أحدث المقالات




الصداقة والإنقياد ونتائجهما

يقول الله سبحانه وتعالى: {ويوم يعضّ الظالم على يديه يقول يا ليتني اتّخذت مع الرسول سبيلاً} (الفرقان:27). قد تطلق كلمة الظالم في القرآن الكريم على الظالم لنفسه، وهو الذي يظلم نفسه بالكفر، والكفر يؤدي إلى دخول النار، أو بالمعصية، لأنّ المعصية تؤدي به إلى غضب الله وسخطه، وبالتالي إلى عقابه سبحانه… وقد ورد في أكثر من آية، الحديث عن هؤلاء الذين يعاقبهم الله ويغضب عليهم، يقول تعالى :{وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} (النحل:118)، فالله لا يعاقبهم ولا يغضب عليهم من دون أساس، بل لأنهم ظلموا أنفسهم بالتمرّد على الله وبالكفر أو الشّرك به.

إنّ الله تعالى يحدّثنا عن هذا الإنسان الظالم لنفسه، أنّه عندما يقف في يوم القيامة، ويرى النتائج الإيجابية التي حصل عليها الذين أطاعوا الله، والنتائج السلبية للّذين عصوا الله وابتعدوا عن خط طاعته، فيرى المؤمنين وقد دخلوا الجنة، ويرى الكافرين وقد دخلوا النار، عندها يشعر بالندم، ومظهر الندم عند الإنسان هو أن يعضّ على يديه، وهذا معروف أيضاً عندما يواجه بعض الخسارة أو بعض المشاكل في الأعمال، فيعضّ على يديه تعبيراً عن الحزن أو الألم.

 

الابتعاد عن خط الرسول

{يوم يعضّ الظالم على يديه يقول ـ بينه وبين نفسه ـ يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً}، أي يا ليتني اتخدت الطريق الذي سلكه الرسول، وهو الصراط المستقيم؛ طريق الإيمان بالله والعمل بطاعته، ولكنني لم أفعل ذلك، فلم أحصل على النتائج الطيبة بسبب تخلّفي عن السير في خط الرسول، ثم ينادي بالويل والثبور وعظائم الأمور، عندما يدرك الظروف أو العناصر التي جعلته يسير في غير خط الرسول، فيتأسّف قائلاً: {يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً} (الفرقان:28)، وذلك عندما يتذكّر بعض أصدقائه في الدنيا، ممن كانوا يكفرون بالله أو كانوا يعصون الله ويحاولون أن يضلّوه عن طريق الله، لأنّ الإنسان قد يبتعد عن الخط الصحيح من خلال أصدقائه، بسبب ما يتركه الصديق من تأثير في نفس صديقه، من خلال الحالة العاطفية فيما بينهما. وهذا ما نلاحظه عندما يصاحب الإنسان بعض الأشخاص في المدرسة أو في النادي أو في الشارع أو في التجارة أو في مواقع السياسة، فإنّه يخضع لصديقه في ما يتحرك به، فهناك الكثير ممن تفسد أخلاقهم لفساد أخلاق أصدقائهم، أو تفسد عقيدتهم لفساد عقيدة أصدقائهم، أو تفسد مواقعهم السياسية ومواقفهم لفساد أصدقائهم، وقد جاء على لسان أحد الشعراء:

صاحب أخا ثقةٍ تحظى بصحبته الطبع مكتسب من كل مصحوب

 

الصديق إما ملاك وإما شيطان

أي صاحب من تستفيد من صحبته، وهو الإنسان الموثوق، الخيِّر، الطيب والمؤمن والتقي، لأن طباعك ومشاعرك وأفكارك وأحاسيسك تكتسبها من خلال أصحابك، باعتبار التأثير الفعلي والنفسي والعملي بين الأصحاب، ثم يعطي مثلاً:

فالريح آخذةٌ ممّا تمرّ بـه نتناً من النتن أو طيباً من الطيب

لأنّ الريح عندما تهب، تارةً تمرّ على البساتين التي تصعد منها الروائح الطيبة العطرة، فتشعر بالهواء الذي ينسم عليك، يحمل الطيب والعطر ويريحك، ولكن عندما تهبّ الريح على جيفةٍ أو على أشياء نتنة، فإنّها تحمل نفس الرائحة النتنة، أو رائحة الجيفة.

وهكذا الإنسان الذي يمضي أكثر وقته بصحبة الأصدقاء، فإنه يأخذ من طباعهم وأنماط حياتهم ومشاعرهم، لذلك يقول: {يا ويلتى ليتني لم أتّخذ فلاناً خليلاً}، لأن هذا الصديق {لقد أضلّني عن الذكر بعد إذ جاءني}، أضلني عن ذكر الله وعن القرآن، وجعلني أسير في خط الشيطان، فأتّبع خطواته في ارتكاب المعاصي، والسير في خط الباطل.

{وكان الشيطان للإنسان خذولاً} (الفرقان:29)، فهذا الشخص يشبه الشيطان، والشيطان عادةً هو من يضلّ الإنسان ويوسوس له، ولكن عندما يكون هناك تحميل للمسؤولية فإنه يتبرّأ منها، ويقول لا شأن لي في ذلك. وهناك بعض الأصدقاء هكذا، يوقعون الآخرين في الجريمة والمعصية، وعندما يُراد تحميلهم المسؤولية، يتبرّأون منها. {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر}، عندما يوسوس للإنسان ويزيّن له الكفر بدل الإيمان، ثمّ يتبرّأ منه {فلمّا كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين} (الحشر:16). فيصبح الشيطان تقياً ويدعي الخوف من الله ولا يتحمّل المسؤولية. والآن هناك الكثير من المجرمين، سواء على المستوى السياسي أو الأخلاقي أو غير ذلك، عندما تحمّلهم المسؤولية يتبرّأون من كلّ ما فعلوه.

 

حوار الإنسان مع الشيطان في الآخرة

وقد تكلّمنا سابقاً عن مسألة حوار الشيطان مع الناس يوم القيامة، حيث يكون الناس في حيرة شديدة {يوم ترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد}، فجأة يندفع الناس إلى إبليس ليحمّلوه المسؤولية وليتبرّأو منه، موجّهين له التهم، فهذا يقول له أنت أضللتني، وآخر يقول أنت وسوست لي وهكذا… ولكنّ الشيطان يدافع عن نفسه، {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق}، حيث قال لكم {فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يرى* ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره} (الزلزلة:7-8)، فالله وعدكم وقد وفى بوعده لكم.{ووعدتكم فأخلفتكم}، وهو القائل لله سبحانه وتعالى: {لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم* ثمّ لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين} (الأعراف:16-17)، فالشيطان مهمته من الأساس الكذب وتضليل الناس، والله سبحانه وتعالى قد حذّركم منه بقوله: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدوٌ مبين* وأن اعبدوني هذا صراطٌ مستقيم} (يس:60-61).

ثمّ يقدّم الشيطان حجّته عليهم، {وما كان لي عليكم من سلطان}، فالله سبحانه لم يعطني السّلطة عليكم لأقوم بتغيير عقولكم وأوضاعكم بالقوّة، بل كلّ دوري كان أن أوسوس لكم {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم}، فحضّرت لكم الملاهي والشهوات والملذّات والانحرافات، وقلت لكم تعالوا {فاستجبتم لي} وأقبلتم لمجرّد أن قرعت لكم الطبل لذلك.

{فلا تلوموني ولوموا أنفسكم}، فقد كان لديكم العقل، فلماذا لم تتبعوا عقولكم؟ الله سبحانه وتعالى أرسل لكم أنبياء يحذرونكم لقاء يومكم هذا، فلماذا لم تتبعوهم؟ {ألم يأتكم نذير* قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزّل الله من شيء} (الملك:8-9). {ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيّ}، فغداً لا أحد يحشد لأحد، ولا أحد يستطيع تخليص غيره.

{إني كفرت بما أشركتموني من قبل} (إبراهيم:22)، فقد جعلتموني شريكاً لله، تطيعونني وتعصونه، فأنا أكفر بهذا الشيء، {وكان الشيطان للإنسان خذولاً}، فأين عقلك؟ عقلك الذي أعطاك إياه الله؟ فللإنسان عقل أعطاه إياه الله، وعليه أن يحسب حسابات الربح والخسارة في قضية المصير، كما يحسب حسابات الربح والخسارة بالمادة والأموال، ففي يوم القيامة {تجزى كل نفسٍ بما كسبت لا ظلم اليوم}.

وهكذا أيها الأحبة، هذه الآيات تعطينا فكرة، وعلينا نحن الاستفادة منها، ولندع أيضاً أولادنا يستفيدون منها، وهي التدقيق في الأصحاب الذين نصاحبهم، والأصدقاء الذين نختارهم، لأنه ربما يحاول هذا الصديق أو هذا الصاحب أن يسير بك إلى نار جهنم، لأنه يكون قرينك، والقرين ليس ما يتداوله البعض بطريقة متخلّفة بأن فلاناً لديه قرين الجنّ، أو غير ذلك، فهذا كله خرافة ولا قيمة له. فالقرين، كما جاء في القرآن، هو الصديق والخليل، وهو الصاحب يوم القيامة، عندما يحاسب الله سبحانه وتعالى الإنسان، فيحمّل قرينه المسؤولية، حينما يقول هذا الذي أطاعني، وهذا الذي أضلّني، {قال قرينه ربنا ما أطغيته}، فهو أساساً لم يكن صالحاً، فلماذا يضع اللوم عليّ، {ولكن كان في ضلال بعيد} (ق:27)، ويجيب الله: {قال لا تختصموا لديّ ـ أي يحمّل كل واحد منكم المسؤولية للآخر ـ وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لديّ ـ فالله سبحانه وتعالى عنده حكمٌ واحد وليس حكمان ـ وما أنا بظلاّمٍ للعبيد* يوم نقول لجهنّم هل امتلأت فتقول هل من مزيد} (ق:28-30)، تطلب المزيد والمزيد، {وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد}، قرّبت الجنة، فلا حاجة هناك لقطع المسافة، بل إنّ الجنة هي التي تأتي. لذلك علينا أن نختار ونحن في دار الدنيا، هل نريد الجنة أم النار؟ والحمد لله رب العالمين.

موعظة ليلة الجمعة (16-6-2005م)

نقلاً عن موقع مكتب سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً