أحدث المقالات

أ. نبيل علي صالح(*)

نحتاجُ دائماً إلى إعادة قراءة تراثنا الديني، ومراجعة كثير من تحوُّلات تاريخنا العربيّ والإسلاميّ([1])، والتمعُّن في مختلف أحداثه ووقائعه الكثيرة، التي امتدّت لقرون عديدة، وخاصة تاريخ أهل بيت النبوّة^، ممَّنْ كانتْ لهم تعاليمهم السامية، وأساليبهم العملية الرائدة في الدعوة إلى الإسلام، ومحاولتهم تركيزه في واقع الأمّة وَعْياً ومسؤوليات فردية وجماعية، لا بالقول فقط، بل بالقدوة والأسوة الحَسَنة، في انخراطهم الميداني التربوي والعلمي مع الناس في مواقع الحياة والمسؤوليّات العملية.

ونحن هنا نتابع هذه القراءات مع أحد أئمّتنا العظام^، وهو الإمام عليّ الرضا×. ولكنْ لا بُدَّ لنا قبل البدء بتحليل هذا الجانب العلمي والتربوي الهامّ من حياته المباركة، من الوقوف مليّاً أمام حقيقة الملابسات السياسية والأوضاع الاجتماعية العامة التي عايشها× في ذلك العصر من تاريخ الأمّة، ومحاولة استيعاب معالمها الرئيسة، ومتغيِّراتها التاريخية في سياق وَعْيه× لها، ولتمثُّلاتها الواقعية، وامتلاكه لرؤيةٍ إسلامية موضوعية في مواجهتها، والتكيُّف الإيجابي الفاعل مع بعض عناصرها الضاغطة التي فرضَتْ نفسها عليه في هذا الموقع أو ذاك. فما هي هذه التغيُّرات؟‍‍‍! وما هي الأجواء الفكرية والثقافية الجديدة المترافقة مع اتّساع تلك الظروف والمتغيّرات التي يمكن أن نعتبرها ـ بشكلٍ أو بآخر ـ امتداداً تاريخيّاً وسياسيّاً للمرحلة الزمنيّة التي سبقَتْها، مع بعض الاختلاف في الملامح العامّة؟!

المبحث الأوّل: الظروف والأوضاع التاريخية الخاصّة بعصر الإمام الرضا (عليه السلام)

1ـ ازدهار الحياة العلميّة

 يصفُ المؤرِّخون وكُتّاب السِّيَر والتراجم العصرَ الذي عاش فيه الإمام الرضا× بالعصر الذهبيّ([2])؛ وذلك بالنظر إلى ازدهار نشاطه العلمي، وتوسُّع دوائر حركيّته الفكرية والمعرفية، وتطوّر عمرانه الاجتماعي والاقتصادي… فقد نشطت في ذلك العصر حركةٌ كبيرة لإنشاء المعاهد والمدارس التعليمية الإسلامية وغير الإسلامية([3])، وبُنِيَتْ المكتبات العامّة([4])، وانطلقت حركة الترجمة والتعريب([5])… وكان من مظاهر التقدُّم العلميّ في ذلك العصر أيضاً إنشاء المراصد، ورسم الخرائط الجغرافية([6])، والاهتمام بعلوم التفسير والفقه والحديث والكلام والفلسفة([7])، وعلوم النحو واللغة والأصول، وانتشار علوم الطبّ والكيمياء والفلك([8]).

2ـ سوء الحالة الاقتصاديّة وتدنّي مستوى المعيشة

لقد كانت الحالة الاقتصادية العامّة للبلاد في ذلك العصر غير مستقرّةٍ، وذلك بالرغم من الإمكانات الهائلة التي توفّرت أمام الدولة([9])، من خيرات الأرض والسماء، وعمل الإنسان، وسعة مال الخراج، الذي بلغَتْ وَفْرَته ذات مرّةٍ حدّاً أنهم كانوا يضطرّون فيه إلى القيام بعمليات وزن المال؛ بسبب عدم القدرة على عدِّه، فكانوا يقولون مثلاً: إنه ستّة آلاف قنطار من الذهب([10]). لكنّ تلك الأموال الضخمة والثروات الهائلة لم تكن موضوعةً في خدمة عامّة الناس؛ من أجل تطوير حياتهم، وتحسين مستوى معيشتهم، بل كان الحكّام والسلاطين يتصرّفون فيها بحَسَب أمزجتهم([11])، وينفقونها على حواشيهم ومحاسيبهم وأهوائهم وشهواتهم([12]) ولياليهم الحمراء، أو على بناء القصور والعمارات الفارهة([13])، وتمكين الجيوش من السيطرة على المجتمع. ومن المؤسف أنّ هذه الأموال الوفيرة لم تُنْفَقْ على تحسين أوضاع المسلمين، وتطوير حياتهم، وإنّما كان الكثير منها يصرف على الشهوات والملذّات الشخصيّة للحكّام ومَنْ لفَّ لفيفهم. وقد عكست تلك الإنفاقات الهائلة حالة جنون البَذْخ والتَّرَف، الذي عاشته بغداد في ذلك العصر، وروَتْه حكايا وقصص (ألف ليلة وليلة)، التي مثَّلت حياة اللَّهْو والغَرَق في الشهوات.

لقد كان من الطبيعيّ جدّاً أن توجد هذه السياسات الظالمة([14]) ـ التي انتهجها حُكّام العصر العبّاسي([15]) ـ حالةً ضاغطة من البؤس والحرمان والفقر والجوع على الفرد والمجتمع ككلٍّ، أدَّتْ في محصِّلتها النهائية (المأساوية) إلى هَدْر طاقات الأمّة وثرواتها وقدراتها وذخائرها المعنويّة والمادّيّة، وإساءة استخدام وسائل الحكم وإدارة شؤون الناس في داخل الأمّة وخارجها.

3ـ انتشار الثورات والانتفاضات (من مظاهر التفرقة والتنابذ والصراع السياسي)

استمرّ العبّاسيون في اعتماد الوسائل والطرق السياسية والاجتماعية القاسية والظالمة نفسها التي اتَّبعها أسلافهم الأمويّون([16])؛ من أجل تثبيت مُلْكهم العضوض وزعامتهم على رأس السلطة والحكم، لا بل يمكن القول: إنهم (أي بني العبّاس) تفوَّقوا على الأمويين ـ في اتّباع مختلف أساليب وصنوف العذاب والظلم ـ أضعافاً مضاعفة، حتّى وصل الأمر بالناس إلى أنهم كانوا يتمنّون عودة الحكم الأمويّ على ما فيه من ويلاتٍ ومآسٍ!

ومن المعروف ـ بالنسبة إلى الجميع ـ أن تلك السياسات الفوقية الظالمة قد أدَّتْ إلى إحداث فتن اجتماعية، وتوتُّرات دينية وسياسية، أسَّسَتْ (بحكم قوّة مراكزها، واتّساع نفوذ أقطابها) مواقعَ تنظيميّة لحركة العنف والصراع والتنابذ السياسي في الأمّة. وبالتالي أجبرت الناس ودفعَتْهم إلى حمل السلاح، وسلوك طريق الدم والعنف، وإعلان الثورات، والدفاع عن الحقّ ضدّ النظام الحاكم([17]) بشرعيّة القوّة والنار([18]). ولعلّ ما ورد من كلامٍ على لسان ابن أبي ذؤيب ـ في إجابته عن سؤال المنصور الدوانيقي: أيُّ الرجال أنا؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ـ يمكن أن يكون كافياً لتصوير حالة التوتُّر والضغط الذي كان يرزح تحتها أبناء المجتمع في العهد العبّاسي. فها هو يقول للمنصور: «أنتَ والله عندي شرُّ الرجال، استأثَرْتَ بمال الله ورسوله، وسَهْم ذوي القربى واليتامى والمساكين، وأهلكْتَ الضعيفَ، واتّبعْتَ القويّ، وأمسكْتَ أموالهم»([19]). وقد سبق لهذا «المنصور» أن ادّعى لنفسه حقّ التصرُّف المطلق بالعباد والبلاد، واعتبر نفسه ظلاًّ لله على الأرض. يقول: «أيها الناس، إنّما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وأنا خازنه على فَيْئه، أعملُ بمشيئته، وأقسمه بإرادته، وأعطيه بإذنه، قد جعلني الله عليه قفلاً، إذا شاء أن يفتحني فتحني، وإذا شاء أن يقفلني قفلني»([20]).

وعلى المنوال نفسه سار الهادي وهارون (الرشيد)، وعهد في حياته لولاية العهد، وتقسيم السلطنة والملك بين أولاده الأمين والمأمون والقاسم، وجعل الخلافة بينهم الواحد تلو الآخر، وحدَّد لكلٍّ منهم دائرة نشاطه وحكمه الراهن والمستقبلي، فأعطى الأمين ولاية العراق والشام والمغرب، وأعطى المأمون من همدان حتّى آخر المشرق، أما القاسم فكان نصيبه الجزيرة والثغور والعواصم([21]).

أما المأمون([22]) ـ الذي عاصره إمامنا الرضا× بشكلٍ أساس ـ فقد اجتمعَتْ فيه صفات نفسيّة وسلوكية سلبيّة لا حَصْر لها، من الغدر والخيانة والقسوة وانعدام الرحمة([23]). ويكفيه ـ في هذا المجال ـ ما فعله بأخيه الأمين، الذي انتهت حياته بالقتل على يد المأمون نفسه، إلى جانب اغتياله للإمام الرضا×، ومقابلته للسادة العلويّين بمنتهى الشدّة والقسوة([24]). ناهيك عمّا ارتكبه من فظائع وويلات كثيرة بحقّ المجتمع والأمة ككلٍّ([25]).

نعم، فقد اعتاد المأمون على اتباع مختلف وسائل وأساليب التصفية والقتل المنظَّم ضدّ كلّ شخصٍ يشعر (المأمون طبعاً) بأنه يشكِّل خطراً على مصالحه وعرشه. وقد رأَيْنا كيف قتل الفضل، وبكى عليه. ثمّ قتل أخاه الأمين، كما قلنا آنفاً، ومن ثمّ اغتال الإمام الرضا×([26])، ثمّ تظاهر بالبكاء بكاءً شديداً، ممّا يدلّ على دهائه ومَكْره الشديدين. وبالرغم من كلّ ذلك فقد كان يطلب من الفضل باستمرارٍ أن يشيع عنه الزهد والتقوى والورع، فيفعل على الدوام([27]).

4ـ شيوع الانحرافات الفكريّة والعقائديّة (انتشار مظاهر التحريف في المضامين الموضوعية الحيّة للتجربة الإسلامية الصحيحة)

تحدَّثنا سابقاً عن بعض معالم عصر الإمام عليّ الرضا×، وذكَرْنا بأنه قد تميَّز بالانفتاح العلمي والتواصل الحضاري([28]) بين مختلف الثقافات والحضارات، الأمر الذي ساعد على نموّ حركة الفكر والمعرفة، خصوصاً بعد اعتماد أسلوب الترجمة ونقل سائر العلوم والمعارف.

لكنّ هذا التفاعل والتبادل الحضاري الذي حدث بين تلك المعارف والفلسفات والطروحات الثقافية، وأنماط التفكير، والرؤى الفكرية والعقائدية المختلفة، لم يكن ليمرّ دون أن يترك آثاراً جانبيّة خطيرة على مستوى نشوء ردود أفعال معيَّنة (شاذّة وخلاف ما هو سائد) اندفعَتْ إلى سطح الواقع، وتمثَّلت بظهور مجموعةٍ من التشكيلات العقائدية، والتيارات الفكرية، والفِرَق الكلامية والفلسفية، التي حاولت أن تبني لنفسها شرعيّةً قانونيةً، دينيةً واجتماعية؛ من أجل بثّ آرائها (واجتهاداتها) بين صفوف أبناء المجتمع.

لقد كان من الطبيعيّ أن تطفو تلك الحركات الفكرية على سطح الواقع التاريخي الإسلاميّ آنذاك، وتمارس عملها الدعوتي التشكيكي ـ إذا صحّ التعبير ـ؛ وذلك بالنظر إلى طبيعة الأجواء والظروف الموضوعية، الداخلية والخارجية، التي سادَتْ هناك، وتحكَّمَتْ بمسيرة احتكاك وانفتاح حضارتنا وثقافتنا الإسلاميّة على الحضارات الأخرى؛ حيث لم تكن حضارتنا جاهزةً ومهيّأةً بمقدار الكفاية ـ على صعيد الفكر الموجود والقادة المتزعِّمين للحكم والتجربة ـ للسَّيْر في مجال التبادل والتواصل مع باقي ثقافات وحضارات العالم، وخصوصاً بعد أن جرى تعطيل مدرسة أهل البيت^، وإقصاء روّادها ورموزها الكبار عن ساحة العمل الجماهيريّ، والإمعان في ملاحقتهم (وقتلهم) من قِبَل السلطات الزمنيّة الحاكمة؛ خوفاً وطمعاً.

لقد تسبَّب هذا الانفتاح الحضاري غير المتوازن في بروز قضايا ووقائع فكريّة وسياسية واجتماعية وحضارية كثيرة جدّاً، كان لا بُدَّ من تبيان رأي الشريعة والفقه الإسلاميّ الأصيل حولها. ويبدو أن ظهور المذاهب الفكرية، والآراء الفقهية الإسلامية، كان هو المحصّلة الإجمالية العامّة التي تمخّضت عن اتّساع ونموّ حركة تلك التطوّرات الكبيرة والسريعة التي شهدَتْها أمّتنا خلال ذلك العصر.

ضمن هذه الأجواء المعقَّدة والخطيرة عاش الإمام الرضا×، وانطلقت حركيّته العلمية الرائدة والواسعة وَسْط أمواجٍ عاتية من التيارات والمذاهب والحركات العلميّة والثقافية المقيمة والوافدة([29]).

لقد قام الرضا× بمسؤولياته الرسالية العقائدية والعلمية، ومارس مهامّه وواجباته كإمامٍ معصوم، وقائدٍ ربّاني، وعالمٍ فذّ، رفيع المنزلة، وعظيم الشأن؛ من أجل مواجهة الانحرافات، ومظاهر التحريف الخطيرة التي أطبقت على الواقع الإسلاميّ آنذاك، وعملت على إسقاطه، وإفراغه من أهدافه وقِيَمه الإسلامية الأصيلة.

لذلك تحرّك الإمام الرضا× ـ على هذا الصعيد ـ متّخذاً لنفسه جانب الحوار العلمي الموضوعي مع تلك التيّارات والفِرَق، وممارسة النقد الإسلامي الصريح والواضح لكلّ الأفكار والمقولات والآراء الثقافية الضالّة والفاسدة([30]).

المبحث الثاني: دَوْر الإمام الرضا× في مواجهة الواقع المنحرف لعصره

إنّ الذي يتابع أسلوبَ وطريقةَ أداء الإمام عليّ الرضا× في وَعْي (ودراسة ومواجهة) تلك المظاهر السلبيّة العامّة التي انطبع بها عصره يمكن أن يمنهج عمل وحركة الإمام× على مستوى التواصل الإيجابيّ مع الفكر الإسلاميّ، وحماية العقيدة الدينية، وتحصين الأمّة من الوقوع بين براثن التخلُّف والسقوط والانهيار، من خلال ما يلي:

1ـ التركيز الدائم على العمل بكتاب الله تعالى([31])

وذلك باعتباره المرجعيّة العقائديّة والفكريّة الإسلاميّة الأساسيّة، التي لا بُدَّ من وَعْيها، والالتزام بها، والسير بهَدْيها، في مدى الزمن كلِّه.

جاء عن الرضا×، في إجابته عن سؤالٍ وجَّهه إليه «الريان بن الصّلت»، قولُه في القرآن: «كلام الله لا تتجاوزوه، ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضلّوا. هو حبلُ الله المتين، وعروته الوثقى، وطريقته المثلى، المودي إلى الجنّة، والمنجي من النار. لا يخلق على الأزمنة، ولا يغثّ على الألسنة؛ لأنه لم يُجْعَلٍ لزمانٍ دون زمانٍ، بل جُعل دليل البرهان، والحجّة على كلّ إنسانٍ: ﴿لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾. فالقرآن حيٌّ لا يطرؤه الموت والبوار، كما أنه حقٌّ لا يقربه البطلان؛ لأنه المظهر التامّ لله سبحانه، الذي هو حياةٌ لا موت فيها، وحقٌّ لا يحوم حوله البطلان؛ لأنه تعالى لم ينزله لزمانٍ دون زمان، ولا لأناسٍ دون أناسٍ، فهو في كلّ زمنٍ جديد، وعند كلّ قومٍ غضٌّ إلى يوم القيامة»([32]).

إنّ الإمام الرضا× ـ الذي نطق بالقرآن، وتمثَّل معانيه وقِيَمه، وبيَّن مفاهيمه([33])، واستخرج حلاله وحرامه، واستوحى آياته، وأوضح تعابيره العامّة في حركة الحياة ـ يريد منّا أن نعمق صلتنا الروحية والفكرية مع القرآن الكريم؛ باعتباره يؤسِّس القاعدة الثقافية والحضارية المعصومة التي ينطلق منها كلّ فكرٍ إسلامي، وكلّ حكمٍ شرعيّ، في أيّ مفهومٍ من المفاهيم الإسلامية، وفي أيّ حركةٍ ينطلق منها الواقع الإسلاميّ([34]). يقول×: «هو حبل الله المتين، وعروته الوثقى، غضٌّ إلى يوم القيامة»([35]).

 وهناك مسألةٌ مهمّة أثارها الإمام الرضا× في حديثه السابق، أرى في طرحها ـ ضمن هذا السياق ـ ضرورةً قصوى، وهي تتعلَّق بحركيّة القرآن، وحيويّته، وعدم جموده عند هذه الحادثة أو تلك الواقعة المرتبطة بهذا الشخص أو ذاك، وبالتالي امتداد آثار ونتائج وَعْي القرآن وفهمه إلى ساحات الحياة كلّها، وفي مدى الزمان كلّه، أي امتداده إلى كلّ النماذج الإيجابية أو السلبيّة التي تحرّكَتْ ويمكن أن تتحرَّك في مرحلة نزولها، وفي الأبعاد الزمنية الممتدة في رحاب الحياة([36]). يقول×: «فالقرآن لا يطرؤه الموت والبوار… لم ينزل لزمانٍ دون زمانٍ»([37]). ومن خلال هذا الفهم المتحرِّك الواسع يمكننا أن نستوحي القرآن في كلّ مواقع الحياة الراهنة التي يتحرَّك فيها ـ أو من خلالها ـ إنساننا المعاصر، من دون أن يقف هذا الاستيحاء الإيجابيّ الفعّال عند موقعٍ أو زمنٍ محدَّدَيْن، إلاّ عندما يكون هذا الوقوف محطّةً للتزوُّد بالخبرة والتجربة، وتراكم المعرفة والوَعْي، أي لا بُدَّ لنا من استيحاء القرآن في كلّ ما يستجدّ في حياتنا؛ لنوسّع آفاقه حتّى تنفتح على آفاقنا، فلا نقرأ القرآن في الأحداث التي عاشَتْ في عهد الرسالة الأولى، بل نقرؤه من خلال تلك الأحداث، على أساس أن تكون هذه الأحداث أحداث الحياة، وليست أحداث زمنٍ معين أو موقعٍ معين. وبهذا نستطيع أن نتحرَّك بالقرآن، وأن يحرِّكنا القرآن، وأن نحرِّك القرآن في كلّ واقعنا([38]).

 إننا نعيش في واقعٍ متغيِّر ومعقَّد، أصبح عنصر التغيُّر فيه هو الثابت الأوحد، لذلك لا بُدَّ أن نعمل بوَعْيٍ وانفتاح على تأصيل علاقتنا بكتاب الله، وعدم السقوط النفسيّ أمام تحدّيات الواقع، التي يمكن أن تضغط علينا، من خلال استهزاء أصحابها بقِيَمنا وأصالتنا، وبعض طرق وأساليب وتعابير هذه العلاقة مع القرآن الكريم والأئمّة الأطهار.

إننا نعتقد أن قيام تلك العلاقة على أسسٍ متينة من الوَعْي والدّقة والموضوعية، المنطلقة من التركيز النوعي المكثَّف والغنيّ على القرآن الكريم، في حقائقه وثوابته العقيديّة والشرعيّة والأخلاقيّة، هو الذي يمكن أن يفتح لنا الطريق، وينير لنا الدرب؛ من أجل تقديم فكرٍ إسلاميّ نقيّ وأصيل، ينطلق من ثوابته الفكريّة المقدَّسة (القرآن الكريم والحديث الشريف)، منفتحاً على الإنسان والحياة والله تعالى، في عملية بحثٍ وتنقيبٍ مستمرّين، ونقدٍ دائمٍ للواقع المنحرف، البعيد في الخطوط الخاصّة والعامّة عن الأصول والمبادئ الإسلامية الحقيقية.

ضمن هذا السياق تكون الاستفادة المُثلى من فاعلية العلاقة المفتوحة مع كتاب الله (علاقة أنه غضٌّ إلى يوم القيامة، كما يقول الإمام الرضا×). إنها استفادتنا العملية من التوظيف الحَرَكيّ، الاجتماعيّ والحياتي، لقِيَم القرآن وأفكاره وأحداثه التاريخية؛ خدمةً للإنسان المتحرِّك في الحياة حاليّاً، في علاقته مع نفسه ومجتمعه ومحيطه. فمثلاً: عندما يطرح القرآن على مسامعنا القصص التاريخية المختلفة، كقصّة أهل الكهف، أو قصّة النبي موسى× وفرعون، وموسى× والخضر…، إلخ، إنه يريد أن يثير تفكيرنا حول المضامين والمعطيات التاريخية الحَرَكية، من خلال إجراء مقارناتٍ عملية واسعة بين الواقع الذي تحرّكت فيه تلك القصص وبين الواقع الذي عاشَتْ فيه الرسالة، ويمكن أن تعيشها في مدى الزمان والحياة؛ من أجل أن تكون (تلك القصص) وسيلةً من وسائل التوعية الروحية والثقافية والعملية، وأسلوباً حضاريّاً واقعيّاً في استلهام قِيَم التاريخ ـ الحاضر بقوّة في داخل روح الإنسان ـ في واقع الإنسان في الحاضر والمستقبل، في إطار عمليّة تواصلٍ وتفاعلٍ، ودراسةٍ علمية وموضوعية شاملة، ليتحسَّس كلُّ إنسانٍ موقعه في حركة التاريخ، وليعي دَوْره فيها، ومسؤوليّته في خطواته الخيِّرة والشريرة في خطّ الاستقامة والانحراف؛ ليحدِّد لنفسه أهدافها وطريقها في قضايا المصير؛ ليكون مع الصالحين، لا مع الفاسدين، ومع المحقّين، لا مع المبطلين. وعلى ضوء ذلك يتمّ اختيار الواقعة أو الحادثة التاريخية ـ على مستوى استلهام الفكرة القرآنيّة في الحياة كلّها ـ من خلال علاقتها بهذا الخطّ، وارتباطها بالفكرة والإنسان والحياة، وفي دائرة القصص الحقّ، الذي ينطلق من عمق الصدق في الواقع؛ ليصحِّح الكثير ممّا اختلف فيه الناس بين أقاصيص الحقّ والباطل بقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ﴾ (آل عمران: 62)؛ و﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ (يوسف: 111).

2ـ التصدّي لتيّارات الزندقة والإلحاد والتشكيك

انطلق الإمامُ الرضا× في هذا المجال بكلّ قوّةٍ وعزيمة وإصرار على مواجهة واقع الانحراف والتحريف والتضليل الفكري والمعرفي، وذلك في رصده الدقيق وتقديره الواعي لكلّ أجواء وتعقيدات الواقع الفكري والعقائدي والثقافي الذي عاش فيه؛ ليساهم من خلال ذلك في تصحيح الكثير من المفاهيم، والتدقيق في كلّ الطروحات الفكرية والعملية المتداولة والشائعة آنذاك، والتي حاولت تيارات الزندقة والإلحاد إثارتها إعلاميّاً وواقعيّاً في واقع الأمّة، في ما يتّصل بحركة المفاهيم الأصيلة والمضامين النقيّة للرسالة الإسلامية، وضرورة تحريك الأمّة باتجاهها، ومواجهة الأفكار التي يمكن أن تتحدّاها، أو مَنْ يحاول زعزعة إيمان الناس والمجتمع بها؛ من أجل إعادة حركة المسيرة إلى الخطّ عندما تنحرف في هذا الموقع أو ذاك.

وقد اتّبع الرضا× في ذلك أسلوب المناظرة والحوار والجَدَل بالتي هي أحسن مع كلّ الناس والشخصيّات، ومن دون شروطٍ مسبقة، وعلى مرأى ومسمع الجميع.

لقد دافع× ـ من خلال حواراته ومناظراته المشهورة في كتب التاريخ عن الإسلام ـ عن قِيَم الإسلام؛ من أجل تثبيت معالم الدين، وأماط اللثام عن كثيرٍ من كلِّياته وأصوله الخاصّة والعامّة، وذلك في سياق سَعْيه الحثيث لإعادة بناء صِيَغ جديدة حقيقيّة لمعنى المعارف الدينية، وتعميق صلة الأمّة بدينها وفكرها الإسلاميّ، وذاتها الحضاريّة. وهذا ما يتّضح لنا من خلال الأمور التالية:

أـ إعادة التأكيد على أصول العقيدة الإسلاميّة، وشرحها، وتثبيت أُسُسها العامة في ذهنيّة الأمّة

1ـ نموذج التوحيد

التوحيد أصلٌ من أصول الدين، وثابتٌ مركزيّ من ثوابت العقيدة الإسلامية، بل هو جَوْهرها، ومنطلقٌ أساسٌ للمعرفة والسلوك الإنسانيّ في تجلِّياته وأبعاده الواقعيّة. لذلك حاول الإمام الرضا× ـ بعد أن رأى وعاين مباشرةً وجود كثير من الأفكار المنحرفة عن المعنى الحقيقي للتوحيد ـ أن يوضِّح جزئيات وتفاصيل هذه العقيدة، ويعرِّف بصفات الله وأسمائه الحسنى، وعلاقته بخلقه، وما يصحّ أن يوصف به سبحانه، ويُنْسَب إليه، وما لا يصحّ ولا تجوز نسبته إلى الله تعالى، كالتشبيه، والتجسيم، والمماثلة…، إلخ. يقول الرضا×: «إن مَحْضَ الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، إلهاً واحداً، فَرْداً صَمَداً، قيّوماً، سميعاً، بصيراً، قديراً، قديماً، قائماً، باقياً، عالماً لا يجهل، قادراً لا يعجز، غنيّاً لا يحتاج، عادلاً لا يجور، وأنه خالق كلّ شيءٍ، لا شبيه له، ولا ضدّ له، ولا ندّ له، ولا كُفْءَ له، وأنه المقصود بالعبادة والدعاء والرغبة والرهبة؛ وأن محمداً عبده ورسوله وأمينه وصفيّه وصفوته من خلقه، وسيّد المرسلين، وخاتم النبيّين، وأفضل العالمين، لا نبيَّ بعده، ولا تبديل لملَّته، ولا تغيير لشريعته، وأن جميع ما جاء به محمد بن عبد الله| هو الحقّ المبين، والتصديق به وبجميع مَنْ مضى قبله من رسل الله وأنبيائه وحُجَجِه، والتصديق بكتابه الصادق العزيز، الذي ﴿لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ (فصِّلت: 42)»([39]).

وسئل× عن تفسير قوله تعالى: ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ﴾؟ فقال×: «إن الله تبارك وتعالى لا يُوصَف بالترك كما يوصف خلقه، ولكنّه متى علم أنهم لا يرجعون عن الكفر والضلال منعهم المعاونة واللطف، وخلّى بينهم وبين اختيارهم»([40]).

 وورد في روايةٍ له×: «مَنْ شبَّه الله بخلقه فهو مشركٌ، ومَنْ نسب إليه ما نهى عنه فهو كافرٌ»([41]).

2ـ نموذج الجَبْر والاختيار

تصدّى إمامنا× لكثيرٍ من الأفكار والمقولات الكلامية والفلسفية المنحرفة عن عقيدة التوحيد، وأسقط حُجَجها الواهية المصطنعة، وكشف بطلانها وزَيْفها، مصحِّحاً بذلك المعنى الجوهريّ لأركان الاعتقاد بالله تعالى، ومثبتاً نقاوته وأصالته. وكانت قضية «الجَبْر والتفويض» من بين القضايا العقائدية التي انشغل بها العلماء والمتكلِّمون لفترةٍ زمنية طويلة، ولا تزال آثارها باقيةً حتّى الآن.

لقد ظهرَتْ في التاريخ ـ منذ أيّام الرضا× ـ مدرسةٌ جَبْرية تنادي بانعدام الاختيار الإنسانيّ، وترى الإنسان غير مخيَّرٍ في أفعاله، بل هو مجبورٌ ـ بحكم العقل والفطرة ـ على سلوكه وفعله، وأن الإنسان ليس إلاّ المحلّ الذي تجري عليه أفعال الله تعالى بإرادته، كما يجري الماء في النهر، وليس له دَوْرٌ ولا تأثيرٌ ولا أيّ فعاليةٍ في مجرى الأحداث والأفعال. كما نادَتْ مدرسةٌ أخرى ـ وقف المعتزلةُ على رأسها ـ بالقول المناقض والمعاكس تماماً لرأي الجَبْرية، فقالت بتفويض الأمر إلى الإنسان، وأن الله خلق العبادَ وفوَّضَ أمرَ أفعالهم إليهم، دون أن يستطيع التدخُّل في أفعالهم، ومَنْعَهم أو إرغامَهم على شيءٍ.

وفي ردّه الحاسم على تلك الطروحات المضلِّلة، التي جاء بها علماء الأشاعرة والمعتزلة، رفض الإمام الرضا× رفضاً قاطعاً القبول بالأفكار والحُجَج والبراهين التي أوردها الفريقان. فأوضح× المفاهيم الملتبسة، وصحَّح التفسير الخاطئ للعلاقة بين الله تعالى وإرادة العباد. وها هو يجيب عن سؤالٍ ورده حول الجبر والتفويض بقوله: «ألا أعطيكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه، ولا يخاصمكم عليه أحدٌ إلاّ كسرتموه؟!»، قلنا: إنْ رأيْتَ ذلك، فقال: «إن الله تعالى لم يُطَعْ بإكراهٍ، ولم يُعْصَ بغَلَبةٍ، ولم يهمل العباد في ملكه. هو المالك لما ملَّكهم، والقادر على ما أقدرهم عليه؛ فإنْ ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله عنها صادّاً، ولا منها مانعاً؛ وإنْ ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإنْ لم يحُلْ ففعلوا فليس هو الذي أدخلهم فيه»، ثمّ قال×: «مَنْ يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم مَنْ خالفه»([42]).

ب ـ الاستفادة من المناظرات الحواريّة في مواجهة المفاهيم المضلِّلة وإسقاط الثقافات المنحرفة

كان الرضا× معلِّماً، وموجِّهاً، ورائداً كبيراً من روّاد الفكر والحضارة الإسلامية. وقد برهن على ذلك في ثباته، ورسوخه الفكري والعقائدي، في أجوبته ومناظراته الحوارية([43])، التي دافع من خلالها عن العقيدة الإسلامية الصافية، التي حاول أن ينال منها الكثير من المتفلسفين والمتكلِّمين، كعمران الصابئ، وأبي قرّة، ورأس الجالوت، والهرند الأكبر. وغيرُهم كثيرٌ.

لقد كانت الوفود التي تحضر تلك الندوات والمناظرات والمجالس المتعدِّدة تخرج منها وهي مرتاحةٌ، ومليئةٌ بالإعجاب والإكبار والثناء على إمامنا الرضا×، الأمر الذي سبَّب للمأمون مشاكل كثيرة، وخاصّة أن تلك الحوارات كانت تجري في بلاطه ومجلسه، حيث بدأ الناس يُقْبِلون على الإمام×، ويقولون بإمامته. لذلك انطلق المأمون في حركةٍ معاكسة، فبدأ بحَجْب وإخفاء الإمام عن الناس والعلماء؛ خوفاً من أن يُفْتَنوا به، لكنّ الإمام الرضا× كان يقدِّم فكره الإسلامي العلمي الأصيل غير مكترثٍ ولا عابئٍ كثيراً بما يجول في ذهن المأمون على صعيده كشخصٍ؛ لأنه كان يعلم مسبقاً بطبيعة الدوافع والمصالح والغايات الشخصية الحقيقية التي كان المأمون يسعى باتجاه تحقيقها هنا وهناك([44]). لذلك حاول أن يستفيد من هذه الأجواء والمناخات الحواريّة فقط من باب أن يقدِّم فكره الصافي، ويطرح مبادئ الإسلام الصحيح من نبعه الأصيل، نبع أهل البيت^، وليواجه كلّ مَنْ يريد أن يفكِّر بتهديد العقيدة والمفاهيم الإسلامية الصحيحة.

لقد كان الشيء الأساس والوحيد الذي شغل بال الإمام الرضا×، ومَحْوَر له حياته كلّها ـ في كلّ حركة الحوار([45]) الذي خاض× غماره من أقصاه إلى أقصاه ـ هو إنقاذ وجود الأمّة في المستقبل من براثن الظلم والانحراف، وضمان عدم تشرذمها وانهزامها وسقوطها أمام التحدّيات والأهوال، وحماية وجودها المعنويّ والروحيّ (على الأقلّ) من الذوبان والتماهي مع الانحراف والغَلَط، ومحاولة إكسابها بعض المعالم والسِّمات الفكرية والاجتماعية الخاصّة والعامّة، وذلك من خلال عمله الدؤوب والصادق والمخلص بإعطاء التحصين الكامل والممانعة المستمرّة لهذه الأمّة، على الصعيدين الروحيّ والمفاهيميّ.

3ـ محاربة البِدَع والضلالات، وفضحها

خاض الإمام الرضا× معارك فكرية وصراعات عملية مع مختلف التيارات المنحرفة، وشهد له التاريخ بسلسلةٍ من مواقف الاحتجاج والمجادلة و«الحوار بالتي هي أحسن»؛ لفضح الأفكار والشبهات التي كان يُعْمل على ترويجها داخل المجتمع الإسلاميّ، من قِبَل بعض الشخصيات والفئات المنغلقة والمنطوية.

وقد واجه× تلك الضلالات والبدع على مستويين([46]):

أـ مع الآراء والأفكار المنحرفة لبعض المسلمين

انتشرَتْ داخل الوسط الإسلامي آنذاك مجموعاتٌ وفِرَقٌ منحرفةٌ، تشكَّلَتْ داخل المجتمع الإسلاميّ؛ بسبب بعض الظروف والأوضاع الفكريّة والنفسيّة. وقد نادى أصحاب تلك الفِرَق ببعض العقائد والمقولات النظرية والعملية المنحرفة عن العقيدة الإسلامية والفكر الإسلامي الصحيح.

لقد ظهرت تلك الانحرافات في عهد الإمام الرضا× بشكلٍ واضح تماماً، لذلك عمل على التصدّي لها، ومعالجتها، وتفنيدها، وإبطال مزامعها ومرتكزاتها.

فقد روى الحسين بن خالد قال: قلتُ للرضا×: يا بن رسول الله، إن الناس يروون أن رسول الله| قال: إن الله عزَّ وجلَّ خلق آدم على صورته، فقال×: «قاتلهم الله، لقد حذفوا أوّل الحديث. إن رسول الله مرَّ برجلين يتسابّان، فسمع أحدهما يقول لصاحبه: قبَّح الله وجهك ووجه مَنْ يشبهك، فقال| له: يا عبد الله، لا تقُلْ هذا لأخيك؛ فإن الله عزَّ وجلَّ خلق آدم على صورته»([47]).

فالنبيّ الكريم| ينهى الرجل عن السباب بهذا الأسلوب؛ لأن في ذلك مسبّةً لآدم أبي البشر، والضمير في صورته (الهاء) يرجع للرجل الذي وُجِّه إليه السباب، لا أنه يرجع لله، حتّى يكون المعنى أن الله خلق آدم على صورته هو عزَّ وجلَّ. ويؤكِّد الإمام ذلك بما روى عن رسول الله| في حديثٍ قدسي: «ما عرفني مَنْ شبَّهني بخلقي»([48]).

وهكذا نرى أن الإمام× يمارس دَوْره الفعّال في تصحيح سنّة رسول الله|، وتنقيتها من التدنيس، ووضعها في سياقها الطبيعيّ والمتوازن.

ومن مواقفه×: عن إبراهيم بن أبي محمود قال: قلتُ للرضا×: يا بن رسول الله|، ما تقول في الحديث الذي يرويه الناس عن رسول الله|: إن الله تبارك وتعالى ينزل كلّ ليلةٍ إلى السماء الدنيا؟! فقال×: «لعن الله المحرِّفين الكَلِم عن مواضعه. واللهِ، ما قال× كذلك، إنما قال: إن الله تبارك وتعالى يُنْزِل مَلَكاً إلى السماء كلّ ليلةٍ في الثلث الأخير، وليلة الجمعة في أوّل الليل، فيأمره فينادي: أَهَل من سائلٍ فأعطيه؟! هل من تائبٍ فأتوب عليه؟! هل من مستغفرٍ فأغفر له؟! يا طالب الخير فأقبل، يا طالب الشرّ أقصر. فلا يزال ينادي بهذا حتّى يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر عاد إلى محلّه من ملكوت السماء. حدَّثني بذلك أبي، عن جدّي، عن آبائه، عن رسول الله|»([49]).

ب ـ مع الآراء والأفكار الضالّة للزنادقة والملحدين والواقفيّة

سعى الإمام الرضا× ـ إلى جانب تصحيحه لعقائد بعض الفِرَق والمذاهب الإسلاميّة ـ إلى مواجهة الكثير من البِدَع والشبهات الضالة، التي جاء بها بعض اليهود والنصارى والصائبة والمجوس، ومَنْ تأثَّر بها من بعض المسلمين. وقد تصدّى× لهم بقوّةٍ وجرأةٍ، وفنَّد مزاعمهم، وأسقط انحرافاتهم:

خفّ زنديقٌ (متمرِّسٌ في الزندقة والإلحاد) إلى الإمام الرضا×، وكان في مجلسه جماعةٌ، فالتفت الإمام قائلاً: «أرأيْتَ إنْ كان القول قولكم ـ من إنكار الله تعالى ـ، وليس هو كما تقولون، أَلَسْنا وإيّاكم شرعاً سواء، ولا يضرّنا ما صلَّيْنا، وصمنا، وزكَّيْنا، وأقرَرْنا؟ وإنْ لم يكن القول قولكم، وهو كما نقول، أَلَسْتم قد هلكتُم، ونجَوْنا…»([50]).

 وقدَّم الزنديق إلى الإمام× الأسئلة التالية:

س1ـ رحمك الله، أوجدني كيف هو ـ يعني الله ـ؟ وأين هو؟

ج1ـ «ويلك، إنّ الذي ذهبْتَ إليه غلطٌ، وهو أين الأين، وكان ولا أين، وهو كيف الكيف، وكان ولا كيف، ولا يعرف بكيفوفته، ولا بأينونته، ولا يدرك بحاسّةٍ، ولا يُقاس بشيءٍ…».

س2ـ إذن إنه لا شيء؛ إذ لم يدرك بحاسّةٍ من الحواس؟

ج2ـ «ويلك، لمّا عجزَتْ حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيّته، ونحن إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه أيقنّا أنه ربُّنا، وأنه شيءٌ بخلاف الأشياء».

س3ـ أخبرني متى كان؟

ج3ـ « أخبرني متى لم يكن، فأخبرك متى كان».

س4ـ ما الدليل عليه؟

ج4ـ «إنّي لو نظرْتُ إلى جسدي، فلم يمكنني فيه زيادةٌ ولا نقصان في العَرْض والطول، ودفع المكاره عنه، وجرّ المنفعة إليه، علمْتُ أن لهذا البنيان بانياً، فأقرَرْتُ به، مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته، وإنشاء السَّحاب، وتصريف الرِّياح، ومجرى الشمس، والقمر، والنجوم، وغير ذلك من الآيات العجيبات المتقنات، علمْتُ أن لهذا مقدّراً ومنشئاً».

س5ـ لِمَ لا تدركه الأبصار؟

ج5ـ « للفرق بينه وبين خلقه الذين تدركهم حاسّة الأبصار، منهم ومن غيرهم، ثم هو أجلُّ من أن يدركه بصرٌ، أو يحيط به وَهْمٌ، أو يضبطه عقلٌ».

س6ـ حدَّه ـ أي الله تعالى ـ لي.

ج6ـ « لا حَدَّ له»

س7ـ لِمَ ـ أي لماذا لا يُحَدّ ـ؟

ج7ـ «لأنّ كلّ محدودٍ متناهٍ إلى حدٍّ، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة، وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان. فهو غير محدودٍ، ولا متزايدٍ، ولا متناقصٍ، ولا متجزّئٍ، ولا متوهّم».

س8 ـ أخبرني عن قولكم: إنه لطيفٌ، وسميع، وبصير، وعليم، وحكيم، أيكون السميع إلاّ بالأذن، البصير إلاّ بالعين، واللطيف إلاّ بعمل اليدين، والحكيم إلاّ بالصنعة؟

ج8 ـ «إن اللطيف منّا ـ أي من المخلوقات ـ على حدّ اتّخاذ الصنعة، أَوَما رأيْتَ أن الرجل اتّخذ شيئاً فليلطف في اتّخاذه؟ فيقال: ما ألطف فلاناً، فكيف لا يقال للخالق الجليل: (لطيف) إذا خلق خلقاً لطيفاً وجليلاً، وركب في الحيوان منه أرواحها، وخلق كلّ جنسٍ متبايناً عن جنسه في الصورة، ولا يشبه بعضه بعضاً، فكلٌّ به لطفٌ من الخالق اللطيف الخبير في تركيب صورته. ثمّ نظرنا إلى الأشجار، وحملها أطايبها، المأكولة منها وغير المأكولة، فقلنا عند ذلك: إن خالقنا لطيفٌ لا كلطف خلقه. وقلنا: إنه سميعٌ؛ لأنه لا يخفى عليه أصوات خلقه ما بين العرش إلى الثرى، من الذرّة إلى ما هو أكبر منها، في برّها وبحرها، ولا يشتبه عليه لغاتنا، فقلنا: إنه سميعٌ لا بأُذُن. وقلنا: إنه بصيرٌ لا ببصرٍ؛ لأنه يرى أثر الذرة السحماء([51]) في الليلة الظلماء على الصخرة السوداء، ويرى دبيب النمل في الليلة الدجيّة، ويرى مضارّها ومنافعها، وفراخها ونسلها، فقلنا عند ذلك: إنه بصيرٌ لا كبصر خلقه»([52]).

أما مواجهته× للواقفية([53]) ـ وهي فرقةٌ كلاميّة منحرفة، ادَّعت أن الإمام موسى بن جعفر× لم يمُتْ، بل رُفع كما رُفع عيسى بن مريم×، وأنه هو المهديّ، وسيعود إلى عالم الدنيا مرّةً أخرى، ولا يمكن أن يكون من بعده أيّ إمامٍ، ورفضوا إمامة عليّ بن موسى الرضا× وخلافته لأبيه([54]). فقد كاتب الرضا× ـ بعد شهادة أبيه الكاظم× ـ بعض أقطاب ورموز هذه الفرقة فلم يستجيبوا لرسالته، التي كشفَتْ بوضوحٍ تامّ عن الغايات والمصالح المادّية المنحطّة الكامنة وراء أجوبتهم، من العصيان، وتصنيع الأعذار، والطَّمَع بالمال([55]).

وللإمام الرضا× رأيٌ واضح بشأن تلك الفرقة، وبزعاماتها. فعن إبراهيم بن أبي يحيى بن أبي البلاد قال: قال الرضا: «ما فعل الشقيّ حمزة بن بزيع؟»، قلتُ: هو ذا قدم، فقال: «يزعم أن أبي حيٌّ، هم اليوم شكّاكٌ، ولا يموتون غداً إلاّ على الزندقة»، قال صفوان: فقلتُ بيني وبين نفسي: شكّاك قد عرفْتُهم، فكيف يموتون على الزندقة؟! فما لبثنا إلاّ قليلاً حتّى بلغنا عن رجلٍ منهم أنه قال عند موته: هو كافرٌ بربٍّ أماته، قال صفوان: فقلتُ هذا تصديقُ الحديث»([56]).

وفي إحدى رسائل الإمام× إلى البزنطيّ يكشف لنا واقع دعوة هؤلاء، ودوافعها؛ فقد جاء في الرسالة: «أما ابن السرّاج فإنما دعاه إلى مخالفتنا، والخروج من أمرنا، أنه عدا على مالٍ لأبي الحسن ـ موسى بن جعفر ـ عظيمٍ، فاقتطعه في حياة أبي الحسن×، وكابرني عليه، وأبى أن يدفعه، والناس كلُّهم مسلِّمون مجتمعون على تسليمهم الأشياء كلّها إليَّ. فلما حدث ما حدث من هلاك أبي الحسن× اغتنم فراق عليّ بن أبي حمزة وأصحابه إيّاي، وتعلَّل، ولعمري ما به من علّةٍ إلاّ اقتطاعه المال، وذهابه به. وأما ابن أبي حمزة فإنه رجلٌ تأوَّل تأويلاً لم يُحْسِنْه، ولم يُؤْتَ علمه، فألقاه إلى الناس، فلجَّّ فيه، وكره إكذاب نفسه في إبطال قوله، بأحاديث تأوَّلها، ولم يحسن تأويلها، ولم يُؤْتَ علمها، ورأى أنه إذا لم يصدق آبائي بذلك لم يَدْرِ لعلّ ما خبر عنه، مثل: السفياني وغيره، أنه كائنٌ لا يكون منه شيءٌ، وقال لهم: ليس يسقط قول آبائه بشيء، ولعمري ما يسقط قول آبائي شيء، ولكنْ قصر علمه عن غايات ذلك وحقائقه، فصار فتنةً له، وشُبِّه عليه، وفَرَّ من أمرٍ فوقع فيه»([57]).

وهكذا يبدو للجميع أن الطمع بالمال والجاه([58])، وخبث النوايا، وضعف العقيدة والإيمان، وتخلخل الشخصية، واضطراب الأفكار في نفوس هؤلاء، هو السبب الأهمّ والأعمق خلف هذه الآراء الباطلة والدعاوى المنحرفة.

4ـ استثمار ولاية العهد في التثقيف والتعليم

لقد قام الرضا× ـ خلال المدّة الزمنية التي قضاها في ولاية العهد ـ بالكثير من المهامّ والأعمال العلمية والثقافية، والإنجازات السياسيّة (غير المباشرة). واستطاع ـ في الوقت نفسه ـ أن يهيّئ الأجواء المناسبة لإظهار دقائق الفكر الإسلاميّ الأصيل، وذخائر مبادئه الصافية في الفقه والشريعة والكلام والفلسفة والتفسير. وقد ركَّز× في حركته الفكرية العملية ـ بعد استلامه ولاية العهد ـ على رهاناتٍ أخلاقيّة وعلميّة، وحتّى سياسية، يمكن ملاحظتها ومتابعتها من خلال ما يلي:

أـ الرهان العلميّ والأخلاقيّ

وجد الإمام الرضا× ـ بحَسَب ما نعتقد ـ أن قبوله بولاية العهد يمكن أن يساهم في تحقيق بعض المكاسب الإيجابية للخطّ الإسلامي المستنير، المتمثِّل بأهل البيت^، ويعطيه دَفْعاً ثقافياً ونشاطاً علمياً قوياً وواسعاً، كان بأمسّ الحاجة إليه، في ظلّ ظروفٍ صعبة ومعقَّدة، ومناخات سياسية واجتماعية ضاغطة، كانت تعمل وتتحرّك عكس الأهداف والتوجُّهات التي سعى إليها هذا الخطّ الأصيل، الذي يمثِّله×.

فعلى المستوى الاجتماعي العامّ كان× يعمل ـ كما ذكَرْنا سابقاً ـ على تعليم الناس وتثقيفهم، وربطهم ـ عقائدياً وعاطفياً ـ بالمبادئ والقِيَم الإسلامية الأساسية الواعية (خصوصاً قضيّة أهل البيت، التي هي قضيّة الإسلام كله)، التي التزم بها وعبَّر عنها أهل بيت النبوة^ في كلّ مواقفهم، ومختلف نشاطاتهم وسلوكياتهم الاجتماعية والسياسية والثقافية. وقد لاحَظْنا سلامة هذا التوجُّه من خلال الإمام× نفسه([59])، وكذلك من خلال أصحابه وأتباعه وشيعته، الذين أصبحوا ـ فيما بعدُ ـ أكثر قدرة ووَعْياً فى التعامل مع قضايا الواقع والحياة والإنسان، والقيام بالمناظرات والحوارات العلمية الواسعة مع جميع القوى والتيارات.

أما على المستوى الشخصيّ (العامّ)([60]) فقد رأَيْنا كيف استفاد الإمام× استفادةً قصوى في إبراز شخصيته العلمية الغنيّة والمعياريّة، التي قدَّمت أفضل وأعظم الخدمات للإسلام الرسالي، من خلال تلك المناظرات والندوات والجلسات الحوارية التي كانت تجري برعاية المأمون، وبمشاركة لفيفٍ كبير من العلماء والمفكِّرين، المنتسبين لمختلف التيارات والعقائد الدينيّة والدهريّة (العلمانيّة بتعبير عصرنا).

فقد روى الطبرسي، في احتجاجه، في تفسير الإمام× لقوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ (القيامة: 22 ـ 23)، أنه قال: «مشرقةٌ تنتظر ثواب ربِّها». وأضاف إلى ذلك أن النبيّ| كان يقول: «قال الله جلَّ جلالُه: «ما آمن بي من فسَّر كلامي برأيه، وما عرفني مَنْ شبَّهني بخلقي، وما على ديني مَنْ استعمل القياس في ديني، ومَنْ ردَّ متشابه القرآن إلى محكمه هُدِيَ إلى صراطٍ مستقيم». ومضى الإمام× يقول: «مَنْ شبَّه الله بخلقه فهو مشركٌ، ومَنْ نسب إليه ما نهى عنه فهو كافرٌ»([61]).

ب ـ الرهان التربويّ السياسيّ

كان الإمام الرضا× إنساناً واعياً ومدركاً تماماً لخلفيات وخبايا واقع أمّته الحضاري في ذلك العصر، لذلك لم يستطِعْ هذا الواقع الضاغط ـ بكلّ رموزه وشخصيّاته ـ أن يخضع فكره وروحه وعقله، أو يهزم قوّته وإرادته وقراره. ولم تتمكَّن القِيَم السكونية (حبّ الاسترخاء والراحة والدَّعة) من الدخول إلى جوِّه وطبعه النفسيّ الخاصّ.

لقد وجد× نفسه في واقعٍ تربويّ سياسيّ معقَّد ومرتبك وشديد التلوُّن والزخرف (بالمعنى السلبيّ طبعاً)، فحاول أن يفهمه ويحلِّله ويحياه من موقع وَعْيه هو، لا من موقع سلبيّات الواقع ذاته.

وكان من الطبيعيّ جدّاً أن يعمل الرضا× على مواجهة هذا الواقع التربويّ السياسي المنحرف عن خطّ الإسلام، والمفروض على الأمّة بطريقةٍ حركية غير مباشرة، تقوم على معيارَيْن أساسيّين في رفض أو قبول الحكم السياسي القائم:

1ـ المعيار الأوّل: يتعلَّق بالجانب التثقيفي العقائدي في رفض التعاون مع أيّ نظامٍ حاكمٍ ظالمٍ، لا يستمدّ شرعيّته من الإسلام (رفض ولاية الحاكم الجائر بالمطلق).

2ـ المعيار الثاني: يتعلَّق بالجانب الحركي والواقعي في التعاون مع النظام الحاكم؛ تحقيقاً للمصلحة الإسلاميّة العليا (القبول المؤقَّت بولاية الجائر).

فعلى صعيد المعيار الأوّل ثبَّت الرضا× في أذهان أصحابه وشيعته فكرة عدم جواز معاونة الظالمين، ورفض مساعدة السلطان الجائر المنحرف، وعدم الارتباط به وبرموزه، مهما كانت التحدِّيات([62]). يقول× لسليمان الجعفري ـ وقد سأله عن أعمال السلطان؟ ـ: «يا سليمان، الدخول في أعماله، والعَوْن له، والسعي في حوائجه، عديلُ الكُفْر»([63]).

ويقول× لأحد أصحابه: «يا زياد، لئن أسقط من حالقٍ فأتقطَّع قطعةً قطعةً أحبّ إليَّ من أن أقدِّم لأحدٍ منهم عملاً، أو أطأ بساطَ رجلٍ منهم»([64]).

ويروي×، عن آبائه، عن رسول الله|: «مَنْ أرضى سلطاناً بما يسخط الله خرج من دين الله عزَّ وجلَّ»([65]).

ويتأكَّد هذا الموقف المبدئيّ الصحيح أكثر فأكثر من خلال استعراضنا لموقف ورأي الرضا× من انتفاضات وثورات العلويّين ضدّ الحكم السياسي الظالم؛ حيث لم ينظر× نظرةً سلبيّة إلى تلك التحرُّكات الثورية من حيث طبيعة المبدأ الثوريّ ذاته، وما يختزنه في داخله من مناهضة للظلم، ورفض العدوان والطغيان والجَوْر والباطل، بل كان× ـ كغيره من أئمّة أهل البيت^ ـ يبارك كلّ ثائرٍ على الظلم والظالمين (حتّى ولو لم ينجح عسكرياً) إذا كانت ثورته ـ طبعاً ـ ضمن الحدود المشروعة لصالح الأمّة([66])؛ لأن الثورة النزيهة ـ في الغالب ـ تكشف للشعوب زَيْف الحكّام، وتفضح واقعهم الكَرِيه، وممارساتهم الظالمة بحقّ الأمّة والناس، وتترك وراءها فئةً تحسّ بالظلم والتجاوزات، وتحاسب عليهما، وأحياناً تضطرّ الحاكم إلى تصحيح سلوكه ووسائل حكمه إلى حدٍّ ما([67]).

إن الاعتراض الوحيد الذي وجَّهه الإمام× إلى بعض الثائرين العلويين هو احتجاجه وإدانته لسلوكهم الناريّ أحياناً ضدّ المجتمع، ولانخداعهم ببعض الأصوات التي كانت تهتف باسمهم، فيدَّعون ما ليس لهم، ويخرجون للثورة بدون تخطيطٍ وتنظيم، ومن دون وجود هَدَفٍ أو مصلحةٍ عليا للأمّة([68]). وبالتالي يكون نصيبهم القتل والتشريد، ووضع المجتمع في مواجهةٍ خاسرة مع نفسه.

وقد لاحَظْنا كيف عبَّر الإمام الرضا× عن رفضه الحاسم لكلّ تجاوزات أخيه زيد، الملقَّب بـ «زيد النار»؛ حيث وقف منه ـ ومن عدوانه على المجتمع([69]) ـ موقفاً سلبيّاً متصلّباً.

إننا نعتقد أن تحريم الرضا× اللجوء إلى الظالمين، والتعاون مع مختلف السلطات والأنظمة الجائرة، لم ينطلق من حالةٍ نفسيّة مزاجية، ارتبطَتْ بطبيعة الأجواء المتشنِّجة التي عاشَتْها أمَّتنا الإسلامية خلال ذلك التاريخ. ولكنّه انطلق في إطار صيغةٍ تربويّة سياسيّة عمليّة، كانت تهدف إلى تأكيد وتجذير حالة الرفض النفسيّ والعمليّ للكيانات الظالمة اللاشرعيّة، من خلال العمل المتواصل على توعية الأمّة وتثقيفها سياسيّاً وعقائديّاً على معنى الحكم العادل، ومعنى الحكم الظالم، وكيفيّة تربية الأمّة وتثقيفها على الإسلام الأصيل.

وأما بالنسبة إلى المعيار الثاني (التعاون المؤقَّت مع ولاية الجائر)([70]) فقد انطلق إمامُنا× على هذا المستوى بكلّ ما لديه من طاقاتٍ وقُدُرات؛ حيثُ سلك طريق الدعوة إلى الإسلام، وترسيخ أبعاده المعرفية والعقائدية في ذهنيّة الأمّة، بما في ذلك التوعية العقائدية والتثقيف السياسي بالإسلام (بصورةٍ غير مباشرة طبعاً)، من دون أن يسمح لنفسه (ولغيره من الأصحاب والشيعة) بأنْ يكون جزءاً من الواقع السياسي القائم ـ في نظر الإمام× ـ على ضوابط وأسس غير شرعيّة.

وقد اعترض بعضٌ على قبول الإمام× بالولاية، ورضاه بالتعاون مع نظام المأمون (بالرغم من أنه لم يفعَلْ ذلك مطلقاً)، قائلين: يكفي أن اسمك قد ذُكِرَ معهم حتّى تصبح جزءاً منهم! فقال×: «الأنبياء أفضل أم الأوصياء؟»، قالوا: الأنبياء، قال×: «السلطانُ المشركُ أسوأ أم السلطانُ المسلمُ الفاسقُ؟»، قالوا: السلطان المشرك، قال×: «أيُّهما أشدُّ، الذي يتعاونُ طالباً ذلك أم الذي يفرض عليه ذلك؟»، قالوا: الذي يطلبه، فقال×: «كان يوسف الصدِّيق نبيّاً، وعزيز مصر كان كافراً مشركاً، ويوسف طلب بنفسه: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ (يوسف: 55)؛ فقد أرادَ أنْ يأخذ موقعاً بحيث يحسن الاستفادة من ذلك الموقع. إضافةً إلى أن عزيز مصر كان كافراً، والمأمون مسلمٌ فاسق. لقد كان يوسف نبيّاً، وأنا وصيّ نبيّ. هو طلب ذلك، وأنا أُجْبِرْتُ على ذلك([71]).

المبحث الثالث: خلاصاتٌ واستنتاجاتٌ معاصرة

أدّى الإمام الرضا× هذا الدَّوْر الرسالي الكبير على الصعيد العلمي والتربوي، الذي لا يمكن فصلُه في العمق عن الجانب والمجال السياسيّ العمليّ، الذي لم يمارسه الإمام بشكلٍ مباشر. واستطاع ـ بالرغم من التحدِّيات القاسية التي واجهَتْه ـ إجلاءَ الغموض واللَّبْس عن كثيرٍ من المفاهيم والتصوُّرات الإسلاميّة الأصليّة، وعرضها بأروع الصور، وأنقى المضامين، وأنصع البيانات؛ وذلك بهَدَف الحفاظ على طهارتها وأصالتها ونضارتها في ذهنيّة المجتمع وذاكرة الأمّة. وحتّى على صعيد قبوله× بولاية العهد، ونزوله([72]) إلى أرض الواقع المليء بالأشواك والحُفَر، فهو أمرٌ لم يأتِ إلاّ في إطار تمـسُّكه× بإسلام الأمّة والجماهير، وسَعْيه لخدمة مبادئه الرسـالية وأنظمتها الفكرية والعملية. وهو درسٌ عمليّ يمكن أن يقدِّم لنا (نحن أبناء الجبل الحاضر) درساً عمليّاً مفيداً في ما يتعلَّق بكيفية استلهام حركيّة الإمام× في كيفيّة تعامله مع الواقع والظروف التاريخية والسياسية والاجتماعية.

ونستطيع أن نعبِّر عن ذلك في النقاط التالية:

1ـ العملُ على تحديد مشكلات واقعنا العربي والإسلامي المعاصر، الذي يعجّ بالسلبيّات والانقسامات، أي محاولة فهم أسباب الأزمة الحضاريّة المستمرّة لمجتمعاتنا العربيّة الإسلاميّة، كما حدَّد وفهم الرضا× أزمة مجتمعه، وظروف عصره، الذي عايشه بكلِّ قسوته وقلقه.

2ـ التركيزُ المكثَّف والغنيّ على أهمّية ودَوْر منظومة القِيَم الأخلاقية الإسلامية المتبصِّرة والمنفتحة على الحياة في قيادة مجتمعاتنا إلى شاطئ وبرّ الأمان، وإنقاذها من أزماتها المتوالية والمستمرّة منذ زمنٍ طويل، وإيقاظها من سباتها العميق الذي طال أَمَدُه، ومحاولة إرجاعها إلى الساحة العالميّة؛ لكي تمارس دَوْرها الحضاري الرائد، إلى جانب باقي حضارات وثقافات العالم. وهذا الأمر مرتبطٌ ـ إلى حدٍّ كبير ـ بمسألة الأخلاق نفسها، وإيماننا بأنها لا يمكن أن تُفْرَض من فوقٍ بقوّة الأدوات السياسية (وغير السياسية) المعروفة، ولا بقَهْر القوانين الإداريّة والمراسيم الحقوقيّة، ولكنها تأتي إلى حيِّز التطبيق من خلال توعية الناس والمجتمع، والعمل المستمرّ على تعميق صلتهم الروحية بالله تعالى، وبقِيَمهم الدينية المعنوية العملية، ومنحهم حقوقهم، والاستجابة لمتطلَّباتهم ومقتضيات وجودهم؛ باعتبار أن للأخلاق والمعنويات الإسلاميّة ثمـاراً حقيقية يمكن أن تبلور الوَعْي الجمالي بالحياة والإنسان، وتعزِّز حـسّ الانشداد في داخله (المَيْل الروحي والمفاهيمي) نحو المبدأ والمَثَل الأعلى (الله تعالى)، مطلق الكون والوجود والحياة. وهذه مسألةٌ مهمّة جدّاً ينبغي تحديد مسؤولياتنا تجاهها، وخصوصاً في ظلّ وجود تيّاراتٍ وقوىً ثقافيّةٍ وسياسيّة «دَهْريّة» راهنة، يدّعي معظمها امتلاك أفكار ومعارف ومعطيات ثقافية (غير إسلامية)، قادرة وحدها ـ كما تدّعي ـ  على استلام زمام المبادرة الفعّالة الخاصّة، بتمثُّل وتحقيق قِيَم النهوض والتنمية في مجالنا السياسي والاجتماعي الإسلاميّ، وذلك من خلال زرع قِيَم ثقافية وسياسية (مرتبطة كلِّياً بالمشاريع الحضارية الغربية) في واقعنا الحضاريّ الإسلامي.

3ـ تعزيز النقد البنّاء في حركة المجتمعات العربيّة الإسلامية: يقول الإمام الرضا×: «ليس منّا مَنْ لم يحاسب نفسه في كلّ يومٍ؛ فإنْ عمل حَسَناً استزاد الله، وإنْ عمل سيّئاً استغفر الله وتاب إليه»([73]). إن دراسة هذا النصّ تفيدنا في تحديد رؤية الإمام× لمسألة النقد، وذلك من خلال التأكيد على ضرورة تعميق الروح النقدية على المستويين: الذاتي الداخلي؛ والموضوعي الخارجي، في مفاصل اجتماعنا السياسي والمدني الإسلامي الحالي، وإعلاء كلمة العقل، وترسيخ مبدأ العقلانية الواقعية، والعمل على إيجاد تربته المناسبة؛ وذلك من أجل الكشف عن حقيقة أزمات الواقع المعاصر الذي نحياه ونعايشه، بإيجابيّاته وسلبيّاته، وتحليل ظروفه وأحواله المختلفة، وأخذ العِبَر والدروس منه، بحيث يقودنا ذلك إلى ضرورة تجديد الروح الإسلامية، والعقل الإسلامي، والانفتاح على العالم والحياة، واعتماد مبدأ الاجتهاد والتجديد، والروح العلمية المجرَّدة، والرؤية الموضوعية للذات والإنسان وللعالم بشكلٍ دائم.

ولعلّ من أكبر وأهمّ تلك الأزمات سيطرةَ العقليّة القَبَليّة على قطاعاتٍ واسعة من أجهزة الحكم السياسي العربي والإسلامي، بكلّ أجوائه وامتداداته، والتي تشكِّل إحدى أهمّ المسبِّبات الرئيسة لأزمات واقعنا المتلاحقة، التي تكبِّله وتمنعه من الانطلاق نحو مواقع العمل والإنتاج، وترهن وجوده لصالح نَزَعات طغيانيّة ذاتيّة، ليس لأصحابها من هَمٍّ سوى تكريس مصالحهم وأهوائهم، على حساب الدولة والأمّة ككلٍّ.

إن امتداد جذور هذه الأزمة ـ التي تعصف بمجتمعاتنا الإسلامية اليوم ـ قد أدّى إلى بناء حداثةٍ غربية مشوّهة وغير نظيفة في مجتمعاتنا. لذلك ليس هناك من أملٍ للخروج من هذه الأزمة العميقة (وحداثتها المزيَّفة الكسيحة) إلاّ بتوجيه سهام النقد الموضوعي إلى الجذور النفسيّة والفكريّة التي أنتجَتْ وولَّدَتْ هذه الحداثة، وتهيئة شروط جديدة؛ لتجاوزها، والخروج من أخطارها العقيمة. والواجب يقتضي منّا ـ في هذا المجال ـ العمل على إنجاز ما يلي:

1ـ نقد الدولة الوطنية الحديثة بالذات، في مفهومها، ومصدر قِيَمها.

2ـ نقد عقيدة ارتباط التقدُّم التاريخي بالدولة.

3ـ نقد فكرة تعظيم دَوْر الطليعة الحزبيّة المغلقة، والإدارات القائمة، وفضح تضخيمها لأجهزة القمع والضبط والردع والكَبْت، بوسائلها الخاصّة والعامة، التي أصبحت استراتيجية سياسية وثقافية عامّة للدولة الوطنية (والقومية) العربية الحديثة، بحيث بات معدّل بناء السجون والمعتقلات، والمنافي الصحراوية، ومعسكرات المراقبة والتجميع، ونقاط التفتيش، وأجهزة الأمن والشرطة والمخابرات، أكبر بكثيرٍ من معدّل بناء المستشفيات والمدارس ومرافق الخدمات الاجتماعيّة الأخرى.

هذا كلُّه أفضى إلى صناعة إنسانٍ عربيّ مسلم مشوَّه، نفسياً وتربوياً. نعم، باتَتْ شخصيّتنا العربية تتَّسم اليوم بالخوف والتسرُّع والانفعال والعنف والإقصاء والتكفير والتعصُّب. وهذا كلُّه جاء على خلفيّة ذلك الواقع، واقع سياسي واجتماعي، وحتّى تربويّ، عربيٍّ، متداخلٍ ومعقّدٍ، لا قيمة فيه للفرد كفردٍ له حقوقه وكرامته ووجوده الحقيقيّ، ابتداءً من الأسرة وانتهاءً بأوسع الدوائر الاجتماعية والمواقع السياسية. وهو جاء أيضاً كمحصّلة لواقع منع الحقوق، وأشاع الهيمنة والتسلُّط، ودفع لاستمرار سياسات الإقصاء وليالي الكَبْت والاستفراد «السياسي ـ التربوي»، مع استحكامٍ كامل لأجواء القَهْر والحرمان «البطريركي» «الإكليروسي» (إذا صحّ التعبير) بالمعنى السياسي والاجتماعي العملي، من بداية ولادة الطفل وسيرورته التربوية الأولى في الأسرة ومسيره المدرسيّ، إلى أعلى مراحل الهَرَم الاجتماعي والحياتي العامّ. أَوَليسَتْ التربية والثقافة معنيّةً بهذه النتيجة المأساوية التي يواجهها الاجتماع العربي الإسلامي والتربية العربية الإسلامية، وهي المفترض أن تدفع المعنيّين بعلم الاجتماع العربيّ الإسلاميّ اليوم إلى بحث واستقصاء أسباب تشوُّه الشخصية العربية المسلمة، أم أن هذا الموضوع لا علاقة لهم به، وأن دَوْر علماء اجتماعنا العربيّ ينحصر فقط في التنظير الفكريّ، والسَّرْد التاريخي، وتكديس الكتب والمراجع و(الكراريس) الجامعية؟!

إن الغاية من التربية ـ تربية الفرد والإنسان العربيّ المسلم ـ تكمن أساساً في تمكينه على الأرض؛ ليكون خليفةً لله الخالق العظيم، أي بناء إنسان سليم عقلاً وروحاً، قويّ الشخصية ومقتدر، يمتلك مهاراتٍ عملية، متمكّن من ذاته، ومندمج ومنخرط في واقعه ومجتمعه وعصره، منفتح على الآخر، فاعل الحضور، قادر على الإنتاج والبناء والعطاء والإبداع.

وحتّى تتحرّك التربية (العربية) اليوم على هذا الطريق (رغم وعورته وأشواكه ومعاناتنا ومآسينا وأزماتنا الكبرى فيها، ومنها: أزمات التربية، كما ذكَرْنا آنفاً) لا بُدَّ أن يُعاد بناء التربية ذاتها؛ لتكون تربيةً واعية واقعية وعقلانية متجدِّدة، قادرة على بناء هذا الإنسان، وإنهاء معاناته، والانتقال به ما أمكن إلى عالمٍ عربيّ تسوده قِيَم العدالة والحقّ والمساواة، يحتلّ فيه الفرد رأس الأولوية والاهتمام.

الهوامش

(*) باحثٌ وكاتبٌ في الفكر العربيّ والإسلاميّ. من سوريا.

([1]) ما نقصده من التراث التاريخي للأمّة هنا هو كلّ الرأسمال الرمزي لها، كلّ ما أنتجته من ثقافة عامّة في الدين والفكر والفلسفة والفقه والتفسير والتأويل والأدب والشعر والفنّ…، إلخ. هذا هو التراث بكلّ ما فيه من قصورٍ وإبداع. ولكنْ في ما يخص التراث الديني بالذات نجد أن فيه الغثّ والسمين، وفيه السيّئ والجيّد؛ حيث إن الشروحات ضخَّمت هذا التراث، وباتَتْ أكبر من نصوصه الأولى، بل جعلت الشرح متناً، للأسف.

([2]) راجع: الشيخ باقر القرشي، حياة الإمام الرضا× 2: 181. عصر المأمون 1: 330 وما بعدها.

([3]) أنشئت في بغداد وحدها حوالي ثلاثين مدرسة، كان من أكثرها شهرة المدرسة النظامية، التي ذاع صيتها في الآفاق.

([4]) كان من أبرزها مكتبة بيت الحكمة، التي قيل بأن هارون الرشيد أمر بنقل مكتبته الخاصّة إليها. (راجِعْ: القرشي، حياة الإمام الرضا× 2: 182؛ رحلة ابن جبير: 208؛ القرشي، حياة الإمام الجواد×: 197).

([5]) انظر كتاب الفهرست، لابن النديم، الذي يذكر فيه أسماء كثيرة من الكتب والمصنَّفات المترجمة عن اللغات المختلفة.

([6]) تاريخ الفلسفة في الإسلام: 329.

([7]) لقد كان لهذه العلوم مراكز أساسية للانطلاق والانتشار، نذكر منها: بغداد والكوفة والبصرة، التي كانت مدرسةً هامّةً في علم النحو، الذي أنشأه أبو الأسود الدؤلي (تلميذ أمير المؤمنين الإمام عليّ).

([8]) راجِعْ: عصر المأمون 1: 375.

([9]) قُدِّرت واردات الدولة في عهد الإمام الرضا× من الخراج وحده بحوالي 400 مليون درهم. (راجِعْ: القرشي، حياة الإمام الرضا× 2: 179 ـ 180). والرقم 400 مليون درهم ذكره ابن خلدون في مقدّمته: 180.

([10]) القرشي، حياة الإمام الرضا× 2: 190.

([11]) يذكر ابن الأثير في تاريخه 6: 434، أن المأمون كان في دمشق، فأصابته ضائقة مادية اقتصادية فحملت إليه كمية من الماء قدرت بحوالي ثلاثين مليون درهم من مال الخراج، فأمر المأمون بإنفاق 24 مليون درهم منها على أصحابه، والباقي أنفقه على جنده.

([12]) كان الإسراف والتبذير ظاهرة طبيعية سائدة عند ملوك بني العبّاس. فقد بنى المهدي منتزهاً أنفق عليه 50 مليون درهم، وصرف المتوكِّل على قصره المعروف بالماحوزة 50 مليون درهم، وعلى قصره المعروف بالعروس 30 مليون، وعلى البَهْو 25 مليون درهم. ومن الألوان والأشكال الأخرى للبذخ والإسراف الكبير الذي تفنَّن فيه حكام الدولة العباسية، والمذكور في بطون الكتب التاريخية، قصة زواج المأمون ببوران، حيث بلغت تكاليف ونفقات هذا العرس أكثر من 48 مليون درهم. وقد قيل في ذلك الشيء الكثير (راجع: تاريخ ابن الأثير 6: 364؛ ابن الساعي البغدادي، نساء الخلفاء: 68؛ حميد بن احمد المحلي، الحدائق الوردية 2: 220؛ داوود بن عمر الأنطاكي، تزيين الأسواق: 3 ـ 17). ويبدو أن هذا الإسراف والهدر الكبير الذي جرى في ثروات الأمة ومقدراتها ومواردها الجبارة والهائلة من قِبَل فئةٍ مفسدة وظالمةٍ من الحكام والفراعنة والحواشي والتابعين لهم ما زال يجري، ويفعل فعله تمزيقاً وتفتيتاً في طاقات أمّتنا العربية الإسلامية حتّى يومنا هذا؛ إذ لا يكاد يمرّ يوم إلاّ ونسمع فيه ـ في إعلامنا المقروء والمسموع والإلكتروني ـ عن قضايا وفضائح الفساد والاختلاس والنهب والسرقة، وبأرقام تصل إلى حدّ الخيال، يقوم بها مسؤولو هذه الدولة العربية أو تلك، حتّى وصلت المسألة إلى مرحلةٍ أصبحت فيها أخبار الفساد والإفساد التزوير والبذخ والإسراف الموثقة جدّاً أموراً طبيعيّة للغاية. وكلّ ذلك يجري للأسف على مرأى ومسمع الشعب كلّه، ومرأى ومسمع وزارات العدل والداخلية والشرطة وهيئات الرقابة والتفتيش العربية وغيرها. وإذا كان المأمون قد صرف على نفسه كلّ هذا المبلغ الضخم من المال فإن الكثير من حكّامنا ورؤسائنا وحواشيهم (ومَنْ لفّ لفَّهم) من أصحاب الجلالة والفخامة والسيادة فاقوا وبزّوا المأمون بزّاً في هذه المسألة الإفسادية. وإذا كانت أرقام المأمون ـ وغيره من حكّام البيت العباسي ـ قد وصل إلى الحدّ المليوني فقط فإن أرقام هؤلاء قد تجاوزت المئات من المليارات بكثيرٍ، بدَّدوها وأنفقوها على شراء الضمائر والذِّمَم ومواقع النفوذ والتأثير، أو وهبوها للمطربين والمغنِّين على طريق الأهواء والشهوات والعبث بمقدرات البلاد والعباد، أو سلَّموها إلى المستعمرين الجُدُد؛ حفاظاً على كراسيهم وعروشهم ونهبهم لبلدانهم.

([13]) تضخّمت الثروات الهائلة عند بعض الناس، خصوصاً في بغداد عاصمة العالم الإسلامي آنذاك، فقد وجدَتْ فيها طبقة غنية ومترفة في غناها كانت تملك الملايين. وكذلك البصرة؛ فقد ضمَّت طبقة كبيرة من أهل الثراء العريض والفاحش، وكانت البصرة ثَغْرَ العراق، والمركز التجاري الخطير الذي يصل بين الشرق والغرب، وتستقبل متاجر الهند، وجزر البحار الشرقية، ومن أجل ذلك سُمِّيت البصرة أرض الهند وأمّ العراق.

([14]) وثَّق المؤرِّخون وقائع وحوادث كثيرة من هذه المظالم، نذكر منها: ما فرضه هؤلاء الحكام من ضرائب باهظة حتّى على تركة الأموات. وقيل في ذلك شعرٌ، لابن المعتزّ، يصور فيه معاناة الناس من جرّاء ذلك. (راجع كتاب: الحضارة الإسلامية 1: 199). أما بالنسبة للقسوة في أخذ الخراج ـ وما تركه ملوك العباسيين من أموال طائلة اختلسوها من الشعوب (المسلمة)، وأخذوها بقوة الحديد والنار ـ فحدِّثْ عنه ولا حَرَج. (راجع: الخراج: 116 ـ 118؛ المسعودي، مروج الذهب 3: 318؛ البدء والتاريخ 6: 92؛ وغيرها).

([15]) أرَّخ كثير من شعراء العصر العباسي لهذه المرحلة التاريخية. فها هو أبو العتاهية يحدِّثنا ـ شاكياً باكياً ـ عمّا كانت عليه العامّة من البؤس والشقاء، يقول:

مَنْ مبلغٌ عنّي الـ *** إمام نصائح متواليه

إنّي أرى الأسعار *** أسعار الرعيّة غاليه

وأرى المكاسب نزرة *** وأرى الضرورة فاشيه

وأرى هموم الدهر *** رائحة تمرّ وغاديه

ومصيبات الجوع إذ *** تمسي وتصبح طاويه

مَنْ للبطون الجائعا *** تِ وللجسوم العاريه

([16]) يحدّثنا الدكتور أحمد صبحي، في كتابه نظرية الإمامة، عن هذا الأمر قائلاً: «ولكن ذلك المثل الأعلى للعدالة والمساواة، الذي انتظره الناس من العبّاسيين، قد أصبح وَهْماً من الأوهام، فشراسة المنصور والرشيد وجشعهم، وجَوْر أولاد عليّ بن عيسى وعَيْثهم بأموال المسلمين، يذكِّرنا بالحجاج وهشام ويوسف بن عمرو الثقفي…، إلخ». (راجِعْ: نظرية الإمامة: 38).

([17]) انفجرت خلال هذه المرحلة ثورات وانتفاضات شعبية مسلَّحة كثيرة، كان من أبرزها ـ في عهد الإمام الرضا× ـ: ثورة ابن طباطبا في عام 199هــ. وقد سمّى البعض هذه الثورة باسم قائدها العسكري أبي السرايا. (راجِعْ: مقاتل الطالبيين: 540).

([18]) نحن نعتقد أن الحكم الذي يقيم بنيانه النفسي والسلوكي والثقافي على قاعدة الحديد والنار ليست له أيّ شرعية، بالمعنى الديني والأخلاقي والوجودي الإنساني؛ لأنّ صفة الشرعيّة لا تكون صلبة (في هذا المجال)، إلاّ عندما يرتكز النظام ـ أيّ نظامٍ ـ على شرعيّة الناس، أي على القوّة الجماهيرية والشعبية في الجانب العمليّ، وعلى عناصر التكوين الثقافي في الجانب النظريّ. وأما على مستوى النظرية الإسلامية في الحكم والممارسة فإننا نعتقد أن الشرعية تقوم على قاعدة الفكر الإسلامي الأصيل (نظريّاً)، والقوّة الشعبية عمليّاً، أي الحكومة الإسلامية المنتَخَبة بطريقةٍ شعبيّة حُرَّة.

([19]) الدينوري، الإمامة والسياسة 2: 145.

([20]) تاريخ الطبري 6: 331.

([21]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ 6: 173.

([22]) عرف عن المأمون دهاؤه وحنكته السياسية، وقدرته على التلوُّن والمجاملة. جاء في كتاب العقد الفريد لابن عبد ربّه 1: 123: «بيَّن المأمون للفضل بن سهل أن أخاه الأمين كان يستطيع أن ينتصر عليه لو أنه أرسل إلى أهل البلاد التي يحكمها يخبرهم أنه قد رفع عنهم الخراج إلى سنةٍ(…) فحينئذٍ إنْ لم يقبل المأمون قامت الدنيا ضدّه، وإنْ قبل لم يجِدْ ما يعطي الجند، فيقومون ضدّه، وفي كلتا الحالتين يكون النصر للأمين، لو وقعَتْ بينهم الحرب. فحمد الفضل ربَّه على أنه لم يهْتَدِ الأمين وأتباعه إلى هذا الرأي».

([23]) نحن لا نريد أن ننظر إلى الأمور من زاويةٍ خاصة أو من معيارٍ ومنظارٍ واحد، بل من زوايا ومعايير متعدّدة؛ فالمأمون كانت لديه (إلى جانب امتلاكه لتلك الصفات السلبية) مواصفات إيجابيّة، منها: العزم، والعلم، والحنكة، وحسن التدبير، وظَّفها كلّها ـ للأسف ـ في اتجاه تكريس زعامته وسلطته الدنيوية.

([24]) أوكلَ المأمون أمر تنفيذ هذه المهمّة إلى جلاوزته وجلاّديه، الذين أمعنوا قتلاً وتشريداً وتنكيلاً بالسادة العلويّين. (راجِعْ بهذا الخصوص: الرسالة التي بعثها الخوارزمي إلى أهالي نيشابور، والتي تحدَّث فيها باستفاضة عن ضروب المِحَن والبلايا والشرور التي ألحقَتْها الإدارة العبّاسية بالعلويين. ويمكن متابعة نصّ هذه الرسالة في الكتب التالية: القرشي، حياة الإمام الرضا× 2: 209؛ البداية والنهاية 10: 244؛ تاريخ اليعقوبي 3: 173 ـ 174؛ المسعودي، مروج الذهب 3: 432 ـ 440.

([25]) رُبَما يستغرب الكثيرون هذا الحديث السلبيّ (عن المأمون) الذي يأتي هنا، بعد أن تحدَّثنا في مواضع سابقة عن ازدهار الحركة العلمية، وتطوُّر النشاط الثقافي والانفتاح الفكري والحضاري في عهده، وتوسُّع حركة الترجمة والتعريب والنقل عن باقي الأمم والحضارات. ولإيضاح ذلك يمكننا أن نقول: إن أحد أسباب هذا الاستغراب يمكن أن يعود إلى طبيعة التأثيرات السلبية للأجواء النفسية والطبائع الفكرية والتاريخية الضاغطة، التي قد تجبرنا ـ في أحايين كثيرة ـ على أن نفكِّر بالطريقة الحدّية التقليدية، التي تجعلنا نقيِّم الأحداث والأفكار والقِيَم والأشخاص والتاريخ من خلال اللونين الأبيض والأسود فقط (إما نعم بالمطلق؛ أو لا بالمطلق). فالمأمون كان حاكماً مفروضاً على صدر الأمة الإسلامية بقوّة الغلبة وسيف القهر والغصب التاريخي اللاشرعي. وقد انطلق إلى الواقع الإسلامي، وحرّك الكثير من مفاصله السياسية والعلمية والفكرية ضمن الخطوط والتوجُّهات التي رسمها لنفسه (أو رسمت له) في هذا الجانب أو ذاك. لذلك كان من الطبيعي جدّاً أن تكون لحركته تلك ثمار عملية ونتائج ميدانية كثيرة وواسعة على النحوَيْن: الإيجابي؛ والسلبي. من هنا أرى ضرورة أن نتعامل مع تاريخنا ـ كما ذكَرْنا ـ بشيءٍ من العقلية المتدبِّرة الواعية، التي تفكِّر بطريقة الدوائر الفعلية المنتجة، وأن لا نختنق في الدهاليز الضيِّقة، من خلال تفكيرنا بطريقة الزوايا الحادّة، أو الخطوط المنحنية والمنكسرة. أي يجب علينا أن نحاول دائماً ـ بكلّ صدقٍ ومسؤوليّة ـ التخلُّص من أساليب التفكير القديمة، التي تعتبر أن التاريخ مقدَّسٌ وإيجابيٌّ بالمطلق.

([26]) لقد كانت علاقة الإمام الرضا× بالمأمون ـ قبل وأثناء ولاية العهد، وحّتى استشهاده ـ متوتّرةً باستمرارٍ. وكانت تتقلَّب ما بين مدٍّ وجَزْرٍ، بالرغم من محاولات المأمون إظهار محبّته له وللأئمّة^، وسَعْيه باتجاه عقد مجلس النظر والحوار التي كان يجمع فيها (المأمون) المخالفين لأهل البيت^؛ ليكلِّمهم عن فضائل الإمام عليّ×، مستدلاًّ على أحقِّيته بالخلافة، وأفضليّته بالحكم والقيادة.

([27]) راجِعْ: جرجي زيدان، تاريخ التمدُّن الإسلامي 4: 261.

([28]) نقلت خلال هذه الفترة ـ والفترة التي سبقتها ـ كتب الفلسفة والمنطق وأصول التفكير والمعتقدات المختلفة عن الحضارتين اليونانية والفارسية إلى اللغة العربية. ونشأت إثر ذلك حركةٌ علمية وفكرية دؤوبة ونشيطة، ترافقَتْ مع ظهور اندفاعات عقائدية قشرية، حاولت التستُّر بالمنطق والفلسفة؛ توخِّياً لتحقيق مصالحها في تعميق روح التشكيك والإلحاد في المجتمع الإسلامي.

([29]) تمظهَرَتْ الأقوال والأفكار التي دعَتْ إليها ومارستها تلك المذاهب والفِرَق المنحرفة في حركة الواقع من خلال الأمور التالية:

1ـ انتشار الزندقة والتشكيك في العقائد الإسلامية.

2ـ الدعوة إلى تبني عقائد الجبر والتفويض، وفكرة التشبيه والتجسيم والغلوّ (وتأليه أئمّة أهل البيت).

3ـ اتّساع نطاق ظاهرة التحلُّل من الواجبات الشرعية.

4ـ توظيف النصوص المقدَّسة لخدمة غايات سياسية، ومصالح وأجندات مرحليّة ضيّقة خاصّة.

5ـ اتّساع ظاهرة الوضع والدسّ في التاريخ الإسلامي، ومنها: ظاهرة اختلاق أحاديث، وشخصيات، وروايات غير موجودة أصلاً. راجِعْ الكتب التالية: الأميني، الغدير 5: 290؛ مؤتمر الإمام الصادق×: 282؛ الإمام موسى الكاظم×، ألق الفكر وأصالة الانتماء: 40 ـ 42.

([30]) شاعَتْ في عصر الإمام الرضا× أجواء الحوار المعرفي، والسجال الفكري والمحاججات الثقافية بين مختلف التيارات الفكرية والفلسفية، وذلك في كثير من المواضيع العقائدية والبحوث الكلامية والفلسفية. ويمكن لمَنْ يريد متابعة هذا الموضوع الرجوع إلى العديد من الكتب الخاصّة بذلك العصر؛ للوقوف أمام مظاهر التنوُّع والحوار التي اتّسم بها ذلك العصر.

([31]) يروي المؤرِّخون والرواة أن الإمام الرضا× كان يكثر ليلاً من تلاوة القرآن، حتّى وهو في فراشه، فإذا مرّ بآيةٍ فيها ذكر الجنة أو النار بكى، وسأل الله الجنّة، وتعوَّذ به من النار. راجِعْ: عيون أخبار الرضا× 2: 180.

([32]) مسند الإمام الرضا× 1: 309؛ عيون أخبار الرضا× 2: 130.

([33]) امتلك أهل البيت^ خصوصيّة مميزة، تختلف عن أيّ خصوصيةٍ يمكن أن تظهر في أيّ شخصيّاتٍ إسلامية أخرى، وهي خصوصيّة هذا الارتباط العضوي المعنوي والمفاهيمي المتجدِّد بين القرآن الكريم وبينهم^. وفي ذلك يقول الرسول|: «أيّها الناس، إني تركتم فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلوا: كتاب الله؛ وعترتي أهل بيتي». بحار الأنوار 23: 118؛ كنـز العمّال في سنن الأقوال والأفعال (قسم الأقوال): 106.

([34]) السيد محمد حسين فضل الله، في رحاب أهل البيت^: 63.

([35]) عيون أخبار الرضا× 2: 130.

([36]) من خلال أنه إذا نزل القرآنُ في واقعةٍ معيَّنة ومحصورة بزمنٍ محدَّد فهذا لا يعني أن الواقعة ذاتها تمثِّل معنى الآية، بل تكون هذه (الآية) النموذج الذي يشير إلى كلّ النماذج المماثلة والمشابهة عبر كلّ التاريخ. وكذلك إذا نزل القرآن في شخصٍ أو رمزٍ معين فإن الشخص لا يمثِّل دلالةً موضوعية للآية فقط، ولكنّه يمثِّل العنوان والإطار العامّ الذي يمكن أن ينفتح على كلّ العناوين في حركة الحياة؛ لأن القرآن كما قال الإمام الرضا×: «لم ينـزله الله لزمانٍ دون زمان، ولا لناسٍ دون ناس». وقد خاطب القرآن الناس جميعاً: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ…﴾، وخاطب المؤمنين في كلّ زمانٍ ومكانٍ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا…﴾.

([37]) مسند الإمام الرضا× 1: 309.

([38]) السيد محمد حسين فضل الله، كتاب الندوة 4: 198.

([39]) الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا× 2: 121.

([40]) المصدر السابق 1: 123.

([41]) المصدر السابق 1: 114.

([42]) الصدوق، عيون أخبار الرضا× 1: 144.

([43]) يمكن مراجعة الكثير من المصادر التاريخية التي استفاضَتْ في الحديث عن أجوبة الإمام الرضا× ومناظراته، في مجالات المعرفة الإنسانية المختلفة (القرآن، التاريخ، الفلسفة، المنطق، علم الكلام…، إلخ). راجِعْ: القرشي، حياة الإمام الرضا× 1: 102؛ عيون أخبار الرضا× 2: 100؛ وغيرها.

([44]) ولا يخفى على أحد أنه كانت للمأمون ـ من وراء عقد تلك الندوات والمناظرات الفكرية بين كبار العلماء والفقهاء والمثقفين ـ أهدافٌ سياسية مبيَّتة؛ فقد أراد أن يظهر حبَّه للعلم والعلماء؛ ليميِّز نفسه عن سائر خلفاء العباسيين؛ وفي الوقت نفسه كان يعمل دائماً على الإيقاع بالإمام الرضا×، وحشره في هكذا مناظراتٍ؛ من أجل أن يزيل تلك المنـزلة الرفيعة، والنظرة العالية التي كان الناس ينظرون بها لأهل البيت^، بشأن امتلاكهم للعلم، والمعرفة المنفتحة. وفي هذا الصدد يقول الشيخ الصدوق: «كان المأمون يجمع للإمام الرضا× أهل المقالات، من أهل الإسلام والديانات، من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين؛ عسى أن يعجز عن الإجابة عن أحد أسئلتهم، فيحطّ من قدره في أعينهم؛ حَسَداً منه للإمام ومنـزلته الاجتماعية. ولكنْ لم يقُمْ منهم أحدٌ إلاّ وقد ألزمه حجّةً كأنّه ألقم حجراً». راجِعْ: عيون أخبار الرضا× 1: 152.

([45]) نتمنّى من القارئ الكريم أن يعذرنا لعدم إمكانية سرد بعض هذه المناظرات والحوارات القيِّمة؛ توخياً لعدم إطالة البحث، ممّا قد يعرِّضه للخلل المنهجيّ والفنّي. ويمكن بهذا الشأن مراجعة المصادر الأساسية المُشار إليها سابقاً، التي تحدَّثَتْ عن تلك المناظرات، وهي كثيرةٌ ومتداولة ومعروفة على نطاقٍ واسع.

([46]) عامر الكفيشي، منهج أهل البيت وخطّتهم في حفظ السنة النبوية الشريفة، مجلة المنهاج، العدد 11: 106.

([47]) الطبرسي، الاحتجاج 2: 410.

([48]) المصدر السابق 3: 241؛ السيد محمد جواد فضل الله، حياة الرضا×: 222.

([49]) الطبرسي، الاحتجاج: 410.

([50]) يقصد الإمام أنه لو كان الأمر كما يذهب إليه الزنادقة، من إنكار وجود الله تعالى، فما الذي يضرّ الموحِّدين من صلاتهم وصومهم. وإذا انكشف الأمر لهم (للزنادقة) ـ من وجود الخالق العظيم المدبِّر لهذه الأكوان ـ فقد هلك الملحدون، وباؤوا بالخِزْي والعذاب الأليم، وفاز المؤمنون والمتّقون.

([51]) السحماء: السوداء.

([52]) القرشي، حياة الإمام الرضا× 1: 125.

([53]) لا يخفى على أحدٍ أنّ الإمام الرضا× واجه في حياته فِرَقاً كلامية وعقائدية باطلة ومزيفة كثيرة، ادَّعَتْ الانتساب إلى أهل البيت^، وصدَّق بعضٌ دعواها، واستغلّ الذين في قلوبهم مرض هذه الأفكار والمفاهيم المنحرفة، وراحوا ينشرونها في طول البلاد وعرضها، ويشوِّهون وجه وحقيقة المنهج الذي سار عليه أهل البيت^، مدَّعين أن هذه العقائد والأفكار هي مبادئ من أهل البيت وأتباعهم المخلصين. ويبدو أن ذلك قد انطلى على الكثيرين من الناس إلى يومنا هذا. لكنّ الذي يدرس ويراجع بوَعْيٍ وعمقٍ تاريخ هذه الفِرَق، وظروف (ودوافع) نشأتها وتكوينها في تاريخنا الإسلامي ـ ويحلِّل تكوينها الفكري والمعرفي العقائدي ـ، يمكن أن يكتشف بسهولةٍ ووضوحٍ تامّين عنصر الكذب والنفاق والتضليل والزيف والبهتان في داخلها، ويعرّي الدوافع السياسية المخفية وراءها، ويشخِّص مدى الفارق بينها وبين تعاليم وقِيَم أهل البيت^، ومدى بُعْدها عن خطِّهم ونهجهم الأصيل، الذي هو نهج الإسلام ذاته، في دعوته للحقّ والخير والمحبّة والسلام الاجتماعي.

ويتّضح لنا الموقف الصريح والحقيقي لإمامنا الرضا× ـ كما كان موقف الإمامين الكاظم والصادق’ من قبلُ ـ بقوله، حين سئل عن التفويض والغلوّ: «إن الله تعالى فوَّض إلى نبيه| أمر دينه، فقال: ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (الحشر: 7)، فأما الخلق والرزق فلا». ثمّ قال: «إن الله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (الرعد: 16)، وهو يقول: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (الروم: 40). والغلاة كفّارٌ، والمفوِّضة مشركون. مَنْ جالسهم، أو خالطهم، أو آكلهم، أو شاربهم، أو واصلهم، أو زوَّجهم، أو آمنهم، أو ائتمنهم على أمانةٍ، أو صدّق حديثهم، أو أعانهم بشطر كلمةٍ، خرج من ولاية الله عزَّ وجلَّ، وولاية رسول الله|، وولاية أهل البيت^». راجِعْ: عيون أخبار الرضا× 1: 202 ـ 203.

([54]) يمكن الوقوف على تفاصيل دقيقةٍ ووافيةٍ عن هذه الفِرْقة في كتاب الواقفية، للشيخ رياض الناصري، طبعة قم ـ إيران، 1988م.

([55]) الصدوق، عيون أخبار الرضا× 1: 113 ـ 114.

([56]) الشيخ الطوسي، كتاب الغَيْبة: 45.

([57]) المصدر السابق: 45. وراجِعْ أيضاً: الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد 7: 252، والذي ذكر فيه المؤلف روايةً مهمّة توضِّح بعض الصفات النفسية والشخصية السيِّئة لهذا الرجل، الذي عُرف بالغدر والخيانة في الأموال.

([58]) ذكرت الروايات أن الإمام الكاظم× كانت تأتيه الأموال من أتباعه وأنصاره ومحبِّيه، وكان؛ بسبب المطاردة والمراقبة والملاحقة والتفتيش، يدَّخرها عند بعض أصحابه؛ لنشر الدعوة وإدارة شؤون عمله ونشاطه الإسلامي. لكنّ بعضهم أراد ـ بعد استشهاده× ـ أن يحتفظ لنفسه بهذا المال، فادّعى أن الإمام موسى× لم يمُتْ، وأنه حيٌّ، شُبِّه للناس موته، وأنه هو المرشد. راجِعْ: تعليقة الشيخ الصدوق على هذه الأحداث، وتفسيره لها، في عيون الأخبار 1: 114؛ ورجال الكشّي: 488 ـ 494.

([59]) جاء في كتاب نثر الدرر أن المأمون قال للرضا×: يا أبا الحسن، أخبرني عن جدِّك عليّ بن أبي طالب، بأيّ وجهٍ هو قسيم الجنّة والنار؟ فقال الرضا×: «يا أمير المؤمنين، ألم تَرْوِ عن أبيك، عن آبائه، عن عبد الله بن عبّاس أنه قال: «سمعتُ رسول الله| يقول: «حبُّ عليٍّ إيمانٌ، وبغضه كفرٌ»، قال: بلى، قال الرضا×: «بذلك كان قسيم الجنّة والنار»، قال له المأمون: لا أبقاني الله بعدك يا أبا الحسن، أشهد أنك وارث علم رسول الله|. راجِعْ: هاشم معروف الحسني، سيرة الأئمّة الاثني عشر 2: 402.

([60]) نحن لا نقصد من خلال استخدامنا هنا لكلمة «الشخصيّ» أن الإمام الرضا× كان يهدف من وراء عمله العلميّ إلى بناء مجدٍ شخصيّ على حساب الإسلام والمسلمين، ولكنْ نريد بذلك أن نؤكِّد أن هذه المناظرات والندوات ـ التي كانت تعقد باستمرار خلال ولايته للعهد أيّام المأمون ـ قد قدَّمته× بصفة صاحب مشروعٍ ونهجٍ علميّ وثقافيّ كبير، يرتكز على مبادئ وقواعد الإيمان الدينيّ الإسلاميّ، وأبرزَتْه كقائدٍ رسالي فذٍّ، استطاع أن ينفع الناس بالإسلام (أكثر مما انتفع هو)، من خلال وجوده الشخصيّ كوليٍّ للعهد، بالرغم من رفضه المطلق لهذه الولاية (الشكلية). لكنّ الأمر الذي يبقى يلاحقنا باستمرارٍ ـ نحن أبناء هذا العصر ـ هو أن الإمام الرضا× قد طرح على نفسه أكثر من سؤالٍ، ووضع له أكثر من جوابٍ، ودعا إلى الإسلام الصحيح، وأصَّل ثوابته وأركانه في ذهنيّة الأمة، بالرغم من وجود أزماتٍ سياسية واجتماعية عاشها الرضا× آنذاك. ونحن نعيش هنا في ظلّ واقعٍ آخر جديد يفرض نفسه علينا بقوّةٍ، ويطلب منا باستمرارٍ أن نستجيب لتحدّياته ومتغيّراته ومختلف تعقيداته، لذلك علينا أن نطرح على أنفسنا الكثير من الأسئلة العمليّة الواعية؛ لنحدِّد من خلالها حجم مشكلاتنا ومصاعبنا، بما يساعدنا على اختيار المناهج (والإجابات) الأفضل، التي تساعدنا على تحقيق وجودنا وذاتنا الحضارية الإسلامية، التي ربطوها بالعنف والقتل والتطرُّف والإرهاب، بمساعدة كثيرٍ من مواقع وأبناء هذه الأمّة، للأسف الشديد.

([61]) راجِعْ: الحسني، سيرة الأئمّة الاثني عشر 2: 460.

([62]) هذا المنطق ـ الرافض بالمطلق إعطاء أيّ شرعيةٍ لأنظمة الاستبداد والظلم في أيّ زمان ومكان ـ لم يكن يعني بالضرورة عدم وجود استثناءات أو بدائل واقعيّة لكيفيّة التعامل مع أولئك الظلمة، بما يضمن المحافظة على الخطوط الإسلامية الأساسية.

([63]) الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 6: 138.

([64]) انظر: الطوسي، الاستبصار 6: 333. والذي يجدر ذكره هنا هو أن هذا الحديث نفسه ينسب إلى الإمام الكاظم×.

([65]) عيون الأخبار 2: 66.

([66]) جاء في رواية العيون، عن محمد بن يزيد النحوي، عن أبيه أنه قال: إن المأمون وهب جرم زيد بن موسى إلى أخيه الرضا×، وقال له: يا أبا الحسن، لئن خرج أخوك، وفعل ما فعل، فلقد خرج قبله زيد بن عليّ وقتل، ولولا مكانك منّي لقتلتك، فليس ما أتاه بصغيرٍ، فقال الإمام الرضا×: «يا أمير المؤمنين، لا تقِسْ أخي زيداً إلى زيد بن عليّ بن الحسين؛ فإنه من علماء آل محمد|، غضب لله عزَّ وجلَّ، فجاهد أعداءه حتّى قتل في سبيله. ولقد حدَّثني أبي موسى بن جعفر أنه سمع أباه جعفر بن محمد يقول: «رحم الله عمّي زيداً، إنه دعا إلى الرضا من آل محمد، ولو ظفر لوفى بما دعا إليه. ولقد استشارني في خروجه، فقلتُ له: يا عمّ، إن رضيتَ أن تكون المقتول بالكناسة فشأنك، فلما ولي قال جعفر بن محمد: ويلٌ لمَنْ سمع داعيته فلم يُجِبْه»، فقال له المأمون: يا أبا الحسن، أليس قد جاء فيمَنْ ادّعى الإمامة بغير حقّها ما جاء، فقال الإمام الرضا×: «إن زيد بن عليّ لم يدّعِ ما ليس له بحقٍّ، وأنه كان أتقى لله من ذلك، إنه قال: «أدعوكم إلى الضامن من آل محمد، وكان زيد والله ممَّن خطب بهذه الآية: ﴿وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوِ اجْتَبَاكُمْ﴾». (راجِعْ: الحسني، سيرة الأئمّة الاثني عشر 2: 401). ونلاحظ بعد دراسة هذه الرواية أن الإمام الرضا× يركِّز على معنى الثورة الواعية المستنيرة، التي تقوم على أساس وجود أهداف رسالية إسلامية واضحة، وتمارس أعمالاً شرعيّة منظمة (نموذج ثورة زيد بن عليّ)، ويدافع× عنها بقوّةٍ، ويعتبرها ثورة تقوى لله.

([67]) الحسني، سيرة الأئمّة الاثني عشر 2: 398.

([68]) لقد كانت معظم تلك الثورات انفعاليةً ساذجة، ومليئةً بالتناقضات الذاتية، حتّى من قبل قواعدها الشعبية الملتزمة بها. ولذلك كانت النتائج التي أدَّتْ إليها هذه الثورات سلبيّةً، وأحياناً كارثية، ولم تقدِّم أيّ خدمةٍ للمجتمع. وبطبيعة الحال يعود سبب إخفاق معظم تلك الثورات ـ في وَعْيها وسلوكها ـ إلى انعدام الإدراك الكامل والوَعْي الموضوعي الواقعي بأهداف وغايات الدولة الإسلامية، والإيمان بواقعيّتها وأهمّيتها التاريخية.

([69]) يمكن مراجعة بعض أعماله وتجاوزاته، وروايات أخرى عنه، في كتب كثيرة، منها: كتاب سيرة الأئمّة (للحسني) 2: 396.

([70]) قلنا بأن أئمّة أهل البيت^ كانوا ـ من جهةٍ أولى ـ ينهَوْن بشدّةٍ عن التعاون والتقارب مع الجهاز السياسي (وغير السياسي) الحاكم لبني أميّة وبني العبّاس؛ بينما كانوا ـ من جهةٍ ثانية ـ يعطون رُخَصاً شرعية لبعض الأفراد، تقضي بالإمضاء والموافقة على انخراطهم في جهاز هذه الدولة أو تلك؛ من أجل تحقيق بعض المصالح والأهداف الإسلامية العليا المتّصلة بمصير وجود الأمّة، ومحاولة تخفيف بعض المظالم والشرور عن كاهل المجتمع الإسلامي. ونذكر هنا ـ على سبيل المثال، لا الحصر ـ عليّ بن يقطين، أو إسماعيل بن بزيع؛ حيث توجد روايات وأقوال كثيرة تثني وتمدح هذين العاملين في خطّ الله، وأمثالهما، من قبيل: إن هؤلاء «من أولياء الله الأول». لزيادة الاطّلاع على موضوعة «ولاية الجائر» يمكن مراجعة: الأنصاري، كتاب المكاسب.

([71]) الشهيد مرتضى مطهري، سيرة الأئمّة: 187.

([72]) إننا نعتقد أنه من الضروري والمفيد جدّاً لحركيّة الإسلام أن ينفتح الفقيه المسلم على شؤون المجتمع كلّه، ويتّصل بكلّ قضاياه الخاصة والعامة؛ لأن ذلك هو الذي يمكن له أن يحمي المبادئ والقضايا الأساسية العامّة من الذاتية والتفرُّد، ويعطي للفقيه مساحةً واسعة، ورؤيةً شاملة للواقع، ويحميه من الوقوع في الخطأ. كما أنه يحمل الأمّة مسؤولية قراراتها المرتبطة بالفقيه والمرجع، من خلال مشاركتها معه في صنع هذه القرارات.

([73]) راجِعْ: أصول الكافي 2: 203؛ والشيخ المفيد، الاختصاص: 51، الباب 4. قد يظنّ بعضٌ أن هذا الحديث مختصّ بالجانب العاطفي الوجداني (النفسي) من حياة الإنسان؛ لأنه يحضّه على التزام النقد والمحاسبة على صعيده الذاتي فقط، ولكنّنا نؤكِّد ـ بالرغم من اعتقادنا بعدم صحّة الاستنتاج القائل بأن الدين الإسلامي هو مجرّد علاقة روحية بين العبد وخالقه، ولا علاقة له بالحياة والواقع ـ على أن المراد منه أيضاً ممارسة الإعداد الروحي والبناء الأخلاقي الإسلامي المتين، وتوعية الإنسان المسلم، كجزءٍ أساس من مسيرته التكاملية نحو تمثُّل قِيَم الإسلام العادل، وتحقيق تشريعاته ومبادئه في الحياة كلِّها، في السياسة والاجتماع والاقتصاد…، إلخ. فبناء النفس وتنمية الروح (والأخلاق المعنوية الذاتية) هو أساس بناء وتنمية الواقع الخارجي؛ ليكون بالتالي تغيير ما بالنفس هو الأساس لتغيير ما بالواقع. من هنا جاء تركيز الإسلام على ضرورة تعميق منهج وخطّ الإعداد الروحي عند الإنسان المسلم (الجهاد الأكبر)؛ ليكون ذلك مقدّمةً لازمة حيوية لتغيير الحياة والواقع في الاتجاه الذي يحقِّق كرامة الإنسان وعدالة الوجود.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً