروج من هذه الأزمة ، بدل اليأس والقنوط ، والقبول بالأمر الواقع .
لقد كان القرآن أثناء تربيته للجماعة المؤمنة بشكل مباشر ، كان يركز على الجانب النفسي وما يعتصرها من مشاعر مؤلمة ، وخوف وظنون وأوهام تقودها نحو اليأس والخوف والاستسلام والانهيار ، ففي غزوة أحد وبعد انكشاف المسلمين ووقوع الهزيمة ، يصور الله عز وجل المشاعر التي اعتلجت في الصدور ﴿ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ ﴾ [18] .
لقد كانت أحاديث نفس ومشاعر وعواطف سيطرت على هذه الطائفة ، الشك والظنون والأوهام ، والخوف على النفس ، وانهيار المبادئ والقيم التي يحاربون ويجاهدون من أجلها ، حتى وصل اليأس بهم ليتساءلوا عن سبب خروجهم وجهادهم ، هل هناك انهيار أكثر .
لقد وصف القرآن الحالة كاشفا السبب الرئيسي لها بقوله ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ ﴾ [19] هنا لفتة جميلة ، أن الذين تولوا هم من المؤمنين ، ولم ينف القرآن الكريم هذه الصفة عنهم ، بل هم من جزء لا يتجزأ من الجماعة المؤمنة ، وسبب حالهم ،هو حرصهم على ما تركوه خلفهم من مال جمعوه ومن أزواج وأبناء ، فسول لهم الشيطان فرارهم ، موسوسا لهم الخوف على حطام الدنيا وما كسبوه .
فالتربية القرآنية لمواجهة الأزمات تبدأ في الشعور وفي النفس ، فبدون أن يكون هناك يقين وثقة وأمل بنصر الله ، لا يمكن أن يتم التغلب على الأزمات.
وقد أشار كتابنا اليوم إلى هذه النقطة ، مفرقين بين الاستعمار والقابلية للاستعمار ، فالاستعمار بحد ذاته لا يشكل خطرا بل الخطر الأكبر هو القابلية لهذا الاستعمار ، لذلك نحن نقول أن الغرب اليوم استطاع أن يستعمر ويحتل النفوس ، فلم تقتصر الهجمة على الجانب العسكري بل كانت موجهة للمشاعر والنفوس والعواطف.
ألا تسمعون اليوم النغمات القائمة على الديمقراطية والحريات ، وكرامة الإنسان ، والانطلاق نحو الشهوات والغرائز ، هذا العدو الذي هو السبب الأول في انهيار حقوق الإنسان في البلدان الإسلامية ، وهو من زرع الأنظمة الديكتاتورية ويغذيها ويدعمها ، ويدعي علينا أنه صاحب الرسالة الإنسانية .
بل يوجه المسلمين نحو الالتصاق بالدنيا وزخارفها ومتعها وشهواتها ، ليكسر روح الانطلاق والارتقاء للروح والنفس الإسلامية التي تسمو وتكسر قيودهم وقيود كل شياطين الإنس والجن.
لذلك علينا أن ندرك أن هذه المعركة ممتدة إلى يوم القيامة ، ونهايتها ليست هذه الأرض بل هي الآخرة ، فعلى الجماعة المؤمنة أن تجهز نفسها بالقيام بواجبها الشرعي والديني ، فلا تنتظر شيئا من مكاسب الدنيا ، إلا طاعة الله عز وجل ، وعليها أن تتحمل ما يصيبها دون النظر لهذه الدنيا .
فهاهم أصحاب الأخدود ، يواجهون مصيرهم بالحرق ولم تقم لهم قائمة أمام الظلم والإجرام ، ليكون الحكم يوم القيامة حيث العدالة الإلهية .
وهاهو الإمام الحسين عليه السلام يحز رأسه مدافعا عن دين الله ، وهو يعلم أنه لا مجال للانتصار الآني ، بل الانتصار الحقيقي هو مرضاة الله عز وجل.
حين تسيطر على الجماعة المؤمنة هذه المفاهيم وهذه القيم الإلهية فهي تحقق شروط النصر من حيث لا تدري .
فلا مجال لليأس والقنوط والاستسلام مهما عظم حجم الأزمات والابتلاءات .
2- الرجوع إلى الله والتوبة النصوح:
حين تبدأ الأزمات على المؤمنين ألا ينهاروا ويستسلموا ، ومن ثم عليهم أن يبحثوا في أنفسهم، في أخطائهم ، في معاصيهم ، في ذنوبهم ، فالله يقول ﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [20]
إن الظلم هو من واقع أيدي الجماعة المؤمنة فعليها أن تبدأ بالبحث عن معاصيها ومراجعة ذاتها وتصحيح المسيرة ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾[21] وعليه ، إن الخطوة التالية بعد عملية التوازن أن يتم الرجوع فيها لله ، بكل صدق وإخلاص ، وحين تتحقق التوبة والرجوع إلى الله تبدأ الأزمة بالانقشاع .
وفي هذا المعرض يقول عز وجل واصفا حال الثلاثة الذين تخلفوا في معركة تبوك عن رسول الله ﴿وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [22] ، لقد مر هؤلاء بأزمة حقيقية ، حتى وصف القرآن بأروع ما قيل في وصف حالة الأزمة والابتلاء ﴿ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ ﴾ ليس هناك أصعب وأقسى من أن يضيق الإنسان بنفسه فهي أصعب مستويات الأزمة ، وقد جاء القرآن مربيا ومعلما المؤمنين ، كيف يتعاملون في هذه الحالات ، ﴿ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ﴾ لا فرار من الذنوب إلا لله ، لا ملجأ من الله إلا إليه ، حين يتحقق هذا الشرط والتوبة النصوح والرجوع لله يتحقق زوال الأزمات.
وهنا لفتة جميلة ، كلمة ) ثم) وهي تفيد التراخي والترتيب حيث أشار القرآن أن القبول لم يأت مباشرة وسريعا بل مرت فترة ليدفع المؤمنين ثمن فعلتهم وقصورهم ، وهذه من رحمات الله عز وجل ، فهذه الابتلاءات هي كفارة وعذاب سريع بالدنيا ليخرج من هذه الدنيا كما ولدته أمه ، طاهرا صافيا نقيا خالصا مخلصا ، وهذا ما يجعل المؤمن يرى بالابتلاء الوجه الآخر من رحمات الله عز وجل بالمؤمنين وبالجماعة المؤمنة التي تدفع الثمن في هذه الدنيا بدل دفعها يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
وهنا تستحضرني قصة جميلة في إحدى الفتوحات الإسلامية ، حيث وقف أحد الحصون الرومانية منيعا أمام المسلمين وطال حصار المسلمين دون فائدة ، ودب اليأس في قلوب المؤمنين والمجاهدين ، جاء أحد المؤمنين قائلا ، ابحثوا في أنفسكم وبما قصرتم ، فأخذوا يفكرون فانتبهوا أنهم لم يعملوا بسنة السواك ، فكانت أشجار قريبة منهم فأخذوا يقطعون هذه الأشجار و يستاكون بها ، والكفار ينظرون إليهم فهالهم ما يرون ظانين أن المسلمين يحدون بأسنانهم ليأكلوهم ، فأعلنوا استسلامهم ، وفرح المؤمنون بنصر الله.
لا نتهاون بالصغائر إن الجبال من الحصى.
ولقد جاء القرآن داعيا كل المسرفين إلى التوبة والرجوع إلى الله : (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم (
فما على الجماعة المؤمنة إلاّ أن تبدأ بالنقد الذاتي والبحث عن معاصيها وذنوبها ، والعودة لله عز وجل ، فحينها نكون قد بدأنا نحقق الشروط للخروج من هذه الأزمات
3- التأمل والتدبر في إيجاد الحلول ، و إتباع المنهج العلمي:
إن المؤمن حين يعيش الحالة الإيمان الحقيقي ، مجاهدا نفسه ، مقرا نادما على ما صدر منه في حق الله عز وجل ، يقينا فإن الله معه وناصره ومؤيده ، وستتجلى المعية الإلهية والتوفيق الإلهي في شتى الأمور .
يقول عز وجل ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [23] هناك ارتباط وثيق بين الجهاد بمعناه الأشمل والأعم من جهاد العدو وجهاد النفس ، وبين الهداية ، هذه العلاقة الطردية هي التي تحدد مقدار الهداية والتوفيق والخروج من الأزمات.
إذا عاش المؤمنين حالة الجهاد الحقيقي مع النفس وجاذبية الشهوات ، فإن الهداية والرحمات ستتغشاهم ، يقول عز وجل ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾[24] لذلك إن كل مرحلة من مراحل مواجهة الأزمة تقود إلى المرحلة التالية ، حتى يتم الخروج منها ، فمن الأمل واليقين برحمة الله إلى التوبة إلى التأمل وإيجاد الحلول ، كلها حلقات متواصلة ، لا يمكن الفصل بينها ، وأي حلقة إذا ما فقدت سنفقد من خلاله التوفيق الإلهي في الحل الجذري.
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ﴾ [25] ويأتي التأمل والتدبر في البحث عن الحلول ، في سياق التوازن والالتزام بالأمر الالهي والأخذ بالأسباب الدنيوية الكامنة وراء هذه الأزمات.
يقول عز وجل ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ [26]
لقد جاء القرآن الكريم ليضع للجماعة المؤمنة الطريقة المثلى في علاج الأزمات والابتلاءات ، فكانت بخطوات منظمة ، فأشار القرآن إلى كيفية قراءة الحل بشكل منطقي .
أولا : قراءة التاريخ :
إن التاريخ حافل وزاخر بالأزمات المشابهة التي عاشتها الأمم والشعوب الأخرى ، وحتما سيجد المؤمنون ضالتهم من خلال القراءة التاريخية ،
لذلك يعتبر التاريخ جزءا مهما من الثقافة الإنسانية والإيمانية في ضوء القرآن الكريم ، بل تعتبر من الضروريات لحياة الجماعة المؤمنة وتقدمها .
وقد زخر القرآن الكريم بالكثير من قصص الأقوام وقصص الأنبياء والجماعات ، لتشكل نبراسا لحياة الأمة ن فلم تأت هذه الأحداث والقصص من باب الترويح والاستمتاع ، بل من باب القياس والقراءة الموضوعية والاستفادة من أزمات الأمم.
ثانيا : القراءة العلمية والموضوعية للأزمة:
من الضروري أن تشخص الحالة المرضية والأزمة بشكل سليم ودقيق حتى يمكن ان يوفر العلاج الصحيح ، فإن لم يستطع الطبيب أن يكتشف الداء ويشخص الحالة بشكل سليم حتما سيكون الدواء المعطى للمريض غير فعال وستبقى الأزمة قائمة.
فقد قال عز وجل ﴿وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾[27] القيمة الحقيقية هي المعرفة القائمة على اليقين التي تقود إلى التشخيص الدقيق والعلاج الفعال .
إن الأمر الرباني باتباع المنهج العلمي هو الكفيل بالخروج من الأزمة ، وحالة الظن كفيلة باستمرار الأزمة واستفحالها.
ثالثا : إعداد العلاج والحل :
حين يتم التشخيص الدقيق حتما سيكون العلاج الفعال ، فالأخذ بالأسباب هي التي ستقود إلى العلاج والخروج من الابتلاءات.
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً ﴾ [28] ويقول عز وجل ﴿فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ [29]
إن الإيمان يقود إلى الحق والحل باتباع المنهج القرآني الدقيق.
من هنا على الجماعة المؤمنة ألا تعيش حالة الأزمة والابتلاء بكل كيانها وتفتقد القدرة على القراءة والتشخيص ، والتأمل والتدبر بالحلول .
فعلى المؤمنين أن يعملوا ليل نهار متأملين متدبرين متفكرين في الحلول للخروج من واقع الأزمات التي تحيط بهم.
4- سؤال أهل الاختصاص والخبرة :
لقد أكد القرآن الكريم على ضرورة سؤال أهل الاختصاص والرجوع إليهم والاستفسار ، والاعتماد على تقييمهم وقدرتهم على الاستنباط والتحليل.
﴿وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ [30] فكيف يمكن الوثوق باستنباط وتحليل وتقييم من لا علم له ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ﴾ [31] , إن سؤال أهل الاختصاص هي مسألة تأتي في السياق الطبيعي والمنهجي السليم الذي يقود نحو الحل والخروج من الأزمات.
لذلك إن أعظم مصيبة تعيشها الأمة اليوم هي تهميش الكفاءات وأصحاب العقول المتميزة ، وكما هو متعارف اليوم عليه في مجتمعاتنا الإسلامية والعربية ( وضع الرجل غير المناسب في المكان الغير مناسب( ضيعت الكفاءات وهمشت القدرات والعقول المستنيرة .
وتستحضرني قصة قصيرة لست أعرف مدى دقتها ، لكنها دائما تشكل لي هاجسا في قراءتي للأحداث.
يقال أن المخابرات الفرنسية في عهد ديغول اكتشفت أحد العملاء المتنفذين في فرنسا ، وكان من الصعب كشف طبيعة المهمات التي يقوم بها ، وبعد المراقبة الدقيقة لم يستطيعوا الوصول إلى طبيعة مهماته ، مما اضطر الفرنسيين إلى اعتقاله مراهنين على التحقيق والصدمة .
وحسب الرواية التي قمت بقراءتها قديما – لا أذكر المصدر – قام بصدمته ديغول نفسه بسؤاله عن مهمته فكان رده العجيب الغريب (إن مهمتي أن أضع أرذلكم على أنبل مشاريعكم (
إن هذه المهمة الدقيقة الحساسة بكل ما تحتويه وتحمله هذه الجملة من معاني ، هو حال أمتنا اليوم ، ليس هناك مشروع حيوي وحساس إلا ويقوده أراذل القوم ، ممن لا يفقهون شيئا بالدين والدنيا .
بل نجد أن كثيرا من الأنظمة يصرون على تقليد المناصب الخطيرة لشخصيات إمعة مشهود لها بالفساد والخراب.
ووفي مرة سئل الرئيس عرفات لماذا تبقي على السارقين والمارقين في المناصب فكانت إجابته العجيبة ( حتى لا يأتي أحد بطنه فارغ فيملأه من جديد (
لا يوجد رجل نزيه يعتمد عليه في تقليده المناصب الحساسة، وحين كان يسأل مرات عن سبب وجود أمثال هؤلاء فيقول أن المرحلة تقتضي ذلك.
دول الخليج ، حدث ولا حرج ، أمير لا يعرف أن يكون جملة مفيدة ، يتقلد مناصب إستراتيجية .
فهل هناك فاجعة أكثر مما نحن فيه؟!
نحن اليوم بحاجة إلى الكفاءات والعقول الفريدة والخبرات للخروج من الأزمة ،على الأمة أن تسعى جاهدة لترفع هؤلاء وتقدمهم لقيادة المسيرة فبدونهم لا يمكن أن تعالج الأزمات.
ولعل هذا الموضوع بداخل الكثير ما يكتبه وما يعبر عنه .
5- الدعاء والتوجه واللجوء لله عز وجل:
إن حالة التجر والعبودية المطلقة لله عز وجل ، تتمثل في أعلى مراتبها بالدعاء ، حين يتحقق التوكل المقرون بالأخذ بالأسباب ن يبقى على الجماعة المؤمنة التوجه لله بالتجرد من كل جواذب الأرض ، يعيشوا حالة العبودية الخالصة في أبهى وأرقى صورها .
إن إعلان الطاعة والخضوع لله عز وجل هو الغاية الحقيقية للجماعة المؤمنة ، وما هذا العمل إلاّ لوجه الله وابتغاء مرضاته.
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [32] , لذلك فالدعاء هو العلاقة الحقيقية التي تشكل حالة الخضوع والذل والانكسار واللجوء لله عز وجل ، وقد عبر الرسول الأعظم عن الدعاء بقوله : الدعاء مخ العبادة .
لقد جمع النبي الدعاء بكل العبادة ، ليؤكد أن الدعاء يشكل المفهوم الحقيقي للعبادة, قد جاءت الآيات تباعا مشيرة إلى الدعاء .
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [33] ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ﴾ [34] ويقول عز وجل ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ [35] , بل يحذر الله أن يكون هناك ملجأ أو وجهة غي وجهة الله عز وجل ﴿قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً ﴾ [36] .
إن هذه القاعدة الإلهية تكشف بدون أدنى شك عن التوجه والقبلة الحقيقية للمؤمنين ، إن مقابل الدعاء لله الإخلاص لله عز وجل هو اللجوء للكفار والمشركين والعياذ بالله ، وهذا محض الشرك والكفر, لذلك حين تؤخذ الأسباب ويفعل المؤمن ما بوسعه ، ما عليه إلا بالدعاء والتوجه الخالص لله.
وفي هذا المقام تستحضرني كلمات للسيد حسن نصر الله حفظه الله – كان يقول بما معناه حين كانت تمر عليهم الأزمات وتنتهي الأسباب يبدأون بالدعاء والتوجه إلى الله ، فلا يعرفون كيف انتهت الأزمة, ورفع الله عنهم الغمة بعد الضغوط وانتهاء الأسباب.
إن المعية والرحمة الإلهية هي أقرب مما نتخيل ونتصور ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [37] , إن الله مطلع يرانا ويعلم بحركاتنا وسكناتنا ، يعرف ما في قلوبنا ، لذلك من علامات الإخلاص والتوفيق هو الدعاء لله عز وجل والتقرب منه.
لا يكفي أن تؤخذ الأسباب ، بل بالدعاء تكتمل الحلقات وتكتمل الصورة ، فعليكم أيها المؤمنون بالدعاء ولعل هذا المقام لا يتسع إلى ذكر فضائل الدعاء والآيات والأحاديث التي سيقت في هذا الإطار .
وكل منا قد عايش الإحساس بالدعاء على صعيده الذاتي ، وهناك القصص الحاضرة والكثيرة في وقتنا الحالي تكشف عن أسرار ومعجزات الدعاء، وأترك الجميع ليستحضر أهمية الدعاء وروحانية الدعاء ومقاصد الدعاء .
لكن لنتذكر أن الدعاء هو الحلقة الأخيرة التي تكمل باقي الحلقات الأخرى في إطار مواجهة الأزمات ، وهو يشكل الركن الأساس في تلك المواجهة.
الخاتمة:
من خلال هذا البحث المصغر نستنتج الآتي:
أولا : أن الأزمات هي حالة إنسانية طبيعية تتعرض لها الجماعات والأفراد على حد سواء ، تتفاوت فيها ردات الأفعال ومواجهتها من جماعة إلى أخرى.
ثانيا : الجماعة المؤمنة تتميز عن باقي الجماعات الإنسانية الأخرى في قراءتها للأزمات والابتلاءات ، وكيفية مواجهتها والتعاطي معها ، فهي عبارة عن تربية وتوجيه للجماعة المؤمنة ، بما تحمله من رحمات وتأهيل للجماعة المؤمنة لقيادة البشرية ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾ [38]
ثالثا : القرآن الكريم وصف الابتلاءات والأزمات وبين أسباب الابتلاءات والأزمات لتتلافها الجماعة المؤمنة ويتكون قادرة على مواجهتها.
رابعا : لقد كشف القرآن الكريم عن الوسائل وسبل العلاج ومواجهة هذه الأزمات ، فلم يترك الله هذه الأمة بدون دعم الهي وتربية إلهية ، وهذا ما خصه الله المسلمين عن سائر الأمم الأخرى.
بعد هذا العرض السريع والمقتضب لإدارة الأزمات علينا أن نؤمن أن الخروج من الأزمة يقتضي منا العمل ، وحمل الأمانة والمسؤولية الشرعية ، تجاه التكليف الإلهي ، ولا يستشعر منا أحد أنه بمنأى عن المسؤولية بل هو جزء منها ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)
الهوامش:
[1] يونس57
[2] آل عمران152
[3] الأحزاب10-11
[4] البقرة155
[5] الحج46
[6] آل عمران110
[7] العنكبوت2
[8] آل عمران142
[9] التوبة16
[10] النحل112
[11] هود117
[12] المائدة14
[13] الحجرات10
[14] الشرح5-6
[15] البقرة214
[16] يوسف110
[17] الشرح5-6
[18] آل عمران154
[19] آل عمران155
[20] النحل118
[21] الشورى30
[22] التوبة118
[23] العنكبوت69
[24] النساء175
[25] النساء173
[26] يوسف109
[27] النجم28
[28] النساء66
[29] يونس98
[30] النساء83
[31] الزمر9
[32] الذاريات56
[33] البقرة 186
[34] النمل62
[35] الأنبياء84
[36] الإسراء56
[37] ق16
[38] البقرة143
 
 
Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً