أحدث المقالات

لشيخ حسن الصفار(*)

تمهيدٌ

تُعَدّ العلاقة الزوجيّة إحدى أخصّ وأوثق العلاقات بين بني البشر. فالعلاقة بين الزوجين مفتوحةٌ على جانبي الروح والجسد، مضافاً إلى التداخل والاندماج النفسي بينهما، حتّى وصف القرآن الكريم هذه العلاقة باعتبارها نوعاً من السَّكَن لنفس الإنسان، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾، فالزوج وفق التعبير القرآني سَكَنٌ لزوجته، والزوجة سَكَنٌ لزوجها.

وأشارَتْ آيةٌ قرآنية أخرى إلى وصف العلاقة الزوجيّة باللباس، فالزوج بمنزلة اللباس للزوجة، والعكس صحيح، قال تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾. ومن المعلوم أنّ علاقة الإنسان بلباسه تمتاز بالالتصاق في المقام الأوّل، حيث يلتصق اللباس بالجسم تماماً، وحينما يصف القرآن الكريم العلاقة الزوجية باللباس فإنّ ذلك من باب التمثيل لحالة القُرْب الشديد إلى حدِّ الالتصاق بين الزوجين. كما يأتي وصف العلاقة الزوجيّة باللباس؛ لما في اللباس من حماية للجسم، من البرد والحَرّ والغبار وسائر العوامل الخارجية، التي يمكن أن تؤثِّر على الإنسان. ومضمون ذلك أنّ العلاقة الزوجية يفترض بها أن توفِّر الحماية المتبادلة بين الزوجين. وإضافة إلى ذلك يأتي وصف العلاقة الزوجية باللباس؛ لما في اللباس من ستر لعورة الإنسان، حيث تمثِّل العلاقة الزوجية ستراً أخلاقيّاً للإنسان. وأخيراً جاء وصف الزواج باللباس؛ لما في اللباس من زينةٍ، فكما يتجمَّل الإنسان بلباسه هو يتجمَّل كذلك بالعلاقة الزوجيّة في حياته الاجتماعية، فالزوج بمنزلة الزينة للزوجة، والعكس بالعكس.

ضرورة الاختيار العقلانيّ في العلاقة الزوجيّة

وعليه، ينبغي أن لا يدخل الإنسان في العلاقة الزوجية إلاّ بعد دراسةٍ وتأنٍّ؛ لأنّها ليست كأيِّ علاقةٍ أخرى. فالعلاقة الزوجيّة ليست محلاًّ مستأجراً يختار الإنسان أخلاّءَه متى شاء، وإنّما هو شراكةٌ مصيرية في الحياة، حيث يتحوَّل الزوج إلى جزءٍ أساس من حياة زوجته، والزوجة كذلك؛ نتيجة الشراكة العميقة والتداخل القائم بين الطرفين.

لذلك ينبغي أن تؤسَّس هذه العلاقة على أساسٍ صحيح سليم، وإلاَّ فإنّ التأثيرات السلبية ستكون كبيرةً على شخصية الإنسان وحياته. ومن أهمّ الأسس في إنشاء العلاقة الزوجية حُسْن الاختيار، بحيث يُحْسِن كلٌّ من الطرفين اختيار شريكه، فلا يكون الاختيار منبعثاً من حالةٍ عاطفية، أو على نحوٍ ارتجاليّ، وأن لا يأتي نتيجة فرضٍ أو إكراه، فلا يصحّ أن يُفْرَض على رجلٍ قرار زواجه من امرأةٍ، ولا أن يُفْرَض على امرأةٍ زوجٌ بغير رضاها.

المرأة وقرار الزواج، بين الولاية والاستقلالية والشراكة

يأتي السؤال هنا حول ما إذا كان للمرأة حقُّ اتّخاذ القرار في أمر زواجها وحدها، أم يلزم اتّخاذ أحدٍ آخر قرار زواجها نيابةً عنها؟ وتنبع أهمّية السؤال انطلاقاً من خطورة هذا القرار على مستقبلها، فهي التي ستكون تحت قوامة الزوج؛ على النقيض من الرجل، الذي سيكون صاحب السُّلْطة، وبيده قرار الطلاق. كما أنّ المرأة هي الطرف الأكثر انفعالاً وتأثُّراً في الحياة الزوجية. وعليه، فهي معنيّةٌ مباشرة باتّخاذ قرار الزواج، فهل لها حقُّ اتّخاذ القرار بالزواج أم لا؟

ينبغي القول: إنّ هذا الموضوع لم يكن محلَّ بحث في العصور الماضية، حين كانت المرأة تعاني التهميش الشديد، والنظرة الدُّونية، نتيجة الهَيْمنة الذكورية المتفشِّية، لذلك لم يكن للمرأة رأيٌ يُذْكَر في تحديد مصيرها، بل لم يكن يُنْظَر إلى المرأة باعتبارها في مرتبةٍ موازية للرجل، وإنّما هي في مرتبةٍ دون الرجل، كما في بعض الحضارات والتنظيمات الاجتماعية القديمة.

لقد ساهم ظهور الإسلام في بروز تغييرٍ جَذْريٍّ في نَمَط التعامل مع المرأة، الجاري في الأقوام السابقة. ولكنْ ما الذي أضافه الإسلام حيال امتلاك المرأة قرارها في الزواج؟

حقيقة الأمر أن هناك نقاشاً محتدماً بين فقهاء الإسلام حيال موضوع حقّ المرأة في اتّخاذ قرار الزواج. ولقد بلغ من اختلاف الفقهاء في مسألة تزويج المرأة نفسها حدّاً جعل أحد العلماء الكبار؛ الشيخ يوسف البحراني، يقول في كتابه الحدائق: «وقد عَدَّها الأصحاب من أمّهات المسائل، ومعضلات المشاكل، وقد صُنِّفت فيها الرسائل، وكثر السؤال عنها والسائل، وأطنب جملةٌ من الأصحاب فيها الاستدلال لهذه الأقوال، وأكثروا فيها القيل والقال»([1]). وهذا ما يشير إلى مدى التعقيد المحيط بهذه المسألة.

أمّا عن أهمّ الأقوال في مسألة حقّ المرأة في تزويج نفسها فهناك ثلاثة أقوال:

1ـ قرارُها بيد وليِّها

يحصر القول الأوّل قرار التزويج بيد الوليّ فقط؛ إذ يرى جملةٌ من الفقهاء ـ من مختلف المذاهب ـ أنّ قرار الزواج بالنسبة إلى البنت البِكْر محصورٌ بيد وليِّها، الذي قد يكون الأب أو الجدّ للأب. وعلى رأي المذاهب السنّية ينتقل القرار إلى العَصَبة، من أعمامٍ وأخوالٍ، في حال وفاة الأب والجدّ.

وبذلك لا قرار للبنت في أمر زواجها، وفقاً لهذا الرأي.

واستدلّ هذا الفريق من الفقهاء بجملةٍ من الروايات، ومن ذلك: صحيحة فضل بن عبد الملك، عن أبي عبد الله الصادق× أنه قال: «لا تُستأمَر الجارية التي بين أبوَيْها، إذا أراد أبوها أن يزوِّجها هو أنظر لها»([2])، أي إنّ البنت لا رَأْيَ لها إذا ما قرَّر والدها تزويجها.

واستدلّوا كذلك بروايةٍ أخرى عن الإمام الصادق×، كما في صحيحة الحلبيّ، في الجارية يزوِّجها أبوها بغير رضاً منها، أنه قال×: «ليس لها مع أبيها أمرٌ، إذا أنكحها جاز نكاحها، وإنْ كانت كارهةً»([3]).

وقد استند هذا الفريق من الفقهاء الشيعة على هذه الروايات، وقالوا بأنّ القرار بيد الوليّ.

ويوافقهم في ذلك الشافعية والمالكية، حيث قالوا؛ تثبت الولاية إجباريّاً للأب، وللجدّ عند عدمه. فللأب تزويج البِكْر، صغيرةً أو كبيرةً، بغير إذنها، ويستحبّ استئذانها.

وجماع القول عند هذا الفريق: إنّ البنت لا قرار لها في أمر زواجها، وإنّما يُتَّخذ بالنيابة عنها أخطرُ قرارٍ يتحدَّد بموجبه مصيرها ومستقبلها.

2ـ القرار بيد الفتاة

أمّا في القول الثاني فقد ذهب فريقٌ آخر من الفقهاء إلى القول بأنّ قرار الزواج هو بيد البنت، وليس بيد الوليّ، ما دامت بالغةً عاقلةً رشيدةً.

وعلَّلوا ذلك بأنّ الأصل في الشريعة هو سلطة الإنسان على نفسه. ولكون المرأة إنساناً فهي كذلك مسلَّطةٌ على نفسها، وإلاّ فما الذي يجعل الرجل يمتلك قراره بيده فيما ينتزع ذلك الحقّ من المرأة؟

وهنا يمكن القول بوجود استثناءٍ في عدم منح المرأة حقّ تزويج نفسها، لكنّ ذلك يستلزم دليلاً واضحاً، وهو غير موجودٍ، وفقاً لهذا الفريق من الفقهاء.

ويستند هؤلاء الفقهاء أيضاً إلى جملةٍ من الأدلّة والنصوص الدينية الدالّة على أنّ الفتاة البِكْر تستقلّ بقرار تزويج نفسها، ومن ذلك: ما رُوي عن زرارة، عن الإمام الباقر× أنه قال: «إذا كانت امرأةٌ مالكةٌ أمرها، تبيع وتشتري وتعتق وتشهد وتعطي من مالها ما شاءت، فإنّ أمرها جائزٌ، تزوج إنْ شاءَتْ بغير إذن وليِّها؛ وإنْ لم تكن كذلك فلا يجوز تزويجها إلاّ بإذن وليِّها»([4]). ومضمون ذلك ـ وفقاً للرواية ـ أن حقَّ المرأة في تزويج نفسها، بغير إذنٍ من وليّها، يتقيَّد باستقلاليّتها الماليّة، ورُشْدها العقلي.

وضمن هذا السياق نقل السيّد محسن الحكيم، في المستمسك، خبر ابن عباس، أنّ جاريةً بِكْراً جاءَتْ إلى النبيّ|، فقالت: إنّ أبي زوَّجَني من ابن أخٍ له؛ ليرفع خسيسته، وأنا له كارهةٌ، فقال|: «أجيزي ما صنع أبوكِ»، فقالت: لا رغبة لي في ما صنع أبي، قال|: «فاذهبي، فانكحي مَنْ شِئْتِ»([5]).

وقد ورد هذا الحديث عن ابن ماجة([6]).

وبناءً على هذه الأدلّة وأمثالها ذهب إلى هذا الرأي كثيرٌ من العلماء، المتقدِّمين والمتأخّرين، وأصبح هو الرأي المشهور، حتّى أنّ بعض الفقهاء ادّعى الإجماع على هذا الرأي، كما عند السيّد المرتضى، وصاحب الجواهر، والشهيدين في اللمعة والروضة، ومال إلى هذا الرأي السيّد الشيرازي في بحثه الاستدلاليّ، حيث قال: «والأقرب في النظر أنّ الولاية بيدها وحدها؛ للأدلة التي تقدَّمَتْ. ولا تقاومها سائر الأدلة؛ إذ إنّ أدلة سائر الأقوال، بالإضافة إلى منافاتها للأدلّة العامّة، مثل: «الناس مسلَّطون» ونحوه، لا بُدَّ أن تُحْمَل على نوعٍ من الأدب»([7]). فهو يرى في بحثه الاستدلاليّ أنّ أخذ المرأة الإذن من وليّها في الزواج يأتي من باب التأدُّب وحَسْب، وإنْ قال في فتاواه العمليّة بالاحتياط.

3ـ الأمر إليهما معاً

وذهب فريقٌ ثالث من الفقهاء إلى الجَمْع بين الأمرين، على نحوٍ يفضي إلى الاشتراك، في اتّخاذ قرار التزويج، بين موافقة الوليّ ورضا البنت، على حدٍّ سواء. وبهذا يشترط في صحة التزويج إحراز موافقة المرأة ووليّها، فإنْ تمّ إحراز موافقة أحدهما دون الآخر فلا يصحّ الزواج.

تطوُّر العصر وتغيُّر ظروف الحياة

لقد كان هذا الجَدَل الفقهي سيّد الموقف في أوقاتٍ سالفة، في حين بات الناس يعيشون اليوم في عصرٍ مختلف تماماً. فقد انتزع البشر في العصر الراهن حُرِّياتهم، وبات الإنسان، رجلاً أو امرأة، أحرص ما يكون على انتزاع حقِّه في اتّخاذ القرارات التي تحدِّد مصيره. وساهمَتْ في ذلك المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، التي جاءت مؤكِّدةً على الحقوق الفرديّة. فإذا كانت هذه سِمَات العصر الراهن الذي يعيشه الناس فمن الصعوبة بمكانٍ أن نطبِّق رأياً فقهيّاً ينتزع حقّ الفتاة في إبداء رأيها في أهمّ شأنٍ من شؤونها، وهو الزواج، وترك ذلك الحقّ لوالدها أو وليِّها، أو أن تواجه الفتاة بـ «فيتو» من وليِّها يمنعها من الزواج بمَنْ تختاره، مع ما يترتَّب على ذلك من عواقب وتداعيات.

وإضافةً إلى اختلاف ظروف العصر، يأتي تغيُّر الظروف الاجتماعية عاملاً ثانياً، يصبّ في ترجيح كفّة الفتاة في حقّ اختيار وتحديد مصير حياتها الزوجيّة.

فقد يصدق القول: إنّ أباها «هو أنظر لها» ضمن الظروف الاجتماعيّة التي كانت سائدةً قديماً، حيث كانت المرأة تعاني التهميش والأُمّية وعدم الإلمام بما يجري في مجتمعها، وبذلك قد تكون فاقدةً للقدرة على التشخيص، ومعرفة الناس، ومن ثم اتّخاذ القرار المناسب.

غير أنّ جميع ذلك قد تغيَّر تماماً؛ فالمرأة اليوم ليست كما كانت نظيرتها بالأمس. فقد باتت المرأة أكثر تعليماً، وأكثر اطّلاعاً ومعرفة بمجتمعها، ولم يَعُدْ مستساغاً، ولا مقبولاً، النظر إليها اليوم على نحو الاستصغار والدُّونية، وكأنّها غائبةٌ عن محيطها، وجاهلةٌ بمجتمعها. وبعضُ بنات اليوم أعلمُ من آبائهنّ بأحوال المجتمع، وظروف العصر، ولا سيَّما مع توفُّر الدراسات والبحوث، ووسائل التواصل الاجتماعي، وشبكة العلاقات واسعة الانتشار. وقد أثبتَتْ الأحداث هذه الحقيقة، فلطالما روى آباءٌ عن خاطبين تقدَّموا لبناتهم، فلمّا كلَّموهُنّ في ذلك ذهبت البنات للتنقيب بأنفسهنّ عن أولئك الخاطبين، وتوفَّرْنَ على كمٍّ كبير من المعلومات والتفاصيل عنهم، على نحوٍ لم يكن يخطر على بال الآباء. وهذا ما يشير إلى أنّ بنات اليوم لسْنَ كبنات الأمس.

الأمّة والتحدّي الحضاري

وقد باتت الأمّة اليوم تعيش تحدّياً حضاريّاً جِدِّياً، بلغ حدَّ اتّهام الإسلام بأنّه لا يقرّ الحُرِّيات، ولا يعترف بحقوق الإنسان، ويضطهد المرأة. وما من شكٍّ أنّ بعض الآراء الفقهيّة تساهم في تعزيز تلك الاتّهامات، وتفسح المجال واسعاً لتشويه سُمْعَة الإسلام.

من هنا يغدو من اللازم أخذ ظروف العصر الراهن بعين الاعتبار حين النظر في تلك الآراء الفقهيّة المتعلِّقة بالمرأة؛ إذ ينبغي أن لا نغفل واقع العصر الراهن عند بحث الشأن الخاصّ بالمرأة فقهيّاً؛ بغرض ترجيح أحد الآراء، مع أهمّية النظر في تأثيرات اختيار أو ترجيح أيّ حكمٍ شرعيٍّ على سمعة الإسلام، وواقع المسلمين.

ولا سيَّما أننا ما نزال نواجه استغلالاً لبعض الآراء الفقهيّة المتقادمة في تعزيز بعض العادات والأعراف، وإمضائها في المجتمع، ومنها: تلك المتعلِّقة بمسألة تكافؤ النَّسَب بين الزوجين، الذي يعني أنّ أيّ شخصٍ تزوَّجت إحدى أقاربه من شخصٍ يعتبره هو من قبيلةٍ أو عائلةٍ أقلّ شأناً، وأدنى مكانةً من قبيلته، فله أن يرفع قضيّة في المحكمة؛ للتفريق بينهما. وهذا ما حصل بالفعل في المملكة، في حالاتٍ متكرِّرة، حيث انشغلت الصحافة المحلِّية والرأي العامّ في الآونة الأخيرة بقضيّةٍ من هذا القبيل، كما ورد في صحيفة الحياة، بتاريخ 29 جمادى الآخرة 1437هـ، بعنوان: «حكم قضائيّ بفسخ فتاةٍ سعودية من زوجها»، علماً بأنّ زوجها يعمل جنديّاً في القوات المسلَّحة، وهو من المقاتلين على الحدّ الجنوبي، وذلك تحت مبرِّر عدم تكافؤ النَّسَب، ومردُّ ذلك إلى أنّ أعمام الزوجة رفعوا دعوى لإحدى محاكم الرياض، وقد نظرَتْ المحكمة في الدَّعوى، فيما لجأَتْ الزوجة إلى بثِّ معاناتها من خلال مقطعٍ مصوَّر انتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وقد كانت تستغيث، وتأمل من الملك، ووليّ العهد، ووزارة العدل، معالجة أمرها، وإعادة النظر في قرار المحكمة؛ لكونها حاملاً، ويشغل بالها كثيراً التفكير في مستقبلها ومصير وليدها المرتقب، ولا سيَّما أنّها تتشبَّث بزوجها، وهو كذلك لا يريد التخلّي عنها. وهذه ليست القضية الأولى ولا الوحيدة التي تنظرها المحاكم في قضايا تكافؤ النَّسَب، فقد نظرَتْ المحاكم السعودية في أكثر من 63 دعوى لفسخ عقد نكاحٍ؛ بمبرِّر عدم تكافؤ النَّسَب.

مشكلة تكافؤ النَّسَب

ينبغي الإشارة إلى أنّ هناك نقاشاً فقهيّاً يحيط بمسألة تكافؤ النَّسَب؛ إذ خلافاً لمسألة التكافؤ في الدِّين، المتَّفق عليها بين المسلمين؛ استناداً إلى الحديث: «المسلم كفؤ للمسلمة»([8])، ظلّت مسألة التكافؤ في النَّسَب محلّ خلافٍ بين فقهاء المسلمين. وفي حين لا اعتبار لمسألة تكافؤ النَّسَب عند فقهاء الإماميّة، فلا يشترط عندهم أن يكون الزوج متكافئ النَّسَب مع الزوجة، خالفهم في ذلك الحنفيّة والشافعيّة والحنابلة، الذين استدلُّوا على رأيهم بقول الخليفة عمر بن الخطّاب: «لأمنعنَّ فروج ذوات الأحساب إلاَّ من الأكفاء»، قال: قلتُ: وما الأكفاء؟ قال: «في الحَسَب»([9])، والاعتبار عندهم في النَّسَب للآباء، حيث قالوا: إنّ الأعجميَّ أباً، وإنْ كانت أمُّه عربيّةً، فليس كفؤاً للعربيّة، وإنْ كانت أمُّها أعجميّةً.

وذهب المذهب المالكي إلى عدم اعتبار النَّسَب، كما المذهب الإمامي، حيث قال مالك: «أهل الإسلام كلُّهم بعضُهم أكفاء بعضٍ؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ﴾»([10]).

وقال الحنفيّة: «العرب بعضهم أكفاءٌ لبعضٍ؛ بالنصّ. ولا تكون العرب كفؤاً لقريش؛ لفضيلة قريش على سائر العرب… والموالي بعضهم أكفاء لبعضٍ؛ بالنصّ. ولا تكون الموالي أكفاءً للعرب؛ لفضل العرب على العجم»([11]).

وكذلك قال الشافعية.

والأصحّ عند الحنفيّة أنّ العجمي لا يكون كفؤاً للعربيّ، ولو كان عالماً أو سلطاناً، فهو ليس كفؤاً للزواج من عربيّةٍ.

وذهب بعض الفقهاء إلى القول بالتكافؤ استناداً إلى الحِرْفة والمِهْنة؛ فقد ذهب جمهور فقهاء أهل السنّة إلى القول: إنّ الرجل صاحب الصناعة أو الحِرْفة الدنيئة أو الخسيسة ليس كفؤاً لبنت صاحب الصناعة أو الحِرْفة الرفيعة أو الشريفة؛ لأنّ الناس يتفاخرون بشرف حِرَفهم. وقال الحنفيّة: «تثبت الكفاءة بين الحرفتين في جنسٍ واحد، كالبزّاز مع البزّاز، والحائك مع الحائك؛ وتثبت عند اختلاف جنس الحِرْفة إذا كان يقارب بعضها بعضاً، كالبزّاز مع الصائغ، والصائغ مع العطّار؛ ولا تثبت فيما لا مقاربة بينهما، كالعطّار مع البيطار، والبزّاز مع الخرّاز»([12]).

ولنا أن نتصوَّر مدى التعقيد الذي لا مبرِّر له في جميع هذه الأقوال.

والأغرب أنّ جميع ما سبق هو من كلام الفقهاء الذين يقرؤون قول رسول الله|: «كلُّكم لآدم، وآدم من ترابٍ، لا فضل لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأبيض على أحمر»، لكنّهم يجعلون ذلك في باب الاستثناء.

لزوم اختيار الآراء الفقهيّة المناسبة

من الواضح أنّ الآراء الفقهيّة التي ذهبَتْ إلى القول بتكافؤ النَّسَب كانت متأثِّرةً بظروف البيئة الاجتماعية والثقافية السائدة في زمانهم. ولكنْ ماذا عن العصر الراهن، بكلّ تحدِّياته، المختلفة كلِّياً عن ظروف العصور القديمة؟ وهل يصحّ أن يبقى المسلمون في العصر الحديث محكومين بهذه الآراء المتقادمة؟ نحن وإنْ كنّا نحترم تلك الاجتهادات ضمن سياقاتها المغايرة، إلاّ أنّنا إذا انفتَحْنا على النصوص والمبادئ الدينية، وأخَذْنا بعين الاعتبار التحدِّيات والظروف المعاصرة، فإنّ ذلك يتطلَّب منا ترجيح الآراء الأكثر تسامحاً وانسجاماً مع مبادئ الدين وروح العصر، ولا سيَّما أنّ تطبيق مسألة تكافؤ النَّسَب غيرُ داخلٍ في باب الإلزام والوجوب، وإنّما غايةُ ما يُقال: إنّه حقٌّ من الحقوق، التي يمكن التنازل عنها، إذا ما تعارضَتْ مع ما هو أهمّ وأَوْلى.

من هنا، وتَبَعاً لظروف العصر الراهن، ينبغي الأخذ بعين الاعتبار رأي الفتاة في مسألة الزواج. وإذا كانت تصرُّ على الزواج من شابٍّ معيَّن فإنّ رأيها ينبغي أن يكون محلَّ احترامٍ، وذلك بالنظر إلى التداعيات الخطيرة المتوقَّعة في حال تمّ صرفها تحت ضغط العائلة عن الزواج ممَّنْ تريد. وغاية ما هناك أن يجري الحديث معها، ومحاولة إقناعها بصرف النظر عن ذلك الزواج، إذا كانت هناك مبرِّراتٌ صحيحة، وإلاّ فلا جدوى من الضغط عليها إذا تشبَّثَتْ برأيها؛ لما في ذلك من عواقب غير محمودةٍ إذا تزوَّجَتْ لاحقاً بمَنْ لا ترغب فيه؛ حيث ستفقد الاستقرار في علاقتها الزوجيّة الجديدة؛ بالنظر لانشدادها وعواطفها المنشغلة بأحدٍ آخر.

والحال نفسه مع الشابّ الذي جرى رفض ارتباطه بالفتاة التي يحبّ؛ إذ ستكون علاقته الزوجيّة المستقبليّة غير مستقرّةٍ؛ لانشداده إلى فتاةٍ أخرى. وجميع ذلك يقود إلى بروز مشاكل جِدِّية، رُبَما قادَتْ إلى انحرافاتٍ أخلاقية، وتفكُّكٍ أُسَرِيّ. لذلك ينبغي إعادة النظر في هذا الأمر، على نحوٍ يكون هنالك إقرارٌ بحقّ الفتاة في قرار الزواج بمَنْ تشاء، وعلى الأسرة أن تمحضها الرأي، وتساعدها في ترشيد قرارها، مع حفظ حقِّها في اتّخاذ القرار النهائي.

قوامة الرجل واستقلالية المرأة، تكاملٌ أم تضادّ؟

هناك قِيَمٌ أساس أرادها الله سبحانه وتعالى أن تحكم مسار العلاقات بين أبناء البشر، في مختلف الدوائر. ولعلَّ من أبرز تلك القِيَم: قيمة العَدْل، فهي قيمةٌ بالغة الأهمّية؛ وقيمة احترام إنسانية الإنسان، وحفظ كرامته.

إنّ هناك دوائر مختلفة للعلاقات الإنسانية، تبدأ بالعائلة ثمّ المجتمع، ثمّ الوطن، ثمّ الأمّة، وأخيراً الدائرة الإنسانيّة.

ومن غير الخافي أنّ الدائرة الأكثر التصاقاً بالإنسان هي دائرة العائلة؛ فهي الدائرة الأولى التي يرى الفرد الضوء فيها، وينشأ في كَنَفها، ويتأثَّر بها، وضمن هذه الدائرة يبدأ في تلمُّس القِيَم العامّة، وتعلُّم الالتزام بها. فمتى ما نشأ في عائلةٍ تحترم قِيَم العدالة والحُرِّية والكرامة وسائر حقوق الإنسان فإنّه سيتربّى على هذه القِيَم، وسيزعجه مخالفتها ضمن أيّ دائرةٍ أخرى، وسيكون له موقفٌ حاسم في حال مواجهته لأيِّ اعتداءٍ على هذه القِيَم ضمن محيطه الاجتماعيّ. وعلى النقيض من ذلك، إذا ما عاش الفرد أجواء القَمْع وانتهاك حقوقه الإنسانية ضمن محيطه العائليّ فإنّه سيتقبَّل ذات الانتهاكات إذا مورست بحقِّه ضمن محيطه الاجتماعيّ الأوسع، ولن يجد أدنى غرابةٍ في خضوعه للقَمْع في المدرسة أو الشارع أو مكان العمل.

فالعائلة هي الدائرة الأساس التي ينبغي أن تتكرَّس فيها القِيَم، وتتعزَّز من خلالها سلوكيّات الالتزام بها. ويمكن ملاحظة التزام المجتمعات المتحضِّرة بتعزيز هذه القِيَم ضمن المحيط العائليّ في المقام الأوّل؛ لإدراكها التامّ بأنّ انتهاك هذه القِيَم ضمن دائرة العائلة سيجعلها منتهكةً ومهدورةً في باقي الدوائر والساحات.

التزام القِيَم في البيت العائلي

وهذا ما يمكن تلمُّسه ضمن التعاليم الدينيّة؛ فالدين حينما يأمر بالعدل فإنّه لا يأمر بذلك على مستوى الحالة السياسيّة أو الاجتماعية فحَسْب، وإنّما ضمن المحيط العائلي بالدرجة الأولى، وحينما يقرِّر احترام كرامة الإنسان فهو يقرِّرها بدءاً من العائلة. ونجد أبرز تجلِّيات ذلك في تكرار التأكيد على رعاية حدود الله لستّ مرّاتٍ في آيتين قرآنيّتين، من سورة البقرة، تتناولان الشأن العائلي، قال تعالى: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِي مَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ الله فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَأُولَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ الله وَتِلْكَ حُدُودُ الله يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾. وقد جاء التأكيد على ﴿حُدُودُ اللهِ﴾ لستّ مرّاتٍ؛ بغرض التدليل على ضرورة أن تكون العائلة منطلقاً لرعاية الحدود، واحترام القِيَم، سواء في دائرة المجتمع أم الوطن أم الأمّة، وصولاً إلى دائرة الأُسْرَة الإنسانيّة.

فحين يشدِّد الدين على تحقيق العدالة على كلّ الصُّعُد، الاجتماعية والسياسية، وفي العلاقات الدولية، فإنّ نقطة الانطلاق لتحقيقها يبدأ من العائلة أيضاً، قال تعالى في ما يرتبط بتعدُّد الزوجات: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾.

كما ينسحب ذلك على التزام العدالة بين الأولاد، والمساواة بينهم في المعاملة؛ فقد ورد عن أمير المؤمنين× أنه قال: «أبصَرَ رسول الله| رَجُلاً لَهُ وَلَدانِ، فَقَبَّلَ أحَدَهُما وتَرَكَ الآخَرَ، فَقالَ|: فَهَلاَّ واسَيْتَ بَينَهُما»([13])؛ وجاء في حديثٍ آخر عن رسول الله| أنّه قال: «اتَّقوا الله، واعدلوا بين أولادكم»([14]). إنّ معاناة الأبناء من التمييز داخل الأسرة سيجعلهم يتقبَّلون التمييز على الصعيدَيْن الاجتماعي والسياسي.

واستطراداً ينبغي الوقوف عند الفهم الملتَبِس لمسألة قوامة الرجل على الزوجة في المجتمعات المسلمة؛ انطلاقاً من الآية الكريمة ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾، فهل تعني القوامة الإلغاء التامّ لشخصيّة المرأة، كما قد يفهم بعضٌ؟ وهل معنى ذلك أن تتنازل المرأة عن شخصيّتها وكيانها لصالح الرجل، على نحوٍ تكون فيه خاضعةً للسلطة المطلقة للزوج في كلّ المجالات؟

ينبغي أن نقول بوضوحٍ: إنّ القوامة التي تفهم على هذا النحو لا يُقِرُّها الدِّين، ولا يقيم لها الفقه الإسلامي وَزْناً. لكنّ مجتمعاتنا كانت وما تزال ترزح تحت هَيْمنة الأعراف والتقاليد الذُّكورية، التي لا يمتّ بعضُها إلى الدِّين بصلةٍ، وما هو إلاّ التكلُّف في تطويع النصوص الدينية بغَرَض إسباغ الشرعيّة على تلك الأعراف والتقاليد.

هل للرجل سلطةٌ على زوجته؟

فهل للرجل أدنى سيطرةٍ على معتقدات وأفكار زوجته؟ كلاَّ؛ حيث إنّ العلاقة بين الزوجين على الصعيد الفكريّ كالعلاقة بين أيّ اثنين من الناس؛ فقد تختلف الزوجة مع زوجها عَقْديّاً أو فكريّاً، ولا سبيل له عليها، إلاَّ محاولة اقناعها برأيه، أو الاقتناع برأيها، من خلال النقاش وتبادل الآراء؛ فإنْ لم تقتنع الزوجة بوجهة نظر زوجها فلا يحقّ له إجبارُها على النزول عند رأيه.

وعلى غرار ذلك، إذا كانت الزوجة كتابيّةً مثلاً، بناءً على جواز زواج المسلم من الكتابيّة؛ لقوله تعالى: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، فلا يحقّ للزوج أن يجبر زوجته الكتابيّة على اعتناق الإسلام، قال تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾.

إنّنا بإزاء تشريعٍ صارم يحمي حُرِّية الإنسان الدينيّة والعَقْدية. فكون الرجل زوجاً وقوّاماً عليها لا يعني تعطيل تلك القيمة الأساس؛ قيمة الحُرِّية الدينيّة والفكريّة. وتَبَعاً لذلك لا يجوز للزوج إجبار زوجته على اعتناق الإسلام، تماماً كما لا يحقُّ له إجبار أيّ أحدٍ آخر.

وينسحب ذلك أيضاً على الأزواج المختلفين مذهبيّاً، بناءً على جواز الزواج بين المسلمين، على اختلاف مذاهبهم. فلو كان أحد الزوجين من أتباع مذهبٍ معيَّن، والآخر من أتباع مذهبٍ آخر، فلا يجوز للزوج أن يجبر زوجته على ترك مذهبها، واعتناق مذهبه. إنّ زواج الرجل من امرأةٍ مختلفة عنه مذهبيّاً لا يعطيه الحقّ في تغيير مذهبها، أو فرض رأيه العَقْديّ عليها. وكذلك الأمر حيال مختلف التوجُّهات الفكريّة والميول الدينيّة، التي لا يجوز للزوج أن يفرضها على زوجته، أو يكرهها على اعتناقها، بأيِّ حالٍ من الأحوال. وقد شهدنا في وقتٍ من الأوقات محاولاتِ إجبارِ بعض الأزواج زوجاتهم على تقليد مرجعٍ دينيّ، دون غيره، الأمر الذي قاد بعضهم إلى الانفصال؛ نتيجة هذا الجهل المركَّب بالدِّين.

وممّا يُذْكَر في هذا الشأن أنّ الإمامين زين العابدين والباقر’ كانت لهما زوجتان خارجيّتان، وما طلَّقاهما إلاّ لإظهارهما التنقُّص من عليٍّ× وسبِّه. وجاء في روايةٍ عن الإمام الباقر× أنه كان له امرأةٌ، يقال لها: أمّ عليّ، وكانت ترى رأي الخوارج، قال: فأدَرْتُها ليلةً إلى الصبح أن ترجع عن رأيها، وتولّى أمير المؤمنين×، فامتنعَتْ عليَّ، فلمّا أصبحْتُ طلَّقْتُها([15]).

ورُوي عن مالك بن أعين أنه دخل على أبي جعفر×، وعليه ملحفةٌ حمراء، فقال: إن الثَّقَفيّة أكرهَتْني على لبسها، وأنا أُحبّها ـ إلى أن قال ـ: ثمّ دخلتُ عليه وقد طلَّقها، فقال: سمعتُها تبرأ من عليٍّ، فلم يسعني أن أُمْسِكَها وهي تبرأُ منه»([16]).

وعدا عن ذلك لم يكن ليأبه الإمام بأنْ يكون لامرأته رأيٌ مختلفٌ؛ فقد كانت جعدة بنت الأشعث زوجةً للإمام الحسن×، وكان لها انتماءٌ سياسيّ وعَقْديّ مغايرٌ للإمام، ولم يكن الإمام× ليقسرها على النزول عند رأيه.

استضعاف المرأة، وانتهاك سلطتها الماليّة

تمثّل سلطة الإنسان على أمواله وممتلكاته أحد أهمّ تجلِّيات الشعور بالذات وممارسة القدرة؛ ذلك لأنّ حبَّ التملُّك نزعةٌ فطريّة في نفس الإنسان، فإذا ما حاز شيئاً فإنّه يريد أن يشعر بالحُرِّية التامّة في التصرُّف فيه، ومن ثمّ يعتبر أيّ تعويقٍ لهذه الحُرِّية انتقاصاً لذاته، وانتهاكاً لحقِّه. وتقوم كلّ الشرائع والأديان والنظم الاجتماعيّة على احترام سلطة الإنسان على ماله، يتصرَّف فيه كيف يشاء، وتجرِّم التعدِّي على أموال الغير، أو تعويقهم عن التصرُّف في أموالهم.

الناس ـ ومنهم المرأة ـ مُسلَّطون على أموالهم

إنّ هناك الكثير من النصوص الدينية التي تؤيِّد المفهوم القاضي بحقّ الفرد حَصْراً في التصرُّف بأمواله وممتلكاته، ومنها: الحديث الوارد عن رسول الله| أنه قال: «الناس مسلَّطون على أموالهم»([17]). ورغم أنّ هذا الحديث مرسَلٌ عند فقهاء الحديث من ناحية السند، إلاّ أنّه لقي قبولاً عند العلماء والفقهاء، الذين عملوا به، واستندوا إليه في مختلف أبواب الفقه، بل ارتقى إلى أن يكون قاعدةً من القواعد الفقهية التي تتفرَّع عنها المسائل والأحكام.

وورد عنه| أنه قال: «حُرْمةُ مال المسلم كحُرْمة دمه»([18]). وفي ذلك إشارةٌ عميقة إلى قُدْسية الحقوق المالية الفردية، على نحوٍ يساويها بحرمة الدماء؛ فكما أنّه لا يحقّ لأحدٍ التصرُّف بدماء الناس، بأيّ صورةٍ من الصُّوَر، فكذلك الحال مع أموالهم وممتلكاتهم.

وعنه|: «لا يحلّ مالُ امرئٍ مسلمٍ إلاّ بطيب نفسٍ منه»([19]).

وجاء عن الإمام جعفر الصادق× أنّه قال: «إنّ لصاحب المال أن يعمل بماله ما شاء، ما دام حيّاً؛ إنْ شاء وَهَبه؛ وإنْ شاء تصدَّق به؛ وإنْ شاء تركه إلى أن يأتيه الموت»([20]). ويؤكِّد هذا النصّ سلطة الفرد وحقَّه في التصرُّف بماله ما دام على قيد الحياة، حتّى إذا ما توفي انتقل ذلك الحقّ إلى ورثته.

وورد في روايةٍ أخرى عنه× أنه قال: «صاحب المال أحقُّ بماله ما دام فيه شيءٌ من الروح، يضعه حيث شاء»([21]).

وبذلك تشكِّل سلطة الفرد على ماله وممتلكاته قاعدةً عامّة، تجمع عليها الشرائع والأديان والقوانين.

وهنالك استثناءاتٌ يفقد فيها الفرد حقَّ التصرُّف في ما يملك؛ لتنتقل معها صلاحية التصرُّف إلى غيره. كما لو كان المالك صغيراً في السنّ، أو مجنوناً، أو غير راشدٍ، فإنه يفقد بذلك حقَّ التصرُّف في ماله، بل إنّ من الظلم إعطاء حقّ التصرُّف لمَنْ كان هذا حاله؛ لأنّه سيبدِّد أمواله هَدْراً.

ويعالج المشرِّعون هذه الحالات بتعيين الوليّ على أمثال هؤلاء الأشخاص، ليكون للوليّ حقّ التصرُّف في المال، في ما يصبّ في مصلحة المولَّى عليه؛ فإذا كبر الصغير، أو شفي المجنون، أو صلح الفاقد للرشد، تنتقل له حينها صلاحية التصرُّف كاملة؛ باعتباره صاحب المال الأصليّ.

أهليّة المرأة لولايتها على مالها

وإذا كان هذا الأمر يبدو في غاية الوضوح حيال أمر الأولاد الذكور، فماذا عنه حيال الفتيات والنساء؟ وهل للبنت حقّ التصرُّف في مالها حينما تكبر وتصبح بالغةً عاقلةً راشدةً، أم أنّ هناك ولايةً مستمرّة عليها؟

هناك مجتمعاتٌ لا ترى للمرأة صلاحية التصرُّف في أموالها، وإنّما تكون محصورةً في الرجل القائم على شؤونها، أباً أو زوجاً.

ومردُّ ذلك إلى النظرة الدُّونية تجاه المرأة.

غير أنّ الإسلام يرفض هذا التسلُّط، جملةً وتفصيلاً.

إنّ الشريعة الإسلامية تقرِّر على نحوٍ قاطع بأنّ للمرأة، كما الرجل تماماً، أهليّة التملُّك وحقّ التصرُّف في أموالها وممتلكاتها؛ ذلك أنّ الحديث الشريف: «الناس مسلَّطون على أموالهم» يصدق على المرأة تماماً، باعتبارها جزءاً من الناس؛ وكذلك الحال مع الحديث الآخر: «لا يحلّ مالُ أمرئٍ مسلمٍ إلاّ بطيب نفسٍ منه». وبذلك تكون المرأة كالرجل، لها استقلاليّتها التامّة في قرارها الماليّ، ووضعها الاقتصاديّ. كما لها حقّ التملُّك عبر مختلف الوسائل المتاحة. ومتى تملَّكت أصبحت المتصرِّف الوحيد بمالها وأملاكها، ولا ولاية لأحدٍ عليها. فالأب ليس وليّاً على ابنته في تصرُّفاتها الماليّة إذا كانت بالغة عاقلة راشدة، كما لا يحقّ له التصرُّف بشيءٍ من مال ابنته إلاّ بإذنها وموافقتها؛ فإنْ أجازَتْ لأبيها التصرُّف، وإلاّ فلا يجوز له ذلك، وهو في هذا الأمر كالأجنبيّ.

والحال نفسه ينطبق على الزوج، فلا قيمومة للرجل على زوجته في الشأن الماليّ؛ فهي صاحبة الملك أنّى حازَتْ عليه، سواء من خلال الإرث أو المهر المُعْطَى لها، قال تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً﴾. والصداق الوارد في الآية الكريمة جاء بمعنى المهر، فإنْ أُعطِيَ للمرأة ﴿نِحْلَةً﴾، أي هبةً وعطيّةً، فقد أصبحَتْ صاحبة الحقّ المطلق فيه. إذا أعطَتْ هي حقّ التصرُّف بمهرها لأيِّ أحدٍ فله ذلك، وإلاّ فلا. وهذا ما ينطبق على سائر الممتلكات الواقعة تحت يد المرأة، من إرثٍ أو هديةٍ أو تجارة، فهو ملكها، وتحت تصرُّفها وحدها، ولا يصحّ للزوج أن يتصرَّف في شيءٍ من أموال زوجته إلاّ بإذنها ورضاها. هذا ما أجمع عليه الفقهاء في كلّ المذاهب الإسلاميّة.

حقّ المرأة في العمل والاكتساب

للمرأة حقُّ العمل والكسب، كما للرجل تماماً. وإذا كان هناك من تفصيلٍ في هذا الشأن فهو ذاك المتعلِّق بعمل المرأة المتزوِّجة، وما إذا كان ينبغي لها أخذ الإذن من زوجها؟

والجواب عن ذلك أنّها لا تحتاج إلى إذن زوجها للعمل والتكسُّب متى كان عملها من داخل بيتها، كأنْ يكون عملها من بُعْدٍ باستخدام الحاسب الآليّ، والاستفادة من شبكة الإنترنت، كما بات معروفاً في سوق العمل، أو من خلال الكتابة ومراسلة الصُّحُف، أو خياطة الملابس، أو النسيج، أو أعمال التجميل والمكياج، فلا سبيل له عليها في جميع ذلك.

ومردُّ ذلك إلى أنّ للزوج على زوجته حقَّين فقط، هما: حقّ الاستمتاع؛ وحقّ المساكنة. وما دام عملها لا يتعارض مع هذين الحقَّين فلا حاجة لها لاستئذان زوجها في العمل.

أما إذا كان عمل الزوجة يستلزم خروجها من البيت فعندها ينبغي أن لا يتعارض مع حقّ المساكنة، وذلك بناءً على الرأي الفقهي القائل بعدم صحّة خروج المرأة من بيت زوجها إلاّ بإذنه، على اختلافٍ تفصيليّ بين الفقهاء حول ما إذا كان وجوب الاستئذان بالخروج على نحو الإطلاق أم أنّ الوجوب لا يقع إلاّ في حال زاحم خروجها حقَّه في الاستمتاع؛ حيث يرى بعض الفقهاء بأنّ استئذان المرأة في الخروج من المنزل ليس واجباً على نحو الإطلاق، ما دام لا يتعارض مع حقّ الاستمتاع؛ في حين يرى فقهاء آخرون عدم جواز خروج المرأة من البيت مطلقاً إلاّ بإذن زوجها.

وبناءً على الرأي الأخير إذا أجاز لزوجته الخروج للعمل، أو كان ذلك مشروطاً في عقد الزواج، فإنّ الأَجْر الذي تحصل عليه لقاء عملها يكون حقَّها وملكاً لها وَحْدها، ولا يصحّ للزوج أن يتصرَّف في شيءٍ منه إلاّ بإذنها ورضاها.

النفقة حقٌّ ثابت للزوجة

إنّ حقّ النفقة ثابتٌ للمرأة على الزوج في كلّ الأحوال، حتّى لو كانت غنيّةً غير محتاجةٍ. وذلك بخلاف نفقة الرجل على والدَيْه، التي لا تكون واجبةً عليه إلاّ إذا كان الوالدان محتاجين، وليست واجبةً في حال كان الوالدان مقتدرَيْن ماليّاً. وكذلك الحال بالنسبة إلى نفقة الأب على الأولاد، فهي غير واجبةٍ إذا ما كان الأولاد مقتدرين ماليّاً. لكنّ حقّ المرأة في النفقة لا يسقط أبداً، فهو حقٌّ ثابت في كلّ الأحوال، سواء كانت محتاجةً لتلك النفقة أم كانت ثريّةً غير محتاجةٍ.

 

ابتزاز المرأة ماليّاً

المرأة هي صاحبة الحقّ والمتصرِّف الوحيد في أموالها وأملاكها، وليس من حقّ أحدٍ، لا أباً ولا أخاً ولا زوجاً، التصرُّف في شيءٍ من أموال المرأة إلاّ بإذنها ورضاها. وقد استخدم القرآن الكريم تعبيراً دقيقاً في هذا الصَّدد، قال تعالى: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً﴾، ويعني ذلك أنّ الاستثناء الوحيد لأخذ شيءٍ من أموال المرأة إذا كان ذلك عن طيب نفسٍ منها، لا أن يجري الاستحواذ على مالها بالابتزاز، وممارسة الضغوط عليها، كما بات يجري في كثيرٍ من القضايا والحالات.

والاستحواذ على هذا النحو على مال المرأة، زوجةً أو بنتاً أو أختاً، أمرٌ غير جائزٍ شرعاً. ومن ذلك: ما يفعله بعض الآباء الذين يحرمون بناتهم العاملات من الزواج؛ طمعاً في دخلهنّ. وقد نشرَتْ إحدى الصحف السعوديّة قبل فترة عن امرأةٍ لم يتسنَّ لها الزواج إلاّ بعد وفاة أبيها، وقد بلغَتْ الأربعين من العمر؛ وذلك لأنّ أباها درج على الاستحواذ على أجرها الشهريّ، ولا يريد أن يخسر ذلك. ولطالما تحجَّج بعض الآباء في رفضهم لطالبي الزواج من بناتهم بأنّ الخاطب إنّما يطلب يد ابنته طَمَعاً في مالها، والصحيح أنّ هذا الأب هو الطامع في أموال ابنته، لا ذاك الخاطب، ويُعَدّ تصرُّف الأب هذا شكلاً من أشكال الجَوْر المحرَّم شرعاً.

وتعجّ الصحافة المحلّية بالتقارير والتحقيقات التي تتناول هذا النوع من القضايا. فما يزال هنالك إخوةٌ يمنعون أخواتهم من استلام نصيبهنّ من إرث أبيهم؛ استضعافاً لهنّ. ومما يفاقم ذلك انتشار ثقافة العَيْب حيال رفع القضايا أمام المحاكم، ومطالبة النساء بحقوقهنّ من إخوانهنّ، على اعتبار أنّ الدخول في مشاكل قضائيّة مع الإخوة؛ لقاء حفنةٍ من المال، هو أمرٌ معيب! إضافة إلى الأعراف والتقاليد المحلّية، حيث تبدو إجراءات التقاضي أمام المحاكم غير مشجِّعةٍ للمرأة في كثيرٍ من الأحيان، ما يؤدّي إلى ضياع وخسارة الحقوق.

وفي هذا الصدد نشرت صحيفة المدينة، في عددها ليوم 6 فبراير 2016م، تحقيقاً لافتاً بعنوان: «جاهلية القرن الحادي والعشرين…، وأد ميراث النساء»، وتناولت الصحيفة عدداً من الدراسات الجامعية حول الموضوع، ومن ذلك: ما أشارت له دراسة مصرية تقول: إنّ 95% من نساء الصعيد محروماتٌ من الميراث. ولنا أن نتخيَّل هذه النسبة الهائلة في مجتمعٍ مسلم يعيش في هذا القرن. كما أثبتت الدراسة أنّ 38% من النساء لا يطالبن بحقهنّ في الميراث؛ لمعرفتهنّ باستحالة حصولهنّ على هذا الحقّ! في حين اعتبر 29% من العيِّنة الخاصة بالدراسة أنّ تقاليد وعادات العائلة تمنعهنّ من المطالبة بالميراث.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ بعض الأزواج يستندون إلى بعض المرويّات في تخويل أنفسهم حقّ التصرُّف بأموال زوجاتهم. ومن ذلك: ما ورد من «أنْ ليس للمرأة أن تتصرَّف في مالها، حتّى في أمور البرّ، إلاّ بإذن زوجها».

إلاّ أنّ هذه الرواية وأمثالها تتصادم وآياتٍ قرآنيّة واضحة؛ كما تصادم نصوصاً قطعيّة من السنّة النبويّة. ناهيك عن مصادمتها لقواعد أساسيّة في الفقه. لذلك لا يمكن القبول بها. وقد حمل بعض الفقهاء الرواية على الاستحباب، بحيث يستحبّ للمرأة، وفق هذا الرأي، أن لا تنفق من أموالها في مختلف أوجه البرّ إلاّ بإذن زوجها.

مساعدة الزوجة لزوجها

وحين ينصّ الحكم الشرعي على حقّ المرأة وحدها في التصرُّف بأموالها فإنّ ذلك لا يعني نَأْيَها عن دعم أُسْرَتها، وخاصّة إذا كان الزوج من محدودي الدَّخْل، وذلك على قاعدة العِشْرة الحَسَنة والحياة المشتركة بينهما. وما عسى أن تفعل المرأة بالمال إذا لم تخدم به أُسْرَتَها، ولا سيَّما أنّ بعض النساء يمارسْنَ حقَّهنّ في التصرُّف بأموالهنّ بشكلٍ خاطئ؛ كما في تبديدها على التبضُّع وملاحقة صرعات الموضة واقتناء الكماليات، في الوقت الذي يعوز منزل أُسْرَتها أشياء أساسيّة! وفي حين يمكن القول: إنّه لا يجب على المرأة من الناحية الشرعيّة أن تنفق على أسرتها، ولكنْ ماذا عن الناحية الأخلاقية، وتأثير ذلك على حياة الأُسْرَة؟ وفق هذه الاعتبارات ينبغي للمرأة صاحبة الدَّخْل المالي أن تعين زوجها، وترفِّه عن أُسْرَتها؛ لأنّ قيمة المال تكمن في توفيره الراحة للإنسان ولمَنْ حوله. وهذا الخطاب يعني المرأة المقتدرة، كما يعني الرجل المقتدر؛ حيث ينبغي للمرأة أن تشارك مجتمعها، وتساعد أُسْرَتها، شريطة أن يكون جميع ذلك عن طيب نفسٍ منها، وليس فَرْضاً عليها، ولا ابتزازاً لها.

إنّ الوَسَط النسائي بحاجةٍ إلى ثقافةٍ واعية، تدفع المرأة إلى وضع الأولويّات حيال مسألة الإنفاق، على نحوٍ تأخذ بعين الاعتبار الوضع العائليّ، وحاجة الأرحام، ومساعدة المجتمع.

كيف نواجه العنف ضدّ المرأة؟

شاءت الحكمة الإلهيّة أن يتّصف كلٌّ من الرجل والمرأة بصفاتٍ متفاوتة، وأن يضطلعا بأدوار مختلفة في هذه الحياة. ومن ذلك أن تظهر سمات القوّة والخشونة في شخصية الرجل، وأن يتجلَّى اللِّين والعطف والحنان في شخصية المرأة؛ لأن طبيعة دَوْر الرجل في الحياة تتطلَّب جانباً من القوّة الجسدية، وطباعاً أقرب إلى الصلابة والخشونة.

أمّا طبيعة الدَّوْر الإنسانيّ العظيم الذي تقوم به الأنثى في الحياة فيقتضى أن تكون شخصيتها ممتلئةً بالعطف والحنان والنعومة. وهذا الجانب العاطفي تحديداً هو ما يحتاجه الذَّكَر من شقِّه الآخر، أي الأنثى، بدءاً من اللحظة التي يتكوَّن جنيناً في رحمها، لتتحمَّل عندها آلام الحمل، ثمّ مخاض الولادة الخطير، ذلك المخاض الذي لو خُيِّرَتْ أيُّ امرأة تكابده بين حياتها وحياة مولودها لآثرت معظم الأمّهات حياة وليدها على نفسها.

إنّ الحنان الذي يتغذَّى منه الإنسان مع حليب أمّه، حين تحوطه بأحضانها، وتفديه بنفسها، وتغمره برعايتها، ليلاً ونهاراً، هو ذات الحنان والعطف الذي يحتاجه الرجل من المرأة، حتّى يبنيا معاً حياةً زوجيّة سعيدة، حيث تجتذبه بنعومتها وعطفها وحبِّها، وذلك بأجمعه ما ينبغي أن يكون محلّ تقدير الرجل.

إلاّ أن العكس قد يحصل، فتكون هذه الرقّة والحالة العاطفيّة عند المرأة في الكثير من الأحيان دافعاً لاستقواء الرجل عليها. ولعلّ ذلك انعكاساً لطبيعة الإنسان عند الشعور بالقوّة تجاه مَنْ هم أضعف منه؛ حيث يجد في ذلك إغراءً وتشجيعاً على الاعتداء والتجاوز على حقوق الآخرين. وهذا عين ما نجده من تعسُّف السلطات بحقّ الشعوب، وتجبُّر الأغنياء على الفقراء، وتعنُّت أرباب العمل على العاملين، في مصداقٍ للآية الكريمة: ﴿إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى﴾.

 

المرأة تعاني من العنف إلى اليوم

ورغم التقدُّم الهائل الذي شهدَتْه البشرية، إلاّ أنّ المرأة لا تزال هَدَفاً للعنف والعدوان الصادر عن الرجل. مع تطوّر أوضاع المرأة في العصر الراهن، على نحوٍ مغاير لمعظم فترات التاريخ، بحيث لم تعُدْ المرأة اليوم كما كانت بالأمس، ولا سيَّما أنها قد امتلكَتْ كثيراً من مقوّمات القوّة التي كان ينفرد بها الرجل على مرّ العصور، فقد أصبح بيدها المال والعلم والمكانة الاجتماعية والوظيفية، وبالرغم من كلِّ ذلك لم تتجاوز المرأة بعدُ حالة المعاناة من العنف والعدوان الصادر عن الرجل.

ولعلّ أبرز دليل على ذلك هو إعلان منظّمة الأمم المتحدة يوم 25 نوفمبر من كلّ عامٍ يوماً دوليّاً للقضاء على العنف ضدّ المرأة، حيث لا تزال تعتبر المرأة ضحيّة العنف والعدوان على شخصيّتها وحقوقها في معظم دول العالم.

واللافت أنّ الإحصاءات الأُمَمية، بحَسَب شعبة السكّان في الأمم المتحدة، تشير إلى أنّ النساء يمثلن 49,7% من تعداد السكان العالمي، أي إنهنّ يمثِّلْنَ أقلّ من نصف البشريّة بنسبةٍ ضئيلة، لكنّهنّ مع ذلك كنَّ ولا زلْنَ يمثِّلْنَ النسبة العظمى من ضحايا العنف، في الدول النامية والدول المتقدّمة على حدٍّ سواء.

فقد أشارَتْ الإحصاءات الصادرة عن الأمم المتحدة، بمناسبة اليوم العالمي للقضاء على العنف ضدّ المرأة، إلى أرقام مزعجة؛ ففي الولايات المتّحدة الأمريكية وحدها تتعرّض امرأةٌ للضرب على يد زوجها أو شريكها كلّ 15 ثانية؛ وفي روسيا تتعرّض 3600 امرأة للضرب يوميّاً على أيدي أزواجهنّ.

لماذا تضطهد المرأة؟

هناك جملةٌ من الأسباب تقف خلف تزايد حالات الاعتداء والعنف ضدّ المرأة. فبالإضافة إلى تفشِّي حالة الاستقواء الجسديّ على المرأة عند الرجال عامّة، هناك أيضاً ثقافةٌ شائعة عند كثير من المجتمعات تبرِّر هَيْمَنة الرجل على المرأة، لمجرَّد كونها امرأةً وحَسْب.

والأنكى من ذلك حين تسبغ الصبغة الدينيّة لحالة الهَيْمَنة الذُّكورية على المرأة في المجتمعات المحافظة، مع أنّ الدِّين لا يقبل بالظلم على أيِّ نحوٍ كان. بل العكس هو الصحيح؛ فالدِّين يدعو لتقدير المرأة واحترامها.

فقد أورد ابن عساكر عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب×، عن رسول الله| أنه قال: «خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلي، ما أكرم النساء إلاّ كريمٌ، وما أهانهنّ إلاّ لئيمٌ»([22]). واللافت أنّ القناعات السائدة وسط النساء أنفسهنّ قد تشكِّل عاملاً آخر من عوامل انتشار العنف ضدّ المرأة؛ فقد أشارت الإحصاءات إلى أن 50% من النساء في العالم يعتقدْنَ أنّ العنف المرتكب ضدهنّ من قِبَل الرجل هو عنفٌ مبرَّر، ما يعني القبول ضمناً بالوقوع ضحيّةً للعنف المرتكب بحقهنّ، وذلك بالنظر إلى نَمَط التربية النفسية والمجتمعية التي درجْنَ عليها.

ضرورة التغيير الثقافيّ

لقد آن الأوان أنْ تتغيَّر ثقافة القبول بوقوع المرأة ضحية العنف، تحت غطاءٍ أو آخر، في مختلف المجتمعات. ولعلّ من وسائل التغيير على هذا الصعيد أن يجري تصحيح الثقافة الدينيّة الشائعة، من خلال إثارة النصوص الدينيّة الصحيحة، التي تحترم كيان المرأة، وتوصي بها خَيْراً. وكم في القرآن الكريم وفي السنّة الشريفة من النصوص التي تشيد بمكانة المرأة، طفلةً وأختاً وزوجة وأمّاً؟ لكنّ النصوص الأكثر انتشاراً هي التي تدعم المزيد من هَيْمَنة الرجل على المرأة، مع ما يصاحب تلك النصوص من ترجمةٍ متعسِّفة، وعلى النحو الذي يخدم حالة الاستقواء على المرأة، ومن ذلك: الآية الكريمة: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾، إلى جانب الروايات الواردة في هذا السياق، من قبيل: «لو كنتُ آمر أحداً بالسجود لأحدٍ لأمرتُ المرأة بالسجود لزوجها».

في مقابل ذلك يجري تجاهل كثيرٍ من النصوص الأخرى، التي تؤكِّد مكانة المرأة. ومن ذلك: النصّ الوارد عن النبيّ|: «الجنّة تحت أقدام الأمّهات»([23])؛ و«تحت أقدام الأمهات روضةٌ من رياض الجنّة»([24])؛ وفي رواية أخرى: «جاء رجلٌ إلى النبيّ| فقال: يا رسول الله، مَنْ أبرّ؟ قال: أمّك، قال: ثمّ مَنْ؟ قال: أمّك، قال: ثمّ مَنْ؟ قال: أمّك، قال: ثمّ مَنْ؟ قال: أباك»([25])؛ وفي صحيح مسلم: «قال رجلٌ: يا رسول الله، مَنْ أحقُّ الناس بحُسْن الصُّحْبة؟ قال: أمُّكَ، ثمّ أمُّكَ، ثمّ أمُّكَ»([26]). أوَلَيْسَتْ هذه الأمّ هي نفسها المرأة التي يجري تبرير الهَيْمَنة عليها بكلّ السُّبُل.

وقد ورد في السياق نصوصٌ كثيرة تحضّ على حُسْن التعامل مع الزوجة، والنهي عن إيذائها؛ فقد ورد عن رسول الله| أنه قال: «ألا وإنّ الله عزَّ وجلَّ ورسوله بريئان ممَّنْ أضرّ بامرأةٍ حتّى تختلع منه»([27])، أي إنّ الله سبحانه ورسوله بريئان ممَّنْ يضرّ بامرأته حتّى يلجئها إلى طلب الطلاق منه؛ كما ورد عن النبيّ| أنه قال: «إني لأعجب ممَّنْ يضرب امرأته وهو بالضرب أَوْلى منها»([28])؛ وقال أمير المؤمنين×: «إنّ النساء عند الرجال لا يملكْنَ لأنفسهنَّ خَيْراً ولا نَفْعاً، وإنهنَّ أمانةُ الله‏ عندكم، فلا تضارّوهُنَّ ولا تعضلوهُنَّ»([29]).

هنا يمكن القول: إنّه لا عبرة للحالات القليلة الشاذّة التي تكون فيها المرأة هي المعتدية على الزوج، فلا يمكن تبرير حالات الاعتداء على المرأة بوجود نسبةٍ من حالات الاعتداء الصادرة عن بعض النساء ضدّ أزواجهنّ. إنّ مجتمعاتنا الإسلامية في أمسّ الحاجة إلى الثقافة التي تعيد للمرأة كرامتها، ولا سيَّما أن مظاهر إيذاء المرأة، والعنف الأُسَريّ في مجتمعاتنا، قد أصبحت تنال من سُمْعة ديننا الحنيف، وتُشوِّه صورته على مستوى العالم.

حتّى نعرف قَدْرها

ولغرض إدراك قيمة المرأة واحترام مكانتها ينبغي فَهْم أدوارها العظيمة في الحياة. ويُذْكَر في هذا السياق أنّ مستشفىً صينيّاً عرض القيام بتجربةٍ مصطنعة على رجالٍ متطوعين، توضِّح مدى المعاناة والآلام التي تنتاب المرأة أثناء المخاض والولادة، وقد استجاب للتجربة نحو 100 رجلٍ، وتمّ وضع أجهزة فوق منطقة البطن عندهم، بحيث تحدث الأجهزة صدماتٍ كهربائية مشابهةٍ لآلام الولادة، لمدّةٍ تتراوح بين خمس وعشر دقائق، وكانت تلك كافية للتسبُّب بأوجاع مبرّحة، تجعل المتطوِّع يتلوّى ألماً، حتى أنّ أحد المتطوِّعين لم يستطِعْ تحمُّل الآلام لأكثر من دقيقةٍ إلى دقيقتين فقط، وانسحب من التجربة. ويقول القائمون على التجربة: إنّ أكثر المتطوِّعين لم يستطيعوا تحمُّل آلام التجربة المصطنعة، مع أنّها لا يمكن أن تضاهي آلام الولادة الحقيقيّة([30]). ينبغي للرجل أن يدرك حجم الألم الذي تكبَّدَتْه زوجته لتنجب له أطفالاً، فهي بين الحمل والولادة كانت في حقيقة الأمر بين الحياة والموت، هذا إنْ لم تكن شارفَتْ على الموت فعلاً، فكيف للرجل أن يكافئها على صنيعها هذا؟!

إنّ قسوة الأزواج على زوجاتهم تترك أثرها السلبيّ والدائم في نفوس الأبناء. ويؤكِّد تقريرٌ علميّ نفسيّ أنّ علاقة الرجل بأبنائه تتأثَّر إلى حدٍّ كبير بعلاقته بزوجته أمّ أطفاله. ويعلِّل التقرير بأن انعكاسَ رؤية الأولاد الصغار أباهم يسيء معاملة أمِّهم بالضرب والإهانة يكون مدمِّراً على نفسيّتهم ومشاعرهم؛ لكونهم يرَوْن أمّهم، التي يعتبرونها ملجأهم الأخير، في تلك الحالة المزرية.

وتشير الإحصاءات إلى أنّ نسبةً كبيرة من الأبناء الذين يكرهون آباءهم، وقد يُسيئون إليهم، إنما يفعلون ذلك نتيجةً لردّ فعلهم على ما رأَوْه من سوء معاملة الآباء لأمّهاتهم. ولا تفسير لتصرُّف الأبناء إلاّ بأنه نوعٌ من الانتقام اللاواعي من تصرُّف الأب بحقّ أمِّهم. ويضيف التقرير: إنه، بالرغم من اعتقاد بعض الآباء أنّ زوجاتهم هنَّ مَنْ يقمْنَ بزرع كراهية الأبناء لهم، إلاّ أنّ ذلك الاعتقاد خاطئٌ، جملةً وتفصيلاً، فما يلحظه الأبناء من سوء معاملة الأب لأمِّهم هو الذي يزرع شيئاً من الكراهية في نفوسهم تجاه الأب.

ولطالما سمعنا من الأبناء، حتّى العقلاء والمتديِّنين منهم، ممَّنْ يأتون على سيرة آبائهم الراحلين بالإشادة، إلاّ أنّهم لا يملكون مع ذلك إلاّ التصريح بمرارةٍ عن مآخذهم على قسوة الأب على أمِّهم، وكأنَّ ذلك الجرح النفسيّ يأبى أن يندمل في نفوسهم. لذلك ينبغي للأب، الذي يحبّ أبناءه ويريد إكرامهم، أن يضع في اعتباره أنّ تعامله مع زوجته أمّهم له دَوْرٌ كبير في إشعار الأبناء بالكرامة والتقدير.

علينا جميعاً أن نستذكر جهود أمّهاتنا، وأن نستمطر لهنّ الرحمات، وأن نقابل جهود وأتعاب زوجاتنا بالتقدير، وأن نحترم مشاعر بناتنا، كما يعلِّمنا الدِّين، وتربِّينا تعاليم النبيّ|، الذي كان مضرب المثل في التعامل الحَسَن مع أزواجه وبناته، ذلك التعامل الذي ينبغي أن نقتدي به، وهو القائل|: «خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلي».

الهوامش

(*) كاتبٌ وباحث، ومن أبرز الشخصيات الإسلاميّة في المملكة العربية السعوديّة، ومن الشخصيات الناشطة في مجال التوعية الدينيّة، وعلى صعيد التقريب بين المذاهب الإسلاميّة.

([1]) البحراني، الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة 23: 212.

([2]) الكليني، الكافي 5: 394، ح5.

([3]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 20: 285 ـ 2٨٦، ح25٦43.

([4]) الطوسي، الاستبصار 3: 234، ح٨42.

([5]) السيد محسن الطباطبائي الحكيم، مستمسك العروة الوثقى 14: 442.

([6]) محمد بن يزيد القزويني، سنن ابن ماجة 1: ٦٠٢، ح1٨74 (بتفاوتٍ يسير).

([7]) السيد محمد الشيرازي، الفقه كتاب النكاح 64: 27.

([8]) الكافي 5: 34١.

([9]) ابن قدامة، المغني 9: 392.

([10]) الموسوعة الفقهية 34: 273.

([11]) المصدر السابق 34: 274.

([12]) المصدر السابق 34: 277.

([13]) المصدر السابق 71: 84.

([14]) كنـز العمال 16: 445، ح4534٨.

([15]) وسائل الشيعة 20: 552، ح2٦325.

([16]) المصدر السابق 20: 551 ـ 552، ح26324.

([17]) بحار الأنوار ٢: ٢٧٢، ح7.

([18]) كنـز العمال 1: 93، ح4٠4.

([19]) مسند الإمام أحمد بن حنبل 6: 903، ح20٩71.

([20]) الكافي 7: 8، ح10.

([21]) المصدر السابق 7: 7، ح1.

([22]) كنـز العمال، ج16: 371، ح44943.

([23]) المصدر السابق ١٦: ٤٦١، ح4543٩.

([24]) الميرزا النوري، مستدرك الوسائل ١٥: ١٨١، باب 7٠، ح4.

([25]) وسائل الشيعة ٢١: ٤٩١، ح27670.

([26]) صحيح مسلم، كتاب البِرّ والصِّلة والآداب، ح2548.

([27]) الصدوق، ثواب الأعمال: ٢٨٧.

([28]) المجلسي، بحار الأنوار ١٠٠: ٢٤٩، ح37.

([29]) جامع أحاديث الشيعة ٢٠: ٣٢٦.

([30]) صحيفة الرياض، الاثنين 17 محرّم 1436هـ، الموافق 10 نوفمبر 2٠14م، العدد 16940.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً