أحدث المقالات

الخلاصة

تعود جذور بدايات علم مشكل الحديث إلى عهد رسول اللَّه(ص)، وإن كانت آن ذاك لا تشكل سوى تطبيقات محدودة؛ حيث نُقلت بعض الروايات عن الصحابة أنهم كانوا يرجعون إلى رسول اللَّه(ص) أو الأئمة فيما يشكُل عليهم فهمه وتفسيره، فيُبادروا إلى رفع الالتباس، وحلّ كل ما استشكل عليهم في أمر دينهم ودنياهم. وبعد وفاة النّبي(ص) ازدادت سعة الإشكالات لدى المسلمين جراء ازدياد التعدي على الحديث الشريف طيلة مراحل تاريخية خضعت لظروف سياسية واجتماعية..، مما دعا بالعلماء إلى ضرورة إيجاد قواعد تساعد الفقيه في رفع الإشكالات والتساؤلات في بعض الروايات، وهذا ما دعاهم للتأليف في علم مشكل الحديث حيث أفردوا أنواعاً له، كالمشكل في ذاته، والمشكل مع غيره، وعلاقته بالعلوم الأخرى وخلصوا إلى أنه العلم الذي يبحث عن القواعد ذات الصلة في رفع الغموض الظاهري للروايات وإشكالاتها، كالتناقض في الرواية نفسها أو مع غيرها من النصوص الشرعية، أو الواقع الخارجي، أو حكم العقل، أو الإجماع.

ولظاهرة «مشكل الحديث» أسباباً متعددة منها طبيعية ايجابية للشارع غرض منها حفظ الفرد والجماعة،، فيتوهم غير العالم بالمقام معارضته للنصّ المُحكم، أو العقل، أو العلم، أو الحس..، ومنها سلبية مفتعلة كالاعتماد على الوهم والاستحسان واتباع المسار الفكري والسلوكي لمذهبٍ خاص.

ولقد استنبط العلماء الإمامية قواعد فقهية لحل التعارض وفق أدلة مدرسة أهل البيت(عم) كقاعدة الجمع العرفي، وقاعدة معرفة معاريض كلام الأئمة، وقاعدة النسخ، وقاعدة التقية، وقاعدة التوقف، وقاعدة تغير الحكم بتغير الموضوع والعنوان، وقاعدة التعارض التاريخي، وقاعدة التخيير..، وقد أسقطنا هذا العلم في حلِّ ما أثر عن النبي(ص) والأئمة(عم) من أن (الزهراء(عا) حوراء إنسية) وفق قاعدة الجمع العرفي بين الروايات والآيات، فلا إشكال من كون الزهراء(عا) قد خلقت في عالم النورانية قبل عالم تكوينها المادي لما ثبت من تعدد العوالم، فجمعت بين خصائص العالمَين؛ لتكون سيدة نساء العالمين على الإطلاق، ولا عجب في ذلك مع ثبوت تعدد العوالم كذلك عند الصوفية من العامة حيث قسموا الموجودات إلى عاقلة مجردة، ومثالية مقدارية، ومادية كثيفة استنبطوها من وحي القرآن والسنة، قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ (الأعراف: 172). وكذا فيما اقتصه من خبر جبرائيل حيث تمثل للبتول مريم بشراً ليهب لها المسيح روح الله وكلمته التي ألقاها إليها، يقول تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً﴾ (مريم: 17).

وأما ما ادعي من مخالفة الرواية لإجماع المؤرخين حيث قالوا بتقدم ولادة الزهراء(ص) قبل البعثة بخمس سنين حيث لا إسراء ولا معراج بعد فكيف تكون نطفتها من فاكهة الجنة؟ والحقيقة أنه لم يثبت الإجماع المدعى عند العامة فضلاً عما ذكر في مدرسة أهل البيت(عم)، فالمشهور لديهم أن ولادتها كانت بعد البعثة بخمس سنين، ويشهد لذلك ما نقلته بعض مصادر العامة من رفض النبي(ص) تزويج الزهراء(عا) لأبي بكر لصغرها، إضافة إلى ما ثبت لدا لفريقين من تكرر الإسراء والمعراج ما يفسر اختلافهم في توثيق تاريخه. ولعل الراجح أن رحلة الإسراء والمعراج التي فرض فيها الصلوات الخمس إنما كانت بعد الجهر بدعوته، حيث ضيق المشركون عليه ومن آمن معه، فشرح الله صدره وأقر عينه بعدها بالصلاة والولد الصالح.

مقدّمةٌ

إن فهم الحديث النّبوي الشريف فهماً سليماً، واستنباط الأحكام الشرعية من السنّة النّبوية استنباطاً صحيحاً لا يتم إلا بمعرفة علم مشكل الحديث، وبذلك يمكن تبرئة ساحة علماء الحديث من تهمة الغفلة وقلة الفهم لما ينقلونه من الروايات الشريفة المتعارضة. ولا شك أن هذا العلم له علْقة بأكثر العلوم الإسلامية، فلا غنى للباحث والناقد والفقيه عن دارسته، والوقوف على دقائق مباحثه والتأصيل لها. وإن النظر في طرق العلماء ومناهجهم في دفع إيهام الاضطراب عن أحاديث المصطفى وآله ينمِّي ملكة معرفة فهم النصوص، وحل مشكلها وفق الضوابط العلمية الثابتة، فلا يردّ منها شيئاً يمكن إيجاد حلّ له من خلال بذل الجهد في طلب التوفيق لإدراك معرفتها وفق القواعد المعتبرة. وبذلك يمكن حفظ المأثور من الضياع، والرد على شبهات الطاعنين في الحديث الشريف وأهميته.

ولأجل حلّ ما يظهر من إشكال فيما روي عن المعصومين(عم) في حق الزهراء(عا) من أنها» حوراء إنسية» كان لابد من التعرض إلى علم مشكل الحديث وبيان قواعده بشكل مختصر.

وعليه فما هو تعريف علم مشكل الحديث وتاريخه وأسبابه وأنواعه؟ وما القواعد العلمية لحلّ التعارض فيه مع بيان نموذج تطبيقي على حديث النبي(ص) (الزهراء حوراء إنسية)؟

أولاً: تعريف علم مشكل الحديث لغة واصطلاحاً

المشكل لغةً: يتفق علماء اللغة على أن المشكل من شكُل الْأَمر شكولاً الْتبس([2]). وأْشْكَلَ‏ الأَمرُ: الْتَبَسَ‏ واخْتَلَطَ، ويقالُ: أَشْكَلَتْ‏ عليَّ الأَخْبَارُ وأَحْكلتْ بمعْنىً واحِد([3]).

وقال ابن منظور: «المُشكِل: شكُل الأمر بمعنى أشكل، أي: التبس، فهو مشكل الملتبس، وهو ما لا يفهم حتى يدل عليه دليل من غيره([4]). فالمشكل هو المُحكِل المُعكِل»([5]).

وأما المشكل اصطلاحاً: فقد يكون مصداقه ما كان نصّاً قرآنياً، أو نصّاً روائياً، ولذا عرف العلماء المشكل إما بشكل مطلق، أو بشكل مخصوص بحسب الإضافة للقرآن أو الحديث، أو الآثار، وهي بالواقع تشترك في مؤدى واحد وإنّ أُنيط كل بخصوصياته بحسب موضوعه، وهي كما يلي:

1ـ المشكل (مطلقاً)

عرفه «نور الدين عتر»: «ما تعارض ظاهره مع القواعد؛ فأوهم معنىً باطلاً، أو تعارض مع نص شرعي آخر»([6]).

وعرفه «الجرجاني»: «هو الداخل في أشكاله، أي في أمثاله وأشباهه، مأخوذ من قولهم: أشكل أي صار ذا شكَل وهو ما لا يُنال المراد منه إلا بتأمل بعد الطلب»([7]).

قيل: «هو النص الذي يحتاج إلى تأمل ودقة نظر لفهم المراد منه، أو لإزالة تناقضه فيما يُظن»([8]).  ولعل تعبيره (فيما يظن) ليس موفقاً؛ فلابد أن يكون قاطعاً وإن كان قطعه لا يفيد الواقع والتحقق، فظنه إن لم يفد القطع فلا اعتبار فيه، بل هو خارج مبحث علم المشُكل أصلاً لأن الظن ليس بحجة، لقوله تعالى: ﴿وما يتبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يغني من الحق شيئاً إن الله عليم بما يفعلون﴾ (يونس: 36). ولو عبر بدل «فيما يظن» بـ «فيما يوهِم» لكان أولى.

وعليه فالمشكل: كل نص أوهم معناً باطلاً، فيحتاج إلى علم المستنبطين المتأملين في معرفة مقاصده ومراداته.

2ـ تعريف مشكل القرآن

عرفه ابن قتيبة في كتابه «تأويل مشكل القرآن» بأنه: « إزالة الإشكال والغموض عن ما في كتاب الله تعالى من كلمات أو ألفاظ تثير مثل هذا اللبس أو الغرابة»([9]).

وعرفه السيوطي بأنه: «ما يوهم التعارض بين الآيات، وكلامه تعالى منزه عن ذلك كما قال: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً﴾ (النساء: 82)، ولكن قد يقع للمبتدئ ما يوهم اختلافاً وليس به في الحقيقة، فاحتيج لإزالته»([10]).

3ـ تعريف الحديث المشكل ومشكل الحديث

قسّم مشكل الحديث إلى المشكل في ذاته والمشكل مع غيره بحسب مفاد إيهام التناقض في داخل الحديث ذاته أو مع غيره من العقل والحس والعلم والنصوص الشرعية. وكذا فرق بعض الباحثين بين الحديث المشكل، ومشكل الحديث، قال «الجوابي» الحديث المشكل: «هو حديث صحيح بدا معارضاً بدليل مقبول، قبل التأويل، أو كان مما لا يعلم تأويله»([11]).

وعرف «السماحي» الحديث المشكل: «هو حديث صحيح أخرج في الكتب المعتبرة المشهورة، ولكنه عورض بقاطع من عقل، أو حس، أو علم، أو أمر مقرر في الدين، ويمكن تخريجه على وجه التأويل»([12]).

كما وعُرف مشكل الحديث بأنه: «الحديث الذي يُوهم ظاهره معنىً باطلاً بمخالفته لنص القرآن الكريم، أو مخالفته لحقيقةٍ علميةٍ، أو لإيهامه التشبيه في حق اللَّه تعالى»([13]).

وقيل بأنه: «ما خفي معناه لدلالته على استحالة شرعية، أو عقلية، أو عادية أو معاً، ولا يُزال إشكاله إلا بالتأمل في معناه، أو ألفاظه، أو في القرائن المتعلقة به، سواء كانت محتفّة أو خارجة عنه» ([14]).

وقيل بأنه: «الحديث المروي عن رسول اللَّه(ص) بسند مقبول، يُوهِمُ ظاهره مُعارضةَ آيةٍ قرآنية، أو حديثٍ آخر مثله، أو يُوهِمُ ظاهره مُعارضةَ مُعْتَبَر مِنْ إجماعٍ، أو قياسٍ، أو قاعدةٍ شرعيةٍ كليةٍ ثابتة، أو أصلٍ لغوي، أو حقيقةٍ علميةٍ، أو حِسٍ، أو معقولٍ»([15]).

 والحقيقة أن التقييد بما روي عن النبي دون أهل بيته ليس في مكانه؛ لأن سنته إنما هي مفاد ما روي عن النبي(ص) متواتراً « إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي..، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض»([16]).

وبالتدبر فيما ذكروه فإنني لم أرى فارقاً مضمونياً بين تعريف الحديث المشكل ومشكل الحديث!!، ولعله من الضروري العلم بأن بعض المشكل يصعب تأويله، فيرد إلى أهل معرفته أو يتوقف فيه.

4ـ تعريف المشكل في الآثار

يقول الطحاوي: «فإني نظرت في الآثار المروية عنه(ص) بالأسانيد المقبولة التي نقلها ذووا التثبيت فيه والأمانة عليها، وحسن الأداء لها، فوجدت فيها أشياء مما سقطت معرفته والعلم بما فيه من أكثر النّاس، فمال قلبي إلى تأملها، وتبيان ما قدرت عليها من مشكلها من استخراج الأحكام التي فيها ومن نفي الإحالات عنها»([17]).

ولقد حاول «إبراهيم العسعس» إيجاد تعريف جامع بقوله: « الإشكال مرتبط بوجود شيئينٍ متماثلين، أي أنّ حصول الالتباس لابد فيه من وجّود قضيتين، إما نصّ وآخر، أو نص وقضية نشأت عن مقتضى الشرع، أو عن العقل، أو الحس، أو قاعدة متبناة. فإنه لا شك بوجود علاقة بين «الإشكال والمتشابه « وأنَّ فهم موضوع المتشابه والمحكم يعين كثيراً على فهم ظاهرة الاستشكال»([18]).

وهناك محاولة من السيد عبد الله شبر في حل مشكل الحديث حيث سلك منهجاً عملياً في كتابه «مصابيح الأنوار في حل مشكل الأخبار» من دون أنّ يؤصل لهذا العلم، محاولاً علاج الروايات وفق القواعد الشرعية والعقلية واللغوية..

 وعليه، يمكن القول: بأن علم مشكل الحديث: هو العلم الذي يبحث عن الأطر المعتبرة في حلّ التناقض والإشكالات الموهمة ظاهراً بمعارضتها لما ورد في الحديث ذاته أو مع غيره، من آية أو حديث أو ما علم بالضرورة الشرعية أو العقلية أو الحسية.

وبتعبير آخر إن علم مشكل الحديث: هو العلم الذي يبحث عن القواعد المعتبرة شرعاً مما لها مدخليّة في رفع الغموض، أو الالتباس، أو التناقض الظاهري في الحديث نفسه، أو مع غيره من الثوابت الشرعية، أو العقلية، أو الحسية أو الحدسية.

ثانياً: تاريخ علم مشكل الحديث

المتتبع للمأثور من السنّة المطهرة يجد أن الاختلاف في الروايات والإشكالات فيها ترجع إلى عهد رسول اللَّه(ص)، وذلك أن الأصحاب كانوا يرجعون إلى رسول اللَّه(ص) في جميع شؤون حياتهم، حيث كان يقضي بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، ويبين لهم أمر دينهم، ويرفع كل ما استشكل عليهم في أمر دينهم ودنياهم، لكنها لم تشكل ظاهرة واسعة النطاق؛ فقد روى المجلسي في بحاره رواية ذكرها البخاري عن أبي مليكة أنّ عائشة: «كَانَتْ لا تَسْمَعُ شَيْئاً لا تَعْرِفُهُ إِلا رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ، وأَنَّ النَّبِيَّ(ص) قَال: «مَنْ‏ حُوسِبَ‏ عُذِّبَ»، فَقُلْتُ: أَوَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «‏ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً» قَالَت: فَقَال: إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلِكُ»([19]).

وبعد وفاة النّبي(ص) استن أهل البيت(عم) بسنّة النبي في رفع الاختلاف والإشكالات التي كانت ترد في ذهن شيعتهم ومخالفيهم واكتفوا بذلك، ولم يكن هناك حاجة لتأصيل هذا العلم، فتأخر بلورة هذا العلم مدة قرنين ونصف من الزمن تقريباً عن مدرسة العامة الذين أخذوا بمرجعية الصحابة ما فتح باب الحاجة إلى الاجتهاد لحلّ مشكلات الحديث المتزايدة، فكانوا السبّاقين حيث أصّلوا قواعدها وناقشوا أوجه الاختلاف فيها.

ولقد ازدادت الحاجة لهذا العلم بعد حركة الترجمة، ودخول الفلسفة اليونانية على فكر المسلمين ما أثرت سلباً على مناهج فهمهم المتّبع، فخلق جملة من الإشكالات المذمومة أبرزها تعطيل العقول وشيطنتها، وحرمانها من التفقه في كتاب اللَّه وفق المسار التشريعي الخاص. وهكذا كلما نشأ مذهب أو فرقة توسعت مساحة النصوص المستشْكَلة واتسع الخَرق على الراقع؛ فعمد كل مذهب منهم يؤصل بحسب ما يوافق أصوله والتعريض بما خالفه مستشكلاً فيه([20]). فمن هذه البيئة والظروف وُلد علم مشكل الحديث كمصطلح، وظهرت أهمية دراسته كعلم خاص، ومن أهم ما صنفه العلماء في حلّ مشكل الحديث واختلافه ما يلي:

أـ عند الشيعة:

1ـ كتاب الاستبصار فيما اختلف من الأخبار، لشيخ الطائفة محمد ابن الحسن الطوسي.

2ـ كتاب بحار الأنوار الجامع لدرر الأئمة الأطهار، للعلامة محمد باقر بن تقي المجلسي.

 3ـ كتاب مصابيح الأنوار في حلّ مشكل الأخبار، للفقيه النبيه عبد الله شبر.

 4ـ الفوائد الطوسية، لشيخ العامليين محمد بن الحسن الحر العاملي.

ب ـ عند السنة:

1ـ شرح مشكل الآثار: لأحمد بن سلامة الطحاوي.

2ـ مشكل الحديث وبيانه: لمحمد ابن الحسن بن فورك.

3ـ تأويل مشكل الحديث: لابن قتيبة.

ثالثاً: أسباب مشكل الحديث

لا شك أنّ معرفة أسباب لزوم الإشكال وفلسفته يسهم في توضيح المسألة للناظر، ويسهل عليه موضوع مشكل الحديث وتفهمه بنظرة إيجابية لقطع الطريق على مرتزقة الناقدين، وكل من يختلق عذراً زائفاً لا برهان له. ويمكن تصنيف أسباب وقوع المشكل إلى نوعين إيجابي وأخر سلبي كما يلي:

1ـ أسباب طبيعية (إيجابية)

 ولعل أهم تلك الأسباب ترجع إلى مقولتي الكمّ والكيف المتعلقة بالنسبة المئوية لتفاوت العقول المدركة وحسن تفهمها، وإيجابيتها المستمدة من كونها سنة تكوينية مقصودة، يقول تعالى: ﴿ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم﴾ (هود: 118 ـ 119). وإن من أهم مصاديق تلك الأسباب:

1ـ تعدد الأفهام واختلاف مدارك أصحابها ومعارفهم أمر طبيعي ينسجم وطبيعة التحدث وسياقاته اللفظية والحالية والمقامية، فكمال الكلم ما كان وفق قاعدة لكل مقام مقال، فعَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ: «قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ(ع) مَا بَالِي أَسْأَلُكَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فَتُجِيبُنِي فِيهَا بِالْجَوَابِ، ثُمَّ يَجِيئُكَ غَيْرِي فَتُجِيبُهُ فِيهَا بِجَوَابٍ آخَرَ، فَقَالَ: إِنَّا نُجِيبُ النَّاسَ عَلَى الزِّيَادَةِ والنُّقْصَانِ([21])، أي بحسب ما يقتضي الحال والمقام. فقد يرد النّصان على حالين مختلفين فيفيدان حكمين متضادين، فيُظن أنَّ بينهما تعارضاً([22])، كما في حكم الصلاة في الكعبة، فعن معاوية بن عمار عن أَبِي عَبْدِ اللَّهِ(ع) قَالَ: «لا تُصَلِّ الْمَكْتُوبَةَ فِي‏ الْكَعْبَة.»([23])، وفي رواية أخرى عَنْ‏ يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ قَالَ: « قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ(ع) حَضَرَتِ الصَّلاةُ الْمَكْتُوبَةُ وَأَنَا فِي الْكَعْبَةِ، أَ فَأُصَلِّي فِيهَا؟ قَالَ: صَلِّ»([24]). وقد ذهب الشهيد الثاني وغيره إلى أن الأصح الكراهية لا غير، وتنتفي بضيق الوقت، وهو أحرى في الجمع بين الأخبار وعموم الكتاب والسنة»([25]). ولعل الأولى أن النهي في الأولى نظراً لتعمد إقامة الصلاة في الكعبة اختياراً، أما الثانية فناظرة لحالة عدم التعمد باعتبار أن مصادفتها أول الوقت إنما كان اتفاقاً، فالمبادرة إلى أدائها في أوّل وقتها أولى من تأجيلها بقرينة قوله(ع): «حضرت».

2ـ أن يكون أحد النصوص محمولاً على الحقيقة، والثاني على المجاز: فقد يرد نصان يحملان معنيين، إذا حُملا معاً على الحقيقة أوهما التعارض. فقول الإمام علي(ع): «إنما الدنيا منتهى بصر الأعمى»([26]) ربما يتبادر التعارض مع ما ورد عنه في حب الدنيا لمّا سأله الحسن(ع) عن حكم حبها والميل إليها، فقال(ع): «اَلنَّاسُ أَبْنَاءُ الدُّنْيَا، وَلاَ يُلاَمُ الْمَرْءُ عَلى حُبِّ أُمِّهِ»([27]). فقوله الأول لا يراد منه ذات الدنيا بل العمل لذات الدنيا ونسيان الآخرة، وقوله الثاني محمول على حبِّ ذاتها باعتبار انتمائه لها، وأنه إنسان خلق منها ويعيش فيها، فلو لم يحبها ما كان ليعمرها ويشيّد حضارته فيها.

3ـ أنّ يكون أحد النصّين ناسخاً للآخر، ويخفى على بعض المجتهدين معرفة الناسخ منهما، فيظن أنَّ بينهما تعارضاً([28]). ومثاله ما ورد عنْ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ(ص) نَهَى أَنْ تُؤْكَلَ لُحُومُ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلاثٍ»([29]). معارضاً لما ورد عن الصادق(ع) المروية عن جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ(ع) عَنْ حَبْسِ لُحُومِ الأَضَاحِيِ‏ فَوْقَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ بِمِنى، قَالَ: لا بَأْسَ..، حيث إن ما ورد عن النبي(ص) إنما كان لظرف خاص يرتبط بحاجة الناس للطعام واللحم»([30]).

4ـ التصحيف([31]): فإن اختلاف التعجيم ورسم الحركات للّفظ قد يسبب تعارضاً بينه وبين حديث آخر ممّا يتطلّب جهداً لرفع التعارض بينها بنحو من الأنحاء، وهو كثير في الكتب والتصنيفات([32]). ومثال ذلك ما ذكره الصدوق في كتابه فقه الرضا حيث بين وضوء النبي فقال، غسل قدميه([33])، وفي كتابه «المقنع» ذكر ذات الحديث قائلاً: «مسح على قدميه»([34]).

2ـ أسباب غير طبيعية (سلبية):

1ـ الاعتماد على الوهم: فالتوهم لا يجدي؛ لأنه لا يغني من الحق شيئاً، وإنما تُبنى العلوم على النظر الصحيح، والفهم السليم المؤيد بالدليل والبرهان.

2ـ الاكتفاء بأحكام العقل الاستحسانية: فلقد دعا كتاب الله سبحانه وتعالى إلى استخدام العقل فيما يقدر عليه حسب طاقته وحجم تصوره، ودعا إلى حمايته؛ كالجهل والهوى، ومع هذا الاهتمام بالعقل لا يمكن الاعتماد عليه مستقلّاً للفصل والحكم في مسائل الشرع عموماً، ومسائل مشكل الحديث خصوصاً؛ لقصور العقل في الإحاطة بكل الأمور، واختلاف سعة العقول من شخص لشخص، لذا لا يصح تحكيم الأقيسة العقلية الظنية؛ لأنها من مفرزات الهوى الذي لا يغني من الحق شيئاً، فإن من أبرز القياسات الاستحسانية ما أسسه إبليس اللعين، حيث رفض السجود لآدم متبعاً ما استحسنه عقله حيث حكم بخيريّته على أدم(ع) باعتباره خلق من نار وآدم من طين.

3ـ تعدد المذهب والرؤى: فإنّ تبني الاتجاه والمذهب كثيراً ما يؤثر في فهم الحديث وتفسيره، فالذي يستشكله الأخباري يختلف عما يستشكله الأصولي مثلاً([35]). وما يفسره مذهب ما ميلاً لما يتبناه مسبقاً قد يحتاج لاستعمال المغالطة ليحقق نصراً موهوماً لحقانية سنته، اعتماداً على قوله تعالى: ﴿..وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: 62). في مقابل ذم من يتسمى بالشيعة كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ (الأنعام: 159). والحقيقة أن الآيتان أجنبيتان عن الموضوع تماماً لمن يراجع التفسير، فلا نطيل.

ويمكن تقسيم علل حدوث مشكل الحديث في مرويات أهل البيت(عم) إلى قسمين هما:

القسم الأول: ما يرجع إلى مراد أهل البيت(عم): كالنسخ، واختلاف المقال لاختلاف المقام، والتقية، واختلاف المستوى العلمي للمخاطب.

القسم الثاني: ما يرجع إلى الراوي: فإن اشتباه الرواة في فهم الحديث، أو الكذب والتدليس على المعصوم يسبب مشكلاً حديثياً.

رابعاً: موقف العلماء من علم مشكل الحديث

 عند النظر في كلمات العلماء نجد أن منهج بعض الباحثين في التعامل مع مشكل الحديث وفق اتجاهين مختلفين:

أحدهما استباح لنفسه التحكم فيه بمحض العقل ضارباً بالأدلة الشرعية عرض الحائط، والآخر جعل من القواعد الشرعية وسيلة؛ لدفع التعارض بين النصوص الشرعية. وإليك لمحة تطبيقية موجزة عن المسلكين باختصار:

المسلك الأول: مسلك حكم العقل

لقد زلت أقدام أقوام وطوائف في التعامل مع علم مشكل الحديث وأشباهه، حيث تسللوا إلى غير فنهم، وأتوا البيوت من ظهورها، فحادوا عن سبيل العلماء، وألقت بهم الأفهام إلى هوة الاعتقاد بالتضاد والتناقض الواقعي بين الروايات والأحاديث الشريفة، وذلك لعدم تبحرهم في علوم القرآن والحديث من أفواه العلماء، ومن ثَم شككوا في الروايات والقرآن جميعاً، ولم يتهموا عقولهم بعدم الدراية والفهم، واستنكفوا الرجوع فيما أشكل عليهم إلى أهل العلم والفقاهة استكباراً وحسداً.. ومن أهم هؤلاء ما يسمون أنفسهم زوراً بـ «القرآنيون» و«الحداثيون».

المسلك الثاني: مسلك القواعد المستنبطة من أئمة أهل الرسوخ في العلم والعمل

هؤلاء العلماء لم يطلقوا العنان لعقولهم، ولم يأخذهم التفاخر بأنفسهم أو الإعجاب بذكائهم وآراءهم، وإنما كانت سيرتهم ومنهجهم فيما يشتبه عليهم من نصوص الوحي إظهار الافتقار إلى الله والاستعانة به، والاستمداد منه من أجل الوصول للفهم الصحيح عبر البحث والمطالعة المستمرة لإبراء ذمتهم متمثلين بقول أمير المؤمنين(ع): «من أعجب برأيه ضلّ، ومن استغنى بعقله زلّ»([36]). فإن اللجوء إلى الله والتوسل بأوليائه بصدق وإخلاص كفيل بجعل قلوب العلماء مستعدة لاستقبال هبة علم الله ورحمته، ونيل الفتح الرباني بمعرفة قواعد حلّ مشكل الحديث([37]).

خامساً: أنواع مشكل الحديث

وهو على نوعين:

1ـ الحديث المشكل في ذاته

ويقصد منه ما كان الإشكال في دلالة الرواية ذاتها، حيث يكون ما ذكر فيها أولاً يتنافى مع ما ذكر فيها تالياً، ومثاله ما ورد في علل الشرائع عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ مرفوعاً عن الصَّادِقِ(ع) قَالَ: «يَقُولُ وَلَدُ الزِّنَا يَا رَبِّ مَا ذَنْبِي؟ فَمَا كَانَ لِي فِي أَمْرِي صُنْعٌ، قَالَ: فَيُنَادِيهِ مُنَادٍ فَيَقُولُ: أَنْتَ شَرُّ الثَّلاثَةِ أَذْنَبَ وَالِدَاكَ فَتُبْتُ عَلَيْهِمَا وَأَنْتَ رِجْسٌ وَلَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا طَاهِر»([38]). ولقد علق المحقق البحراني على الرواية بقوله: «انظر إلى صراحة هذا الخبر في أن منعه وطرده عن الجنة إنما هو من حيث كونه ابن زنا، حيث إنه احتج بأن لا ذنب لي يوجب بعدي وطردي من الجنة، فلو كان كافراً لم يحتج بهذا الكلام، ولو احتج به لأتاه الجواب بأن طرده من الجنة لكفره»([39]) لقد دفع صاحب الحدائق شبهة من قال بكفره معتبراً مجرّد كونه ابن زنا يكفي لطرده من الجنة، ولم يدفع شبهة تظلمه إذ لا ذنب له، فإن ولد الزنا كان ضحية فعل فاحشة والديه، والعجب أن الرواية تصرح بمغفرة الله لهما دونه، فالرواية لم تدفع تظلَّمه أمام المولى، بل وحكمت بعقابه وحرمانه من الجنة، ولقد صرح القرآن بعدم تشريع عقاب أحد بذنب غيره، يقول تعالى: ﴿… وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى..﴾ (الأنعام: 164).

2ـ الحديث المشكل مع غيره:

 ويقصد منه ما كان الإشكال فيه بالنظر إلى ما ورد من نصوص شرعية أخرى معتبرة، نكتفي بالإشارة إليها روماً للاختصار([40]) كما يلي:

أـ تعارض الحديث مع القرآن.

ب ـ تعارض الحديث مع حديث آخر.

ج ـ تعارض الحديث مع السنّة القطعية.

د ـ تعارض الحديث مع الاجماع.

هـ ـ تعارض الحديث مع العقل.

و ـ تعارض الحديث مع العلوم القطعية.

ز ـ تعارض الحديث مع التاريخ.

سادساً: الفرق بين مشكل الحديث وما يشابهه من علوم الحديث

عندما نراجع كتب علوم الحديث نجد أنهم ذهبوا إلى الحديث على قسمين محكم ومتشابه على غرار التقسيم القرآني:

 فالمحكم: ما كان واضح الدلالة في نفسه، ولا يحتاج إلى قرائن لتوضيحه، بل هو المرجع الأساس لتفسير مشكل الحديث ومختلفه وغريبه..، فهو يعتبر كالآية المحكمة التي يردُّ إليها متشابه القرآن وغريبه. كقوله(ص): «إنما الأعمال بالنيات»([41]).

وأما الحديث المتشابه: فهو «مشكل الحديث» ذاته. وعليه فعلم مشكل الحديث أعم مطلقاّ منها جميعاً.

 ومن هذين القسمين تمخّض لدينا عدّة علوم حديثية لها علاقة ما واشتراك في بعض الجهات مع علم مشكل الحديث يجدر التنويه إليها لبيان الفرق فيما بينها باختصار كما يلي:

1ـ الفرق بين مشكل الحديث ومختلف الحديث

عرف «الغفاري» مشكل الحديث: «أن يوجد حديثان متضادان في المعنى ظاهراً، سواء تضادا واقعاً أيضاً، كأن يمكن التوفيق بينهما بوجه، أو ظاهراً فقط كأن يمكن الجمع بينهما»([42]).

وانتهينا إلى أن علم مشكل الحديث: هو العلم الذي يبحث عن القواعد المعتبرة شرعاً مما لها مدخليّة في رفع الغموض، أو الالتباس، أو التناقض الظاهري في الحديث نفسه، أو مع غيره من الثوابت الشرعية، أو العقلية، أو الحسية أو الحدسية..

أما مختلِف الحديث فهو: «الحديث الذي عارضه ظاهر مثله فأوهم معنىً فاسداً أو باطلاً»([43]). وعرفه «ابن حجر» بأنه العارض بمثله»([44]).

 وعليه فالنّسبة بين مشكل الحديث ومختلف الحديث، هي نسبة العموم والخصوص المطلق، فمشكل الحديث أعم مطلقاً من مختلف الحديث؛ وذلك أنّ مختلف الحديث دائرته في إطار الروايات والأحاديث التي تعارض بعضها بعضاً ظاهراً وفق نظر الناظر لا في حقيقة الأمر، وأما مشكل الحديث فيتسع ظنّ التضاد فيه ليشمل ظنّ التضاد ظاهراً بين حديث وغيره من آية، أو إجماع، أو قياس، أو قاعدة من القواعد الدينية، أو غير ذلك من الأدلة الشرعية، أو العقلية.

 2ـ الفرق بين علم مشكل الحديث وعلم فقه الحديث

هناك علاقة وثيقة بين علم مشكل الحديث، وعلم فقه الحديث، حيث إن دراسة مشكل الحديث تعد متممة لنقد متن الحديث خاصة للذي أخذ موضوعاً لعلم فقه الحديث حيث يُبحث فيه عن شرح ألفاظه وبيان حالاته، من كونه نصّاً أو ظاهراً، عامّاً أو خاصّاً، مطلقاً أو مقيّداً، مجملاً أو مبيّناً، معارَضاً أو غير معارَض، كل ذلك على سبيل الجزئية والتطبيق لا على نحو الكلّية. فيكون علم فقه الحديث شاملاً لعلم غريب الحديث ومختلفه ومشكله([45]). وعليه يكون علم فقه الحديث أعم من علم مشكل الحديث؛ لأنه يشمل التعارض وغيره. ولعل اهتمام الشيعة بفقه الحديث كان سبب في عدم إفرادهم بحثاً خاصاً بعلم مشكل الحديث.

3ـ الفرق بين مشكل الحديث وغريب الحديث

يعرًف علم غريب الحديث بأنه: «علمٌ يبحث عمّا وَقَعَ في متون الحديث، من الألفاظ الغامِضة البعيدة عن الفَهم، لقلّة استعمالها. ويُعتَبَر معرفة الغريب، الخطوة الأولى في فَهم الحديث وفقهه»([46]).

وعليه يكون الحديث الغريب: هو ما خفي معناه بسبب غرابة ألفاظه. وعليه يكون النسبة بينهما العموم المطلق فمشكل الحديث أعم منه مطلقاً.

سابعاً: القواعد المتبعة في حلّ مشكل الحديث في مدرسة أهل البيت(عم)

   بعد أن تم التعرف على أهم أسباب الاستشكال في الحديث، ننتقل إلى بيان القواعد التي اعتمدتها مدرسة أهل البيت(عم) في حلّ مشكلات الأخبار، وذلك من خلال البحث في أجوبة العلماء وأراءهم حول حلّ تلك الإشكالات وتفنيدها.

والجدير بالذكر أن قواعد رفع مشكل الحديث التي توصل إليها العلماء اجتهادية وليست توقيفية، وبالتالي مجال الاجتهاد في الاستنباط فيها مستمرة حتى ظهور الإمام الحجةf فالعلماء لم يوصدوا الباب أمام الباحثين والمحققين، وهنا نستعرض أبرز الروايات التي كانت موضوعاً لاستنباط تلك القواعد بحسب فقه أهل البيت(عم) في هذا الشأن:

الرواية الأولى: بحسب ما نقله الحر العاملي عن عُمَرَ بْنِ حَنْظَلَةَ قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ(ع) عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِنَا بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ فِي دَيْنٍ أو مِيرَاثٍ فَتَحَاكَمَا، إِلَى أَنْ قَالَ: فَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ اخْتَارَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِنَا فَرَضِيَا أَنْ يَكُونَا النَّاظِرَيْنِ فِي حَقِّهِمَا واخْتَلَفَا فِيهمَا حَكَمَاً، وكِلاهُمَا اخْتَلَفَا فِي حَدِيثِكُمْ،‏ فَقَالَ: الْحُكْمُ مَا حَكَمَ بِهِ أَعْدَلُهُمَا وأَفْقَهُهُمَا وأَصْدَقُهُمَا فِي الْحَدِيثِ وأورَعُهُمَا، ولا يُلْتَفَتُ إِلَى مَا يَحْكُمُ بِهِ الْآخَرُ، قَالَ: فَقُلْتُ: فَإِنَّهُمَا عَدْلانِ مَرْضِيَّانِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا لا يُفَضَّلُ‏ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، قَالَ: فَقَالَ: يُنْظَرُ إِلَى مَا كَانَ مِنْ رِوَايَاتِهِمَا عَنَّا فِي ذَلِكَ الَّذِي حَكَمَا بِهِ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِكَ فَيُؤْخَذُ بِهِ مِنْ حُكْمِنَا ويُتْرَكُ الشَّاذُّ الَّذِي لَيْسَ بِمَشْهُورٍ عِنْدَ أَصْحَابِكَ، فَإِنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ لا رَيْبَ فِيهِ، إِلَى أَنْ قَالَ: فَإِنْ كَانَ الْخَبَرَانِ عَنْكُمْ مَشْهُورَيْنِ قَدْ رَوَاهُمَا الثِّقَاتُ عَنْكُمْ، قَالَ: يُنْظَرُ فَمَا وَافَقَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْكِتَابِ والسُّنَّةِ وخَالَفَ الْعَامَّةَ فَيُؤْخَذُ بِهِ ويُتْرَكُ مَا خَالَفَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْكِتَابِ والسُّنَّةِ ووَافَقَ الْعَامَّةَ ـ قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ الْفَقِيهَانِ‏ عَرَفَا حُكْمَهُ مِنَ الْكِتَابِ والسُّنَّةِ ووَجَدْنَا أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ مُوَافِقاً لِلْعَامَّةِ ـ والآخر مُخَالِفاً لَهُمْ بِأَيِّ الْخَبَرَيْنِ يُؤْخَذُ، فَقَالَ: مَا خَالَفَ الْعَامَّةَ فَفِيهِ الرَّشَادُ، فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَإِنْ وَافَقَهُمَا الْخَبَرَانِ جَمِيعاً، قَالَ: يُنْظَرُ إِلَى مَا هُمْ إِلَيْهِ أَمْيَلُ حُكَّامُهُمْ وقُضَاتُهُمْ فَيُتْرَكُ ويُؤْخَذُ بِالْآخَرِ، قُلْتُ: فَإِنْ وَافَقَ حُكَّامُهُمْ الْخَبَرَيْنِ جَمِيعاً، قَالَ: إِذَا كَانَ ذَلِكَ فَأَرْجِئْهُ حَتَّى تَلْقَى إِمَامَكَ فَإِنَّ الْوُقُوفَ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ خَيْرٌ مِنَ الِاقْتِحَامِ فِي الْهَلَكَاتِ»([47]).

وهذه الرواية كانت محط اهتمام الفقهاء وتحقيقاتهم في استنباط جملة من القواعد لحل التعارض بين الروايات وفق المسار والترتيب التالي:

 ـ إذا كان أحد الخبرين مشهور الرواية، والآخر شاذ الرواية، يؤخذ بالمشهور ويطرح الشاذ.

 ـ إذا كان أحد الخبرين موافقاً في حكمه لحكم الكتاب والسنة، والآخر مخالفاً في حكمه لحكم الكتاب والسنة يؤخذ بالموافق ويطرح المخالف.

 ـ إن كان أحد الخبرين موافقاً في حكمه لحكم قضاة وحكام العامة، والآخر مخالفاً لحكم قضاة وحكام العامة، يؤخذ بالمخالف، ويطرح الموافق. والمراد بالعامة في هذا السياق: «أولئك الرعاع وقادتهم من الفقهاء الذين كانوا يسيرون بركاب الحكام ويبررون لهم مجمل تصرفاتهم حتى لو اضطروا لوضع الأحاديث حتى أنه انتشر الوضع على عهدهم انتشاراً فظيعاً»([48]).

الرواية الثانية: بحسب ما جاء فِي عُيُونِ الْأَخْبَارِ «عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ الْمِيثَمِيِ‏ أَنَّهُ سَأَلَ الرِّضَا(ع) يَوْماً وقَدِ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وقَدْ كَانُوا يَتَنَازَعُونَ فِي الْحَدِيثَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ فِي الشَّيء الْوَاحِدِ، فَقَالَ(ع): «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ حَرَاماً وأَحَلَّ حَلالاً وفَرَضَ فَرَائِضَ، فَمَا جَاءَ فِي تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ أو فِي تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ أو دَفْعِ فَرِيضَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ رَسْمُهَا بَيِّنٌ قَائِمٌ بِلا نَاسِخٍ نَسَخَ ذَلِكَ فَذَلِكَ مَا لا يَسَعُ الْأَخْذُ بِهِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ(ص) لَمْ يَكُنْ لِيُحَرِّمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ ولا لِيُحَلِّلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ولا لِيُغَيِّرَ فَرَائِضَ اللَّهِ وأَحْكَامَهُ، كَانَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُتَّبِعاً مُسَلِّماً مُؤَدِّياً عَنِ اللَّهِ وذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ‏ ـ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا ما يُوحى‏ إِلَيَ‏ ـ فَكَانَ(ص) مُتَّبِعاً لِلَّهِ مُؤَدِّياً عَنِ اللَّهِ مَا أَمَرَهُ بِهِ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، قُلْتُ: فَإِنَّهُ يَرِدُ عَنْكُمُ الْحَدِيثُ فِي الشَّيء عَنْ رَسُولِ اللَّهِ(ص) مِمَّا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ ـ وهُو فِي السُّنَّةِ ثُمَّ يَرِدُ خِلافُهُ، فَقَالَ: كَذَلِكَ قَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ(ص) عَنْ أَشْيَاءَ نَهْيَ حَرَامٍ فَوَافَقَ فِي ذَلِكَ نَهْيُهُ نَهْيَ اللَّهِ، وأَمَرَ بِأَشْيَاءَ فَصَارَ ذَلِكَ الْأَمْرُ وَاجِباً لازِماً كَعِدْلِ فَرَائِضِ اللَّهِ فَوَافَقَ فِي ذَلِكَ أَمْرُهُ أَمْرَ اللَّهِ، فَمَا جَاءَ فِي النَّهْيِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ(ص) نَهْيَ حَرَامٍ ثُمَّ جَاءَ خِلافُهُ لَمْ يَسُغِ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ، وكَذَلِكَ فِيمَا أَمَرَ بِهِ؛ لِأَنَّا لا نُرَخِّصُ فِيمَا لَمْ يُرَخِّصْ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ(ص) ـ ولا نَأْمُرُ بِخِلافِ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ(ص) ـ إِلا لِعِلَّةِ خَوْفِ ضَرُورَةٍ، فَأَمَّا أَنْ نَسْتَحِلَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ(ص) ـ أو نُحَرِّمَ مَا اسْتَحَلَّ رَسُولُ اللَّهِ(ص) فَلا يَكُونُ ذَلِكَ أَبَداً؛ لِأَنَّا تَابِعُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ(ص) مُسَلِّمُونَ لَهُ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ(ص)تَابِعاً لِأَمْرِ رَبِّهِ مُسَلِّماً لَهُ، وقَالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَ: ‏ «وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» الحشر. وإِنَّ اللَّهَ نَهَى عَنْ أَشْيَاءَ لَيْسَ نَهْيَ حَرَامٍ بَلْ إِعَافَةٍ وكَرَاهَةٍ، وأَمَرَ بِأَشْيَاءَ لَيْسَ بِأَمْرِ فَرْضٍ، ولا وَاجِبٍ بَلْ أَمْرِ فَضْلٍ ورُجْحَانٍ فِي الدِّينِ، ثُمَّ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ لِلْمَعْلُولِ وغَيْرِ الْمَعْلُولِ، فَمَا كَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ(ص) نَهْيَ إِعَافَةٍ أو أَمْرَ فَضْلٍ فَذَلِكَ الَّذِي يَسَعُ اسْتِعْمَالُ الرُّخْصَةِ فِيهِ، إِذَا وَرَدَ عَلَيْكُمْ عَنَّا الْخَبَرُ فِيهِ بِاتِّفَاقٍ يَرْوِيهِ مَنْ يَرْوِيهِ فِي النَّهْيِ ولا يُنْكِرُهُ، وكَانَ الْخَبَرَانِ صَحِيحَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ بِاتِّفَاقِ النَّاقِلَةِ فِيهِمَا يَجِبُ الْأَخْذُ بِأَحَدِهِمَا أو بِهِمَا جَمِيعاً أو بِأَيِّهِمَا شِئْتَ وأَحْبَبْتَ، مُوَسَّعٌ ذَلِكَ لَكَ مِنْ بَابِ التَّسْلِيمِ لِرَسُولِ اللَّهِ(ص) والرَّدِّ إِلَيْهِ وإِلَيْنَا وكَانَ تَارِكُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْعِنَادِ والْإِنْكَارِ وتَرْكِ التَّسْلِيمِ لِرَسُولِ اللَّهِ(ص) مُشْرِكاً بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، فَمَا وَرَدَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَبَرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَاعْرِضُوهُمَا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ ـ فَمَا كَانَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَوْجُوداً حَلالاً أو حَرَاماً فَاتَّبِعُوا مَا وَافَقَ الْكِتَابَ ـ ومَا لَمْ يَكُنْ فِي‏ الْكِتَابِ ـ فَاعْرِضُوهُ عَلَى سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ(ص) ـ فَمَا كَانَ فِي السُّنَّةِ مَوْجُوداً مَنْهِيّاً عَنْهُ نَهْيَ حَرَامٍ ومَأْمُوراً بِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ(ص) أَمْرَ إِلْزَامٍ فَاتَّبِعُوا مَا وَافَقَ نَهْيَ رَسُولِ اللَّهِ(ص) وأَمْرَهُ ومَا كَانَ فِي السُّنَّةِ نَهْيَ إِعَافَةٍ أو كَرَاهَةٍ ثُمَّ كَانَ الْخَبَرُ الْأَخِيرُ خِلافَهُ فَذَلِكَ رُخْصَةٌ فِيمَا عَافَهُ رَسُولُ اللَّهِ(ص) وكَرِهَهُ ولَمْ يُحَرِّمْهُ فَذَلِكَ الَّذِي يَسَعُ الْأَخْذُ بِهِمَا جَمِيعاً وبِأَيِّهِمَا شِئْتَ وَسِعَكَ الِاخْتِيَارُ مِنْ بَابِ التَّسْلِيمِ والِاتِّبَاعِ والرَّدِّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ(ص) ـ ومَا لَمْ تَجِدُوهُ فِي شَيْ‏ءٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَرُدُّوا إِلَيْنَا عِلْمَهُ فَنَحْنُ أولَى بِذَلِكَ ولا تَقُولُوا فِيهِ بِآرَائِكُمْ وعَلَيْكُمْ بِالْكَفِّ والتَّثَبُّتِ والْوُقُوفِ وأَنْتُمْ طَالِبُونَ بَاحِثُونَ حَتَّى يَأْتِيَكُمُ الْبَيَانُ مِنْ عِنْدِنَا»([49]).

وعليه استنتج العلماء منها القاعدة الكلية التي أسموها «بالجمع العرفي» في حل ّالتعارض بين الأدلة في الحديث الشريف، وهي كما يلي:

1ـ الأخذ بخبر الراوي الأعدل والأفقه والأصدق.

 2ـ في حال كون الراويان عدلان، فإنه يؤخذ بالخبر المجمع عليه عند أصحابنا ويترك الخبر الشاذ.

3ـ في حال كان الخبران من المجمع عليهما عند الأصحاب، أخذ بالخبر الموافق لكتاب الله والسنة والمخالف لأهل العامة.

 4ـ في حال كان الخبران موافقين لأهل العامة، فإنه ينظر فيما كان حكمهم وقضاتهم إليه أميل فيترك، ويؤخذ بالآخر.

 5ـ في حال تساوى الخبران، يرجئان إلى لقاء الإمام(ع)، أي الوقوف على الحديثين.

 6ـ التخيير بالعمل بأي من الخبرين فيما لو ظهر التنافي بينهما تنافي إعافة وكراهة؛ لأنها تكون توسعة على المكلفين.

 7ـ الرد على المعصوم(ع) إن لم يمكن الجمع، ولا يجوز العمل بالرأي([50]). ولعل هناك تداخل بين الخامس والسابع، حيث لم نجد فارقاً بينهما في المقصد.

وفيما يلي نذكر أهم قواعد حلّ الإشكالات في علم مشكل الحديث حسب اجتهاد العلماء الأعلام باختصار:

القاعدة الأولى: الجمع العرفي

 التعارض في الأدلة الشرعية تعتبر من مشكلات الحديث وهي قضية مستمرة من زمن المعصوم إلى يومنا هذا، وهو على قسمين:

1ـ تعارض مستقر: يمتنع صدوره من المعصوم، ولذا حكم الفقهاء بإهمال الدليلين إن وجدا.

 2ـ تعارض غير مستقر: وهو المعبر عنه بالجمع العرفي حيث قالوا العقل يحكم بأن الجمع أولى من الطرح، كما هو مؤدى رواية الميثمي عن الرضا(ع) بحمل النهي على الكراهة، والأمر على الاستحباب، وحمل العام على الخاص والمطلق على المقيد، والحاكم على المحكوم، والوارد على المورود.

وعليه فالنظريّة العامّة للجمع العرفي وفق بيان «الشيخ العاملي»: بأن يكون دلالة التنافي الظاهر بين الدليلين، إحداهما مفسِّرة للأخرى، بحيث تكون الدلالة المفسِّرة موجِبة للتغيير والتبديل في الدلالة المفسَّرة، فيجمع بين الدلالتين بحمل الدلالة المفسَّرة على الدلالة المفسِّرة([51]).

 والحقيقة أن التناقض الظاهري بين الدليلين: إما أن يكون مجرى لنسخ أحدهما الآخر أو لحمل أحدهما على الآخر حملاً عرفياً، أو أن يكون لكل مقام مقال خاص يتعلق بظروف موضوعه الخاصة به،.. أو يكون صادراً عن تقية واقعاً…

القاعدة الثانية: معرفة معاريض الكلام

المدرَك لهذه القاعدة ما ورد عن أبي عبد الله(ع) أنه قال: «حديث تدريه خير من ألف ترويه، ولا يكون الرجل منكم فقيهاً حتى يعرف معاريض كلامنا، وإن الكلمة من كلامنا لتنصرف على سبعين وجهاً، لنا من جميعها المخرج»([52]).

ولا شك أن لمعرفة أحوال اللغة ومعانيها دور مهم في حلّ الإشكالات التي يمكن أن ترد في حق بعض الروايات الشريفة، فاللفظ قد يكون شرعياً، وقد يكون لغوياً، وقد يكون عرفياً، واللفظ اللغوي له عدة أنواع من المعاني منها:

1ـ المعنى الحقيقي: وهو دلالة الكلام على ما وضع له بالأصل من الواضع.

2ـ المعنى المجازي: وهوما يدل على معنى ملازم لما وضعه الواضع في أصل الوضع.

3ـ المشترك المعنوي: وهو تعدد المعنى للفظ واحد، فقد يأتي اللفظ ويراد منه معنى دون معنى آخر، ولذا ينبغي معرفة اللغة واستعمالاتها، لتحديد المراد دون غيره، وهذا ما نوه إليه الإمام الصادق(ع) لدَاودَ بْنِ فَرْقَدٍ حيث قال: «أَنْتُمْ أَفْقَهُ النَّاسِ إِذَا عَرَفْتُمْ مَعَانِيَ كَلامِنَا إِنَّ الْكَلِمَةَ لَتَنْصَرِفُ عَلَى وُجُوهٍ فَلَوشَاءَ إِنْسَانٌ لَصَرَفَ كَلامَهُ كَيْفَ شَاءَ ولا يَكْذِبُ»([53]).

القاعدة الثالثة: النسخ

لمعرفة الناسخ والمنسوخ أهمية كبيرة في علم الحديث، فهو من ضروريات الفقه والاجتهاد، فقد روي أن أمير المؤمنين(ع) قال: «لِقَاضٍ هَلْ تَعْرِفُ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ، قَالَ: لا، قَالَ: فَهَلْ أَشْرَفْتَ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ فِي أَمْثَالِ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: لا، قَالَ(ع): إِذاً هَلَكْتَ‏ وأَهْلَكْتَ، والْمُفْتِي يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَعَانِي الْقُرْآنِ، وحَقَائِقِ السُّنَنِ، وبَوَاطِنِ الْإِشَارَاتِ، والْآدَابِ، والْإِجْمَاعِ، والِاخْتِلافِ، والِاطِّلاعِ عَلَى أُصُولِ مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، ومَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، ثُمَّ إِلَى حُسْنِ الِاخْتِيَارِ، ثُمَّ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، ثُمَّ إِلَى الحِكْمَةِ، ثُمَّ إِلَى التَّقْوَى، ثُمَّ حِينَئِذٍ إِنْ قَدَر»([54]).

وبناء عليه فلا شك في وقوع النسخ في مرحلة الجعل والمجعول، والخلاف إنما يقع في سعة دائرته ومصاديقه المتعينة وفق الأدلة المعتبرة، ولذا نجد جدلاً طويلاً دار ويدور حول وقوع النسخ في كثير من الآيات والأحاديث، وقد ذهب «المازندراني» تبعاً لأكثر علمائنا إلى أن وقوع النسخ قليل، والأصل عند الشك عدم النسخ، ولذا لابد من دليل قاطع، فقد جاء في كلام عن علي(ع) ما فيه إشارة عامة إلى ذلك حيث قال: «لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا(ص) بقول أعرابي يبول على عقبيه…([55]).

ولما كانت قاعدة النسخ معتمَدة في حلّ الإشكال الوارد بين حديث وأخر، كان لابد أن نتعرف على معنى النسخ بشكل مختصر.

فالنسخ في اللغة: الإزالة، كإزالتك أمراً كان يعمل به، ثم تَنْسَخُهُ بحادث غيره. كالآية تنزل في أمر، ثم يخفف فتنسخ بأخرى، فالأولى‏ مَنْسُوخَةٌ، والثانية نَاسِخَةٌ([56]).

وعرف «الخوئي» النسخ بأنه: « ارتفاع الحكم المولوي بانتهاء أمده ولو على سبيل الامتحان والاختبار»([57]).

وعرفه المشكيني بأنه: «ارتفاع الحكم الكلي المجعول للأمة في الشريعة عن موضوعه الكلي لأجل تمام أمده وانتفاء الملاك في جعله»([58]).

وقد ذكرت وجوهاً أربعة لنسخ السنّة بالسنّة كلها جائزة إلا واحدة وهي:

الأول: نسخ السنّة المتواترة بالمتواترة.

الثاني: نسخ خبر الواحد بمثله.

الثالث: نسخ الآحاد بالمتواترة.

الرابع: نسخ المتواتر بالآحاد. وقد بين «النووي» أن الثلاثة الأولى جائزة بلا خلاف، وأما الرابع فلا يجوز([59]).

القاعدة الرابعة: التوقف على الرواية وعدم ردها، أو الإرجاء

 لا شك أن القول بلا علم منهي عنه على وجه التحريم في الكتاب والسنّة، ولذا حكم العلماء في حال حصول التضاد بين الروايات وعدم العلم بالمتقدم منها بوجوب التوقف([60]). فقد وردت أخبار تأمر بالتوقف والإرجاء في موارد تعارض الخبرين تعارضاً مستقراً، وضرورة عدم الأخذ بشيء منهما، وردّ علمه إلى الأئمة(عم)([61]).

وقد تم الاستدلال على هذه القاعدة من خلال عدد من الروايات أبرزها:

عن أبي عبيدة الحذاء قال: «سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ(ع) يَقُولُ‏: واللَّهِ إِنَّ أَحَبَّ أَصْحَابِي إِلَيَّ أورَعُهُمْ وأَفْقَهُهُمْ وأَكْتَمُهُمْ لِحَدِيثِنَا، وإِنَّ أَسْوَأَهُمْ عِنْدِي حَالاً وأَمْقَتَهُمْ لَلَّذِي‏ إِذَا سَمِعَ الْحَدِيثَ يُنْسَبُ إِلَيْنَا ويُرْوَى عَنَّا، فَلَمْ يَقْبَلْهُ اشْمَأَزَّ مِنْهُ وجَحَدَهُ، وكَفَّرَ مَنْ دَانَ بِهِ وهُولا يَدْرِي لَعَلَّ الْحَدِيثَ مِنْ عِنْدِنَا خَرَجَ وإِلَيْنَا أُسْنِدَ، فَيَكُونُ بِذَلِكَ خَارِجاً عَنْ وَلايَتِنَا»([62]). وبناء عليه أوضح «الميرداماد» أن الأخبار على ثلاثة ضروب:

1ـ ضرب يجب تصديقه: وهو ما نصّ الأئمة على صحة وروده.

2ـ وضرب يجب تكذيبه: وهو ما نصّوا على وضعه.

3ـ وضرب يجب التوقّف‏ فيه([63]).

 

القاعدة الخامسة: التخيير

 من القواعد المهمة التي ينبغي الرجوع إليها عند تعذر الترجيح لأحد الخبرين المتعارضين، الانتقال إلى قاعدة تسمى «التخيير»، حيث لا تصل النوبة إلى إعمال قاعدة التساقط([64]). وهو ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري من اعتماد التخيير حيث لا يمكن الترجيح بين الروايات بالأخذ بمؤدى إحداهما، أو إحداها([65]). استناداً لما رواه سَمَاعَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ(ع) قَالَ: «سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ رَجُلانِ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ فِي أَمْرٍ كِلاهُمَا يَرْوِيهِ، أَحَدُهُمَا يَأْمُرُ بِأَخْذِهِ والْآخَرُ يَنْهَاهُ عَنْهُ كَيْفَ يَصْنَعُ قَالَ: يُرْجِئُهُ حَتَّى يَلْقَى مَنْ يُخْبِرُهُ، فَهُو فِي سَعَةٍ حَتَّى يَلْقَاهُ»([66]). فالمراد «بالسعة هو التخيير باعتماد أحدهما حتى يحصل له اليقين. وكذا ذهب الشيخ الروحاني إلى أنه لو أمكن الجمع العرفي بين النصوص تعيّن، ومع عدم إمكانه إن كان لبعض الأطراف مرجح من المرجحات المنصوصة يقدم ذلك، وإلا تخيّر في العمل بأيّها شاء([67]).

 ولعلّ الرواية قاصرة عن إفادة تعيين التخيير وهو ما ألمح إليه «الشهيد الصدر» حيث ذكر احتمالاً آخر قوياً فقال: «بأن بالإمكان أن يراد بالسعة هنا عدم كونه ملزماً بالفحص السريع وشد الرحال إلى الإمام فوراً، وأنه لا يطالب بتعيين الواقع حتى يلقى الإمام حسب ما تقتضيه الظروف والمناسبات، وأما ماذا يعمل خلال هذه الفترة فلا تكون الرواية متعرّضة له مباشرة، ولكن مقتضى إطلاقها المقامي أنه يعمل نفس ما كان يعمله قبل مجيء الحديثين المتعارضين، وعلى هذا الاحتمال لا تدل الرواية على الحجية التخييرية»([68]).

 ولعل ما احتمله الشهيد الصدر هو الأظهر فالرواية تتوافق مع روايات التوقف والرد إلى قائلهما للتبين وهو معنى « يرجئه حتى يلقى من يخبره» وأما قيد «فهو في سعة حتى يلقاه» فإن قلنا بإفادة «التخيير» حصل التناقض مع «الإرجاء» الوارد في نفس الرواية، ولا يتصور حدوث التناقض في كلام الإمام! وعليه يكون المراد قيد «السعة..» معنىً تفسيرياً وليس احترازياً، ينشأ منه بالملازمة التقرير لما كان يصنعه سابقاُ قبل مجيء الخبرين.

القاعدة السادسة: الحمل على التقيّة

ولعل التعارض الموجود بين الأخبار والروايات يمكن حلّه من خلال حمل أحدها على التقية في بعض الموارد، لما ورد عن أهل البيت(عم)صدور مثل ذلك منهم لضرورة شرعية، فقد جاء في «الكافي» عَنْ أَبِي عَمْرٍو الْكِنَانِيِّ قَالَ: «قَالَ أَبُوعَبْدِ اللَّهِ(ع): ‏ يَا أَبَا عَمْرٍو أَ رَأَيْتَكَ لَو حَدَّثْتُكَ بِحَدِيثٍ أو أَفْتَيْتُكَ بِفُتْيَا، ثُمَّ جِئْتَنِي بَعْدَ ذَلِكَ فَسَأَلْتَنِي عَنْهُ فَأَخْبَرْتُكَ بِخِلافِ مَا كُنْتُ أَخْبَرْتُكَ أو أَفْتَيْتُكَ بِخِلافِ ذَلِكَ، بِأَيِّهِمَا كُنْتَ تَأْخُذُ؟ قُلْتُ: بِأَحْدَثِهِمَا وأَدَعُ الْآخَرَ، فَقَالَ: قَدْ أَصَبْتَ يَا أَبَا عَمْرٍو أَبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُعْبَدَ سِرّاً، أَمَا واللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ إِنَّهُ لَخَيْرٌ لِي ولَكُمْ وأَبَى اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ لَنَا ولَكُمْ فِي دِينِهِ إِلا التَّقِيَّةَ»([69]).

فالتقية: «هي ما يقال أو يفعل مخالفاً للحق؛ لأجل توقي الضرر»([70]). وقيل: «هي التحفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحق»([71]). وللتقية ـ بحسب سعة متعلقها ـ حالات ثلاث([72]):

1ـ تارة تكون لدفع الضرر عن المتكلم.

2ـ وتارة تكون لدفع الضرر عن شخص المخاطب.

3ـ وتارة تكون للحفاظ على كيان الوجود الشيعي وصونه عن المخاطر بشكل عام

 وتنقسم التقية بحسب نوع الحكم الشرعي إلى الأحكام الخمسة الجواز والكراهة والاستحباب والوجوب والتحريم، كما يلي([73]):

أوّلاً: التقية الواجبة: وهي ما كانت لدفع ضرر واجب فعلاً، متوجهاً إلى نفس المتقي، أو عرضه، أو ماله، أو إخوانه المؤمنين، بحيث يكون الضرر جسيماً، شرط ألا تؤدي إلى فساد في الدين أو المجتمع.

ثانياً: التقية المستحبة: وهي ما كان تركها مفضياً إلى الضرر تدريجياً، ويكون استعمالها موجباً للتحرز من الضرر ولو مستقبلاً. ومن أمثلتها مفاد أحاديث المداراة والمعاشرة، ومخالقة الناس بأخلاقهم ومخالفتهم بأعمالهم، حتى لا يؤدي ترك ذلك إلى المباينة المؤدية إلى العداوة والضرر لاحقاً، حيث لا يمكنه الانتقال بعيداً عنهم، ولا مقاومتهم.

ثالثاً: التقية المباحة: وهي ما كان فيها التحرز من الضرر مساوياً لعدم التحرز منه في نظر الشارع المقدس، لكون المصلحة المترتبة على استخدام التقية أو تركها متساويتين؛ كما في إظهار كلمة الكفر إذا كان الإكراه عليه بالقتل، فإن في فعل ـ التقية في البين ـ مصلحة وهي النجاة من القتل، وفي تركها مصلحة أيضاً وهي إعلاء كلمة الإسلام. ولا يخفى أن هذا يكون في حالة كون المتقي ليس قدوة للمسلمين، وأما القدوة فعليه أن يوطن نفسه للقتل كما فعل حجر بن عدي وغيره.

رابعاً: التقية المحرمة: وهي ما يترتب على تركها مصلحة عظيمة، وعلى فعلها مفسدة جسيمة. والواقع أن هذا القسم يعد من أهم أقسام التقية بلحاظ حكمها، لما فيه من خطورة على كيان الدين وبيضة الإسلام باعتبار أن المكلف قدوة للمسلمين.

خامساً: التقية المكروهة: وهي إتيان مستحباً عند المخالفين مع عدم خوف الضرر لا عاجلاً ولا آجلاً، مع كون ذلك الشيء المستحب مكروها في الواقع، وإلا لو كان حراماً فالتقية بإتيانه لموافقتهم حرام.

مثال تطبيقي: ورد عن علي بن النعمان عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله(ع)، قال: قلت: الرجل يموت في السفر في أرض ليس معه إلا النساء، قال: يُدفن ولا يغسل، والمرأة تكون مع الرجال بتلك المنزلة تدفن ولا تغسل إلا أن يكون زوجها معها، فإن كان زوجها معها غسلها من فوق الدرع، ويسكب الماء عليها سكباً، ولا ينظر إلى عورتها، وتغسله امرأته إن مات، والمرأة ليست بمنزلة الرجال، المرأة أسوء منظر إذا ماتت.

ويعارضه حديث حمله العلماء على التقية لموافقته مذهب بعض العامة، مفاده جواز تغسيل المرأة لزوجها؛ لكونها في عدة الوفاة، وعدم جواز تغسيل الرجل زوجته باعتبارها تبيْن عنه بالموت، فقد روى الأهوازي عن ابن أبي عمير عن حماد بن عثمان عن زرارة عن أبي عبد الله(ع): «في الرجل يموت وليس معه إلا نساء، فقال: تغسله امرأته منها؛ لأنها منه في عدة، فإذا ماتت لم يغسلها، لأنه ليس منها في عدة»([74]).

القاعدة السابعة: إسقاط الرواية

   التاريخ هو أحد المعايير المهمة في نقد الحديث لما يشكّله من دليل لبيً قطعي يكشف حقيقة كثير من القضايا، فكم من روايات تحمِل مفاهيماً وأفكاراً تخالف ما أجمع عليه المؤرخون، مما يؤدي إلى وضوح الإشكال فيها ويشم فيه رائحة الوضع.

ومن الأمثلة على ذلك ما روي عن أنس بن مالك قال: «أقبل رسول الله(ص) من غزوة تبوك فاستقبله سعد بن معاذ الأنصاري، فصافحه النبي(ص) ثم قال له: ما هذا الذي أكتبت يداك؟ فقال يا رسول الله أضرب بالمرّ والمسحاة فأنفقه على عيالي، قال: فقبل النبي(ص) يده وقال: هذه يد لا تمسها النار أبداً»([75]).

فهذا الخبر مخالف لما تسالم عليه أهل السير من المؤرخين، لأن سعد بن معاذ توفي سنة خمس من الهجرة وغزوة تبوك كانت في السنة التاسعة من الهجرة. ولهذا صنف الحديث ابن الجوزي ضمن الموضوعات قائلاً ما أجهل واضعه بالتاريخ([76]).

وكذا روي أنه(ع) سئل عن أول بيت وضع للناس فقال: «المسجد الحرام ثم بيت المقدس»([77]).

ويؤيده ما رواه العسكري: «أول بيت بني الكعبة. قال الله تعالى:﴿إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً…﴾. وبكة موضع البيت ومكة اسم البلد» ([78]).

ويعارضه ما رواه الحاكم في المستدرك عن خالد بن عرعرة قال: «سأل رجل علياً رضي الله عنه عن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً أهو أول بيت بنى في الأرض قال: لا، ولكنه أول بيت وضع فيه البركة والهدى ومقام إبراهيم، ومن دخله كان آمناً»([79]). وهذا الحديث مخالف لما عليه الأمة الإسلامية والواقع.

ثامناً: نموذج تطبيقي حول الرواية الناطقة بكون الزهراء(عا) «حوراء إنسية»

نقل المحدثون من الفريقين بطرق مختلفة بحدّ الاستفاضة روايات تصف الزهراء بأنها حوراء إنسية وقد اكتفينا بذكر نموذج منها لبيان «علم مشكل الحديث» حيث تصرح بأن الزهراء(عا) «حوراء إنسية» كما أورده البحراني وغيره عن سليمان الأنصاري قال: كنا جلوساً في مسجد النبي(ص) إذ أقبل علي(ع) فتحفّى له النبي(ص) وضمه إلى صدره، وقبّل ما بين عينيه، وكان له عشرة أيام منذ دخل بفاطمة(عا)، فقال: ألا أخبرك عن عرسك شيئاً؟ قال: إن شئت فافعل صلى الله عليك، قال: هذا جبرئيل(ع)، قال: تشاجر آدم وحواء في الجنة، فقال آدم: يا حواء ما هذه المشاجرة؟ فقالت: يقع لنا ما خلق الله أحسن منّي ومنك، فأوحى الله إليه يا آدم طف الجنة فانظر ماذا ترى. قال: فبينما آدم يطوف في الجنة إذ نظر إلى قبة بلا علاَقة من فوقها، ولا دعامة من تحتها، داخل القبة شخص على رأسه تاج، في عنقه خناق، في أذنيه قرطان، فخرّ آدم ساجداً لله، فأوحى الله إليه: يا آدم ما هذا السجود، وليس موضعك موضع سجود ولا عبادة؟ فقال آدم: يا جبرئيل ما هذه القبة التي رايتها؟ ما رأيت أحسن منها؟! فقال: إن الله عزَّ وجلَّ، قال لها: كوني فكانت، قال: فمن هذا الشخص الذي داخلها؟ قال: شخص جارية «حوراء إنسية» تخرج من ظهر نبي يقال له محمد(ص)، قال: فما هذا التاج الذي على رأسها؟ قال: هو أبوها محمد(ص)، قال: فما هذا الخناق الذي في عنقها؟ قال: بعلها علي بن أبي طالب(ع)، قال: ما هذان القرطان اللذان في أذنيها؟ قال: هما قرطا العرش وريحانتا الجنة، ولداها الحسن والحسين عليهما السلام، قال: فكيف ترد القيامة هذه الجارية؟ قال: إن الله يقول: ترد على ناقة ليست من نوق دار الدنيا، رأسها من بهاء الله، ومؤخرها من عظمة الله، وخطامها([80]) من رحمة الله، وقوائمها من خشية الله، ولحمها وجلدها معجونان بماء الحيوان، قال الله: كن فكانت، يقود زمام الناقة سبعون ألف صفٍ من الملائكة، كلهم يقولون غضوا أبصاركم يا أهل الموقف حتى تجوز الصّدّيقة سيدة النساء فاطمة الزهراء(عا)»([81]).

المتدبر في الرواية يتبادر لذهنه عدة إشكالات تحتاج إلى حلّ منطقي علمي شافٍ وافٍ وفق ما أثبته العلماء من حلً لقواعد حلّ التعارض، ويمكن تقريب الإشكالات كما يلي:

1ـ كيف نثبت خلْقاً وجودياً للزهراء قبل ولادتها؟

2ـ المعلوم أن فاطمة الزهراء(عا) إنسية من ولد آدم، فكيف تكون حوراء إنسية؟

3ـ كيف يمكن تصور النبي وعلي والحسنين بغير صورتهم المادية الدنيوية؟

4ـ لعل الرواية من الموضوعات، لأنه ثبت أن ولادة الزهراء كانت قبل حادثة الإسراء والمعراج تاريخياً.

الجواب عن الإشكال الأول المتمثل بالوجود التكويني للزهراء قبل ولادتها، ويمكن تصوره اعتماداً على قاعدة الجمع العرفي بين الحديث الشريف والقرآن الكريم وذلك أن ثبوت الحقائق الخارجية في مفاد كان التامة ـ خارج الزمان المادي ـ أمر ثابت لا إشكال فيه لمن اطلع على القرآن والسنّة، فقد قسم صدر المتألهين العوالم إلى ثلاثة أقسام([82]) بحسب ما وضحها المازندراني([83]):

الأول: عالم المجردات الصّرفة: المعبر عنه بعالم العقول والنفوس الناطقة، وطبيعة تلك الموجودات أنها عارية عن المواد وعن المقادير.

الثاني: عالم المثال: حيث يشتمل على موجودات مجردة عن المادة دون المقدار.

الثالث: عالم الماديات: وهو ظاهر.

وكذا أثبت الصوفية عالَماً أوسطاً بين عالم الأجساد والأرواح سموه «عالم المثال» وقالوا هو ألطف من عالم الأجساد، وأكثف من عالم الأرواح، وبنوا على ذلك تجسد الأرواح وظهورها في صور مختلفة من عالم المثال، وقد يستأنس لذلك بقوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً﴾ (مريم: 17)، فتكون الروح الواحدة كروح جبريل مثلاً في وقت واحد مدبراً لشبحه الأصلي ولهذا الشبح المثالي، بهذا ينحلّ ما قد اشتهر نقله عن بعض الأئمة أنه سأل بعض الأكابر عن جسم جبريل فقال: أين كان يذهب جسمه الأول الذي سدّ الأفق بأجنحته لما تراءى للنبي(ص)في صورته الأصلية عند إتيانه إليه في صورة دحية الكلبي.([84])

 وبالعودة للقرآن الكريم نجده قد صرّح بوجود مخلوقات نورانية روحانية قبل عالم المادة، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ (الأعراف: 172). وذلك باعتبار تعدد العوالم، كعالم الذّر، وعالم المادة، وقد ثبت علم الله الأزلي بما كان، وما يكون، وما هو كائن كما هو محقق لدى العلماء مفصلاً، وعليه فالرواية تتخطى حدود قالب الزمان، لتكشف من عالم الوجود المادي للزهراءh عن أسرار تكوين الزهراء الملكوتي في عالَم المثال الأول، حيث إن آدم(ع) ليغبطها عليه لحسنه وبهائه. ثم تنتقل منه إلى عالم المثال الثاني يوم المحشر مصورة فيه مشهداً مهيباً لعظمة مقامها أمام الخلق كله.

الإشكال الثاني المتمثل بتكوّن الزهراء من الحور العين والطين؟ ويمكن حلّه اعتماداً على قاعدة الجمع العرفي بين الروايات أيضاً، اعتماداً على التفسيرات والتعليلات التي بينته الروايات كما يلي:

1ـ أنّ التكوين الدنيوي للزهراء(عا) خليط من أمشاج مثالية ومادية، بأبهى صورها([85]). فإن التكوين الخلقي للحور العين وفق ما نقله «الطبرسي» من احتجاج الإمام الصادق(ع) على «الزنديق» في بيان طبيعة الزهراء تكويناً يمكن تفسيره بذلك، فقوله(ع): «أن الحوراء خلقت من الطيب لا تعتريها عاهة ولا يخالط جسمها آفة، ولا يجري في ثقبها شيء، ولا يدسها حيض، فالرحِم ملتزقة ملدم، إذ ليس فيها لسوى الإحليل مجرى»([86]). وذلك أن نطفتها تشكلت من مزيج عالمين مختلفتين، عالم الروح وعالم المادة، وفق ما صرحت به روايات المعراج المتعددة بألفاظها المتعددة، حيث قال الرسول(ص): « لما عُرج بي إلى السماء أخذ جبرئيل بيدي وأدخلني الجنة وناولني من رطبها وثمارها فأكلته فتحول إلى نطفة في صلبي، فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة.. ففاطمة ابنتي حوراء إنسية كلما اشتقت إلى رائحة الجنة شممْت ريحها، وإنها لتقف في محرابها تصلي، فيصلي خلفها سبعون ألف ملك»([87]).

وفي حديث آخر للرسول(ص) بعد سؤال بعض الصحابة له باستغراب عن طبيعة خلقة الزهراء النورانية، حيث انتقلت إلى صلبه بأكل تلك التفاحة المباركة في جنة الخلد ذات الطبيعة النوارنية، حيث ورد عن الصادق، عن آبائه (عم)، قال: قال رسول الله(ص): خلق الله نور فاطمة قبل أن يخلق الأرض والسماء، فقال بعض الناس: يا نبي الله! فليست هي إنسية؟ فقال(ص): فاطمة حوراء إنسية، قالوا: يا نبي الله! وكيف هي حوراء إنسية؟. قال(ص): خلق الله عز وجل إياها من نوره قبل أن يخلق آدم(ع)، إذ كانت الأرواح، فلما خلق الله آدم عرضت على آدم، قيل: يا نبي الله وأين كانت فاطمة؟ قال: كانت في حقة([88]) تحت ساق العرش، قالوا: يا نبي الله فما كان طعامها؟. قال(ص): التسبيح والتهليل والتمجيد، فلما خلق الله عز وجل آدم(ع)وأخرجني من صلبه، وأراد الله عزَّ وجلَّ أن يخرجها من صلبي جعلها تفاحة في الجنة، وأتاني بها جبرئيل فقال لي: السلام عليك ورحمة الله وبركاته يا محمد، قلت: وعليك السلام ورحمة الله حبيبي جبرئيل، فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام، قلت: منه السلام وإليه يعود السلام، قال: يا محمد إن هذه تفاحة أهداها الله عز وجل إليك من الجنة. فأخذتها وضممتها إلى صدري، قال: يا محمد يقول الله جل جلاله: كلها، ففلقتها فرأيت نوراً ساطعاً وفزعت منه، فقال: يا محمد مالك لا تأكلها؟ كلها ولا تخف فإن ذلك النور للمنصورة في السماء، وهي في الأرض فاطمة، قلت: حبيبي جبرئيل ولم سميت في السماء المنصورة وفي الأرض فاطمة؟ قال: لأنها تفطم شيعتها من النار وأعداءها عن حبها، وهي في السماء المنصورة، وذلك قوله تعالى: ﴿ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء﴾ (الروم: 4 ـ 5)، يعني نصر فاطمة لمحبيها»([89]).

2ـ فاطمة الزهراء(عا) حورية تكويناً بصورة الإنس، حسبما ورد في كتاب «البحار» عنه(ص):» فاطمة حوراء إنسية»، وفي رواية أخرى: « حوراء آدمية لم تطمث ولم تحض» يقصد منه ما عبّر عنه في حديث آخر:» إن فاطمة خلقت حورية في صورة إنسية»([90]).

3ـ وقيل إنها قد خلقت من أنوار عدة بحسب ما ورد في الروايات، فهي تنسجم وسنّة التدرج لمراحل خلق هذا النور كما يلي:

ـ مرحلة خلقها من نور الله تعالى.

ـ مرحلة خلقها من نور عظمة الله جل شأن.

ـ مرحلة خلقها من نور عرش الله عز وجل.

ـ مرحلة خلقها من نور المصطفى(ص).

ـ مرحلة خلقها من نور الوصي علي(ع).

ويمكن تصوير ذلك بأنه أشبه ما يكون بمراحل تكوين الجنين في رحم أمه، فإنه يحتاج إلى أربعين أسبوعاً حتى يتمكن من الظهور بهذا الشكل الذي قدره الله تعالى؛ وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المراحل التكوينية في قوله تعالى: ﴿ثم خلقنا النطفة علقةً فخلقنا العلقة مضغةً فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين﴾ (المؤمنون: 13).

وهذه السنة التكوينية نجدها أيضاً في خلقه تعالى للسماوات والأرض، فقد جعل مراحل تكوينها في ستة أيام كي يأخذ الزمن استحقاقه في الخلق، وإلا فقوله﴿:إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون﴾ (يس: 82)([91]).

ولعل الباحث قد أخطأ في الصغرى إذ لا خلاف في أن التدرج في الخلق سنة من سنن الله، ولكن الاستفادة من ذلك في خلق الزهراء(عا) اعتماداً على ما ساقه من الروايات فيه تأمل، بل لعلها ناظرة إلى أن نورها من سنخية نور الله الذي هو نور عرشه ونور عظمته الذي خلق منه أبوها وبعلها وبنيها إذ لا فرق بين تلك الأنوار إلا بالاسم دون المسمى، فالسنخية واحدة والاختلاف بينها تشكيكي رتبي. ولعل هذا المعنى ينسجم مع بعض مقاصد الحديث النبوي الشريف في حق الإمام الحسين(ع): « حسين مني وأنا من حسين»([92]).

الإشكال الثالث الذي مفاده، كيفية تمثّل النبي وعلي والحسنين بغير صورهم المادية في الجنة؟ ويمكن الجواب عنه كما بيناه من تعدد عوالم الخلق اعتماداً على قاعدة الجمع العرفي بين الروايات والآيات، وكذا يمكن تطبيق قاعدة معاريض كلام الأئمة الواردة عن أبي عبد الله(ع) أنه قال: «حديث تدريه خير من ألف ترويه، ولا يكون الرجل منكم فقيهاً حتى يعرف معاريض كلامنا، وإن الكلمة من كلامنا لتنصرف على سبعين وجهاً، لنا من جميعها المخرج»([93]).

هذا.. ولعل المراد من ذلك التكوين للزهراء(عا) المعنى المجازي المتوافق والتمثيل الرمزي الذي ينسجم والتصوير الفني لإبراز الصورة الأعلى وقعاً وبلاغة وأثراً وعظمة في النفس؛ لتضفي على شأن الزهراء(عا) ومقامه حسناً وجلالاً وجمالاً.

الإشكال الرابع وهو من أهم الإشكالات حيث ينفي صدور الرواية فضلاً عن صحتها ليحيلها إلى الموضوعات اعتماداً على قاعدة التوثيق التاريخي لولادة الزهراء(ع) قبل البعثة.

والحقيقة أنه لو ثبت المدعى بأن ولادتها كانت قبل البعثة الشريفة؛ لكان جديراً بأن نحيل الرواية إلى قائمة الموضوعات حسب قواعد حلّ مشكل الحديث المعتبرة، وذلك لثبوت عدة ملازمات([94]):

1ـ ألا تكون نطفتها قد انعقدت من طعام الجنة.

2ـ أن لا تكون قد ولدت الزهراء على فطرة الإسلام.

3ـ عدم تواجد بعض سادة نساء أهل الجنة مع أمها لاستقبالها وقت ولادتها، أعني مريم بنت عمران، وكلثم أخت الكليم موسى(ع) وآسية بنت مزاحم، وسارة زوج خليل الرحمان(ع).

 ولعل ابن الجوزي من أبرز منتقدي المحدثين الذين دوّنوا الرواية في مصنفاتهم دون غمزً لها منهم، حيث قال: « هذا حديث موضوع لا يشك المبتدئ في العلم في وضعه، فكيف بالمتبحر؟ ولقد كان الذي وضعه أجهل الجهال بالنقل والتاريخ، فإن فاطمة ولدت قبل النبوة بخمس سنين ـ إلى أن قال ـ وذكره الإسراء كان أشد لفضيحته فإن الإسراء كان قبل الهجرة بسنة بعد موت خديجة….وقد كان لفاطمة من العمر ليلة المعراج سبع عشرة سنة»([95]).

ولقد أجاب عن الإشكال بعض الباحثين([96]) فقال: «لا يخفى أن الكبرى التي استند إليها ابن الجوزي مسلّمة كما بينا في القواعد، إلا أن الكلام كله في التطبيق، أعني في جعل تاريخ رواية الميلاد الميمون من صغريات هذه الكبرى، إذ إن كلامه يعتمد على تمامية ما استند إليه في مقام إثبات الوضع من مخالفة الخبر لتاريخ ولادتها المبارك، وحتى يتم ما ذكره لابد من إثبات أمرين:

الأوّل: التسالم على أن المقطوع به بين المؤرخين كون حادثة الإسراء والمعراج وقعت قبل الهجرة النبوية بسنة واحدة بعد موت سيدتنا خديجة(عا)فمن الطبيعي أنه وفقاً لهذا لا يتصور إثبات ولادة للسيدة الزهراء(عا) لأنه يستلزم أن يكون عمرها الشريف يوم الهجرة سنة واحدة، وهو مخالف لما هو المقطوع به بين المؤرخين.

الثاني: التسالم والقطع بين المؤرخين على تحديد ولادة السيدة الزهراء(عا)، قبل البعثة النبوية الشريفة بخمس سنين عندما كانت قريش تبني البيت الحرام.

فإذا تم هذان الأمران كان ما ذكره ابن الجوزي صحيحاً، وإلا فلا إشكال في عدم ثبوت كلامه.

والصحيح هو عدم تماميّة كلا الأمرين اللذين استند إليهما ابن الجوزي كقرينتين تساعدان على جعل رواية الولادة الشريفة من الموضوعات، وتوضيح ذلك:

أما بالنسبة للأمر الأول: فقد ذكر بعض مؤرخين أن حادثة الإسراء والمعراج تمّت قبل الهجرة بثلاث سنين، وقيل بسنة وادعي عليه الإجماع([97])، وبه يكون هو المشهور بين المؤرخين، والقول بكونه كان قبل الهجرة([98]).

[والحقيقة المتسالم على صحتها لدى المؤرخين أن الصلاة الخمس إنما فرضت في المعراج وأن خديجة وأبو طالب ماتا بعد الإسراء والمعراج، حيث ثبت المسلمين كانوا يصلون قبل الهجرة إلى الحبشة، وكان أبو طالب يدخل على النبي فيراه يصلي مع علي فيقول لجعفر ابنه صِلْ جناح أخيك] ([99]).

ولو سلمنا بأن الإسراء والمعراج كان قبل الهجرة بمدة وجيزة، فإن ذلك يوجب حصول الاختلاف بين المؤرخين، مما يكشف قوة احتمال تكرر الإسراء والمعراج الوارد روايات الفريقين([100])، وعليه فهذا يمنع من انعقاد الإجماع، فلا يصلح أن يجعل معياراً في رد الخبر.

وأما بالنسبة للأمر الثاني: فالمسألة خلافية أيضاً بين علماء السنة قبل علماء الشيعة، ضرورة أن علماء السنة منقسمون إلى فريقين، فمنهم من يقول إن ولادتها كانت قبل البعثة الشريفة، وقريش تبني البيت الحرام([101])، وهناك فريق آخر يقول أن ولادتها كانت بعد البعثة النبوية بخمس سنين كما عليه علماء الشيعة، وما يرجح الأخير ثبوت الإسراء والمعراج قبل موت خديجة، وبعد خروج النبي لدعوة أهل الطائف للإسلام.

وأما علماء الشيعة أن ولادتها كانت بعد البعثة الشريفة بخمس سنوات كما هو المشهور بينهم خلافاً للشيخ المفيد بأن ولادتها في السنة الثانية للبعثة، والأرجح أن ولادتها في السنة الخامسة بعد المعراج الأول لما بينته الروايات من تعدده، فيكون المعراج الأول في رجب وولادة الزهراء(عا) في جمادى الآخر بعده بتسعة أشهر، وهو ما يوافق رواية الواقدي والمنتقي بأن ولادتها في السنة الخامسة بعد الهجرة([102]).

وبالجملة، إن هذا يوجب الاختلاف في تاريخ ولادتها ما يمنع الإجماع على ما زعمه ابن الجوزي بأن ولادتها كانت قبل البعثة المباركة، بل يكون كلامه مخالفاً للإجماع المركّب، كما لا يخفى»([103]).

خاتمةٌ واستنتاج

 إن دراسة علم مشكل الحديث في مذهب أهل البيتC من المواضيع المهمة في مجال علم الحديث وقد توصلنا إلى عدة نتائج هي:

1ـ معرفة معنى علم مشكل الحديث والفرق بينه وبين علم مختلف الحديث.

2ـ ضرورة دراسة علم الحديث ومشكله وأهميته حيث إنه يشكل الحديث المصدر الثاني في التشريع بعد القرآن الكريم.

3ـ علم مشكل الحديث يقصد به: العلم بالقواعد الثابتة لرفع الغموض أو التناقض الظاهري في النص الشرعي نفسه، أو مع غيره من النصوص الشرعية، أو الواقع الخارجي، أو حكم العقل، أو الاجماع.

4ـ التعرف على أهم أسباب مشكل الحديث وهي:

أـ الاختلاف في الأفهام باختلاف مدارك أصحابها ومعارفهم.

 ب ـ احتمال الحقيقة والمجاز في أحد النصين المتعارضين، إذ قد يرد نصان يحملان معنيين إذا حُملا معاً على الحقيقة أوهما تعارضاً بينهما.

ج ـ قلة الضبط، وذلك بالتساهل في تغيير لفظ الحديث بالرواية بالمعنى.

د ـ اختلاف المذهب والعقيدة: فإن تنوع المذاهب والعقائد وما تتبناه كل منها تؤثر في فهم الحديث وتفسيره.

هـ ـ التصحيف، وغير ذلك من الأسباب.

5ـ إن فهم الحديث النبوي الشريف فهماً سليماً، واستنباط الأحكام الشرعية من السنة النبوية استنباطاً صحيحاً، لا يتم إلا بمعرفة مختلف الحديث ومشكله.

6ـ إن النظر في طرق العلماء ومناهجهم في دفع إيهام الاضطراب في الروايات، ينمي لدى طالب العلم الملكة في التعامل مع النصوص الشرعية، ويُمكن للمجتهد من الترجيح بين الأقوال ومعرفة أسباب الخلاف فيها.

7ـ التعرف على القواعد المتبعة في حل مشكل الحديث عند أهل البيت(عم) المتمثلة بالجمع العرفي، معرفة معاريض الكلام، النسخ، تغيير الحكم بسبب تغيير الظروف، الترجيح، التوقف على الرواية وعدم ردها، التخيير، الحمل على التقية.

8ـ التعرف على كيفية تطبيق القواعد على ما ورد عن النبي بأن الزهراء» حوراء إنسية» من خلال الجمع العرفي بين الأدلة الشرعية.

الهوامش

([1]) مقالة مقدّمة إلى المؤتمر العلمي الدولي الثالث (الزهراء مشكاة الأنوار ومستودع الأسرار).

([2]) إبراهيم مصطفى وآخرون، المعجم الوسيط، ج1، ص491.

([3]) إسماعيل الجوهري، تاج العروس، باب، شكل، ج13، ص383.

([4]) محمد رواس قلعجي ـ حامد صادق قنيبي، معجم لغة الفقهاء، ج1، ص431.

([5]) محمد بن مكرم ابن منظور، لسان العرب، ج11، ص162.

([6]) نور الدين عتر، منهج النقد في علوم الحديث، ج1، ص337.

([7]) عبد القاهر الجرجاني، التعريفات، باب الميم، ج1، ص215.

([8]) محمد رواس قلعجي، حامد صادق قنيبي، معجم لغة الفقهاء، ج1، ص431.

([9]) د. یونس حمش خلف محمد، منهج ابن قتيبة في كتابيه مشكل القرآن وتفسير غريب القرآن، ص1:

https://www.iasj.net/iasj/download/956875b6f65bcd66

([10]) عبد الرحمن السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج2، ص72.

([11]) محمد طاهر الجوابي، جهود المحدثين في نقد متن الحديث الشريف، ص 414.

([12]) محمد السماحي، المنهج الحديث في علوم الحديث، ص157.

([13]) مصطفى سعيد الخن، وبديع اللحام، الإيضاح في علوم الحديث والاصطلاح، ص276.

([14]) خضر صالح، تاريخ مشكل الحديث، مجلة البحوث والدراسات الإسلامية، ص211.

([15]) أحمد القصير، الأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم، ج1، ص15.

([16]) حسن بن علي السقاف، صحيح شرح العقيدة الطحاوية، ص178.

([17]) أحمد ابن سلامة الطحاوي، مشكل الآثار، ج1، ص2.

([18]) إبراهيم العسعس، دراسة نقدية في علم مشكل الحديث، ص49.

([19]) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج7، ص263.

([20]) أنظر، إبراهيم العسعس، دراسة نقدية في علم مشكل الحديث، ص35.

([21]) محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج‏1؛ ص65.

([22]) أحمد القصير، الأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم، ج1، ص37.

([23]) محمد بن حسن الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج4، ص337.

([24]) م، ن، ج4، ص338.

([25]) محمد بن جمال الدين المكي العاملي، ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، ج3، ص87.

([26]) محمد بن أحمد، الشريف الرضي، نهج البلاغة، ج1، ص1.

([27]) م، ن، ص1.

([28]) أحمد القصير، الأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم، ج1، ص37.

([29]) الإمام أحمد بن حنبل، مسند الإمام أحمد بن حنبل، ج2، ص 34.

([30]) محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج4، ص105.

([31]) التصحيف: «تغيير في نقط الحروف أو حركاتها مع بقاء صورة الخط. الحسن بن عبد الله العسكري، تصحيفات المحدثين، ج1، ص39.

([32]) حيدر عبد الكريم مسجدي، التصحيف في متن الحديث، ص44.

([33]) علي بن بابويه، فقه الرضا، ص70.

([34]) علي بن بابويه الصدوق، المقنع، ص11.

([35]) هاشم معروف الحسني، دراسات في الحديث والمحدثين، ج1، ص183.

([36]) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج1، ص160.

([37]) لقمان عبد السلام، مقالة بعنوان، مشكل الحديث وموقف العلماء فيه: https://islamonline.net

([38]) محمد بن على ابن بابويه، علل الشرائع، ج‏2، ص564.

([39]) يوسف البحراني، الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، ج5، ص195.

([40]) يمكن لمن أراد التوسع مراجعة رسالة الماجستير بعنوان، «قواعد حل مشكل الحديث عند أهل البيت» للباحثة إيجاد زين، بإشراف عبد المنعم العبد الله.

([41]) علي ابن بابويه الصدوق، الهداية، ص62.

([42]) علي أكبر غفاري، دراسات في علم الدراية، ص47.

([43]) خضر جنان صالح، تاريخ مشكل الحديث، ص8.

([44]) أحمد بن حجر العسقلاني، نخبة الفكر مع النزهة في مصطلح أهل الأثر، ص50.

([45]) عبد الهادي المسعودي، أسباب اختلاف الحديث، ج1، ص15.

([46]) قاسم البيضاني، مباني نقد الحديث، ج1، ص26.

([47]) محمد ابن الحسن الحر العاملي، وسائل الشيعةج‏27، ص107.

([48]) عبد الهادي الفضلي، أصول البحث، ص79.

([49]) محمد ابن الحسن الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج27، ص115.

([50]) حسن محمد العاملي، شرح الحلقة الثالثة، ص35.

([51]) حسن محمد العاملي، شرح الحلقة الثالثة، ص35.

([52]) محمد ابن علي الصدوق، معاني الأخبار، ص2.

([53]) محمد ابن الحسن الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج‏27، ص117.

([54]) منسوب إلى الإمام جعفر ابن محمد (عم)، مصباح الشريعة، ص17.

([55]) محمد صالح المازندراني، شرح الكافي الأصول والروضة، ج2، ص387.

([56]) الخليل ابن أحمد الفراهيدي، كتاب العين، ج‏4، ص201.

([57]) أبو القاسم الخوئي الموسوي، تقرير بحث النائيني، أجود التقريرات،ج1، ص507.

([58]) علي المشكيني، اصطلاحات الأصول، ص268.

([59]) محي الدين النووي، شرح مسلم، ج4، ص37.

([60]) علي أكبر الغفاري، دراسات في علم الدراية، ص263.

([61]) مرتضى الأنصاري، الموسوعة الفقهية الميسرة، ج1، ص553.

([62]) محمد ابن يعقوب الكليني، الكافي، ج‏2، ص223، ح7.

([63]) محمد باقر الحسيني الاسترآبادي (الميرداماد)، الرواشح السماوية في شرح الأحاديث الإمامية، ص193.

([64]) محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، ج1، ص425.

([65]) محمد علي الأنصاري، الموسوعة الفقهية الميسرة، ج1، ص553.

([66]) محمد ابن الحسن الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج‏27، ص108

([67]) محمد صادق الروحاني، فقه الإمام الصادق، ج10، ص102.

([68]) محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، ج1.

([69]) محمد ابن يعقوب الكليني، الكافي، ج‏2، ح7، ص218.

([70]) محمد رشيد، تفسير المنار، ج3، ص231.

([71]) جعفر السبحاني، بحوث في الملل والنحل، ج ج6، ص340.

([72]) حيدر المسجدي، دروس في اختلاف الحديث، ص97.

([73]) مركز الرسالة، التقية في الفكر الإسلامي، ص107.

([74]) بهاء الدين العاملي، مشرق الشمسين وإكسير السعادتين، ص33.

([75]) أحمد بن أبي طاهر، الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج7، ص353.

([76]) عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي، الموضوعات، ج 2، 251.

([77]) محمد بن محمد العبادي «أبو السعود»، إرشاد العقل السليم إلى تفسير القرآن الكريم، ج2، ص60.

([78]) سليمان بن أحمد الطبراني، تاب الأوائل، ص 104.

([79]) أبو عبد الله الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج2، ص293.

([80]) وفي نسخة الدرر النظيم لابن أبي حتم العاملي (عظامها)، ص459.

([81]) هاشم البحراني، حلية الأبرار، ج2، ص 10، ط1.

([82]) بحسب ما ذكره المازندراني عن المجلسي في مرآة العقول، وصدر الدين محمد الشيرازي، المبدأ والمعاد، ج8، ص29.

([83]) مولي محمد صالح المازندراني، شرح أصول الكافي، ج8، ص30.

([84]) جلال الدين السيوطي، تنوير الحوالك، تحقيق تصحيح، الشيخ محمد عبد العزيز الخالدي، ص16، ط1، سنة الطبع: 1418 ـ 1997 م، الناشر: منشورات محمد علي بيضون ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان

([85]) https://www.shiaaweb.com/2019/07

([86]) أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج، ج2، ص99.

([87]) فاخر موسوي، التجلي الأعظم، ص21.

([88]) هو وعاء صغير مخصص لوضع للطيب.

([89]) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج43، ص18.

([90]) محمد باقر الكجوري، الخصائص الفاطمية، ج1، ص 179.

([91]) نبيل الحسني:

http://imamhussain ـ lib.com/arabic/pages/bohoth070.php.

([92]) محمد بن النعمان البغدادي، المفيد، الإرشاد، ج2، ص127.

([93]) محمد ابن علي الصدوق، معاني الأخبار، ص2.

([94]) محمد العبيدي القطيفي:  www.alobaidan.org/archives/5821

([95]) عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي، الموضوعات، ج1، ص413.

([96]) محمد العبيدي القطيفي:  www.alobaidan.org/archives/5821

([97]) نور الدين الحلبي، السيرة الحلبية، ج2، ص 71.

([98]) محسن الأمين، أعيان الشيعة، ج1، ص235.

([99]) أبي حيان الأندلسي، البحر المحيط، ج8، ص489.

([100]) إساعيل بن عمر ابن كثير، البداية والنهاية، ج3، ص142.

([101]) ابن سعد في طبقاته، ج۸، ص۱۱، وابن الأثير في الكامل، ج۲، ص341. وأبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبين، ص48، ومحمد بن اسحاق، سيرة ابن هشام، ص48.

([102]) محمد هادي اليوسفي، موسوعة التاريخ الإسلامي، ج1، ص56.

([103]) محمد العبيدي القطيفي:  www.alobaidan.org/archives/5821

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً