أحدث المقالات

د. محمد هادي گرامي(*)

ترجمة: مرقال هاشم

المقدّمة

إن من بين الأمور التي تُعَدّ بالغة الأهمّية في الدراسات التاريخية، ولا سيَّما في مجال تاريخ الفكر، وكذلك تاريخ الفِرَق، معرفة التيارات الداخلية ضمن فرقةٍ أو دين كبير.

إن المراد من التيار في هذا المقال مجموعة من الأشخاص يتمّ النظر إليهم ـ لأيّ سببٍ من الأسباب ـ من قِبَل أبناء عصرهم ومجتمعهم بنظرةٍ متميّزة وخاصة. ومن هنا فإن كاتب هذا المقال لا يقصد التيارات التي هي حصيلة تقسيم وتسمية المؤرِّخين في المراحل اللاحقة في إطار معرفة التاريخ على نحوٍ أفضل([1]). ولرُبَما كان الناس أنفسهم يجهلون وجود هذه التيارات في خلفيتها التاريخية([2]). كما أن المراد من استعمال مصطلح «صنع التيارات» في هذا المقال ليس هو خلق الفِرَق، بل هو ذات المفهوم المستعمل في الحرب النفسية، بمعنى إثارة الأجواء الدعائية وشنّ حملة إعلامية ضدّ فردٍ أو جماعة. يُضاف إلى ذلك أن استعمال مصطلح «التيار» بشأن جماعةٍ خاصّة في هذه المقالة لا يحمل بُعْداً معيارياً وعقائدياً، وإنما هو مجرّد تعبيرٍ توصيفي لمكانتهم الاجتماعية. ومن ذلك، على سبيل المثال: إنه عندما يتمّ في هذا المقال استعمال مصطلح «تيّار هشام بن الحكم» يكون المراد هو وجود مجموعة في تلك الحقبة التاريخية موضوع الدراسة كانت تُعْرَف بـ «أتباع هشام بن الحكم».

نسعى في هذا المقال إلى التعريف بأحد أبرز التيارات الإمامية المتقدِّمة، وهو «تيّار هشام بن الحكم»، الذي قلَّما نال حظَّه من الاهتمام في الدراسات التقليدية حتى هذه اللحظة. وفي الحقيقة والواقع، على الرغم من وجود دراسات بشأن بعض شخصيات هذا التيار بشكلٍ مستقلّ، وكذلك توفّر بعض الدراسات حول العقائد المنسوبة إليهم، من قبيل: التشبيه، بَيْدَ أنه لم يتمّ تسليط الضوء على العلاقة القائمة بين شخصيات هذا التيّار بوصفهم جماعةً مستقلّة حتّى الآن إلاّ نادراً. يسعى كاتب المقال، استناداً إلى منهج التحليل التاريخي ـ بعد بيان بعض الشواهد على النشاط التاريخي لجماعةٍ تُعْرَف بـ «تيّار هشام بن الحكم» ـ إلى التعريف بالأسباب التي أدّت إلى تميُّز أتباع هذا التيار، ومنها: بعض الاتهامات الموجَّهة لهم، وبعض المعتقدات الخاصة بهم. يذهب كاتب المقال إلى الاعتقاد بأن أهمّ اصطفاف في الجسد الإمامي في القرنين الثاني والثالث الهجريين هو اصطفاف أكثرية الشيعة الإمامية في مواجهة جماعة يتمّ التعبير عنها في هذا المقال بـ «تيّار هشام بن الحكم»، ويشمل هذا التيّار: هشام بن الحكم، وسلسلة تلاميذه، من أمثال: يونس بن عبد الرحمن، والفضل بن شاذان. وكانت هذه الجماعة من وجهة نظر كاتب المقال، واعتراف بعض المحقِّقين والباحثين المعاصرين، تمثِّل الأقلّية([3]).

1ـ جذور الحضور التاريخي لتيّار هشام بن الحكم

إن من بين التيارات التي يمكن تمييزها في التاريخ المتقدِّم للإمامية بوضوحٍ تيار هشام بن الحكم وسلسلة تلاميذه، ولا سيَّما منهم: يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان. هناك بين أيدينا الكثير من التقارير التي تثبت الاصطفاف الداخلي والمواجهة من قِبَل الكثير من الإمامية المتقدِّمين لهشام بن الحكم وتلاميذه. ورُبَما كان من أهمّها وأشهرها اختلاف هشام بن الحكم مع هشام بن سالم الجواليقي حول كيفية الله سبحانه وتعالى([4])؛ حيث تشير بعض التقارير بحَسَب الظاهر إلى أن هشام بن الحكم كان يقول بالتجسيم، في حين كان هشام بن سالم يقول بالتصوير([5]). وهناك الكثير من التقارير في هذا الشأن. وإن هذه التقارير لا تعبِّر عن مجرّد اختلاف بين شخصين فحَسْب، فقد وَرَد في بعضها التعبير بأن هذا ما يقوله أصحاب هشام بن الحكم، وهذا ما يقوله أصحاب هشام بن سالم الجواليقي([6]). ومن ناحيةٍ أخرى نجد هذه التقارير لا تقتصر على مرحلة الإمام الصادق×، بل إن هذا الاصطفاف بين الطرفين بشأن كيفية الله سبحانه وتعالى من الاستفحال والاستشراء بحيث يمتدّ إلى عصر الإمام الرضا×، حيث يستمرّ النقاش والجَدَل في هذه المسألة([7]). وفي الحقيقة إن هذه التقارير تشير إلى اختلاف بين تيّارين فكريّين تواصل إلى عصر الإمام الرضا أيضاً([8]). ويمكن استنباط الاصطفاف في مقابل تيّار هشام بن الحكم من خلال التقارير الرجالية أيضاً.، فقد ذكر الكشّي في وصف أحد رجال كتابه أنه كان من المخالفين لهشام بن الحكم ويونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان. إن هذا التعبير يكشف بوضوحٍ عن وجود تيّار خاصّ كان هؤلاء الثلاثة ضمن تشكيلته([9]).

طبقاً لروايةٍ ينقلها أحمد بن محمد بن عيسى الأشعريّ فإن عليّ بن حديد كان ينهى عن الصلاة خلف جماعة يعبِّر عنهم بـ «يونس وأصحابه»([10]). وكان الحسن بن عليّ بن يقطين يقف في الجبهة المخالفة ليونس بن عبد الرحمن. وهناك كلامٌ مأثور عنه في ذمّ يونس([11]). وفي روايةٍ أخرى نجد سليمان بن جعفر الجعفري ـ وهو من أصحاب سرّ الإمام الرضا× ـ يقول: «سألتُ أبا الحسن الرضا× عن هشام بن الحكم؟ قال: فقال لي: رحمه الله، كان عبداً ناصحاً، أوذي من قِبَل أصحابه؛ حسداً منهم له»([12]). إن هذه الرواية تثبت أوّلاً: إنه كان هناك جماعة قد اصطفّت في مقابل هشام بن الحكم؛ وثانياً: إن مبادرة سليمان إلى هذا السؤال تثبت أنه عاصر هذا الاصطفاف الموجَّه ضدّ هشام بن الحكم، الأمر الذي أحاط شخصيّته بهالةٍ من الغموض.

كما أن التقارير الرجالية تشير إلى مواجهة القمّيين ليونس بن عبد الرحمن؛ إذ إن أغلب روايات التجريح ليونس قد صدرت من جهة القمّيين تقريباً. ومن ناحيةٍ أخرى إن أغلب روايات الثناء على يونس بن عبد الرحمن تعود إلى حلقة الفضل بن شاذان وأصحابه في نيسابور([13]).

يُضاف إلى ذلك أن العنصر الآخر الذي يعبِّر عن هذا الاصطفاف بوضوحٍ يتمثَّل في الكتب التي ألَّفها بعض الأصحاب لصالح أو ضدّ هشام بن الحكم أو يونس بن عبد الرحمن. إن لسعد بن عبد الله الأشعري القمّي كتاباً بعنوان مثالب هشام ويونس. كما أن يعقوب بن يزيد الأنباري ـ وهو من الرواة العراقيين في حياة الإمام الجواد× ـ يعتبر من الذين اتَّخذوا أشدّ المواقف ضدّ تيار هشام بن الحكم، وقد صنَّف كتاباً في الطعن والردّ على يونس بن عبد الرحمن([14]). كان الأنباري أستاذاً للكثير من القمّيين، من أمثال: الحميري، وسعد بن عبد الله، وعليّ بن إبراهيم، وإن الكثير من روايات الطعن على يونس قد نقلت من كتابه([15]). ليس هناك أدنى شَكٍّ في اصطفافه ومواجهته لمدرسة هشام بن الحكم. ومن ناحيةٍ أخرى إن لهشام بن الحكم نفسه كتابين: أحدهما: في الردّ على هشام بن سالم الجواليقي؛ والآخر: في الردّ على مؤمن الطاق([16]). كما أن لعليّ بن إبراهيم القمّي بدَوْره كتاباً في تبرئة ساحة هشام بن الحكم ويونس بن عبد الرحمن، وقد ألَّفه ضدّ (كتاب المثالب)، لمؤلِّفه: سعد بن عبد الله الأشعري، الأمر الذي يثبت استمرار هذا الاصطفاف، وتواصل هذه المواجهة.

العنصر الآخر الذي يميِّز هذا التيار وجود اعتقادٍ مشترك، وهو القول بتجسيم الله. وبطبيعة الحال إن المستندات التاريخية تثبت أن هذه المسألة كانت مجرّد اتهامٍ ناشئ من سوء فهم آراء هشام بن الحكم([17]).

وبالإضافة إلى القرائن المتقدِّمة، فإن الشاخص الآخر الذي يمكن له أن يؤيِّد وجود مثل هذا التيار هو أننا نشاهد أغلب الشخصيات الإمامية المعروفة التي تمّ اتهامها بالقول بالتجسيم تقوم بينها علاقة الأستاذ والتلميذ. ومن أهمّ هذه التقارير تلك التي تتمّ الاستفادة في ضمنها من تعابير هشام بن الحكم وأصحابه، ولا سيَّما منهم يونس بن عبد الرحمن. وهذا الموضوع يثبت وجود قرابةٍ بين أفراد هذا التيار، وتقوم بينهم علاقة الأستاذ والتلميذ([18]).

وبعد هشام بن الحكم يبدو أن تلميذه الأبرز يونس بن عبد الرحمن كان من أهمّ شخصيات هذا التيّار. وإن التقارير المتوفِّرة بين أيدينا تثبت وجود حلقةٍ خاصة بين الإمامية بمحورية يونس بن عبد الرحمن. وإن بعض تقارير المؤلِّفين في موضوع الملل والنحل في نهاية القرن الهجري الخامس، ورغم مبالغتها في حديثها عن وجود فرقة باسم «اليونسية»، إلاّ أنها تدلّ في الحدّ الأدنى على وجود مثل هذه الحلقة([19]). وإن الذي يقوّي وجود هذه الحلقة شخصيات في رجال الشيخ الطوسي من الذين تمّ التعبير عنهم بلقب «اليونسي»([20]). وقد تحدّث الشيخ الطوسي عن بعض الشخصيات، من أمثال: عباس بن محمد الورّاق([21])، ومحمد بن عيسى العبيدي البغدادي([22])، ومحمد بن أحمد بن المطهّر البغدادي([23])، ويحيى بن عمران الهمداني([24])، تحت عنوان «اليونسي».

ومن بين أتباع هذا التيّار يمكن الإشارة إلى عليّ بن يقطين وحسين بن نعيم؛ حيث تشير بعض التقارير إلى أنهما كانا يكثران من التردُّد على هشام بن الحكم في بغداد، وكانا قد تتلمذا على مدرسته([25]).

كما كان محمد بن خليل أبو جعفر السكّاك البغدادي من تلاميذ هشام بن الحكم ويونس بن عبد الرحمن. وقد نقل النجاشي أن له كتاباً في التوحيد، وهو من القائلين بالتشبيه. وقد اعتبره الفضل بن شاذان خليفةً ليونس بن عبد الرحمن؛ إذ كان يبادر إلى الردّ على آراء المخالفين([26]). وكان عليّ بن منصور البغدادي من المتكلِّمين من أصحاب هشام بن الحكم([27])، وقال ابن أبي الحديد: إنه كان من القائلين بالتجسيم أيضاً([28]).

ومن الشخصيات البارزة الأخرى في هذا التيّار محمد بن عيسى بن عبيد أو محمد بن عيسى العبيدي، وكان تلميذاً ليونس بن عبد الرحمن. وعلى الرغم من ذهاب بعض المحقِّقين المعاصرين إلى القول بأن محمد بن عيسى العبيدي كان مثالاً للشخصيات البرزخية والرابطة بين تيّاري الهشامين (هشام بن الحكم وهشام بن سالم الجواليقي)([29])، يبدو أنه وثيقُ الصلة والتعلُّق بتيار يونس بن عبد الرحمن وهشام بن الحكم. لقد كان محمد بن عيسى العبيدي من الشخصيات البارزة في بغداد في عصر الإمام الهادي×، أي النصف الأول من القرن الهجري الثالث، وكان من أهمّ رواة وحَمَلة أحاديث يونس بن عبد الرحمن([30]). إن موقف ابن الوليد ـ وهو من أشهر أساتذة الشيخ الصدوق ـ بشأن ما تفرَّد به محمد بن عيسى العبيدي، نقلاً عن يونس بن عبد الرحمن، يمثِّل شاهداً آخر على استمرار مواقف القمّيين في مواجهة تيار هشام بن الحكم([31]). وقد كانت له مكانةٌ خاصة في حوزة خراسان، وقد أغدق عليه الفضل بن شاذان الكثير من عبارات المدح والثناء. وقد ضعَّفه الشيخ الطوسي، وقيل: إنه كان يدين بالمذهب اليونسي([32]).

وبعد تأسيس المدارس الروائية والحديثية في إيران، أواخر القرن الهجري الثاني وبدايات القرن الهجري الثالث، تبلور تياران جديدان في كلٍّ من: قم؛ وخراسان. وعلى الرغم من وجود نقاط الالتقاء والاشتراك بينهما، بَيْدَ أن كلّ واحد منهما قد احتفظ لنفسه باتجاهات خاصّة به. فمنذ بداية القرن الهجري الثالث انتقلت أهمّ مدارس الإمامية من العراق إلى إيران. إن دراسة التيارات الإمامية في إيران تثبت بوضوحٍ أنها استمرار حرفي وأمين للتيارات العراقية في نهاية القرن الهجري الثاني؛ إذ يبدو من خلال هجرة عددٍ من المحدِّثين العراقيين ـ من أمثال: إبراهيم بن هاشم ـ إلى إيران في القرن الهجري الثالث أنه قد تمّ نقل هذا الاصطفاف القائم بين مدرستي الهشامين إلى إيران بشكلٍ كبير.

إن التقارير التي ينقلها سهل بن زياد الآدمي عن حوزات نيسابور وقم وكاشان في حدود سنة 255هـ تشير إلى أن أهمّ الموضوعات الجَدَلية في المدرسة الكلامية للهشامين، أي الاختلاف حول تجسيم أو تصوير الله، قد انتقلت إلى هذه الحوزات أيضاً([33]). إن هذا التقارير تشير بوضوحٍ إلى أن منتصف القرن الهجري الثالث قد شهد انتقال أهمّ محاور النقاش الكلامي بين الإمامية العراقيين إلى إيران، ولا سيَّما حوزة قم ونيسابور. وفي الوقت نفسه علينا أن لا ننسى أن بعض التيّارات غير الإمامية في إيران ـ من أمثال: الأحناف في خراسان ـ قد تركت تأثيرها على تفكير الإمامية في خراسان أيضاً([34]).

وأما في ما يتعلَّق بتواجد تيّار كلامي لهشام بن الحكم في قم فيجب القول: إن البحث عن تواجد لمثل هذا التيار في تلك النواحي في القرن الهجري الثالث في غاية الصعوبة، ولكنْ يمكن لنا أن نقتفي آثار تيار هشام بن الحكم بشكلٍ أوضح عند الإمامية في خراسان. ومع ذلك يمكن لنا أن نشير إلى حضورٍ باهت لهذا التيّار في قم من قِبَل أشخاصٍ من أمثال: إبراهيم بن هاشم القمّي وابنه عليّ بن إبراهيم. فقد نقل النجاشي، عن الكشّي، أن إبراهيم بن هاشم كان تلميذاً ليونس بن عبد الرحمن، ولكنّه في الوقت نفسه يشير إلى ذلك بشيءٍ من الشكّ والتردُّد([35]). ومن ناحيةٍ أخرى لقد ألَّف عليّ بن إبراهيم القمّي كتاباً في الدفاع عن يونس بن عبد الرحمن وهشام بن الحكم([36]). كما أنه نقل في مقدّمة تفسيره بعض المضامين في الدفاع عن هشام ويونس، وتبرئة ساحتهما من تهمة القول بالتشبيه([37]). ولكنْ قد يبدو في الوقت نفسه من الصعب تصنيف إبراهيم بن هاشم وعليّ بن إبراهيم ضمن أتباع المذهب الكلامي لهشام بن الحكم؛ إذ إن مضامين الروايات المأثورة عنهما تميل في الغالب إلى التيار الذي عليه أكثر القمّيين في القرن الهجري الثالث. ولرُبَما أمكن لنا في أحسن التقادير اعتبار إبراهيم بن هاشم وابنه عليّ بن إبراهيم من حلقات الوصل بين تيار هشام بن الحكم وما عليه التيّار الغالب.

ومن بين العلماء البارزين في نيسابور في هذا العصر تجب الإشارة إلى أسرة الفضل بن شاذان النيسابوري، التي تولَّت الزعامة الدينية في هذه المدينة لفترةٍ من الزمن. وقد كان والد الفضل شاذان بن خليل النيسابوري من المقرَّبين من يونس بن عبد الرحمن ـ الذي كان من أصحاب الإمامين الكاظم والرضا’ ـ، وقد روى الفضل عنه بعض الروايات. يعتبر شاذان من مشايخ رواة أحمد بن محمد بن عيسى القمي، ويقع في سلسلة سند روايات الكليني؛ حيث نجد له روايات في مختلف الأبواب من أصول الكافي([38]).

والوجوه البارزة في هذه الأسرة هم كلٌّ من: أبي محمد الفضل بن شاذان ـ وهو من الفقهاء البارزين في عصره، حيث يروي عن الإمام الجواد×، وكذلك نقل عنه أنه يروي عن الإمام الرضا×، كما أنه كان يروي عن الكثير من أصحاب الأئمة^، من أمثال: ابن أبي عمير، وصفوان بن يحيى، والحسن بن محبوب، وغيرهم([39]).

لقد كان الفضل بن شاذان النيسابوري من أبرز الشخصيات التابعة لتيار هشام بن الحكم في منتصف القرن الهجري الثالث. لقد عرَّف الفضل عن نفسه بوصفه سائراً على خطى أشخاصٍ من أمثال: محمد بن أبي عمير، وصفوان بن يحيى، ويونس بن عبد الرحمن، وهشام بن الحكم، في الدفاع عن التشيُّع، والردّ على المخالفين والمناوئين([40]). إن هذا التقرير يشير بوضوحٍ إلى مَيْل الفضل بن شاذان نحو تيّار يونس بن عبد الرحمن وهشام بن الحكم. والنقطة الأهمّ بشأن تيّار الفضل بن شاذان وأتباعه هو أنهم يمثِّلون البقية الباقية من تيار هشام بن الحكم ويونس بن عبد الرحمن في القرن الهجري الثالث([41]).

وفي ما يتعلَّق باستمرار تيار هشام بن الحكم في القرن الهجري الرابع هناك شحٌّ في المعلومات؛ فليس هناك غير بعض التقارير المفردة على استمرار حضور هذا التيار في القرن الهجري الرابع، والتكهُّن ببعض الشخصيات التابعة لهذا التيار. قال ابن بابويه في مقدّمة كتاب (كمال الدين وتمام النعمة) أنه صادف في سفره إلى نيسابور شيعةً يتمسّكون في دينهم بالقياس والرأي، ويبدو أنهم من بقايا أتباع التيار الفكري للفضل بن شاذان في تلك الأصقاع([42]). ورُبَما أمكن اعتبار الحسن بن موسى النوبختي ـ أستاذ النجاشي ـ من بين آخر المتبقّين من أتباع المدرسة الكلامية لهشام بن الحكم؛ فقد كان له كتاب في الاستطاعة على طبق مذهب هشام بن الحكم([43]). كما يبدو أنه بالإمكان اعتبار محمد بن أحمد بن جنيد الإسكافي من أهمّ الأشخاص الذين واصلوا تيار الفضل بن شاذان في القرن الهجري الرابع، حيث اتُّهم هو الآخر بالقول بالقياس. وإن مبادرته إلى تصنيف كتابٍ في الدفاع عن آراء الفضل بن شاذان يمكن أن يكون مؤيِّداً لتعلُّقه بآراء الفضل([44]).

لا يخفى أن بعض شخصيّات تيار هشام بن الحكم، بل وحتّى بعض عقائد هذا التيار، مثل: التجسيم، قد تمّ تناولها بالبحث والدراسة المستقلّة. بَيْدَ أن النقطة التي تحظى بالأهمّية، والتي تخفى عن أغلب الأنظار الدينية وغير التاريخية، هي أن هذه الدراسات إذا لم تتمّ بعد التعرّف على تيار هشام بن الحكم والعلاقة الوثيقة بين شخصيات هذا التيار لن يتمّ الكشف عن الكثير من خفايا التاريخ، وسوف يخطئ المحقِّق في تحليل الكثر من التقارير والروايات الخاضعة للجرح والتعديل في هذا المجال.

وللأسف الشديد فإن القلّة القليلة من الباحثين المعاصرين في الشأن الشيعي الذين أيَّدوا الوجود التاريخي لمثل هذا التيار، والذين ـ مضافاً إلى ذلك ـ أصابوا في تشخيص بقاء هذا الاتجاه (تيار هشام بن الحكم) أقلّية على الدوام([45])، قد أخطأوا في بيان بعض خصائص وصفات هذا التيّار([46]). فبزعمهم يُعْتَبَر تيار هشام بن الحكم تياراً عقلانياً، بينما اكتفى الآخرون بنقل الروايات، وكان هذا هو السبب وراء العُزْلة التي تعرَّض لها تيار هشام بن الحكم. ويبدو أن مثل هذه العزلة معلولةٌ لعلل وعوامل أخرى، سوف نتعرَّض لها في هذه المقالة بمزيدٍ من التوضيح:

إن السبب الرئيس في العزلة التي واجهها تيار هشام بن الحكم يكمن في تهمة التجسيم، وفي المراحل التالية أضيف إلى هذه التهمة مسائل أخرى، من قبيل: القياس، أو بعض المسائل المرتبطة بعلم الإمام. وبالتالي إن هذا الاتهام، بالإضافة إلى التنافس الداخلي بين الشيعة، قد وفَّر الأرضية المناسبة لتعكير الأجواء وتشكيل الاصطفافات في مواجهة تيار هشام بن الحكم. وسوف نبيِّن بوضوحٍ أن هذا الاعتقاد لم يكن سوى مجرّد اتهام تمّ تضخيمه، ثم قام علماء إماميون ـ من أمثال: عليّ بن إبراهيم القمّي والشيخ المفيد ـ بجهودٍ كبيرة من أجل تفسير عبارة هشام بن الحكم الشهيرة، والتي يقول فيها: «إنه جسمٌ لا كالأجسام». وفي الحقيقة إن الخصومات الموجَّهة ضدّ هذا التيار لم تكن بسبب مكافحة العقلانية من قِبَل سائر الإمامية، وإنما يعود سببها إلى الحَسَد وسوء فهمٍ لعقائد هشام، ومن ثم تضخيم ما أُسيء فهمه، ممّا أدّى في نهاية المطاف إلى تبلور هجمةٍ إعلامية سلبية ضدّ تيار هشام بن الحكم([47]).

وبطبيعة الحال لا شَكَّ في وجود اختلاف في الآراء بين تيار هشام بن الحكم وأكثرية الإمامية، وكذلك لا شَكَّ في أن الصبغة الكلامية لشخصيات تيّار هشام بن الحكم كانت طاغيةً على سائر الاتجاهات الإمامية الأخرى، بَيْدَ أنه لا يمكن أن نعزو سبب الاختلاف مع هذا التيار إلى النزعة الكلامية لهذا التيار أو عقلانيته أحياناً. وفي خصوص هذا الاختلاف نلاحظ مسألتين رئيستين، وهما:

أوّلاً: إن هذا الاختلاف في الآراء لم يكن على تلك الصورة المبالَغ بها، كما نراها منقولةً في بعض كتب الملل والنحل، التي تمّ تأليفها لاحقاً.

ثانياً: إن هذا الاختلاف في الآراء لم يكن من نوع الأخبارية والعقلانية النمطية، بل إن أهمّ عنصرٍ لتجريح تيار هشام بن الحكم ـ طبقاً لتقارير مختلف المصادر ـ يكمن في سوء فهم آراء هذا التيار حول كيفية الله سبحانه وتعالى. وإن هذا الاختلاف في الآراء امتدّ لاحقاً، وبالدرجة الثانية وعلى نحو أضعف، إلى آراء خاصّة لهذا التيار في خصوص علم الإمام، وجواز استعمال القياس، وهو ما سنتناوله ضمن العناوين اللاحقة([48]).

2ـ تهمة التشبيه أهمّ فارق اجتماعي يميِّز تيار هشام بن الحكم

إن من بين أهم العناصر التي أدَّت إلى ربط بعض الشخصيات ببعضها من هذه الجماعة، وتمايزها الاجتماعي بوصفها تياراً، عنصرٌ مشترك اتُّهم به جميع هؤلاء الأشخاص، ألا وهو الاعتقاد بتجسيم الله. تشير الوثائق والمستندات التاريخية إلى أن هذه المسألة كانت مجرَّد اتهام نشأ من سوء فهمٍ لآراء هشام بن الحكم. وكان أهمّ محاور الاتهام الموجَّه لعقائد هشام وتلاميذه يكمن في التشبيه والاعتقاد بتجسيم الله([49]).

بالإضافة إلى تقارير المواجهة بين الهشامين، والتي يبدو من ظاهر أكثرها اعتقاد هشام بن الحكم وأصحابه بتجسيم الله، تهمةٌ قد تمّ تكرارها في سائر المصادر أيضاً. وقد تحدَّث الشهرستاني عن وجود فرقة باسم الهشاميّة. وقال بأن أتباع هشام بن الحكم وهشام بن سالم الجواليقي يقولون بتجسيم الله، واعتبر كلا الجماعتين فرقةً واحدة. وتظهر توضيحات الشهرستاني أن أهمّ دليلٍ على اتهام هشام بقوله بالعقائد التشبيهية يكمن في العبارة الشهيرة: «إنه شيءٌ لا كالأشياء»، المأثورة عنه في بيان صفة الله([50]). كما تشير تقريرات ابن أبي الحديد المعتزلي بدَوْرها إلى أن هشام بن الحكم يعرف بين أهل السنّة ـ في الحدّ الأدنى ـ بوصفه متكلِّماً مجسِّماً.

إن ابن أبي الحديد ـ الذي كان معاصراً للشهرستاني أيضاً ـ قد تحدَّث عن الحالة الاعتقادية للمتكلِّمين، ومن بينهم: هشام بن الحكم، بشأن القول بتجسيم الله. وقال بأن أكثر المتكلِّمين والفلاسفة ينفون تجسيم الله، ولا يقول بذلك غير النَّزْر القليل من المتكلِّمين، من أمثال: هشام بن الحكم، حيث قال: إن هشام بن الحكم كان يقول بأن الله جسمٌ مركّب، مثل الأجسام الدنيوية، وقد نقلت عنه مسائل مختلفة في توضيح هذا الأمر.

والملفت أن ابن أبي الحديد يقول: إن الشيعة في عصر هشام بن الحكم كانوا ينكرون الأمور المنسوبة إليه حول الاعتقاد بجسمانية الله، ويقولون بأن الجملة الوحيدة لهشام حول الله هي قوله: «جسمٌ لا كالأجسام»، ومراده من استعمال هذه العبارة كان هو إيجاد حالةٍ لله، تجعل من إثباته أمراً ممكناً([51]).

وكان الشيخ المفيد ـ بوصفه من أبرز الشخصيات المنتسبة إلى مدرسة المتكلِّمين في بغداد ـ يقول: إن هشام إنما كان يؤمن بالتشبيه اللفظي فقط، ويرى أن التشبيه اللفظي يقوم على هذه الجملة المعروفة لهشام: «جسمٌ لا كالأجسام»، ولكنه لم يكن يؤمن بالتشبيه في المعنى([52]).

وفي ما يتعلَّق بيونس بن عبد الرحمن ـ التلميذ البارز لهشام بن الحكم ـ هناك تقارير من عصر الإمام الجواد× تشير إلى اتّهامه بالتجسيم أيضاً، وأن هذا التيار كان له أتباعٌ أيضاً([53]). ويقول بعض الرجاليين المعاصرين: إن هذا التقرير بلحاظ المعايير الرجالية صحيحٌ تماماً([54]). وقال الشهرستاني: إن يونس بن عبد الرحمن كان من الشيعة القائلين بالتشبيه، وإنّ له كتباً في هذا الشأن([55]). وقال عبد القاهر البغدادي: إن يونس بالغ بشدّةٍ في مواصلة أفكاره التشبيهية([56]).

ومن ناحيةٍ أخرى صرّح محمد بن عيسى العبيدي ـ في روايةٍ ـ أنه يؤمن بشعار: «إنه شيءٌ لا كالأشياء»، الذي هو شعار هشام بن الحكم وتيّاره([57]).

وقد تمّ توجيه ما يشبه هذا الاتهام إلى الفضل بن شاذان النيسابوري أيضاً. وقد حاول أبو عليّ البيهقي في تقريرٍ له أن يثبت أن التوقيع الشهير في ذمّ الفضل لم يكن بسبب اعتقاده بالتجسيم، بل إنه عوتب بسبب عدم دفع حقوق الناس إلى العامل الذي أرسل إلى منطقته، لا أكثر([58]). وهناك تقريرٌ في خصوص الاختلاف العقائدي بين أهل نيسابور في عصر الإمام الحسن العسكري× تثبت أن الله سبحانه وتعالى في العقائد التوحيدية للفضل بن شاذان يقيم في السماء السابعة، ويتربَّع على عرشٍ، وأنه جسمٌ، ولكنّه في الوقت نفسه يرى أن الله في جميع المعاني يختلف عن المخلوقات، وأنه ليس هناك كائنٌ يشبه الله تعالى([59]).

3ـ الاصطفاف ضدّ هشام بن الحكم وأتباع مدرسته

أـ الاصطفاف ضمن محافل الإمامية

في ما يتعلَّق بأسباب نشوء الفرق تذكر كتب الملل والنحل موارد من قبيل: الاستناد إلى المضمون العددي لحديث الافتراق([60])، وعدم وجود معيار وضابط واضح في التعريف بالفِرَق([61])، والدوافع الصنفية والمذهبية([62])، والتنافس الداخلي بين الشيعة([63])، وعدد الأسماء والألقاب([64]). وعلى الرغم مما يبدو في النظرة الأولى، من أن اختلاق التقارير والروايات الكاذبة كان يمثِّل الخطوة الأولى لتبلور هذه الاصطفافات، فإن بلورة هذه الاصطفافات، ولا سيَّما في الأروقة والمحافل الداخلية للإمامية، إنما كانت تحدث في الغالب من طرق أخرى.

ومن بين تلك الطرق تحريف كلام وأفكار جماعة كانوا بصدد الدعاية ضدّها. ومن ذلك، على سبيل المثال: إن من بين الأمور التي تسبَّبت بالاصطفاف ضدّ هشام بن الحكم، حيث قيل: إنه وتلاميذه يقولون بالتشبيه، قولهم: إن عبارة «إنه شيءٌ لا كالأشياء»، أو «إنه جسمٌ لا كالأجسام»، في وصف الله إنما هي لهشام بن الحكم([65]). وقد سعى علماء الإمامية في القرن الهجري الخامس جاهدين إلى دفع هذا الاتهام عن هشام بن الحكم، وأكَّدوا أن مراده من هذا التعبير مجرّد إثبات الله([66]). وعلى الرغم من ذلك سعى المخالفون، من خلال تحريف هذه العبارة، إلى توظيف غموضها في نسبة التشبيه إلى عقيدة هشام بن الحكم. وهذا بطبيعة الحال لا يعني أن جميع أولئك الذين نشروا هذا المفهوم المحرَّف لعبارة هشام بن الحكم قد فعلوا ذلك عن عمدٍ، بل كان هناك منهم مَنْ يعمل على نشر هذا المفهوم المحرَّف متصوِّراً أن هشام كان يقول بهذه العقيدة حقيقةً.

ومن بين الموارد الأخرى التي وفَّرت الأرضية لهذه الاصطفافات ظاهرة النقل بالمعنى في الروايات الرجالية، حيث كان من شأن هذا النقل المعنوي أن يكون قد صدر عن قصدٍ أو عن غير قصدٍ. هناك رواياتٌ صريحة عن الإمام الصادق× تثبت أن بعض الأصحاب كانوا يتعمَّدون تحريف كلام الإمام الصادق× حول زرارة بن أعين؛ إذ هناك رواية تقول: «عن الهيثم بن حفص العطّار قال: سمعتُ حمزة بن حمران يقول، حين قدم من اليمن: لقيتُ أبا عبد الله× فقلتُ له: بلغني أنك لعنتَ عمّي زرارة، قال: فرفع يده حتّى صكّ بها صدره، ثمّ قال: لا والله، ما قلتُ، ولكنّكم تأتون عنه بالفتيا، فأقول: مَنْ قال هذا فأنا منه بريءٌ»([67]). إن هذه الرواية تشير بوضوحٍ إلى أن هناك جماعات كانت تأتي إلى الأئمة، وتنسب أموراً إلى بعض الأصحاب؛ بهَدَف خلق حالةٍ من الاصطفاف ضدّهم. وحيث كان الأئمة مأمورين بالظاهر، وبالإضافة إلى ذلك لم يكونوا بصدد تأييد الأفكار المنحرفة، كانوا يتبرّأون من تلك العقيدة، دون الأشخاص. ثم حصل في نقل هذه الأحداث نقل بالمعنى، أو رُبَما حصل تحريفٌ لمضامينها؛ بغية خلق حالة من الاصطفاف ضدّ الشخصية المستَهْدَفة، وينقلون الواقعة وكأنّ الإمام الصادق× كان يتبرّأ من ذلك الشخص بعينه.

 بل يبدو أنه حتّى التيارات الغالية حقيقةً قد تمّ تضخيمها من خلال بعض المدَّعيات في إطار النقل بالمعنى أو التحريف. وقد كان هذا الأمر في الغالب نتيجة لتنظيم المعلومات المذهبية من قِبَل أعداء الشيعة والمنظومة السياسية. وكأنّ الكثير من المدَّعيات المنسوبة إلى أوائل غلاة الشيعة قد نشأ عن نشر المعلومات الهادفة من قِبَل التيارات المناهضة للشيعة. إن المعلومات المستحصلة في مورد ادّعاءات الجماعات المنشودة كانت ـ بعد إشرابها بالاتجاهات المناهضة للتشيُّع ـ تتحوَّل إلى مدَّعيات غالية في غاية السخف؛ كي يتمّ استثمارها وتوظيفها في إثارة الرأي العامّ ضد الشيعة.

والنقطة الهامة في البَيْن وجود علاقة مباشرة بين هذه التيارات وبين كتب الملل والنحل القديمة؛ إذ كان هناك تأثيرٌ متبادل بينهما. فقد كانت التيارات في القرون الأولى توفِّر مادةً فكرية وعلمية لكتب الملل والنحل، ومن ناحيةٍ أخرى إن كتب الفرق والمذاهب القديمة، مثل: (فرق الشيعة) للنوبختي، و(المقالات والفرق) لسعد بن عبد الله الأشعري؛ من خلال التمييز بين هذه الفرق والتيارات، قد أسهمت ـ عن قصدٍ أو عن غير قصدٍ ـ في تمهيد الأرضية لظهور الخبراء في شأن المذاهب والفِرَق، من أمثال: الأشعري في كتابه (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلّين). وكلما كان الغلاة متورطين في مثل هذا الأمر فمن البديهي جدّاً أن لا تكون التيارات الإمامية ـ التي تعتبر غاليةً من وجهة نظر السواد الأعظم من المسلمين ـ بمأمنٍ من هذه التُّهَم.

وبغضّ النظر عن نمط هذه الاصطفافات، يمكن الحديث عن دوافعها أيضاً([68]). ومن ذلك، على سبيل المثال: هناك في خصوص تيّار هشام بن الحكم روايات تؤكِّد أن من بين أسباب المواجهة ضدّ هشام وتلاميذه عدم تحمُّله ومكانته من قِبَل بعض الأشخاص. وإن رواية سليمان بن جعفر الجعفري من أصحاب سرّ الإمام الرضا× تثبت هذه الحقيقة بوضوحٍ؛ وذلك إذ يقول: «سألتُ أبا الحسن الرضا× عن هشام بن الحكم؟ قال، فقال لي: رحمه الله، كان عبداً ناصحاً، أُوذي من قِبَل أصحابه؛ حَسَداً منهم له»([69]). وهناك رواياتٌ أخرى تشير إلى أن إشادة الإمام الصادق× بهشام بن الحكم، في حلقة أصحابه، رغم صغر سنّه قياساً إلى سائر الأصحاب، قد ثقلت على البعض منهم؛ إذ طبقاً لهذه الرواية كان هناك في الحلقة المذكورة شخصيات من أمثال: حمران بن أعين، ومؤمن الطاق، ويونس بن يعقوب([70]). إن هاتين الروايتين تظهران بوضوحٍ أن إحدى الأسباب التي أدَّتْ ـ في الحدّ الأدنى ـ إلى خلق الاصطفافات ضدّ هشام بن الحكم عدم تحمُّل مكانته، ومنافسته لهم.

ب ـ يونس بن عبد الرحمن بوصفه نموذجاً بارزاً

إن من بين شخصيات تيّار هشام بن الحكم، التي تشير الروايات التاريخية بوضوحٍ إلى إثارة الاصطفافات ضدّه، يونسُ بن عبد الرحمن. فهو من مشاهير الرواة الذين ورد الكثير من الروايات المتعارضة بشأنه. ولذلك فإن التقارير الرجالية بشأن يونس بن عبد الرحمن تنقسم إلى فئتين، وهما:

الأولى: روايات جَرْح يونس بن عبد الرحمن، وهي صادرةٌ عن القمّيين والعراقيين.

الثانية: روايات مَدْح يونس بن عبد الرحمن، وهي تعود في الغالب إلى حلقة الفضل بن شاذان في نيسابور([71]).

وهناك بعض الروايات التي تثبت أن في العراق، ولا سيَّما في البصرة وبغداد ـ في عصر الإمام الرضا× ـ، كان هناك بعض الموالي وأتباع الأئمة^ الذين تخندقوا ضدّ يونس بن عبد الرحمن، وأخذوا يسيئون إليه. ويبدو أنهم لم يكونوا يتحمَّلون بعض الأحكام والأعمال التي كان يقوم بها يونس بن عبد الرحمن. وطبقاً لتلك الروايات كان الإمام الرضا× أيضاً يمارس التقية أحياناً، ويجاريهم في هذا الشأن تقيّةً. وقد شكا يونس هذا الأمر إلى الإمام×، فقام الإمام بمواساته، ثمّ قال له: «يا يونس، وما عليك ممّا يقولون إذا كان إمامُك عنك راضياً. يا يونس، حدِّثْ الناس بما يعرفون، واتركهم ممّا لا يعرفون»([72]).

إن أكثر الروايات الواردة في مدح يونس بن عبد الرحمن إنما تَرِدُ من طريق الفضل بن شاذان تقريباً، ولم يتَّضح سبب طعن القمّيين وقدحهم فيه. قال الشيخ الطوسي في كتاب رجاله: «طعن عليه القمّيون، وهو عندي ثقةٌ»([73]). وطبقاً لبعض الروايات فإن أحمد بن محمد بن عيسى كان من الطاعنين في يونس بن عبد الرحمن، ولكنّه إثر مشاهدته لرؤيا صادقة تراجع عن ذلك، واستغفر الله. يبدو أن تيار هشام بن الحكم كان معروفاً في عصر الإمام الرضا×، وحيث كان يونس بن عبد الرحمن من أتباع هشام بن الحكم وتلاميذه كان من الطبيعي أن يقع في دائرة الاتهام تَبَعاً لذلك([74]). وطبقاً لروايةٍ ينقلها أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري فإن عليّ بن حديد كان ينهى عن الصلاة خلف جماعةٍ يعبِّر عنهم بـ «يونس وأصحابه»([75]). وفي المقابل كان راوي أكثر الروايات المادحة ليونس بن عبد الرحمن ـ نقلاً عن الفضل بن شاذان ـ هو عليّ بن محمد القتيبي، التابع لتيّار هشام بن الحكم.

ويبدو أن أغلب الاصطفافات ضدّ يونس بن عبد الرحمن كانت على أساس الآراء الكلاميّة المنسوبة إليه، من قبيل: القول بالتشبيه والقياس وما إلى ذلك. إن رواية ابن الوليد التي تؤيِّد الكتب الروائية ليونس فقط([76]) ـ دون كتبه الكلامية ـ يثبت أن القمّيين كانو يخطِّئون الآراء الكلامية ليونس، الأمر الذي يبدو مرتبطاً ببحث القياس إلى حدٍّ كبير. لقد كانت أجواء الدعاية المثارة ضدّ هشام بن الحكم ويونس بن عبد الرحمن في ما يتعلَّق بعقيدة التشبيه من القوّة بحيث وصلت أصداؤها إلى الشهرستاني في القرن الهجري السادس، حيث وصف يونس صراحةً بأنه من مشبِّهة الشيعة([77]).

وفي بعض الموارد نجد مضمون روايات جَرْح يونس من القبح والشناعة بحيث لا يترك مجالاً للشكّ في عدم صدورها عن مثل الأئمة^. فقد ورد في بعض هذه الروايات وصف يونس بن عبد الرحمن بأقذع العبارات، من قبيل: «ابن الزنا»؛ الأمر الذي دعا حتّى الكشّي إلى التشكيك في صحّتها([78]).

ج ـ السعي إلى استعادة مكانة تيّار هشام بن الحكم

في مقابل التُّهَم التي تمّ توجيهها ضدّ تيار هشام بن الحكم، ظهرت منذ القرن الهجري الثالث محاولات وجهود تعمل ـ في الحدّ الأدنى ـ على بيان أفكار هشام بن الحكم ودفع الاتّهام عنه. إن هذه الجهود وإنْ لم تكن كبيرةً، بل كانت تسير ببطءٍ شديد أيضاً، إلاّ أنها تمكّنت في القرن الهجري الخامس من تحقيق نجاحٍ نسبي، وأمكن لها في الحدّ الأدنى تصحيح الفكرة لدى الإمامية قاطبةً بشأن اتهام تيار هشام بن الحكم بالقول بالتشبيه.

نقل في بعض الروايات أنه كانت هناك في عصر الإمام الرضا× جهودٌ في سياق تبرئة ساحة هشام بن الحكم من الاتهامات الموجهة ضدّه. فطبقاً لرواية الكشّي نجد شخصاً يعرض من جهةٍ العقائد التوحيدية لهشام بن سالم على الإمام الرضا×، ويعرض عليه من جهةٍ أخرى عقائد هشام بن الحكم ويونس بن عبد الرحمن، وقد أكَّد الإمام على صحّة عقائد يونس مولى آل يقطين وهشام بن الحكم، في مقابل هشام بن سالم([79]). وفي الرواية التي يذكرها عليّ بن إبراهيم في مقدّمة تفسيره يردّ الإمام الرضا بشدّةٍ اعتقاد البزنطي وتيار هشام بن سالم الجواليقي بشأن تصوير الله، وأكَّد في المقابل على صوابية رأي هشام بن الحكم([80]). إن هذه الرواية تثبت أن حقيقة اعتقاد هشام بن الحكم كانت مبرهنةً بالنسبة إلى عددٍ من خواصّ الشيعة. إن الرواية الملفتة لعليّ بن إبراهيم تثبت بوضوحٍ أن أحمد بن أبي نصر البزنطي كان في الجبهة المناوئة لهشام بن الحكم، أي إنه كان ضمن تيّار هشام بن سالم الجواليقي، وهو التيار الذي كان يقول بأن لله صورةً. والنقطة الملفتة للانتباه في الرواية مورد البحث هي أن البزنطي يقول للإمام الرضا×: نحن نقول بالصورة، في حين أن هشام بن الحكم ينفي التجسيم. وبذلك فإن هذه الرواية ـ خلافاً للكثير من الروايات الأخرى ـ تثبت صراحةً أن هشام بن الحكم كان ينفي تجسيم الله، وأن رأي هشام بن سالم هو الذي يتجه في الحقيقة نحو التشبيه([81]).

وبعد هذه الروايات المفردة، نجد أكثر الجهود في إطار التعريف الصحيح بمعتقدات هشام بن الحكم تعود إلى القرن الهجري الخامس. وكما ذكر ابن أبي الحديد المعتزلي أيضاً([82]) يبدو أنه على الرغم من الاتهام الموجَّه من قِبَل الكثير من المناوئين للشيعة إلى بعض كبار المتكلِّمين من الإمامية في القرن الهجري الخامس بتهمة الاعتقاد بالتشبيه، فإن علماء الإمامية ينفون هذه التهمة بشدّةٍ، وكانوا يسعَوْن إلى بيان حقيقة أفكار هشام بن الحكم وآرائه. ومن الأمثلة على هذه الجهود يمكن الإشارة إلى كلمة الشيخ المفيد بشأن هشام بن الحكم، إذ يقول: «لم يكن في سلفنا رحمهم الله مَنْ يدين بالتشبيه من طريق المعنى. وإنما خالف هشام وأصحابه جماعة أبي عبد الله× بقوله في الجسم، فزعم أن الله تعالى (جسمٌ لا كالأجسام). وقد رُوي أنه رجع عن هذا القول بعد ذلك»([83]). إن للشيخ المفيد ـ بوصفه أبرز شخصية بين المتكلِّمين في بغداد ـ تقريرات نافعة جداً في بيان عقائد هشام بن الحكم، فقد ذهب إلى القول بأنه كان يعتقد بالتشبيه اللفظي، واعتبر أن التشبيه اللفظي يقوم على عبارة هشام بن الحكم التي يقول فيها: «جسمٌ لا كالأجسام»، ولكنّه لم يكن يراه معتقداً بالتشبيه المعنوي([84]). وقد صرَّح الشيخ المفيد قائلاً: إن هشام بن الحكم رغم كونه شيعياً، إلاّ أنه خالف جميع الإمامية في ما يتعلَّق بأسماء الله تعالى ومعاني صفات الله([85]). وطبقاً لتقرير الشيخ المفيد هناك ثلاث جماعات من المعاصرين له بادرت إلى اتهام أسلاف الشيعة ـ ومنهم: هشام بن الحكم ـ بالقول بالتشبيه، وهم:

1ـ المعتزلة.

2ـ المشبِّهة من أهل السنّة.

3ـ بعض أصحاب الحديث من الشيعة.

وبعد دفع تهمة التشبيه عن الإمامية؛ استناداً إلى روايةٍ، قال الشيخ المفيد: إن الإمامية لم يأخذوا الاعتقاد بنفي التشبيه من المعتزلة، بل إن الإمام الصادق× هو الذي قال برفض التشبيه([86]).

وبالإضافة إلى الشيخ المفيد، هناك شخصياتٌ أخرى من المتكلِّمين في بغداد ـ مثل: الشيخ الكراجكي ـ سعَتْ إلى تبرئة ساحة هشام بن الحكم من هذه التُّهْمة، فقد عمد في كتابه (كنز الفوائد) إلى ردّ أقوال المخالفين للشيعة الذين اتَّهموا هشاماً بالاعتقاد بالتجسيم، حيث نقل رواية تقول: إن هشام بن الحكم قصد الإمام الصادق× في المدينة المنوّرة، ورجع عن اعتقاده([87]). وعلى الرغم من قول الكراجكي بأن قضية توبة هشام بن الحكم مستفيضةٌ وشائعة، فإننا لا نرى أثراً لها في الكتب القريبة من عصره، إلاّ في كتاب (تبصرة العوام)، للرازي، ولم نعثر على شيءٍ من ذلك في الكتب المتقدّمة عليه([88]).

4ـ الآراء الخاصّة والمتميِّزة لتيار هشام بن الحكم

تقدَّم أن تهمة التشبيه تمثِّل أهمّ عامل يميِّز تيار هشام بن الحكم اجتماعياً([89]). وفي اعتقاد كاتب السطور أن هذا لا يعدو أن يكون مجرّد اتهام نشأ كنتيجةٍ لسوء فهم، أو بسبب النقل بالمعنى والتحريف، أو أمور أخرى من هذا القبيل، وقد تبلورت بشأن تيار هشام بن الحكم بشكلٍ مقصود أو غير مقصود. بَيْدَ أننا لا نستطيع حصر عنصر تميُّز واختلاف تيار هشام بن الحكم بمسألة التشبيه فقط؛ إذ هناك أفكار أخرى تؤدّي إلى تميُّز هذا التيار من سائر الإمامية، وهي رغم كونها أقلّ أهمّية بالقياس إلى مقولة التشبيه، إلاّ أن وجودها غير قابل للإنكار. والنقطة الملفتة في هذه الموارد أنها ـ خلافاً لمسألة التشبيه ـ ليست مجرَّد اتهام، ويبدو أن تيار هشام بن الحكم كان له بشأنها رأيٌ خاصّ ومتميِّز يختلف عن رأي أكثر الإمامية([90]).

أـ الأفكار المختلفة لهشام بن الحكم وتلاميذه بشأن علم الإمام

إن أقدم الروايات الشيعية في خصوص الاختلاف والافتراق بشأن علم الإمام تعود إلى كتاب (فرق الشيعة)، للنوبختي. لقد قدّم النوبختي تقريراً إجمالياً عن اختلاف فرق الزيدية بشأن علم الإمام. وطبقاً لتقرير النوبختي يذهب تيار السرحوبية من الزيدية إلى الاعتقاد بأن الإمام يمتلك العلم بكلّ شيء من دون تعليمٍ، وفي هذا العلم لا مدخلية للسنّ، فعلم الإمام في الصغر هو ذات علم الإمام البالغ. بَيْدَ أن سائر فرق الزيدية ترى أن العلم مبذولٌ للإمام وسائر الناس على حدٍّ سواء، ويمكن لكلّ شخصٍ أن يجتهد في إطار الحصول على الإجابات التي ينشدها، وأن يتمسَّك برأيه([91]).

ومن الروايات الملفتة البيان الذي يقدِّمه سدير الصيرفي بشأن اختلاف الأصحاب حول علم الإمام في عصر الإمام الصادق×، حيث سأل الإمام قائلاً له: «جُعلت فداك، إن شيعتكم اختلفت فيكم، فأكثرت، حتّى قال بعضهم: إن الإمام ينكت في أذنه، وقال آخرون: يوحى إليه، وقال آخرون: يقذف في قلبه، وقال آخرون: يرى في منامه، وقال آخرون: إنما يفتي بكتب آبائه، فبأيّ قولهم آخذ، جُعلت فداك؟ فقال: لا تأخذ بشيءٍ من قولهم يا سدير، نحن حجّة الله وأمناؤه على خلقه، حلالنا من كتاب الله وحرامنا منه»([92]). إن هذا التقرير يشير بوضوحٍ إلى وجود اختلافات واسعة بين الأصحاب حول علم الإمام في عصر الإمام الصادق×.

وبالتالي يبدو أن تبلور وتأسيس التيارين الرئيسين حول علم الإمام ـ وأحدهما هو تيّار هشام بن الحكم ـ قد حدث في عصر الإمام الجواد×. إن التقرير الذي ينقله الحسن بن موسى النوبختي في كتاب فِرَق الشيعة عن الاختلاف بين الشيعة في عصر الإمام الجواد حول إمامته؛ بسبب صغر سنه وعلم الإمام، يشير بوضوحٍ إلى أن تبلور هذين التيارين بين الإمامية بشأن علم الإمام قد حدث في الحدّ الأدنى منذ عصر الإمام الجواد×.

إن بلوغ الإمام الجواد مرحلة الإمامة في صغره شكَّل أرضيّةً لتبلور هذين التيارين واصطفافهما مقابل بعضهما. وطبقاً لتقرير النوبختي بعد إمامة الجواد ذهبت طائفة إلى الاعتقاد بأن الإمام بعد البلوغ سوف يحظى بمصادر علوم الإمام من النكت والنقر والإلهام وما إلى ذلك؛ بينما ذهبت جماعةٌ أخرى إلى القول بأنه يحصل على هذا النوع من العلوم حتّى قبل البلوغ؛ وهناك جماعةٌ ثالثة قالت بانقطاع الوحي بعد رسول الله، واعتبرت هذه الأمور من الوحي، ولذلك قالت بأن الإمام عند البلوغ يستفيد من كتب آبائه التي ورثها، ويغدو عالماً بها من خلال الأصول والفروع المشتملة عليها. يقول النوبختي: إن الجماعة الأخيرة؛ حيث واجهت ضيقاً بسبب محدوديّة مصادر علم الإمام، أعلنت أن الإمام يمكنه أن يلجأ إلى القياس، اعتماداً على ما يمتلكه من الأصول، وهذا الأمر يجوز للإمام خاصّةً؛ لكونه يتمتَّع بالعصمة([93]).

وطبقاً لهذا التقرير يمكن القول: إنه ـ في الحدّ الأدنى ـ منذ عصر الإمام الجواد×، حيث تمّ طرح الحوار بشأن نوعٍ خاصّ من علم الإمام، تبلور تياران بين الإمامية، وهما:

الأوّل: التيار الذي يؤمن بانقطاع الوحي بمعناه المطلق بعد رسول الله.

الثاني: التيار الذي لم يؤمن بهذا الأمر، وقال بمجرد انقطاع الوحي النبوي.

يذهب التيار الأول إلى القول بأن مصدر علم الإمام هو الوراثة من رسول الله| من طريق الكتب، أو التعلُّم من الآباء والأجداد. وبالإضافة إلى ذلك فإن هناك بعض الأشخاص من هذا التيّار ـ في الحدّ الأدنى ـ قاموا بجبران النقص المحتمل، وقالوا بأن الإمام يمكنه اللجوء إلى الرأي والقياس أيضاً؛ لكونه معصوماً من الخطأ.

والتيار الثاني، رغم قوله بانتقال العلم بالوارثة، يؤمن في الوقت نفسه بعدم انقطاع الوحي، وأن حكم الله بشأن كلّ شيءٍ جديد ينزل على الإمام من طريق ما سُمِّي في الكتب المتقدّمة بجهات علم الإمام، من قبيل: النقر والنكت والسماع وما إلى ذلك، أي الأمور التي بسببها يتمّ وصفه بـ «المحدِّث». ولم يجد القياس موضعاً له في رؤية هذه الجماعة.

وفي الحقيقة إن الجماعة الأولى والجماعة الثانية تشتركان من ناحيةٍ في القول بأن العلم ينتقل إلى الإمام بالوراثة، وتختلفان من ناحيةٍ أخرى في أمور أخرى، حيث تذهب الجماعة الأولى إلى إثبات الوحي غير النبوي للإمام، دون الجماعة الثانية؛ وتذهب الجماعة الثانية إلى اعتبار القياس من مصادر علم الإمام، دون الجماعة الأولى. والذي يمكن اعتباره في هذه الروايات؛ بوصفه مؤيِّداً على وجود هذين التيارات، تقرير أبي الحسن الأشعري في كتابه (مقالات الإسلاميين)، حيث يقول: انقسمت الإمامية في خصوص علم الإمام إلى تيارين: التيار القائل بأن الإمام يعلم بجميع الأمور؛ والتيار الآخر الذي يحصر علم الإمام بأمور الدين فقط، ولا يرى ضرورة لعلم الإمام بجميع الأمور([94]). ورغم أن هذا التقرير لا يحتوي على دقّة التقسيم المذكور، ولكنه حيث يشبهه ويتطابق معه يمكنه ـ في الحدّ الأدنى ـ أن يكون مؤيِّداً لوجود هذين التيارين.

وعلى أيّ حال إن تقرير النوبختي بشأن تيارات علم الإمام بعد إمامة الإمام الجواد× يحظى بأهمّيةٍ بالغة؛ إذ يمكن على أساسه تحليل بعض الروايات المفردة اللاحقة بشأن علم الإمام، كما يمكن بيان جذور وخلفيات الاعتقاد بالقياس بين بعض الشخصيات الإمامية.

وفي خصوص الاعتقاد بعلم الإمام ضمن تيار هشام بن الحكم هناك شواهد قوية يمكن لها أن تثبت ـ في الحدّ الأدنى ـ أن التلاميذ اللاحقين لهشام بن الحكم، من أمثال: يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان، كانوا من الانقطاعية، بمعنى أنهم كانوا يقولون بانقطاع الوحي بعد رسول الله|.

وفي ما يتعلَّق برأي الشخصية الأولى في هذا التيار، أي هشام بن الحكم، في علم الإمام يجب القول: رغم أنه يمكن التكهُّن ـ طبقاً لبعض التقارير ـ بأنه كان يذهب إلى مثل هذا الاعتقاد، بَيْدَ أنه؛ وبسبب محدودية هذه التقارير، لا يمكن بيان ذلك بضرسٍ قاطع. ففي خصوص بيان أفكار هشام بن الحكم بشأن علم الإمام لا يوجد سوى روايتين تقريباً، وإن أكثر الروايات المنقولة عن هشام بن الحكم تتعلق بالتوحيد والإمامة وبعض المسائل الفقهية. ومن بين الموارد المعدودة يمكن الإشارة إلى ما ينقله يونس بن عبد الرحمن، في كتاب الكافي، عن هشام بن الحكم. إن من شأن هذه الرواية أن تبيِّن رؤية هشام بن الحكم وتلاميذه بشأن علم الإمام إلى حدٍّ ما؛ إذ تثبت أنه من قبيل: الوراثة، وأن كتب جميع الأنبياء السابقين والأولياء موجودة عند الإمام. وعلى الرغم من عدم تصريح هذه الرواية بالوحي، إلاّ أن ما ورد في آخرها، حيث يقول الإمام الصادق×: «إن الله لا يجعل حجّة في أرضه يسأل عن شيء فيقول: لا أدري»([95])، يثبت أن دائرة العلم الوراثي للإمام في رؤية هشام بن الحكم ويونس أوسع بكثيرٍ.

والرواية الأخرى الواردة في الكافي، نقلاً عن عليّ بن إبراهيم، عن هشام بن الحكم، تشير بوضوحٍ إلى وجود نوع من القصور عند هشام بشأن علم الإمام. فطبقاً لهذه الرواية يعمد هشام إلى طرح بعض أفكاره الكلامية على الإمام الصادق×، ويبدأ الإمام بتصحيحها، فيقول له هشام: «جُعلت فداك، هذا الحلال وهذا الحرام، أعلم أنك صاحبه وأنك أعلم الناس به، وهذا هو الكلام، فقال لي: ويك يا هشام، [لا] يحتج الله تبارك وتعالى على خلقه بحجّةٍ لا يكون عنده كلّ ما يحتاجون إليه»([96]).

وفي التقرير الذي يقدِّمه أبو الحسن الأشعري عن التيارات الإمامية في خصوص علم الإمام يشير إلى هذه الرؤية بشكلٍ دقيق. فطبقاً لتقرير الأشعري ينقسم الإمامية إلى جماعتين: الجماعة الأولى تقول بأن الإمام يمتلك علم الحلال والحرام فقط؛ بينما تذهب الجماعة الثانية إلى الاعتقاد بأن الإمام يعلم بجميع العلوم([97]). وقال الأشعري في موضعٍ آخر صراحةً: يذهب هشام بن الحكم إلى الاعتقاد بأن الملائكة لا تنزل على الأئمّة، ولا يتلقّون أيّ نوع من أنواع الوحي الأخرى([98]). وإن العبارة الأخيرة لأبي الحسن الأشعري، بالإضافة إلى كونها تحمل تأييداً لما يراه هشام بن الحكم من انقطاع مطلق الوحي بعد رسول الله، تثبت أن هذه الجماعة تذهب إلى تضييق دائرة علم الإمام.

وبطبيعة الحال هناك رواياتٌ أخرى منقولة في هذا الشأن، مع شيء من الاختلاف، عن هشام بن الحكم ويونس بن عبد الرحمن. ففي رواية الصفّار التي يقع هشام بن الحكم في سلسلة سندها هناك حديث عن علم الإمام بآجال الناس([99]). يُضاف إلى ذلك أن هشام بن الحكم وتلميذه يونس بن عبد الرحمن من رواة الحديث الشهير الذي يقول: إن رسول الله| فتح باباً من العلم على أمير المؤمنين، ينفتح منه ألف باب([100]). وبالتالي يمكن القول: إنه على الرغم من استبعادنا أن يكون رأي هشام بن الحكم متطابقاً مع الجيل اللاحق من تلاميذه، وإن بعض الدراسات المتأخِّرة للمستشرقين تشير إلى اختلاف رؤية هشام بن الحكم في خصوص علم الإمام عن رؤية مشاهير الإمامية([101])، إلاّ أنه يبدو أن الحكم الدقيق في هذا الشأن يحتاج إلى دراسةٍ أوسع وأكثر عمقاً.

وفي ما يتعلَّق بـ (محمد بن عيسى العبيدي) ـ وهو من أبرز تلاميذ يونس بن عبد الرحمن ـ يجب القول أيضاً: على الرغم من عدم وجود الكثير من الروايات بشأن رؤيته في خصوص علم الإمام، يبدو أنه رغم انتمائه إلى تيار هشام بن الحكم، إلاّ أن رؤيته في هذا الشأن تختلف شيئاً ما عن رؤية الآخرين. إن بعض الروايات المأثورة تشير إلى أن محمد بن عيسى العبيدي كان يؤمن بالنكت في القلوب([102]). وربما لهذا الموقف المعتدل لم يتعرَّض العبيدي للنقد الذي تعرَّض له كلٌّ من: هشام بن الحكم ويونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان.

وفي ما يتعلَّق باعتقاد يونس بن عبد الرحمن بانقطاع الوحي هناك قرائن أكثر وأدعى للقبول، وسوف نأتي على ذكر بعضها في معرض الحديث عن القياس أيضاً. يضاف إلى ذلك أن الروايات المنقولة في بداية القرن الهجري الثالث بشأن إمامة الإمام الجواد× ـ على ما نجدها في كتاب (دلائل الإمامة) ـ يثبت بوضوحٍ أن يونس بن عبد الرحمن كان ينتمي إلى جماعة تقول بانقطاع الوحي. وطبقاً لهذه الرواية اجتمع كبار الإمامية بعد استشهاد الإمام الرضا× في دار عبد الرحمن بن الحجاج، وكان الإمام الجواد في حينها يبلغ من العمر سبعة أعوام فقط، ثم تساءل يونس بن عبد الرحمن قائلاً: ما الذي يمكن فعله إلى حين بلوغ هذا الغلام؟ وإلى مَنْ يكون أمر الإمامة؟ ولكنّه فوجئ بهجومٍ من قبل أكثر الحاضرين في المجلس([103]).

وفي ما يتعلَّق بالفضل بن شاذان يثبت التقرير([104]) الوارد في منتصف القرن الهجري الثالث حول النزاع الفكري بين تيارين بشأن علم الإمام في إيران، وبالتركيز على نيسابور، أن الفضل بن شاذان النيسابوري كان ينتمي إلى التيار القائل بانقطاع الوحي بعد رسول الله|. وفي هذا التقرير هناك اصطفافٌ بين جماعتين، حيث نرى الفضل بن شاذان وأتباعه من جهةٍ يقولون بانقطاع الوحي، ومن جهةٍ أخرى جماعة ثانية لم تكن تؤمن بانقطاع الوحي. وطبقاً لهذا التقرير كانت هناك جماعة في نيسابور تعتقد أن رسول الله كان عالماً بجميع لغات الأمم، وأنه يعرف لغات الطيور والمخلوقات، وكان يعلم بالسرائر والضمائر، وكان يعلم بما يفعله سكّان الأرض والمدن في بيوتهم، وإذا رأى صغيرين يعرف مَنْ هو المؤمن ومَنْ هو المنافق منهما، وأنه يعرف أسماء جميع أتباعه ومواليه وأسماء آبائهم، وأنه لا يلتقي شخصاً إلاّ ويعرف ما إذا كان موالياً أم لا. كما ذهبت هذه الجماعة إلى الاعتقاد بعدم انقطاع الوحي؛ إذ إن الوحي لم يكن بمتناول النبيّ وأوصيائه بشكلٍ كامل، وإنه إنما كان ينزل عند عروض الحاجة إلى ذلك، فيوحي إليهم علم ما لا يعلمون. وعلى هذه الشاكلة يوجد في كلّ عصر شخصٌ ـ وهو الإمام ـ يحمل هذه الأوصاف.

وفي المقابل كانت هناك جماعةٌ أخرى، يرأسها شخص الفضل بن شاذان النيسابوري. وكان اعتقاده يقوم على أن رسول الله قد علَّم وصيّه العلم الذي أوحي له، وأن أوصياءه كانوا يمتلكون علم الحلال والحرام وتفسير القرآن وفصل الخطاب، وأن هذا العلم قد انتقل إليهم وراثة من رسول الله|، وأن الوحي قد انقطع بعد رحيل النبي الأكرم بشكلٍ كامل([105]). ويبدو من عليّ بن قتيبة النيسابوري ـ تلميذ الفضل بن شاذان النيسابوري ـ، الناقل لهذه الرواية؛ بالالتفات إلى العبارات الموجودة فيها، من قبيل: كلمة «يزعمون» في وصف التيار المواجه لتيار الفضل بن شاذان، أنه كان معتقداً بمقالة أستاذه بشأن علم الإمام أيضاً.

ب ـ اعتقاد تيّار هشام بن الحكم بالقياس

إن القول بالقياس، وكذلك الرأي، من قِبَل بعض الشخصيات الإمامية في القرون الهجرية الأولى والوسيطة ليس بالظاهرة التي يمكن فصلها عن المسائل الكلامية وعلم الإمام. وإن النظر إلى هذه الظاهرة من زاوية تاريخ الفقه الإمامي فقط سيكون خطأً كبيراً. إن من بين الأسئلة الهامّة التي تمور في أذهان الباحثين في تاريخ الفقه الإمامي: كيف يمكن، مع وجود مختلف الروايات الواردة بشأن النهي عن التمسُّك بالرأي والقياس، أن يعتقد بعض علماء الإمامية ـ من أمثال: ابن جنيد الإسكافي ـ بجواز القياس في الدين([106]). إن الإجابة عن هذا السؤال ـ والتي لم يكن بالإمكان الوصول إليها إلاّ من خلال بذل الجهود المضنية والبحث في مختلف الآراء والمذاهب ـ تمثِّل حقيقة تحدِّد صلة القياس بعلم الإمام.

إن الجواب عن هذا السؤال يقول: إن هؤلاء العلماء يرَوْن أن أئمة الشيعة كانوا من أوائل الذين تمسَّكوا في الدين بالرأي. يبدو أن الخلفية التي دَعَتْ هذه الجماعة من علماء الإمامية إلى تصوُّر أن النبيّ أو الإمام كان يفتي على أساس رأيه ومصلحته تكمن في الروايات الخاصّة بتفويض أمور الدين إلى رسول الله والأئمة الأطهار^([107])؛ فقد تمّ التأكيد في هذه الروايات على تفويض أمر الدين بالكامل إلى رسول الله، بمعنى أنه يمكنه أن يصدر ما يشاء من الأوامر والنواهي، ولا سيَّما منها تلك الروايات التي تقول: إن الله تعهَّد بتهذيب النبي| أربعين سنة، ثم ترك أمر الدين إليه. وكأن الله قد علَّم نبيه أصول الدين، ثم ترك أمر التشريع إليه([108]). ومن هنا فإن الأئمة الأطهار^؛ حيث يمتلكون أصول التديُّن التي وصلت إليهم بالوراثة عن رسول الله، يقومون بدَوْرهم في مختلف الموارد والمسائل الحادثة بإصدار الحكم، لا استناداً إلى النصّ بالضرورة، بل على أساس رأيهم وقياسهم، وعلى طبق الأصول التي يمتلكونها([109]).

إن الذي يؤيِّد أن مستند القائلين باجتهاد الأئمة بالرأي هو رواياتُ تفويض أمر الدين هو أنه قد ورد في بعض التقارير أن مستندَ ابن جنيد الإسكافي في أن الأئمة قد وظَّفوا الرأي والقياس بعضُ الروايات المتعارضة التي أجاب فيها الأئمة عن سؤالٍ واحد بإجاباتٍ متعدّدة([110]). ويتجلّى هذا النوع من الروايات غالباً في باب تفويض أمر الدين إلى الأئمة. وهناك نموذجان ملفتان في هذا الشأن. فبعد أن أجاب الإمام الصادق× عن سؤالٍ واحد طرحه ثلاثة أشخاص بثلاث إجاباتٍ مختلفة، ورأى استغراب الراوي، بيَّن له أن سبب ذلك يعود إلى تفويض أمر الدين إلى رسول الله والأئمّة الأطهار^([111]).

ومع ذلك يبدو أن تلك الجماعة من علماء الإمامية الذين قالوا بالرأي والقياس قد استندوا إلى مقبولية الرأي والقياس عند الأئمة وتمسُّكهم بهما، وكان هذا الأمر يُعَدّ مرتبطاً بالتيارات المعروفة بشأن علم الإمام. هناك دراساتٌ تستحقّ التقدير قام بها بعض المحقِّقين والباحثين المعاصرين تشير إلى وجود اختلافاتٍ جادّة بين تيار هشام بن الحكم وتيار هشام بن سالم الجواليقي في خصوص استعمال القياس واجتهاد الرأي حتّى في عصر الهشامين([112]). وفي الحقيقة إن التيار الذي كان يرى الوحي منقطعاً كان قد آمن؛ من خلال استناده إلى روايات تفويض الدين، بمقبولية الرأي عند الأئمة. ولا يبعد بطبيعة الحال([113]) ـ كما قال النوبختي ـ تأثير القول بجبران النقص الحاصل بسبب الاعتقاد بانقطاع الوحي؛ بوصفه دافعاً ومشجِّعاً للقول بجواز القياس.

وبالنظر إلى القول بقبول القياس، بوصفه معياراً لتيار هشام بن الحكم، يبدو أنه يجب في الخطوة الأولى الذهاب إلى أقرب الأشخاص المنتسبين إلى هذا التيار، ونعني بذلك يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان. قال السيد المرتضى ـ من أعلام القرن الهجري الخامس ـ صراحةً: هناك بين رواة أحاديثنا مَنْ كان يقول بالقياس، من أمثال: الفضل بن شاذان، ويونس بن عبد الرحمن، وجماعة أخرى معروفة([114]). ويتجلّى هذا الكلام في خصوص الفضل بن شاذان على نحوٍ أشدّ عندما نجد ابن بابويه في القرن الهجري الرابع يتّهم الفضل بن شاذان في كتابه (مَنْ لا يحضره الفقيه)؛ بسبب قوله بالقياس، وينتقده على ذلك([115]). وقد أشار ابن بابويه في مقدّمة كتاب (كمال الدين وتمام النعمة) إلى أنه صادف في سفره إلى نيسابور جماعةً من الشيعة تمسَّكوا ـ بسبب حيرتهم في مرحلة الغيبة ـ بالقياس والرأي([116]). وعلى الرغم من أن بعض العلماء المتأخِّرين ـ من أمثال: الميرزا أبي الحسن شريف الإصفهاني ـ قد اعتبر أن هذا الاتهام لا أساس له من الصحّة، بل كتب رسالةً في إبعاد هذه التهمة عن يونس بن عبد الرحمن([117])،يبدو أنه من غير الممكن تجاهل هذا التقرير من السيد المرتضى، وفي الحدّ الأدنى يمكن اعتباره دالاًّ على وجود فهم خاصّ بين بعض رواة الأحاديث بشأن القياس.

إن وجود مثل هذا الفهم إنما يطرح بشكلٍ جادّ عندما ندرك أن سعد بن عبد الله الأشعري القمّي بعد نقل الاختلاف بشأن علم الإمام الجواد×، والإشارة إلى أن القائلين بانقطاع الوحي كانوا يجيزون القياس، أشار بعبارةٍ غامضة ومبهمة إلى رأي يونس بن عبد الرحمن في هذا الشأن، ممّا يُثبت ـ في الحدّ الأدنى ـ أن يونس كان يعتقد أن بعض الأمور كانت تنزل على رسول الله| بشكلٍ مُجْمَل، وأنه كان بحَسَب الموارد المختلفة يستنبط منها ويعمل على بسطها وتفصيلها([118]). وفي الحقيقة إن أشخاصاً ـ من أمثال: يونس بن عبد الرحمن ـ من القائلين بانقطاع الوحي كانوا يعتقدون بأن علوم الإمام إجماليّة، وأنه يعمل على بسطها وتفصيلها بآرائه.

وعلى أيّ حال إن تقرير السيد المرتضى يثبت أنه، بالإضافة إلى الفضل بن شاذان ويونس بن عبد الرحمن، كانت هناك جماعةٌ معروفة حتّى القرنين الرابع والخامس الهجريّين تقول بالقياس أيضاً. وعلى الرغم من أن العثور على شخوص هذه الجماعة شاقٌّ إلى حدٍّ ما، يبدو أنه بالإمكان رصد مصداقٍ لذلك في القرن الهجري الرابع، بشخص محمد بن أحمد بن جنيد الإسكافي(381هـ). وإن مبادرته إلى تأليف كتاب في الدفاع عن آراء الفضل بن شاذان([119]) لا يُبقي مجالاً للشكّ في انتمائه إلى جناح الفضل بن شاذان، وصحّة التقارير المشهورة التي تتَّهمه بالقول بالقياس([120]).

النتيجة

إن من بين أبرز التيارات الإمامية المتقدّمة التي يمكن رصد حضورها التاريخي على أساس المصادر القديمة بوضوحٍ تيار هشام بن الحكم، بمحورية كلّ من: هشام بن الحكم، ويونس بن عبد الرحمن، والفضل بن شاذان النيسابوري. لقد تبلور هذا التيار في العراق في القرن الهجري الثاني، ثم واصل حياته التاريخية في القرن الهجري الثالث في إيران، ولا سيَّما في نيسابور. وعلى الرغم من أن الحضور البارز لهذا التيار يعود إلى القرنين الثاني والثالث الهجريّين، إلاّ أن هناك معلومات تفيد أن هذا التيار كان له حضورٌ في القرن الهجري الرابع أيضاً، حيث يُستند في ذلك إلى أشخاص من أمثال: ابن جنيد الإسكافي.

إن أهم عناصر الفرز الاجتماعي لتيار هشام بن الحكم اتّهامه بالقول بالتشبيه، حيث التصق هذا الاتهام به وبسلسلة تلاميذه، ولا سيَّما يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان، على نطاقٍ واسع. وفي الحقيقة إن تيّار هشام قد واجه اصطفافاً في المحافل غير الإمامية، بل الإمامية أيضاً، حتّى فرضت عليه العزلة. وكان أهمّ أسباب ذلك اتهام القول بالتشبيه أيضاً. ويبدو أنه اتهامٌ لا يمتّ إلى حقيقة معتقدات هشام بن الحكم وتلاميذه بصلةٍ، وأنّ هذا الاتهام إنما كان نتاجَ سوء فهمٍ لأفكار هذا التيار، أو النقل بالمضمون والمعنى، أو التحريف وما إلى ذلك.

وفي الوقت نفسه كان لتيّار هشام بن الحكم آراؤه الخاصة التي تميِّزه من سائر الإمامية، ومن أهمّها: رؤية هذا التيار بشأن علم الإمام والرأي والقياس. ومنذ عصر الإمام الجواد× تمّ التأسيس لرؤيتين في المجتمع الشيعي بشأن علم الإمام؛ حيث ذهب أكثر الإمامية إلى القول باستمرار نزول الوحي بعد رسول الله|، وقالوا باتصال الإمام بالوحي، والذي رُبَما تمّ التعبير عنه في المنظومة الكلامية المعاصرة بـ (الوحي غير النبويّ)؛ بَيْدَ أن تيار هشام بن الحكم قد نفى بالمطلق أيّ نوعٍ من أنواع الوحي بعد النبيّ الأكرم|، وقالوا بانتقال العلم إلى الأئمة من طريق الوراثة فقط. كما ذهب هذا التيّار إلى جواز العمل بالقياس والرأي في الدين أيضاً؛ إذ قالوا ـ طبقاً لرؤيتهم وفهمهم الخاص لروايات تفويض الدين ـ: إن الأئمة الأطهار^ هم من أوائل الذين تمسَّكوا في الدين بآرائهم، وفي الحقيقة إن هذا التيار قد اعتبر الرأي والقياس مصدراً جديداً لسدّ النقص الحاصل؛ بسبب القول بانقطاع الوحي بعد رحيل النبيّ الأكرم|.

 

الهوامش

(*) باحثٌ، من خرِّيجي جامعة الإمام الصادق×، في طهران.

([1]) للوقوف على نماذج من التطبيق غير التاريخي لهذا المصطلح انظر: محمد رضا جباري، شناخت وتحليل مكتب حديثي قم أز آغاز تا قرن پنجم هجري (معرفة وتحليل المدرسة الروائية في قم منذ البداية حتّى القرن الخامس)، نشريه دانشكده إي إلهيات مشهد، العدد 49 ـ 50: 78، 1379هـ.ش (مصدر فارسي).

([2]) ومن ذلك، على سبيل المثال: إنه عندما يتمّ الحديث عن الأخباريين المتقدّمين يتمّ تسمية الشيخ الصدوق بوصفه زعيم الأخباريين المتقدّمين، في حين أن هذا التيار كان مجهولاً حتّى القرن الهجري الرابع، حيث كان مصطلح (الأخباري) يُطْلَق في الأساس على المؤرِّخ والقاصّ. كما أنه لم يكن هناك في تلك الفترة وجودٌ تاريخي لتيار باسم (الأخباريين القميين). وربما كان التعبير الأصحّ بشأنهم هو (أصحاب الحديث من القمّيين). وفي ما يتعلق بإطلاقات الأخباريين انظر: كامران إيزدي والسيد محمد هادي گرامي، اصطلاح أخباري در سير تحول مفهومي، مجلة حديث پژوهي، العدد 3: 147 ـ 166، 1389هـ.ش.

([3]) انظر: السيد حسين المدرسي الطباطبائي، مكتب در فرايند تكامل: 210، ترجمه إلى اللغة الفارسية: هاشم إيزد پناه، انتشارات كوير، ط 2، طهران، 1386هـ.ش.

([4]) انظر: الصدوق، التوحيد: 97، تحقيق: السيد هاشم الحسيني الطهراني، مؤسّسة النشر الإسلامي، قم.

([5]) انظر: المصدر نفسه.

([6]) انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة 3: 224، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، مؤسّسة إسماعيليان، قم.

([7]) انظر: أبو القاسم الخوئي، معجم رجال الحديث 19: 300، مركز نشر آثار شيعة، قم، 1410هـ.

([8]) انظر: تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي 1: 20، تحقيق: السيد طيب الموسوي الجزائري، مؤسّسة دار الكتاب، قم، 1404هـ.

([9]) انظر: رجال الكشّي (اختيار معرفة الرجال) 2: 822، تحقيق: السيد مهدي رجائي، مؤسّسة آل البيت^، قم، 1404هـ.

([10]) انظر: أبو القاسم الخوئي، معجم رجال الحديث 11: 304؛ 20: 211.

([11]) انظر: المصدر السابق 10: 150.

([12]) رجال الكشّي (اختيار معرفة الرجال) 2: 547.

([13]) سوف نشير إلى هذه النقطة في هذا المقال لاحقاً.

([14]) انظر: رجال النجاشي: 450، مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، 1373هـ.ش.

([15]) انظر: أبو القاسم الخوئي، معجم رجال الحديث 20: 209 ـ 212.

([16]) انظر: رجال النجاشي: 433. ورد ذكر عنوان الكتاب في رجال النجاشي بـ (الردّ على شيطان الطاق)، فإن صحّت هذه العبارة فإنها ستعبِّر عن الاصطفاف الحادّ في هذا الشأن؛ وذلك لأن هذا التعبير هو ذات التعبير الذي كان يستعمله خصوم الشيعة في الإشارة إلى مؤمن الطاق. وعلى أيّ حال يبدو ـ كما يذهب بعض المحقِّقين المعاصرين، من أمثال: الشيخ محمد رضا الجعفري ـ أنه قد تمّ تحريف هذا العنوان، وأن عنوان الكتاب كان في الأصل (مؤمن الطاق). بَيْدَ أن كاتب هذه السطور على يقينٍ من أن هذا الكتاب كان في الردّ على مؤمن الطاق قطعاً، وهذا المقدار يكفي في إظهار التقابل والاصطفاف والمواجهة. وإن رأي المحقق الجعفري القائل بأن هذا الكتاب كان في الردّ على شخصٍ آخر يفتقر إلى القرينة التاريخية التي يمكن الركون إليها. (انظر: محمد رضا الجعفري، مقدمة تصحيح الاعتقاد: 101 ـ 102، بنياد فرهنگي جعفري، قم، 1389هـ.ش (مصدر فارسي)).

([17]) سوف نشير إلى هذه النقطة في هذا المقال لاحقاً.

([18]) انظر: أبو القاسم الخوئي، معجم رجال الحديث 19: 287 ـ 289.

([19]) انظر: محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، الملل والنحل 1: 188، تحقيق: محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت.

([20]) لا يمكن العثور في الكتب المتداولة على توضيحٍ دقيق بشأن هذا التعبير، ولكنْ كما يؤكِّد المحقِّق التستري في قاموس الرجال فإن المراد هو أن الشخص المذكور كان من أصحاب وأتباع يونس بن عبد الرحمن، وأنه كان يتبعه في بعض معتقداته التي تعتبر في حينها من المعتقدات الفاسدة. (انظر: التستري، قاموس الرجال 1: 81 ـ 82، مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، 1414هـ).

([21]) انظر: الطوسي، كتاب الرجال 1: 361، المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف، 1381هـ.

([22]) انظر: المصدر السابق: 391.

([23]) انظر: المصدر السابق: 401.

([24]) انظر: المصدر السابق: 369.

([25]) انظر: الكليني، الكافي 1: 311، تحقيق: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1363هـ.ش.

([26]) انظر: أبو القاسم الخوئي، معجم رجال الحديث 16: 74.

([27]) انظر: المصدر السابق 12: 187.

([28]) انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة 3: 228.

([29]) انظر: أحمد باكتجي، گرايش هاي فقه إمامية در سده هاي دوم وسوم هجري، نامه فرهنگستان علوم، العدد 3: 19، 1375هـ.ش (مصدر فارسي).

([30]) برامج الدراية في مؤسسة النور للبرمجيات المرنة، قسم تقييم الوثائق.

([31]) انظر: أبو القاسم الخوئي، معجم رجال الحديث 17: 113 ـ 115؛ 20: 199.

([32]) انظر: المصدر السابق 17: 113 ـ 115؛ 12: 199.

([33]) انظر: الكليني، الكافي 1: 102 ـ 103.

([34]) للوقوف على المزيد من المعلومات بشأن الأحناف في خراسان في القرنين الثاني والثالث الهجريين انظر: أحمد باكتجي، أنديشه هاي كلامي سده هاي 2 و3 قمري، المطبوع ضمن سلسلة: إسلام پژوهشي تاريخي فرهنگي، انتشارات مركز دائرة المعارف بزرگ إسلامي: 334 ـ 336، ط 2. (مصدر فارسي).

([35]) انظر: رجال النجاشي: 16.

([36]) انظر: المصدر السابق: 260.

([37]) انظر: تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي 1: 20.

([38]) انظر: السيد جلال الدين الأرموي، مقدّمة الإيضاح: 7، مؤسّسة الأعلمي، بيروت، 1402هـ.

([39]) انظر: الطوسي، الفهرست: 539، المكتبة المرتضوية، النجف.

([40]) انظر: رجال الكشّي (اختيار معرفة الرجال) 2: 818.

([41]) في ما يتعلَّق بتبعية الفضل بن شاذان لتيار هشام بن الحكم تقدَّم أن ذكرنا بعض القرائن، وسنأتي في هذا المقال على ذكر شواهد أخرى في هذا الشأن أيضاً.

([42]) سوف نبحث في هذا المقال صلة تيار هشام بن الحكم بالقول بالرأي والقياس.

([43]) انظر: رجال النجاشي: 63.

([44]) انظر: المصدر السابق: 388.

([45]) انظر: السيد حسين المدرسي الطباطبائي، مكتب در فرايند تكامل: 210.

([46]) انظر: المصدر السابق: 209.

([47]) إن كاتب هذه المقالة يؤمن جدّاً بأن أسباب المواجهة مع تيار هشام بن الحكم، وتكفير التابعين له أحياناً، لا تعود إلى عقلانية هذا التيار؛ فإن هذا الكلام بعيدٌ كل البعد عن الواقعية والعينية التاريخية. هذا في حين أننا حتّى إذا اعتبرنا الدوافع نحو الفلسفة ـ طبقاً للمنهج المعاصر ـ بوصفها من أكثر أنواع العقلانية تقدّماً فمن الملفت أن ندرك أن تيار هشام بن الحكم، ولا سيَّما هشام نفسه، يعتبر من المخالفين الشرسين للفلسفة الأرسطية. (انظر: محمد رضا الجعفري، مقدّمة تصحيح الاعتقاد: 62 ـ 63).

([48]) إن رأي أتباع المنهج الفكري لتيار هشام بن الحكم بشأن جواز العمل بالرأي والقياس في الدين متَّخذ من رؤيتهم حول كيفية علم الإمام. إن هذه الجماعة كانت في ما يتعلَّق بعلم الإمام ترى أن الوحي قد انقطع بعد رحيل رسول الله بالكامل، وكانت تعتقد بأن علم الإمام يتمّ عبر الوراثة والكتب التي انتقلت إليهم من آبائهم وأجدادهم، وكذلك عمل الإمام بالقياس متسلّحاً في ذلك بعنصر العصمة التي يتمتّع بها. (انظر: ما سيأتي في هذه المقالة). وللمزيد من الاطلاع في هذا الشأن نجد بعض التحقيقات الأخيرة للسيدة تميمة بيكم دائو مفيدة جدّاً.، فقد كتبت مقالين منفصلين بعنوان: (هشام بن الحكم واعتقاده بشأن علم الإمام)؛ و(علم الإمام والقرآن من وجهة نظر الفضل بن شاذان)، وقد أثبتت في هاتين المقالتين على نحوٍ جيد أن رأي هشام بن الحكم والفضل بن شاذان بشأن إمكان الوحي والإلهام بالنسبة إلى الإمام كان مختلفاً عن رؤية الغالبية من الإمامية.

([49]) للمزيد من الاطلاع في هذا الشأن انظر: مجموعه كلام وجامعه فان أس (جي. فان أس: 1991 ـ 1997م)، كلام وجامعه 1، برلين / نيويورك: 357). وانظر أيضاً: مقالة مادلونغ تحت عنوان:

The Shiite and Kharijite Contribution to Pre – Asharite Kalam

([50]) انظر: محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، الملل والنحل 1: 184، تحقيق: محمد سيد كيلاني.

([51]) انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة 3: 223.

([52]) انظر: المفيد، الحكايات: 77 ـ 83، تحقيق: السيد محمد رضا الحسيني، كنگره جهاني شيخ مفيد، قم، 1413هـ.

([53]) انظر: الصدوق، الأمالي: 452، مؤسّسة البعثة، قم، 1417هـ.

([54]) انظر: أبو القاسم الخوئي، معجم رجال الحديث 20: 215.

([55]) انظر: محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، الملل والنحل 1: 188.

([56]) انظر: عبد القاهر بن طاهر البغدادي، الفرق بين الفِرَق: 53، دار الجيل ودار الآفاق، بيروت، 1408هـ.

([57]) انظر: الصدوق، التوحيد: 107، تحقيق: السيد هاشم الحسيني الطهراني.

([58]) انظر: رجال الكشّي (اختيار معرفة الرجال) 2: 821.

([59]) انظر: المصدر السابق 2: 819 ـ 820.

([60]) انظر: علي آقا نوري، خاستگاه تشيُّع وپيدايش فرقه هاي شيعي در عصر إمامان: 86، پژوهشگاه علوم وفرهنگ إسلامي، قم، 1386هـ.ش.

([61]) انظر: المصدر السابق: 79.

([62]) انظر: المصدر السابق: 68.

([63]) انظر: المصدر السابق: 76.

([64]) انظر: المصدر السابق: 72.

([65]) انظر: المفيد، الحكايات: 77 ـ 80.

([66]) انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة 3: 223.

([67]) أبو القاسم الخوئي، معجم رجال الحديث 7: 246.

([68]) من الواضح أنه لا يمكن الحديث عن دوافع إلاّ إذا كان هناك تعمُّد في خلق الاصطفافات والدعوة إليها؛ إذ على الرغم من وجود الكثير من الأشخاص المؤثِّرين في هذه التيارات والاصطفافات، ولكنهم لم يكونوا على علمٍ بأكذوبتها، وكانوا يرومون في الحقيقة مجرّد الدفاع عمّا يعتبرونه حقيقة لا غبار عليها.

([69]) رجال الكشّي (اختيار معرفة الرجال) 2: 547.

([70]) انظر: المرتضى، الفصول المختارة: 52، دار المفيد، بيروت، 1414هـ.

([71]) انظر: أبو القاسم الخوئي، معجم رجال الحديث 20: 198.

([72]) رجال الكشّي (اختيار معرفة الرجال) 2: 782.

([73]) الطوسي، كتاب الرجال 1: 346.

([74]) انظر: أبو القاسم الخوئي، معجم رجال الحديث 20: 201 ـ 208.

([75]) انظر: المصدر السابق 11: 304.

([76]) انظر: المصدر السابق 20: 217.

([77]) انظر: محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، الملل والنحل 1: 188.

([78]) انظر: أبو القاسم الخوئي، معجم رجال الحديث 1: 20.

([79]) انظر: المصدر السابق 19: 300.

([80]) انظر: تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي 1: 20.

([81]) انظر: المصدر السابق 1: 20.

([82]) انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة 3: 223.

([83]) المفيد، الحكايات: 79.

([84]) انظر: المصدر السابق: 77 ـ 83.

([85]) انظر: المفيد، أوائل المقالات: 38، دار المفيد، بيروت، 1414هـ.

([86]) انظر: المفيد، الحكايات: 77 ـ 83.

([87]) انظر: الكراجكي، كنـز الفوائد 2: 41، مكتبة الصفوي، قم، 1369هـ.ش.

([88]) انظر: محمد بن حسين الرازي، تبصرة العوام في مقالات الأنام: 172، تحقيق: عباس إقبال الآشتياني، طهران، 1369هـ.ش.

([89]) لا أجد معنىً محصّلاً لكلمة (اجتماعياً) في ما نحن فيه؛ لأن المسألة مورد البحث اعتقادية وكلامية بَحْتة. المعرِّب.

([90]) باستثناء الموارد المطروحة في هذه المقالة، فإن من بين الموارد الأخرى التي نسبها المخالفون إلى هشام بن الحكم اعتقاده في باب علم الله. يذهب هشام إلى الاعتقاد بأن الشيء ما لم يحدث لا يحصل لله علمٌ به. نقل هذا الكلام سعد بن عبد الله الأشعري القمّي، الذي ألَّف كتاباً في الرد على أفكار هشام بن الحكم ويونس بن عبد الرحمن. (انظر: الطوسي، الغيبة: 430 ـ 431، مؤسّسة المعارف الإسلامية، قم، 1411هـ). وقد صرَّح الشيخ المفيد قائلاً: إن هشام بن الحكم رغم كونه شيعياً، إلاّ أنه خالف جميع الإمامية في ما يتعلق بأسماء الله تعالى ومعاني صفات الله. (انظر: المفيد، أوائل المقالات: 38). وبالإضافة إلى ذلك يمكن في إطار الدراسة الدقيقة لأفكار تيار هشام بن الحكم بشأن موضوعاتٍ أخرى، من قبيل: سهو النبيّ، وبدء الخلق، الرجوع إلى كتاب (مؤلِّفه هاي غلوّ نزد إمامية در پنج سده إي نخست هجري وتأثير آن در فهم گزارش هاي رجالي متقدّم)، أطروحة علمية على مستوى الماجستير، للباحث السيد محمد هادي گرامي: 96، 127، جامعة الإمام الصادق×، طهران، 1389هـ.ش (مصدر فارسي).

([91]) انظر: النوبختي، فِرَق الشيعة: 55 ـ 56، دار الأضواء، ط2، بيروت، 1404هـ.

([92]) القاضي النعمان المغربي، دعائم الإسلام 1: 50، دار المعارف، القاهرة، 1963م.

([93]) انظر: النوبختي، فِرَق الشيعة: 88 ـ 90.

([94]) انظر: سعد بن عبد الله الأشعري، مقالات الإسلاميين: 50، تحقيق: هيلموت ريتر، بيروت، 1400هـ. لا يخفى أن هناك خلطاً وقع فيه كاتب هذا المقال بين: أبي الحسن الأشعري صاحب كتاب (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين) وسعد بن عبد الله الأشعري القمّي صاحب كتاب (المقالات والفرق). المعرِّب.

([95]) الكليني، الكافي 1: 227.

([96]) المصدر السابق 1: 262.

([97]) انظر: أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين: 50.

([98]) انظر: المصدر السابق: 48.

([99]) الصفّار، بصائر الدرجات: 265، تصحيح: الميرزا حسين كوچه باغي، مؤسسة الأعلمي، طهران، 1362هـ.ش.

([100]) انظر: المصدر السابق: 304.

([101]) Tamima Bayhom – Daou (2003), “Hisham b. al-Hakam and his doctrine of the Imam’s knowledge”, Journal of Semitic Studies, Vol. 48(1), p. 71.

([102]) انظر: الصفّار، بصائر الدرجات: 316 ـ 318.

([103]) انظر: الطبري، دلائل الإمامة: 388، مؤسّسة البعثة، قم، 1413هـ.

([104]) انظر: رجال الكشّي (اختيار معرفة الرجال) 2: 819.

([105]) انظر: المصدر السابق 2: 819.

([106]) انظر: أبو القاسم الخوئي، معجم رجال الحديث 14: 321.

([107]) انظر: الصفّار، بصائر الدرجات: 398 ـ 403.

([108]) انظر: المصدر نفسه.

([109]) وبطبيعة الحال إن إدراك هذه المسألة رهنٌ بالابتعاد عن الاعتقاد الكلامي المعاصر للإمامية بشأن هذه الروايات. ففي المنظومة الكلامية المتأخِّرة، حيث يعتقد أن إرادة الإمام في الدين هي ذات إرادة الله، يصعب استيعاب هذا الفهم. ولكنْ مع الابتعاد عن الأجواء الراهنة، والعودة إلى المناخات الشيعية التي لم تكن بعدُ قد تعرَّفت على هذه الأنظمة الكلامية، وينظرون إلى نصوص هذه الروايات برؤيةٍ ظاهرية بَحْتة، يكون اعتبار ترادف تفويض أمر الدين إلى الأئمة مع تمسُّكهم برأيهم قابلاً للاستيعاب. وأما القول بأن رأي الإمام ورأي الله واحد، أو أن آراء الأئمّة هي الدين، فلم يتأسَّس ويترسَّخ في أذهان الشيعة إلاّ في مراحل متأخرة.

([110]) انظر: المفيد، المسائل السروية: 75، تحقيق: صائب عبد الحميد، دار المفيد، ط2، بيروت، 1414هـ.

([111]) انظر: الكليني، الكافي 1: 265.

([112]) انظر: باكتجي، كرايش هاي كلامي در سده هاي 2 و3: 21.

([113]) انظر: النوبختي، فِرَق الشيعة: 90.

([114]) انظر: رسائل الشريف المرتضى 3: 311، دار القرآن الكريم، قم، 1405هـ.

([115]) انظر: الصدوق، مَنْ لا يحضره الفقيه 4: 270، انتشارات جماعة المدرسين، قم، 1413هـ.

([116]) انظر: الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة: 2، تصحيح: علي أكبر الغفاري، مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، 1405هـ.

([117]) انظر: أبو الحسن الفتوني العاملي، تنـزيه القمّيين (تراثنا 52: 163 ـ 242)، إعداد: محمد تقي الجواهري، مؤسّسة آل البيت^، 1418هـ.

([118]) انظر: سعد بن عبد الله الأشعري القمّي، المقالات والفِرَق: 98.

([119]) انظر: رجال النجاشي: 388.

([120]) انظر: الطوسي، الفهرست: 392، المكتبة المرتضوية، النجف.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً