أحدث المقالات

د. حسين علي سعدي(*)

ترجمة: وسيم حيدر

المقدّمة

قبل الخوض في نظرية الاجتهاد المتوسّط وأدلّته، التي تمثّل خطوةً متقدّمة في إطار تكميل وتطوير هذه النظرية، يبدو من الضروري التذكير ببعض المقدّمات، ومن بينها: إمكان تقييم الاجتهاد والتقليد في مبادئ ومقدّمات الاجتهاد.

ذكر الأصوليون عدداً من العلوم التي يتوقّف عليها الاجتهاد، وهناك مَنْ قال: إنها ستّة علومٍ، وهناك مَنْ قال: إنها اثنا عشر علماً، وهناك مَنْ زاد على ذلك. وهناك من الأصوليين مَنْ ميَّز بين العلوم التي هي بمنزلة المبادئ والعلوم التي تلعب دَوْراً في تكامل الاجتهاد. وفي هذا الشأن نشير إلى المحقّق الخراساني، حيث عمد في كفاية الأصول إلى بحث مبادئ ومقدّمات الاجتهاد ضمن قسمين:

القسم الأوّل: العلوم العربية، وقال في ذلك: «لا يخفى احتياج الاجتهاد إلى العلوم العربية في الجملة». ثمّ بحث في مقدار الحاجة إلى كلّ واحدٍ من هذه العلوم. وقد أشار السيد الخوئي في التنقيح إلى هذه النقطة أيضاً([1]).

القسم الثاني: علم الأصول؛ والدليل على ذلك أنه لا توجد هناك مسألةٌ فقهية إلاّ ولها مبنىً أصولي، وإن الحكم الشرعي بدَوْره يقوم على تطبيق تلك المسألة الأصولية. وبعبارةٍ أخرى: لا يمكن الاجتهاد في الفقه دون أن يكون هناك اجتهادٌ في الأصول.

والعلم الآخر الذي يحتاج إليه الاجتهاد هو علم المنطق. وإنْ عمد البعض ـ من أمثال: السيد الخوئي ـ إلى الإشكال على توقُّف الاجتهاد عليه([2]).

والعلم الآخر الذي يمكن تسميته هو علم الرجال. وبطبيعة الحال كانت هناك الكثير من المناقشات بشأن الحاجة إلى هذا العلم أو عدم الحاجة إليه.

وهناك مَنْ رأى أن الاجتهاد في علم الكلام والتفسير من مبادئ الاجتهاد أيضاً. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن الفاضل التوني(1071هـ) قد أشار في الوافية([3]) إلى العلوم التي تمسّ الحاجة إليها في الاجتهاد، قائلاً: «إن المجتهد في عصر الغيبة يحتاج إلى معرفة علوم تسعة: ثلاثة من العلوم الأدبية، وهي: اللغة والصرف والنحو؛ وثلاثة من المعقولات، وهي: الأصول والكلام والمنطق؛ وثلاثة من المنقولات، وهي: تفسير آيات الأحكام ومعرفة الأحاديث أي علم الدراية، وعلم الرجال»([4]).

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل من الضروري الاجتهاد في هذه المبادئ والمقدّمات أم يكفي للمجتهد أن يكون مقلِّداً فيها؟

الاجتهاد في مبادئ الاجتهاد

إن من بين الأبحاث الهامّة، والمثيرة في الوقت نفسه للنقاش والجَدَل، والتي يرتبط جانبٌ منها بمجال الاجتهاد وجانبها الآخر بالتقليد، هي مسألة الاجتهاد في مبادئ ومقدّمات الاجتهاد. وتكمن أهمّية ـ وفي بعض الأحيان عقدة ـ الحديث عن هذه المسألة في أنها ترتبط بالمجتهد، بالإضافة إلى ارتباطها بالمقلِّد أيضاً. والذي يرتبط بالاجتهاد هو أنه هل يجب من أجل تحقّق الاجتهاد ـ الذي يكون موضوعاً للأحكام (في جواز عمل المجتهد برأيه، وجواز تقليد الآخرين له، وجواز قضائه) ـ أن يكون الشخص مجتهداً حتّى في مبادئ الاجتهاد أيضاً؟ بناءً على القول بأن علوماً من قبيل: الأصول والرجال تدخل ضمن مبادئ الاجتهاد هل يجب على الشخص أن يصل إلى مرحلة الاجتهاد فيها، أم أن المهمّ في مبادئ الاجتهاد هو مجرّد معرفة المسألة، وهي تحصل ـ بطبيعة الحال ـ من خلال الرجوع إلى الكتب المتوفّرة في هذا الشأن؟ بناءً على الصورة الثانية لا يكون الاجتهاد في اللغة والتفسير ضرورياً، ويكفي فيها مجرّد القدرة على الرجوع إلى النصوص المؤلّفة في هذا الشأن وفهمها. والإشكال الذي يطرح نفسه في هذا المجال هو أن النتيجة؛ حيث تتبع أخسّ المقدّمتين، فإن الشخص إذا لم يكن مجتهداً في المبادئ لا يمكن إطلاق عنوان «المجتهد» عليه. وهذا هو الإشكال الذي أشار إليه المحقّق ضياء الدين العراقي(1361هـ)؛ إذ قال: «الجاهل ببعض جهات المسألة جاهلٌ بنفس المسألة؛ لأنّ النتيجة تابعةٌ لأخسّ المقدّمات»([5]). وهناك مَنْ أشكل عليه بأن القول بهذا الرأي يحتِّم علينا القول بخروج أكثر المجتهدين من دائرة الاجتهاد.

وقد أشار صاحب العروة، في هامش المسألة رقم 67 من مسائل الاجتهاد والتقليد، إلى لزوم الاجتهاد في المبادئ والمقدّمات في تحقُّق عنوان «المجتهد»، قائلاً: «محلّ التقليد ومورده هو الأحكام الفرعية العملية، فلا يجري في أصول الدين وفي مسائل أصول الفقه، ولا في مبادئ الاستنباط، من النحو والصرف ونحوهما، ولا في الموضوعات المستَنْبَطة العُرْفية واللغوية»([6]). وعلى هذا الأساس فإن مبادئ الاجتهاد ـ طبقاً لرأيه ـ لا تقبل التقليد، ولذلك فإنه طبقاً لهذا المبنى لن يكون التقليد في مبادئ الاجتهاد جائزاً. فأوّلاً: إن هذا الاجتهاد لن يتحقّق في حقّ هذا الشخص نفسه، وثانياً: لا يمكن للآخرين أن يقلِّدوا مثل هذا الشخص.

وعلى أيّ حالٍ إن لوازم الإجابة أو عدم الإجابة عن هذا الإشكال واسعةٌ وجادّة للغاية. لنفترض القول بعدم الحاجة إلى الاجتهاد في المبادئ فالسؤال هو: لو أن شخصاً كان مجتهداً في بعض المبادئ، وكان رأيه في تلك المسألة مخالفاً لرأي مجتهدٍ قد اتَّخذ مبنىً (اجتهاداً أو تقليداً) وأفتى على طبق ذلك المبنى، فهل يبقى جواز تقليده قائماً؟ فهل مع اجتهاده يتعيَّن عليه العمل بفتوى مرجعٍ ينبثق حكمه عن مبنىً ليس مقبولاً عنده؟

وفي ما يلي سوف نستعرض أدلّة القائلين بعدم جواز التقليد في المبادئ، التي استقصيناها من بين كلمات الفقهاء والأصوليين، ونعمل على مناقشة ونقد كلّ واحدٍ منها؛ كيما تتّضح المبادئ التصوُّرية للنظرية.

أدلة عدم جواز التقليد في مبادئ الاجتهاد

هناك خمسة أدلَةٍ رئيسة على عدم جواز التقليد في مبادئ الاجتهاد، وهي:

 

الدليل الأوّل: انصراف أدلة التقليد

بمعنى أن أدلة التقليد منصرفةٌ عن الشخص الذي لا يكون مجتهداً في المبادئ. إن أدلة التقليد ـ سواء النقلية منها أو السيرة ـ تشمل التقليد في الأحكام الشرعية فقط، ولا تشمل غيرها. وهناك من المعاصرين مَنْ مال إلى التفصيل في هذه المسألة. ومن ذلك مثلاً أن الشيخ علي الصافي (التلميذ البارز للسيد البروجردي) قد تعرَّض إلى هذه المسألة في «ذخيرة العقبى في شرح العروة الوثقى»، وذكر القول بالتفصيل([7]).

طبقاً لهذا المبنى يجب علينا أن نفصل أدلة التقليد من بعضها؛ كي ندرك لماذا نعتبر التقليد جائزاً؟ إن صورة المسألة هي أن العامي (غير المجتهد) يروم تقليد مجتهدٍ هو في حدّ ذاته مقلِّدٌ في بعض المبادئ. إن مجال هذه المسألة يتعلَّق في الأصل بمبادئ الاجتهاد، وهو يختلف عن مجال التقليد؛ إذ يتم التعرُّض فيه إلى المناطات المقوّمة لماهية الاجتهاد، وهل يتبلور الاجتهاد بمثل هذا الشيء؟([8]).

بعد ذلك يجب الخَوْض في الفصل والتفكيك بين أدلة التقليد؛ فإنْ كانت أدلّة التقليد أدلّةً لفظية (الآيات والروايات) لن تكون شاملةً لذلك الذي يكون مقلّداً في المبادئ([9])؛ وأما إذا كانت أدلّة التقليد لُبِّيةً وعقلية فهي تشمل الجاهل ببعض جهات المسألة أيضاً. فإنْ كان دليل التقليد هو العقل فإنه سيحكم برجوع الجاهل إلى العالم، ولهذا السبب يجب على الجاهل في فروع الدين أن يرجع إلى العالم. وعلى هذا الأساس لو أن شخصاً لم يكن عالماً بلزوم وثاقة خبر أو وثاقة مخبر، وترجيح أحدهما على الآخر، فهذا يعني أنه جاهلٌ بهذه المسألة، ولذلك يجب عليه أن يرجع إلى العالم. وليس للعقل سوى قاعدةٍ واحدة، وهي جواز رجوع الجاهل إلى العالم، ولذلك لا يقوم بالفصل والتفكيك([10]).

إشكال السيد الخوئي على الفصل بين أدلّة التقليد

لقد أشار السيد الخوئي ـ بعد بيان مقدّمات الاجتهاد ـ إلى شمول أدلّة التقليد لمبادئ الاجتهاد([11])، وذهب في ذلك ـ طبقاً لمبناه ـ إلى القول بأن أدلّة التقليد في المقام لا تشمل مبادئ الاجتهاد([12]). والإشكال الذي يبدو للوَهْلة الأولى على هذا الرأي هو أن هذا المدَّعى إنما يكون صحيحاً في الأدلّة النقلية واللفظية على فرض انحصار أدلّة التقليد (وطبقاً لذلك لا يمكن إطلاق عنوان العارف والعالم على الجاهل ببعض جهات المسألة)، وأما إذا كان بناء وسيرة العقلاء من بين أدلّة التقليد أيضاً فلن يكون هناك فرقٌ في ماهية مجال الجهل، بل يكون الجواب بجواز مطلق رجوع الجاهل إلى العالم. ولكنّ السيد الخوئي حاول أن يجيب عن هذا الإشكال من خلال القول بعدم وجود الإطلاق في السيرة العقلائية، وذلك عبر تقسيم الجاهل إلى قسمين، وهما:

1ـ الجاهل في المسائل الحِسِّية.

2ـ الجاهل في المسائل الحَدْسية.

فإن موت زيد ـ على سبيل المثال ـ مسألة حِسِّية، ولا معنى للتقليد فيها طبعاً، والسيرة بدَوْرها لا تقوم في هذه الموارد على رجوع الجاهل إلى العالم. وإنما تحكم بذلك في المسائل الحَدْسية والتحليلية، مثل: الهندسة والطبّ وما إلى ذلك([13]).

وقد ذهب السيد الخوئي إلى القول بأن مبادئ الاستنباط من الأمور الحِسِّية أيضاً([14]). إن القول بأن زيداً عادل أم لا من الأمور الحِسِّية التي لا يجوز التقليد فيها. وعلى هذا الأساس فإن أدلّة التقليد لا تقبل التفكيك والتفصيل بين الأدلّة اللفظية والسيرة؛ كي يُقال تَبَعاً لذلك بشمول السيرة لها.

نقدٌ ومناقشة

لو سلَّمنا بالكبرى نبدأ الكلام بصغرى عبارته. والحقيقة هي أن علم الرجال ليس بتلك السهولة التي يمكن معها الخوض فيه ضمن إطار بعض الأمثلة (من قبيل: عدالة زيد). وعلى هذا الأساس يجب الفصل في علم الرجال بين نسبته إلى المتقدّمين والمتأخّرين؛ وذلك لأن علم الرجال في نسبته إلى المتأخّرين من أدقّ الأمور، وإن جرح وتعديل الراوي يقوم فيه على إبداء النظر والاجتهاد. وعليه كيف يمكن اعتبار موارد من هذا القبيل من الأمور الحِسِّية؟! إذا لم يكن الشخص خبيراً بعلم الرجال من المستحيل أن يتمكّن من ممارسة الجرح والتعديل. إن الدقّة السندية، ومعرفة الطبقات، وتوثيق الأفراد، وما إلى ذلك من الأمور، ضروريةٌ في علم الرجال. وهناك الكثير من الأمثلة على هذه الموارد والاجتهاد وإمعان النظر في كتابه القيِّم (معجم رجال الحديث). وهو نفسه يرى أن آراء الرجاليين المتقدِّمين عليه في القول بالحِسِّية من الحَدْس، وأنه قائمٌ على الاجتهاد([15]).

كما أنه نفسه قد وثّق رجال كامل الزيارات، في حين هناك الكثير من النقاش حول ما إذا كان مشايخ ابن قولويه المباشرين في مقدّمة كامل الزيارات بلا واسطة هم وحدهم الثقات أم جميع رجاله؟ فهذا النموذج هو في حدّ ذاته قاعدةٌ فنّية وحَدْسية واجتهادية، ولا يمكن أن تكون قاعدةً حِسِّية.

الدليل الثاني: مقتضى الدَّوَران بين اليقين والتخيير (عدم القول بالاجتهاد في المبادئ)

لنفترض أن هناك ترديداً وشكّاً في أنه هل يجب تقليد المجتهد إذا كان مجتهداً في المبادئ حَصْراً أم يجوز تقليد المجتهد مطلقاً حتّى إذا لم يكن مجتهداً في المبادئ؟ وبعبارةٍ أخرى: إن الأمر مخيَّرٌ بين تقليد المجتهد الذي يكون مجتهداً في المبادئ والمجتهد الذي يكون مقلّداً في المبادئ. وفي هذه الموارد يكون الأمر من «دَوَران الأمر بين أصالة التعيين والتخيير». وفي مثل هذه الموارد يكون مقتضى القاعدة هو الحكم بأصالة التعيين. ومقتضى أصالة التعيين هو عدم التمكُّن من تقليد المجتهد المقلِّد في المبادئ.

نقدٌ ومناقشة

يبدو أن الدليل الثاني ناظرٌ في الأساس إلى غير مورد البحث (حجّية رأي المجتهد بالنسبة إلى نفسه). إن هذا الدليل ناظرٌ إلى حجّية فتوى المجتهد بالنسبة إلى الآخرين([16]). إذن فالمورد أجنبيٌّ عن محلّ بحثنا. اللهمّ إلاّ أن يُقال: هناك تلازمٌ بين المورد الأوّل والمورد الثاني؛ بمعنى أنه لا يمكن الفصل والتفكيك بين حجّية فتوى المجتهد لنفسه وبين حجّية فتواه لغيره.

رأي الشيخ مرتضى الحائري

عمد الشيخ مرتضى الحائري ـ على هامش عبارة صاحب العروة التي تقدَّم ذكرها، وهي قوله: «محلّ التقليد ومورده هو الأحكام الفرعية العملية، فلا يجري في أصول الدين وفي مسائل أصول الفقه، ولا في مبادئ الاستنباط» ـ إلى بحث التقليد في المسألة الأصولية ومبادئ الاستنباط على مستويين، وهما:

1ـ التقليد في المبادئ بغية العمل بالحكم المنبثق عن تلك المقدّمات([17]). وفي هذه الموارد تقع المبادئ مورداً للتقليد، تَبَعاً للتقليد في الأحكام الفرعية. ويبدو أن هذه الموارد هي التي تقع محلاًّ للتقليد، والتي صرَّح السيد اليزدي بشأنها قائلاً: «مورده هو الأحكام الفرعية». غاية ما هنالك أن الاختلاف هنا يكمن في أن التقليد يُؤخَذ إلى الخلف بعددٍ من المراتب، ويتمّ كذلك تقليد المجتهد في المبادئ؛ كي يتمّ ترتيب الفتوى على المبدأ أيضاً. وهذا التقليد في مبادئ الحكم والاجتهاد. ولكنْ يبدو أن هذه ليست حالةً جديدة، وإنما هي مجرّد بيانٍ للمستويات الأخرى من التقليد.

2ـ التقليد في المبادئ على نحو الاستقلال([18]). وعلى هذا الأساس إذا كان الشخص مقلّداً في المبادئ على نحو الاستقلال لن تكون هناك حاجةٌ للرجوع إلى المجتهد، غاية ما هناك أنه يقلّد في المبادئ مجتهداً قد اجتهد في المبادئ، كأنْ يقلِّد ـ على سبيل المثال ـ مجتهداً في معنى «الضِّرار»، أو «حجّية خبر الواحد»، أو «ظهور الكلام»، وما إلى ذلك. ولا يمكن القول ـ من وجهة نظره ـ ببساطة: إن أدلّة التقليد تشمل هذا المورد أيضاً. وبعبارةٍ أخرى: لا يمكن توسيع دائرة جواز التقليد؛ كي يمكن على أساسها التقليد في مبادئ الاجتهاد أيضاً([19]). توضيح ذلك: إن الذي تمّ التأكيد عليه في الأدلّة هو «المعرفة بالحكم»، وفي هذه الحالة فقط يمكن تقليده «العارف بأحكامنا». والحال أن هذا الشخص عالمٌ بمبادئ الأحكام. إلاّ إذا كان هناك شخصٌ يقول بالتوسعة في معنى «أحكامنا»؛ كي يمكن القول: إنها تشمل مبادئ الأحكام.

رأي السيد الحكيم

لقد فصّل السيد محسن الحكيم بدَوْره بين مقامَيْ استنباط الحكم وتطبيقه. وطبقاً لهذا المبنى في دائرة الاستنباط لا يمكن التقليد في مبادئ الاجتهاد. كما أنه في الأساس لا يرى تطبيق الحكم الكلّي من التقليد، وإنما يراه من قبيل: الرجوع إلى أهل الخبرة([20]). والإشكال الذي يَرِدُ على هذا الكلام هو أنه يشتمل على إدخال ما ليس من محلّ النزاع فيه، ثمّ القيام بالفصل على أساسه.

رأي المحقِّق العراقي

وقد استدل الآغا ضياء العراقي على ضرورة الاجتهاد في المبادئ أيضاً، وقال في ذلك: «الجاهل ببعض جهات المسألة جاهلٌ بنفس المسألة»([21]). ولذلك فإنه لا يقول بجواز التقليد في مبادئ الاجتهاد.

وقال المحقّق العراقي في تعليقته الاستدلالية على العروة الوثقى: «لا فرق في مرجعية العالم للجاهل بالأحكام الشرعية بين الفرعية والأصولية؛ بمقتضى الارتكاز»([22]). وكما سبق أن ذكرنا فإن هذه العبارة ـ خلافاً لرأي صاحب العروة ـ (قولٌ بالتفصيل). وبطبيعة الحال قد يبدو أن هناك نوعاً من التناقض في هاتين العبارتين اللتين أدلى بهما المحقّق العراقي، ولكنْ رُبَما كان الوجه في ذلك أن عبارته في مقالات الأصول ناظرةٌ إلى التقليد في مبادئ الاجتهاد، إلاّ أن الفتوى المذكورة في التعليقة على العروة الوثقى ناظرةٌ إلى التقليد في الأصول؛ لنفس الدليل والارتكاز الممكن في فروع التقليد.

الدليل الثالث: السيرة المستمرّة من قِبَل المجتهدين

إن الادّعاء يقول بأن الرجوع إلى السيرة يوصلنا إلى نتيجةٍ مفادها: إن المجتهدين كانوا يجتهدون في المبادئ أيضاً، ولم يكونوا يقلِّدون في المبادئ، ويجتهدون في الفقه فقط.

نقدٌ ومناقشة

وفي الجواب عن هذا الدليل يمكن القول: هل كان جميع المجتهدين من المجتهدين في علم اللغة والمنطق والرجال وأمثال ذلك؟ لم يحدث مثل هذا الشيء على المستوى العملي. ويتّضح هذا الشيء من خلال النظر في منهج أمثال: المحقّق النائيني في علم الرجال.

 

الدليل الرابع: عدم قدرة الاستظهار من النصوص في نتيجة التقليد

إن القول بعدم وجوب الاجتهاد في المباني واتّباع الآخرين في هذا الشأن سوف يؤدّي إلى عدم انعقاد أيّ ظهورٍ في الكلام. ومن ذلك مثلاً أن «الإفساد في الأرض» يُعَدّ في قانون العقوبات الإسلامية جُرْماً جديداً، إلاّ أن أصل البحث هو هل الإفساد والمحاربة تُعَدّ جُرْماً واحداً أم هما شيئان مختلفان؟

قال تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الأَرْضِ فَسَاداً﴾ (المائدة: 33). في هذه الآية الكريمة «الذين» اسمٌ موصول، و«يحاربون الله» صلةٌ أولى، و«يسعَوْن في الأرض فساداً» صلةٌ ثانية. فهل يتمّ عطف هاتين الصلتين على بعضهما؟ وهل إذا كان هناك صلتان في الكلام يمكن استنباط اختلاف وتعدُّد الجُرْم أم يجب تكرار الموصول؟ من الواضح أن اتّخاذ المبنى والاجتهاد في موارد من هذا القبيل في المبادئ له تأثيرٌ ملحوظ على الاجتهاد الفقهي.

نقدٌ ومناقشة

في الجواب عن الإشكال المذكور من الضروري ذكر هذه النقطة، وهي أن الاستظهار لا يُناط بالاجتهاد في المبادئ، وإن الاستظهار لا يقتصر على الاستظهار من الرواية. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن جميع علماء الحقوق يستظهرون، فهل يكونون بأجمعهم مجتهدين في المبادئ؟

الدليل الخامس: عدم شمولية أدلّة التقليد اللفظية واللُّبِّية للمبادئ

طبقاً لهذا الإشكال لا يكون موضوع التقليد على أساس الأدلّة النقلية: «التفقُّه في الدين» أو «معرفة الأحكام» شاملاً للتقليد في المبادئ. وفي ما يتعلَّق بالسيرة قد يبدو أن سيرة الفقهاء والمجتهدين لا تشمل التقليد في المبادئ والمقدّمات أيضاً.

نقدٌ ومناقشة

والجواب عن الدليل الخامس أن التفقُّه في المبادئ جزءٌ من التفقُّه في الدين.

 

الاجتهاد المتوسِّط

بعد بيان هذه المقدّمات ننتقل إلى بيان نظريةٍ ذكرها بعض الأصوليين المعاصرين باختصارٍ، وقد أطلقوا عليها مصطلح «الاجتهاد المعاصر»([23]).

والسؤال هو: هل يجوز للمكلَّف والمقلِّد أن يذهب في بعض مبادئ الاجتهاد إلى خلاف رأي مرجع تقليده وتخطئته في ذلك المبدأ؟ ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ: لو أن شخصاً كان مقلِّداً في الفقه، ولم يصِلْ إلى درجة الاجتهاد، ولكنّه كان متخصِّصاً في علم الرجال، الذي هو أحد مبادئ التفقُّه والاجتهاد؛ ومن ناحيةٍ أخرى ذهب مرجع تقليده إلى تصحيح روايةٍ استناداً إلى قاعدةٍ رجالية، وأفتى على أساس ذلك، فهل يمكن لذلك المقلِّد الرجالي أن يخطِّئ مرجع تقليده في ذلك المبدأ؛ استناداً إلى تخصُّصه، ولا يقبل استناد مرجعه إلى تلك القاعدة التي كان مقلِّداً لغيره فيها؟ وبعبارةٍ أخرى: إذا أيقن المكلَّف بخطأ المجتهد في استناده إلى المبادئ هل يمكنه العمل بفتوى مجتهده، رغم يقينه بخطئه؟

والأهمّ والأكثر فنّيةً ممّا تقدَّم ذِكْرُه هل يمكن لمثل هذا الشخص ـ المتخصِّص في ذلك المبدأ، ويمكنه أن يبدي رأيه في بعض المسائل التخصُّصية ـ أن يضمّ تلك الكلّيات المفروغ عنها ـ بالنسبة إلى مرجعه ـ إلى اجتهاده في تلك المبادئ، ويرتِّب عليها الأثر؟ وبعبارةٍ أخرى: هل يمكن التمسُّك بلوازم هذا الأمر؟

وقد قرَّر صاحب النظرية هذه المسألة على النحو التالي: «إن الاجتهاد والتقليد المتوسّط يتعرَّض إلى هذه المسألة، وهي: هل يمكن للشخص المقلِّد والمكلَّف ـ الذي يرى نفسه متمكِّناً من الاجتهاد في بعض مبادئ استنباط الفروع الفقهية ـ إذا توصَّل في بعض تلك المبادئ الاستنباطية بفعل التحقيق والتتبُّع إلى ما يخالف رأي مرجع تقليده أن يعمل برأيه، ويضمّ رأيه إلى المبادئ التي حصل عليها من خلال تقليده لمرجعه، ويعمل بنتيجة ذلك في الفرع الفقهي؟ إن هذا النوع من الاجتهاد والتقليد لا يختصّ بالدارسين في الحوزات العلمية فقط، بل يمكن تصوُّره حتّى بالنسبة إلى الفضلاء والمحقِّقين في غير الحوزات العلمية أيضاً([24]).

ومن ذلك ـ مثلاً ـ: لو أن المجتهد كان من القائلين بتوثيق جميع رجال «كامل الزيارات»، وذهب على أساس هذا المبنى إلى اعتبار روايةٍ، إلاّ أن المقلِّد الخبير والمختصّ في علم الرجال، والذي يكون علمه ويقينه حجّةً عليه، لم يوثِّق إلاّ المشايخ المباشرين، ولذلك لا يرى الرواية التي استند إليها مرجعه صالحةً للاستناد، ورأى أن الرواية الأخرى هي الأقوى. في مثل هذه الحالة يبدو أن هذا المقلِّد يمكنه الاعتماد على رأيه، ومن خلال تقليده لمرجعه في سائر المبادئ يعمل على النتيجة الحاصلة (التي يمكن أن تكون مغايرةً للرأي النهائي لمرجع تقليده)([25]).

ورُبَما أُشْكِل بطبيعة الحال على هذه النظرية بأنه لا يمكن إطلاق كلمة «الاجتهاد» على هذا المسار، ناهيك عن القول بأنها مرحلةٌ متوسّطة منه.

وفي الجواب عن هذا الإشكال يمكن القول: أوّلاً: إن صاحب هذه النظرية لا يصرّ على إطلاق كلمة الاجتهاد على هذا النوع من الاستنباط([26])؛ وثانياً: يُستَظْهَر من مجموع كلامه أنه لا فرق بين المجتهد (المتجزِّئ) وغيره في هذا الخصوص.

وقد ذهب صاحب هذه النظرية في بيان وجه جوازها، مضافاً إلى وجود جذورها في كلمات المتقدِّمين من الفقهاء، إلى الاعتقاد بأن أدلّة التقليد دليلٌ آخر على ذلك؛ إذ يقول: «إن جميع أدلة جواز التقليد في الفروع تشمل ما نحن فيه أيضاً»([27]). ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن الأدلة اللفظية ـ من قبيل: آية النَّفْر([28]) ـ كما تشمل الفروع الفقهية تشمل مجال المبادئ أيضاً. وبعبارةٍ أخرى: يبدو ـ خلافاً لرأي السيد الخوئي([29]) ـ أن التفقُّه في مبادئ الدين هو التفقُّه في الدين، ويمكن اعتبار التقليد جائزاً فيها، وهو بالتالي ترتيب الآثار على تلك المبادئ المقبولة لدى المقلِّد. كما أنه يمكن الادّعاء؛ بالالتفات إلى الروايات الأخرى في هذا الشأن ـ والتي يشير بعضها إلى عنوان «العالِم بالأحكام»، ويؤكِّد بعضها الآخر على عنوان «رجوع الجاهل إلى العالم» ـ بأن كلاهما يشمل العالم والعارف بمبادئ الأحكام أيضاً، وليس هناك دليلٌ على اختصاصها بالفروع الفقهية.

الاجتهاد المتوسِّط والارتكاز العقلائي

يبدو، وبغضّ النظر عن الأدلّة النقلية ـ التي سيأتي نقد الاستناد إليها في القسم اللاحق ـ، أن مركز الاستدلال يقوم على «الارتكاز العقلائي» في المسألة. وقد أشار المحقّق ضياء الدين العراقي إلى هذه المسألة قائلاً: «لا فرق في مرجعيّة العالم للجاهل بالأحكام الشرعية بين الفرعية والأصولية؛ بمقتضى الارتكاز»([30]).

لذلك فإن الدليل الارتكازي الذي يرى جواز التقليد في الفروع يجري بعَيْنه فيما نحن فيه. والذي يمكن استنباطه من هذه العبارة (والتي تشير من جهةٍ إلى المجتهد؛ ومن جهةٍ أخرى إلى المقلِّد) عبارةٌ عن:

1ـ إمكان رجوع الجاهل إلى العالم.

2ـ حظر التقليد على المجتهد.

وعلى هذا الأساس فإن كلا نوعَيْ الأدلّة (اللفظيّة واللُّبِّية) تشمل ما نحن فيه، ولذلك يمكن القبول بالاجتهاد المتوسّط.

إشارةٌ إلى بعض المسائل

من الضروري التذكير حول هذه النظرية ببعض المسائل التي يمكن لها أن تكون مؤثِّرةً في مسار تكوينها، وذلك كما يلي:

1ـ يبدو أن الأدلة اللفظية التي استند إليها صاحب النظرية لا يمكن اعتبارها من «الأدلة»؛ والدليل على ذلك أن المخالفين لهذه النظرية قد استندوا إلى هذه الأدلّة أيضاً.

2ـ في بحث السيرة الارتكازية للعقلاء يبدو أن الحقّ مع صاحب النظرية، وأن المنتقدين له لم يلتفتوا إلى هذا الارتكاز. توضيح ذلك: إن العقلاء كما يحكمون بوجوب رجوع الجاهل إلى العالم في الفروع الفقهية كذلك يحكمون بهذه السيرة أيضاً بالتقليد عند الجهل بمبادئ الحكم.

3ـ قد يُشْكَل على هذه النظرية بالقول: إن الالتزام بها يؤدّي إلى الهرج والمرج، وبالتالي تقويض قواعد التقليد([31]).

ولكنْ يجب القول في الجواب: أوّلاً: إن هذه النظرية تقوم على أساس القبول بأصل التقليد؛ وثانياً: إن جذورها موجودةٌ في كلام الفقهاء المتقدِّمين([32]). وقد أشار صاحب النظرية بنفسه إلى هذه المسألة؛ حيث قال: «لدفع بعض إساءات الاستغلال التي يمكن أن تتبادر إلى أذهان البعض من هذه النظرية يجب القول أوّلاً: إن بحث الاجتهاد والتقليد المتوسّط ليس من سِنْخ الأبحاث التنويرية التي تنفي التقليد، بل إن أهمّ فرضيةٍ في هذا البحث تقوم على القبول بأصل التقليد؛ وثانياً: إن القول بأن هذه النظرية مبتكرةٌ لا يعني أنها لا تقوم على أصلٍ؛ فإن أصل البحث قد ورد في كلمات المتقدِّمين من كبار العلماء في الجملة، ولكنْ لم يتمّ التعرُّض له من أحدهم بشكلٍ مستقلّ وعلى نحوٍ كافٍ؛ حيث يتمّ تناوله في العادة عَرَضاً، وفي ضمن الأبحاث الأصولية الأخرى، ورُبَما بحثوه في بعض فروع الاجتهاد والتقليد أحياناً»([33]).

رأي صاحب المقال حول الموضوعات العُرْفية المستَنْبَطة

إن المسألة التي لم يُشِرْ إليها من قَبْلُ صاحب نظرية الاجتهاد المتوسّط، ولم يتمّ الالتفات إليها حتّى الآن من قِبَل المحافل الفقهية، هي أنه؛ بالالتفات إلى صعوبة وتخصُّصية الموضوعات في العالم المعاصر، لا يمكن ولا يجب أن نتوقَّع من مراجع التقليد ومن المجتهدين في الأحكام أن يكونوا خبراء في الموضوعات العُرْفية المستَنْبَطة أيضاً. ومن ناحيةٍ أخرى إذا لم يتمكَّن من التعرُّف على تلك الموضوعات وأبعادها بشكلٍ صحيح فإن حكمه بشأن تلك الظاهرة لن يكون متناسباً مع الواقع تماماً. وعلى هذا الأساس، وكما ورد في كلام فقهاء، من أمثال: المحقِّق اليزدي، وتقدَّم ذكره، حيث قال: «محلّ التقليد هو الأحكام الفرعية العملية، فلا يجري في أصول الدين، ولا في مسائل أصول الفقه، ولا في الموضوعات المستَنْبَطة العُرْفية»، ليس هناك موضعٌ للتقليد في الموضوعات العُرْفية المستَنْبَطة، ويتعيَّن على مرجع التقليد أن يستفيد من آراء المختصّين في هذا الشأن؛ للتعرُّف على ذلك الموضوع. وأهمّية هذا الأمر تكمن في أن رأيه بشأن الموضوع سوف يؤثِّر على الحكم الشرعي مباشرةً.

وبعبارةٍ أخرى: يبدو أنه من الممكن تسرية البحث السابق بشأن الاجتهاد في المبادئ والمقدّمات، وكذلك الأدلّة المذكورة على جواز نظرية الاجتهاد المتوسّط، من المبادئ إلى الموضوعات المستَنْبَطة أيضاً؛ حيث يتمّ طرحه بوصفه مبنىً منهجيّاً في التلفيق بين العلوم الإنسانية الإسلامية والمجالات الفرعية للعلوم الدينية، كما هو الحال ـ على سبيل المثال ـ في بحث ماهية النقود، والمصارف، والبورصة، وما إلى ذلك ممّا هو ليس من الأحكام الفرعية الفقهية، وإنما هو من موضوعات الأحكام، ويشتمل على مسائل يمكن أن يتمّ طرحها في مسار الأحكام الفرعية الفقهية، ويمكن أن تكون للمتخصِّص نظريةٌ اجتهادية مخالفة لرؤية مرجع تقليده، ويمكنه العمل بنظريّته الخاصّة.

كما لو أن مرجع التقليد لم يكن يعلم بمسألة «الارتفاع الاسمي للنقود»، واعتبر الزيادة الحاصلة على أساس التضخُّم ربحاً، وتَبَعاً لذلك يفتى بوجوب الخمس على ذلك المال. ولكنّنا لو لم نقُلْ بأن مثل هذه الزيادة ربحٌ ـ وهو كذلك ـ عندها لا يكون دفع خُمْس ذلك المال واجباً. وعلى هذا الأساس لا يمكن إلزام المقلِّد بالعمل على طبق رؤية المجتهد حول موضوعاتٍ من قبيل: حقيقة النقود والمصارف والتضخُّم وما إلى ذلك، ولا سيَّما إذا كان المقلِّد نفسه متخصِّصاً في تلك الموضوعات (كما لو كان خبيراً في الاقتصاد وإدارة المصارف)؛ إذ قد لا يبدو من المنطق إلزامه بفهم ورؤية المجتهد للموضوع، والتي من الممكن أن لا تكون صائبةً.

الهوامش

(*) عضو الهيئة العلميّة، ومسؤول قسم الفقه، وعميد جامعة الإمام الصادق×.

([1]) قال السيد الخوئي: «يتوقَّف الاجتهاد على معرفة اللغة العربية؛ لوضوح أن جملةً من الأحكام الشرعية يتوقّف معرفتها على معرفة اللغة». انظر: الخوئي، التنقيح في شرح العروة الوثقى: 24، 1418هـ. هذا وقد أشار الكثير من الفقهاء المعاصرين إلى هذه النقطة.

([2]) «وأمّا علم المنطق فلا توقُّف للاجتهاد عليه أصلاً؛ لأن المهمّ في المنطق إنما هو بيان ما له دخالة في الاستنتاج من الأقيسة والأشكال، كاعتبار كلّية الكبرى وكون الصغرى موجبة في الشكل الأوّل، مع أن الشروط التي لها دخلٌ في الاستنتاج ممّا يعرفه كلّ عاقل حتّى الصبيان؛ لأنك إذا عرضْتَ على أيّ عاقل قولك: هذا حيوان، وبعض الحيوان مؤذٍ، لم يتردَّد في أنه لا ينتج أن هذا الحيوان مؤذٍ. وعلى الجملة المنطق إنما يحتوي على مجرّد اصطلاحات علمية لا تمسّها حاجة المجتهد بوجهٍ؛ إذ ليس العلم به ممّا له دخلٌ في الاجتهاد بعد معرفة الأمور المعتبرة في الاستنتاج بالطبع». الخوئي، التنقيح في شرح العروة الوثقى: 25، 1418هـ. أرى أن عبارة السيد الخوئي وإنْ كانت من حيث عدم الحاجة إلى المصطلحات الخاصة لهذا العلم، إلاّ أن الذي يمكنه أن يكون نافعاً في مسار الاستنباط هو تنظيم الأشكال المنطقية بواسطة هذا العلم. وبعبارةٍ أخرى: يمكن الحيلولة بواسطة علم المنطق دون المغالطة في الأشكال والاستنتاجات.

([3]) انظر: الفاضل التوني، الوافية في أصول الفقه، تحقيق: السيد محمد حسين الرضوي: 250، مجمع الفكر الإسلامي، قم، 1412هـ.

([4]) وقد ذكر الإمام الخميني في كتاب الاجتهاد بحثاً تحدَّث فيه عن حاجة المجتهد إلى علم الخلاف والاطلاع على أقوال العامّة أيضاً، ويبدو أن بالإمكان إدراج هذا المورد ضمن العلوم النقلية أيضاً. (انظر: الخميني، الاجتهاد والتقليد: 96 ـ 99، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، طهران، 1418هـ).

([5]) العراقي، مقالات الأصول 2: 494، تحقيق: محسن العراقي والسيد منذر الحكيم، مجمع الفكر الإسلامي، قم، 1420هـ.

([6]) السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، العروة الوثقى 1: 24 ـ 25، نشر إسلامي، قم، 1409هـ.

([7]) انظر: علي الصافي الكلبايكاني، ذخيرة العقبى في شرح العروة الوثقى 1: 223، نشر گنج عرفان، ط 1، قم ـ إيران، 1427هـ.

([8]) سوف نشير إلى أن نظرية الاجتهاد البسيط والمتوسّط تقوم على هذا المبنى، وهو أن نقول: ليس على المجتهد أن يكون مجتهداً في جميع المبادئ، بل هناك مجتهدٌ متوسط أيضاً، يمكنه أن يكون مقلِّداً في بعض المبادئ.

([9]) «فإنْ كان الدليل على التقليد بعض الآيات أو الأخبار فشموله للمورد غير معلومٍ، بل معلوم العدم». الصافي الكلبايكاني، ذخيرة العقبى في شرح العروة الوثقى 1: 233 ـ 234.

([10]) «إنْ كان حكم العقل من باب رجوع الجاهل للعالم فيشمل المورد». الصافي الكلبايكاني، ذخيرة العقبى في شرح العروة الوثقى 1: 233 ـ 234.

([11]) انظر: الخوئي، التنقيح في شرح العروة الوثقى: 413، 1418هـ.

([12]) «الصحيح عدم جريان التقليد في تلك الأمور؛ وذلك لأن مشروعية التقليد إنما ثبتَتْ بالسيرة والكتاب والسنّة، ولا يشمل شي‌ءٌ منها للمقام».

([13]) «وأما السيرة العقلائية فلأنها وإنْ جرَتْ على رجوع الجاهل إلى العالم، ورجوع المجتهد إلى العالم بتلك القواعد أيضاً من رجوع الجاهل إلى العالم، إلا أن ذلك ـ على إطلاقه ـ ليس مورداً للسيرة أبداً؛ لاختصاصها بالمسائل النظرية المحتاجة إلى التدقيق والاستدلال، كما في الطبابة والهندسة وغيرهما. وأما الأمور الحسّية التي لا يحتاج فيها إلى الدقّة والاستنباط فلم تقُمْ فيها السيرة على رجوع الجاهل إلى العالم، وهذا كموت زيد». الخوئي، التنقيح في شرح العروة الوثقى: 414، 1418هـ.

([14]) «لأن القواعد الأدبية راجعةٌ إلى إثبات الظهور، وهو من الأمور الحسّية (فإذا بنى اللغوي أو غيره على أن اللفظة المعيّنة ظاهرةٌ في معنى كذا بحَدْسه واجتهاده لم يجُزْ اتّباعه فيه؛ لأنه لا دليل على مشروعية التقليد في الأمور الحسّية. ومن هنا قلنا ـ في محلّه ـ: إن اللغوي لا دليل على حجّية قوله، وكذلك الحال بالنسبة إلى علم الرجال؛ لأن العدالة والوثاقة من الأمور المحسوسة». الخوئي، التنقيح في شرح العروة الوثقى: 414 ـ 415، 1418هـ.

([15]) انظر: الخوئي، معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة 1: 61، 1413هـ.

([16]) لقد تمّ تقسيم «موضوع الحكم» في الاجتهاد على الدوام إلى ثلاثة أقسام، وهي: أوّلاً: حجية رأي المجتهد بالنسبة إلى نفسه؛ وثانياً: جواز تقليد الآخرين له؛ وثالثاً: جواز قضاء المجتهد المتجزّئ.

([17]) «تارةً يقلّده في ذلك ليترتّب عليه فتواه في المسألة الفرعيّة، والظاهر أنّه كالأخذ بنفس المسألة الفرعيّة، وهو غير مرادٍ من الكتاب». مرتضى الحائري اليزدي، شرح العروة الوثقى (للحائري) 1: 173، مؤسّسة النشر الإسلامي، ط1، قم ـ إيران، 1426هـ.

([18]) «الثاني: الأخذ به مستقلاًّ ليترتّب عليه ما يرى ترتّبه عليه بدون الرجوع إلى المرجع، كمَنْ يقطع بأن ظاهر الحديث دالٌّ على حكمٍ يرى مخالفته لما فهم منه مجتهده، ويقلِّده في مسألة حجّية الخبر، أو يقلِّده في المسألة النحوية أو الصرفية في مسألةٍ من المسائل فقط، فيقلِّده في أن «الضرار» مثلاً دالٌّ على جزاء الضَّرَر، ويترتَّب عليه حكمه من دون مراجعة المجتهد في ذلك». الحائري اليزدي، شرح العروة الوثقى (للحائري) 1: 173، 1426هـ.

([19]) «والإنصافُ أنّ دخول ذلك في عموم أدلّة التقليد مشكلٌ جدّاً؛ فإن المستفاد من حجّية معرفته للحكم أن الموضوع هو العارف بالحكم».

([20]) انظر: السيد محسن الحكيم، مستمسك العروة الوثقى 1: 104 ـ 105، مكتبة المرعشي النجفي، قم، 1416هـ.

([21]) العراقي، تعليقة استدلالية على العروة الوثقى 2: 494، مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، 1420هـ.

([22]) المصدر السابق: 14.

([23]) انظر: صادق الآملي اللاريجاني، نظرية التوسّط بين الاجتهاد والتقليد: 7 ـ 50، فصلية الأبحاث الأصولية التخصُّصية العلمية، 1390هـ.ش.

([24]) انظر: سيد فريد حاجي سيد جوادي، گزارشي أز همايش كرسي نظريه پردازي اجتهاد متوسط (تقرير عن مؤتمر كرسي التنظير للاجتهاد المتوسّط): 1، مجلة فقه أهل البيت^، العددان 58 ـ 59، 1388هـ.ش. (مصدر فارسي).

([25]) للمزيد من التوضيح انظر: الآملي اللاريجاني، نظرية التوسّط بين الاجتهاد والتقليد: 20، فصلية الأبحاث الأصولية التخصُّصية العلمية، 1390هـ.ش.

([26]) انظر: المصدر السابق: 21.

([27]) انظر: حاجي سيد جوادي، گزارشي أز همايش كرسي نظريه پردازي اجتهاد متوسط (تقرير عن مؤتمر كرسي التنظير للاجتهاد المتوسط): 3، مجلة فقه أهل البيت^، العددان 58 ـ 59، 1388هـ.ش.

([28]) التوبة: 122.

([29]) انظر: الخوئي، التنقيح في شرح العروة الوثقى: 415، 1418هـ. وبطبيعة الحال هناك في تقريرات فقه الشيعة التي قرَّرها عنه السيد الموسوي الخلخالي عبارةٌ في هذا الشأن، ويبدو أن هناك تهافتاً بين صدرها وذَيْلها، وإن الاستدراك الموجود في ذيل الكلام دالٌّ على قبول هذا المدَّعى من قِبَله. وحتّى إذا لم يمكن نسبة القبول إليه فإن عباراته تستحق التأمُّل والاهتمام. (7: 294 ـ 295).

([30]) العراقي، تعليقة استدلالية على العروة الوثقى 2: 14، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين، قم، 1415هـ.

([31]) من الجدير بالذكر أن كاتب هذه السطور له نظريةٌ في مجال الاجتهاد والتقليد باسم «الاجتهاد المركَّب»، حيث ترتفع فيها الكثير من هذه الإشكالات، وسوف ننشرها بالتفصيل في فرصةٍ مناسبة.

([32]) انظر: الآملي اللاريجاني، نظرية التوسط بين الاجتهاد والتقليد، فصلية الأبحاث الأصولية التخصُّصية العلمية، 1390هـ.ش.

([33]) انظر: حاجي سيد جوادي، گزارشي أز همايش كرسي نظريه پردازي اجتهاد متوسط (تقرير عن مؤتمر كرسي التنظير للاجتهاد المتوسط): 2، مجلة فقه أهل البيت^، العددان 58 ـ 59، 1388هـ.ش.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً